هل كانت له بداية فعلا؟
على مرِّ العصور، حدَّق كثيرون في سماء الليل المتألقة المرصَّعة بالنجوم وتعجَّبوا. فرحابة كوننا العجيب وجماله المهيب يخلبان العقول. فمَن او ماذا يعلّل كل ذلك؟ لماذا وُجد الكون؟ وهل هو ازلي، أم كانت له بداية؟
كتب دايڤيد ل. بلوك، پروفسور في علم الفلك: «ان الفكرة القائلة ان الكون ليس ازليا — ان له بداية — لم تلاقِ الاستحسان دائما». لكنَّ ادلةً ظهرت في العقود الاخيرة اجبرت معظم الذين يقومون بدراسة الكون على الاعتقاد انه كانت له بداية فعلا. «فكل علماء الفيزياء الفلكية تقريبا يستنتجون اليوم»، كما تخبر اخبار الولايات المتحدة والتقرير العالمي (بالانكليزية)، ان «الكون بدأ بانفجار عظيم قذف المادة في كل الاتجاهات».
وعن هذا الاستنتاج المتعارف عليه عموما، كتب روبرت جاسترو، پروفسور في علم الفلك والجيولوجيا في جامعة كولومبيا: «قليلون هم الفلكيون الذين توقَّعوا ان يصير هذا الحدث — اي الولادة المفاجئة للكون — حقيقة علمية مثبَتة، لكنَّ رصد السموات بواسطة المقاريب اجبرهم على استنتاج ذلك».
فهل هذه «الولادة المفاجئة للكون» هي فعلا «حقيقة علمية مثبَتة»؟ دعونا نتأمل في الادلة التاريخية التي ادت الى استخلاص هذه الفكرة.
ادلة على وجود بداية
ان نظرية النسبية العامة التي وضعها ألبرت آينشتاين، والتي نُشرت سنة ١٩١٦، دلَّت ضمنا على ان الكون إما يتمدَّد او يتقلص. لكنَّ الفكرة كانت مناقضة تماما للرأي المتعارَف عليه آنذاك الذي يقول ان الكون ساكن static، الامر الذي كان آينشتاين ايضا يؤمن به آنذاك. لذلك ادخل في حساباته ما دعاه «الثابت الكوني cosmological constant». وقد اجرى هذا التعديل لأنه كان يحاول ان يجعل نظريته تنسجم مع الاعتقاد السائد ان الكون ساكن ولا يتغيَّر.
لكنَّ الادلة التي تراكمت في عشرينات القرن الـ ٢٠ جعلت آينشتاين يقول عن هذا التعديل، الذي اضطر الى القيام به في نظرية النسبية، انه ‹اكبر هفوة› له. فبفضل إنشاء المقراب (التلسكوپ) الضخم على جبل ويلسون في كاليفورنيا، والذي بلغ قطر مرآته ٢٥٤ سنتيمترا (١٠٠ انش)، صار الحصول على الادلة ممكنا. فالارصاد التي سُجِّلت باستعمال هذا المقراب خلال العشرينات اثبتت ان الكون يتمدَّد!
قبل ذلك الوقت، كانت اكبر المقاريب قادرة فقط على تحديد النجوم الواقعة ضمن مجرتنا درب التبَّانة. صحيح ان الراصدين لاحظوا وجود بقع ضوئية ضبابية تُعرف باسم السُّدُم nebulas، ولكن كان يُعتقد عموما انها دوَّامات من مادة غازيّة موجودة ضمن مجرتنا. انما باستعمال مقراب جبل ويلسون الاقوى، وجد ادوين هابل نجوما داخل هذه السُّدُم. وفي النهاية حُدِّدت هوية هذه البقع الضوئية الضبابية على انها مجرات كمجرتنا درب التبَّانة. واليوم، يُقدَّر انه يوجد من ٥٠ بليون الى ١٢٥ بليون مجرة، وتضمّ كل واحدة منها نجوما يصل عددها الى مئات البلايين.
في اواخر العشرينات، اكتشف هابل ايضا ان هذه المجرات تبتعد عنا، وأنه كلما كانت المسافة اكبر زادت سرعة ابتعادها. ويحدِّد الفلكيون معدل سرعة ابتعاد المجرة باستخدام راسم الطيف spectrograph الذي يقيس طيف الضوء الآتي من الاجرام النجمية. ويُمرَّر الضوء الآتي من النجوم البعيدة في موشور prism، فيتقزَّح الضوء متحوِّلا الى الالوان المختلفة التي يتكوَّن منها.
عندما يتحرَّك جسم ما مبتعدا عن الناظر، يصير الضوء الآتي منه مائلا الى الاحمر، وتدعى هذه الحالة الانزياح الاحمر redshift. أما الانزياح الازرق blueshift فيحدث في حالة الضوء الآتي من جسم يقترب. ومن الملاحظ ان جميع المجرات المعروفة، باستثناء بعض المجرات القريبة، لها خطوط طيفية تدل على انزياح احمر. وهكذا يعرف العلماء ان الكون يتمدَّد بطريقة منظمة. ويُحدَّد معدل سرعة التمدُّد بقياس درجة انزياح خطوط الطيف نحو الاحمر.
وأيّ استنتاج جرى التوصُّل اليه نتيجة المعرفة ان الكون يتمدَّد؟ دعا احد العلماء الناس الى تخيُّل هذه العملية بطريقة مقلوبة. وبكلمات اخرى، دعاهم الى التخيُّل انهم يشاهدون فيلما عن تمدُّد الكون يُعرض باتجاه معكوس حتى يرى المشاهد التاريخ الباكر للكون. وبهذه الطريقة لا يُرى الكون وهو يتمدَّد بل وهو يتقلص. وبذلك يعود الكون في آخر الامر الى اصله على شكل نقطة واحدة.
في كتاب الثقوب السوداء والأكوان الناشئة وبحوث اخرى (بالانكليزية)، الصادر سنة ١٩٩٣، استنتج الفيزيائي الشهير ستيڤن هوكِنڠ انه «يمكن للعلم ان يقول: لا بد ان الكون كانت له بداية».
ولكن قبل سنوات قليلة، لم يعتقد كثيرون ان الكون كانت له بداية. وكان فرِد هُويْل عالما شهيرا عارض هذا المفهوم لظهور الكون الذي دعاه بازدراء ‹انفجارا عظيما›. ومن الامور التي جادل فيها انه لو كانت للكون فعلا بداية دينامية كهذه، لَبقي من هذه الحادثة اثر محفوظ في مكان ما من الكون. فينبغي ان يكون هنالك اشعاع احفوري، اذا جاز التعبير، او وهج ضعيف متخلِّف يسبح في الفضاء. فماذا كشف البحث عن هذا الاشعاع المسمى «إشعاع الخلفية background radiation»؟
ذكرت ذا نيويورك تايمز (بالانكليزية)، عدد ٨ آذار (مارس) ١٩٩٨، انه نحو سنة ١٩٦٥ «اكتشف الفلكيان آرنو پنْزِياس وروبرت ويلسون اشعاع الخلفية المنتشر في كل مكان، وهو الوميض المتبقي من الانفجار البدائي». وأضافت المقالة: «بدا ان نظرية [الانفجار العظيم] قد أُثبتت».
ولكن خلال السنوات التي تلت اكتشاف پنْزِياس وويلسون، اثار البعض هذا السؤال: اذا كانت نظرية الانفجار العظيم صحيحة فعلا، فلمَ لم تُرصَد تفاوتات طفيفة في الاشارات الملتقطة لهذا الاشعاع؟ فلكي تتشكل المجرات، لزم ان توجد في الكون مناطق اكثر برودة وكثافة حيث يمكن للمادة ان تلتحم. لكنَّ الاختبارات التي اجراها پنْزِياس وويلسون من على سطح الارض لم تكشف عن تفاوتات كهذه.
لذلك اطلقت وكالة الطيران والفضاء الاميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٨٩ القمر الاصطناعي «مستكشف الخلفية الكونية» (كوبي COBE) الى الفضاء الخارجي. ووُصفت اكتشافاته بأنها مذهلة. اوضح الپروفسور بلوك: «ان التموُّجات، التي سجَّلها جهاز على متن كوبي يقيس الفروق في الموجات الصُّغرية، كانت مطابقة للتغيُّرات التي تركت اثرها في كوننا والتي ادت قبل بلايين السنين الى تشكّل المجرات».
ما تعنيه هذه الادلة ضمنيا
ماذا يمكن ان نستنتج من الواقع ان للكون بداية؟ قال روبرت جاسترو: «يمكنكم ان تدعوا ذلك ‹الانفجار العظيم›، ولكن يمكنكم ايضا ان تدعوه بشكل دقيق ‹لحظة الخلق›». وذكر پنْزِياس، الذي اشترك في اكتشاف اشعاع الخلفية في الكون: «يقودنا علم الفلك الى حدث فريد، الى كون خُلق من لا شيء». ولاحظ جورج سموت، رئيس فريق كوبي: «ما وجدناه ليس الا دليلا على ولادة الكون».
وهل من المنطقي الاستنتاج انه اذا كانت هنالك بداية، او خلق، للكون، فهذا يعني انه يوجد مبدئ او خالق له؟ هذا ما يعتقده كثيرون. فقد ذكر سموت بشأن اكتشافات كوبي: «يشبه الامر النظر الى اللّٰه».
وطبعا، حتى دون ان تتوفَّر الادلة العلمية التي ظهرت في العقود الاخيرة، آمن كثيرون بالكلمات الافتتاحية للكتاب المقدس: «في البدء خلق اللّٰه السموات والارض». — تكوين ١:١.
ولكن لا يريد الجميع الاعتراف بهذه الجملة البسيطة الواردة في الكتاب المقدس. ذكر الفيزيائي ستيڤن هوكِنڠ: «لم ترق علماء كثيرين الفكرة القائلة ان للكون بداية، او لحظة خلق». وبالاضافة الى ذلك، «لم تعجبهم المعاني الضمنية الخارجة عن النطاق العلمي لهذه النظرية»، كما كتب مايكل ج. بيهي، «فحاولوا جاهدين تطوير بدائل».
لذلك ينشأ السؤالان: هل وُجد الكون تلقائيا؟ وهل حدث الامر بالصدفة، أم ان خالقا ذكيا خلقه؟ ستوضح لكم الادلة التالية الكثير.
[الصورتان في الصفحة ٥]
مقراب جبل ويلسون ساعد على الإثبات ان كوننا له بداية
[مصدر الصورة]
The Observatories of the Carnegie Institution of Washington