-
اراضي يوغوسلافيا السابقةالكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٩
-
-
تاريخ البوسنة والهرسك الحديث
«في ١٦ ايار (مايو) ١٩٩٢، كنا نحو ١٣ شخصا قابعين في احدى الشقق فيما كانت قذائف الهاون المتفجِّرة تنثر شظاياها وتخردق ساراييفو. وقد اصابت اثنتان منها المبنى الذي لجأنا اليه للحماية. ومع اننا نتحدر من اصل كرواتي وصربي وبوسني — الفرق الثلاث عينها التي تتحارب في الخارج — كانت العبادة النقية توحِّدنا. عندما خفَّت حدة القصف فجرًا، غادرنا الشقة بحثا عن مكان اكثر أمانا. وكما فعلنا في الليلة السابقة، صلَّينا الى يهوه بصوت عال وهو استجاب لنا». — هَليم تْسوري.
كانت ساراييفو، التي يزيد عدد سكانها على ٠٠٠,٤٠٠ نسمة، تحت احد اعنف وأطول الحصارات في التاريخ الحديث. فكيف واجه اخوتنا وأخواتنا الروحيون النزاعات الإثنية والدينية التي مزَّقت هذا البلد؟ قبل ان نروي قصتهم، لنتعرَّف اكثر على البوسنة والهرسك.
يقع البلد المعروف بالبوسنة والهرسك في وسط يوغوسلافيا السابقة وتحيط به كرواتيا، صِربيا، والجبل الاسود. وهو يتميز بروابط حضارية وعائلية قوية، ويولي الضيافة اهمية كبيرة. يُعدّ ارتشاف القهوة التركية في منزل الجيران او تمضية الوقت في الكافيتشي (المقاهي) تسلية شائعة هناك. ومع انه لا يمكن تمييز السكان جسديا واحدهم عن الآخر، فهم يتألفون من بوسنيين وصربيين وكرواتيين. صحيح ان كثيرين لا يعتبرون انفسهم متديِّنين جدا، إلا ان الدين هو الذي قسَّم الناس. ويدين معظم البوسنيين بالإسلام، في حين ينتمي الصربيون الى الكنيسة الارثوذكسية والكرواتيون الى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
ادَّى الازدياد الهائل للتعصب الديني والبغض الإثني في اوائل التسعينات الى اتِّباع سياسة مفجعة دُعيت التطهير العرقي. فقد هجَّرت القوات المنتصرة المدنيين — في القرى الصغيرة والمدن الكبيرة على السواء — لتشكِّل مناطق من عرق واحد ينتمي الى فريقهم الديني. فعرَّض ذلك اخوتنا وأخواتنا لامتحانات الحياد. وفي البوسنة كما في بلدان يوغوسلافيا السابقة الاخرى، يدين معظم الناس بدين والديهم، وغالبا ما يكشف اسم العائلة عن دينها. لذلك حين يصير المستقيمو القلوب خداما ليهوه، يمكن ان يُعتبروا خَوَنة لعائلتهم وتقاليدهم. لكنّ اخوتنا تعلَّموا ان الولاء ليهوه هو حماية.
مدينة تحت الحصار
كما رأينا سابقا، تأثر اخوتنا اليوغوسلافيون عميقا بالمحبة والوحدة اللتين أُعرب عنهما في محفل «محبّو الحرية الالهية» الذي عُقد عام ١٩٩١ في زغرب بكرواتيا. وهذا المحفل الذي لا يُنسى حصَّنهم لمواجهة المحن التي كانوا سيتعرَّضون لها. ففيما كان البوسنيون والصربيون والكرواتيون يعيشون معا بسلام في ساراييفو، احاطت فجأة قوات مسلَّحة بالمدينة واحتُجز الجميع فيها، من بينهم اخوتنا. وبالرغم من الوضع السياسي المضطرب، لم يتوقع احد ان يدوم النزاع طويلا.
اخبر هَليم تْسوري، شيخ في ساراييفو: «الناس يتضوَّرون جوعا. ففي كل شهر يحصلون فقط على كيلوغرامات قليلة من الطحين، مئة غرام من السكر، ونصف ليتر من الزيت. وبسبب النقص في المواد الغذائية، لا يوفِّرون قطعة ارض في المدينة إلا ويزرعونها بالخضر. كما انهم يقطعون اشجار ساراييفو للحصول على الحطب. وحين تنفد الاشجار، ينزعون خشب الارضيات في شققهم ويستخدمونه كوقود للطبخ والتدفئة. انهم يستعملون اي شيء يحترق، حتى الاحذية القديمة».
عندما ضُرب الحصار على ساراييفو، احتُجزت ليلييانا نينْكوڤيتش وزوجها نيناد في المدينة وفُصلا عن ابنتيهما. تقول ليلييانا: «كنا عائلة نموذجية لها ولدان وتملك شقة وسيارة. وفجأة تغيَّر كل شيء».
لكنهما اختبرا حماية يهوه في احيان كثيرة. تتابع ليلييانا قائلة: «أُصيبت شقتنا مرتين بالقذائف بعيد مغادرتنا اياها. ورغم المشقّات، وجدنا الفرح في الامور البسيطة. مثلا، كنا نفرح بالذهاب الى الحديقة العامة والتقاط بعض اوراق الهندباء البرية لإعداد السَلَطة كيلا نتناول الارزّ الابيض وحده. وتعلَّمنا ان نكتفي بما عندنا وأن نقدِّر قيمة اي شيء نحصل عليه».
التدابير المادية والروحية
كان الحصول على المياه احد اصعب المشاكل التي واجهها الناس لأنها نادرا ما كانت تصل الى البيوت. فقد لزم ان يسيروا مسافة خمسة كيلومترات عبر مناطق يستهدفها القنّاصون لجلب المياه. كما لزم عند مكان تعبئة المياه ان يقفوا في الصف ساعات حتى يأتي دورهم ليملأوا حاوياتهم، وأن يرجعوا بخطوات مثقلة الى البيت وهم يحملونها.
يخبر هَليم: «شكَّل وصول المياه الى البيوت لوقت قصير امتحانا لنا. ففي هذا الوقت كان علينا ان نستحمّ، نغسل الثياب، ونخزِّن الماء في اكبر عدد ممكن من الحاويات. ولكن ماذا لو تزامن هذا الوقت الذي طالما انتظرناه مع موعد الاجتماع؟ عندئذ كان علينا ان نقرِّر: إما ان نذهب الى الاجتماع او نبقى في البيت لخزن المياه».
فيما كانت التدابير المادية ضرورية، قدَّر الاخوة كثيرا اهمية التدابير الروحية. وفي الاجتماعات لم يحصلوا على الطعام الروحي فقط بل ايضا على معلومات تفصيلية عن الذين سُجنوا، أُصيبوا من جراء القصف، او حتى قُتلوا. يروي ميلوتين پاييتش الذي يخدم شيخا في الجماعة: «كنا مثل عائلة. فبعد الاجتماع، لم يكن احد يرغب في المغادرة. وغالبا ما بقينا ساعات ونحن نتحدث عن الحق».
لم تكن الحياة سهلة، وكثيرا ما خاف الاخوة على انفسهم. رغم ذلك، وضعوا مصالح الملكوت اولا. وفيما كانت الحرب تمزِّق البلد، كان شعب يهوه يقتربون اكثر واحدهم الى الآخر وإلى إلههم السماوي. وقد لاحظ الاولاد ولاء آبائهم ونمّوا هم ايضا ولاء لا يتزعزع ليهوه.
حوصرت مدينة بِهاتْش الواقعة قرب الحدود الكرواتية طوال اربع سنوات تقريبا. ولم يتمكن الناس هناك من مغادرتها، كما تعذَّر ادخال مؤن الاغاثة اليها. يروي أوسمان شاتْشيرْبيڠوڤيتش، الشاهد الذكر الوحيد الذي كان معتمدا في هذه المدينة: «كانت بداية الحرب هي الاصعب. والسبب في ذلك ليس لأن الوضع كان عسيرا فحسب بل لأننا كنا نواجه امرا جديدا، امرا لم نختبره من قبل قط. وما ادهشنا انه حين بدأ القصف، خفّ توترنا لأننا ادركنا انه ليست كل القنابل تسبِّب الموت. حتى ان بعضها لا ينفجر».
لم يعرف احد في البداية الى متى سيدوم القتال، لذلك صنع بيت ايل في زغرب بكرواتيا وبيت ايل في فيينا بالنمسا الترتيبات لخزن مساعدات انسانية في قاعات الملكوت وبيوت الشهود في ساراييفو، زينيكا، توزلا، موستار، تراڤنيك، وبِهاتْش. ومع احتدام القتال، كانت المدن تُحاصَر وتُعزل فجأة. فتنقطع خطوط الامداد، وتنفد المؤن الضرورية بسرعة. ولكن رغم انقطاع عدة مدن في البوسنة عن باقي العالم، لم ينقطع قط رباط الوحدة الاخوية بين شهود يهوه. وكم تباين ذلك مع جحيم البغض الإثني والديني الذي اجتاح البلد!
غيورون لكن حذرون
الى جانب تحدّي العثور على ضرورات الحياة اليومية، تعرَّض الناس لخطر القنّاصين المتمركزين حول ساراييفو الذين كانوا يطلقون النار عشوائيا على المدنيين الابرياء. كما استمر وابل القذائف المدفعية يتساقط ويودي بحياة كثيرين. فكان من الخطر احيانا التنقل في المدن المحاصرة. لذلك عاش الناس في خوف دائم. لكنّ اخوتنا وازنوا بين الحكمة والشجاعة، واستمروا يكرزون ببشارة الملكوت للناس الذين كانوا بحاجة ماسة الى التعزية.
يروي احد الشيوخ: «خلال احدى اعنف الهجمات على ساراييفو، سقطت آلاف القذائف في مجرد يوم واحد. ومع ذلك، اتصل الاخوة في صباح ذلك السبت بالشيوخ وسألوهم: ‹اين سيكون اجتماع خدمة الحقل؟›».
تقول احدى الاخوات: «ان رؤية حاجة الناس الماسة الى الحق هي بالتحديد ما ساعدني ليس فقط على الاحتمال بل ايضا على الشعور بالفرح في الظروف الصعبة».
وقد ادرك كثيرون من السكان المحليين انهم بحاجة الى رجاء الكتاب المقدس. قال احد الاخوة: «يبحث الناس عنا ليحصلوا على المساعدة الروحية بدل ان نبحث نحن عنهم. فكانوا يأتون الى قاعة الملكوت ويطلبون درسا».
يعود السبب الرئيسي لنجاح عمل الكرازة اثناء الحرب الى وحدة معشر اخوتنا المسيحي التي كانت واضحة جدا للناس. تروي ندى بِشْكِر، اخت خدمت سنوات كثيرة كفاتحة خصوصية: «قدَّمت وحدتنا شهادة رائعة. فكثيرون كانوا يرون اخوة بوسنيين وصربيين يعملون معا في الخدمة. وعندما يرون اختا كرواتية وأختا من خلفية مسلمة تدرسان مع امرأة صربية، يدركون فورا اننا مختلفون».
تُرى نتائج غيرة اخوتنا الى هذا اليوم، لأن كثيرين ممَّن يخدمون يهوه الآن قبلوا الحق اثناء الحرب. على سبيل المثال، تضاعف عدد الناشرين في الجماعة في بانيا لوكا مع ان مئة ناشر انتقلوا منها الى جماعات اخرى.
عائلة امينة
توخَّى اخوتنا الحذر الشديد دائما. رغم ذلك، وقع البعض ضحية «الوقت والحوادث غير المتوقعة» بسبب وجودهم في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب. (جا ٩:١١) كان بوزو جورِم، وهو من اصل صربي، قد اعتمد في المحفل الاممي الذي عُقد في زغرب عام ١٩٩١. وبعد عودته الى ساراييفو زُجّ عدة مرات في السجن بسبب موقفه الحيادي وعُومل معاملة سيئة. وفي عام ١٩٩٤، حُكم عليه بالسجن ١٤ شهرا. غير ان الامر الاصعب عليه كان ابتعاده عن زوجته هينا وابنته ماڠدالينا البالغة من العمر خمس سنوات.
بعيد اطلاق سراحه من السجن، حلَّت مأساة. فبعد ظهر احد الايام الهادئة، ذهب الثلاثة لعقد درس في الكتاب المقدس قرب منزلهم. وفي طريقهم، شقّ السكون فجأة انفجار قذيفة مدفعية. فقُتلت هينا وماڠدالينا على الفور، وفارق بوزو الحياة لاحقا في المستشفى.
الحياد المسيحي
بسبب ازدياد التحامل، قلّما كان موقف الحياد مقبولا. ففي بانيا لوكا، كانت الجماعة مؤلّفة في معظمها من اخوة شبّان ارادت القوات العسكرية ان يحاربوا معها. ولأنهم حافظوا على حيادهم، تعرَّضوا للضرب.
يتذكر أوسمان شاتْشيرْبيڠوڤيتش: «كثيرا ما كانت الشرطة تستجوبنا وتدعونا بالجبناء بحجة اننا لا ندافع عن عائلاتنا».
فكان يحاجّهم قائلا: «أليست بندقيتكم هي التي تحميكم؟».
فيجيب رجال الشرطة: «بالتأكيد!».
— «هل تستبدلونها بمدفع لتنالوا المزيد من الحماية؟».
— «اجل».
— «هل تستبدلون المدفع بدبّابة؟».
— «طبعا!».
عندئذ يقول أوسمان: «تفعلون كل ذلك لتنالوا حماية افضل. اما انا فحمايتي هي بيهوه الاله القادر على كل شيء، خالق الكون. وأية حماية هي افضل من حمايته؟». فتصير النقطة التي يرمي اليها واضحة، ويتركه رجال الشرطة وشأنه.
وصول المساعدات الانسانية
مع ان الاخوة في البلدان المجاورة عرفوا ان الشهود البوسنيين متضايقون، استحال عليهم لمدة من الوقت نقل مؤن الاغاثة اليهم. ولكن في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٩٣، ذكرت السلطات انه يمكن ادخال مؤن الاغاثة. فقرَّر اخوتنا، رغم الاخطار، ان يستفيدوا من هذه الفرصة الى اقصى حد. وفي ٢٦ تشرين الاول (اكتوبر)، غادرت خمس شاحنات فيينا بالنمسا وتوجَّهت الى البوسنة محمَّلة ١٦ طنا من الطعام والحطب. فكيف اجتازت قافلة الشاحنات هذه الكثير من المناطق التي كان القتال لا يزال محتدما فيها؟c
في بعض الاحيان، تعرَّض اخوتنا لخطر جسيم اثناء الرحلة. يتذكر احد السائقين: «انطلقتُ في وقت متأخر من ذلك الصباح وسرت خلف عدة شاحنات اخرى تنقل المساعدات الانسانية. حين اقتربتُ من احد حواجز التفتيش، كانت كل الشاحنات متوقِّفة فيما يدقِّق الضباط في الاوراق. وفجأة سمعت صوت طلقة صادرة من بندقية قنّاص، فأصابت سائقا من غير الشهود».
لم يُسمح إلا للسائقين وشاحناتهم بدخول ساراييفو، لذلك وجب على الاخوة الآخرين الذين رافقوا الشاحنات ان ينتظروا خارج المدينة. لكنهم كانوا مصمِّمين على تشجيع الاخوة هناك. فوجدوا هاتفا واتصلوا بالناشرين في ساراييفو، وقدَّم احدهم خطابا عاما مشجِّعا كان الاخوة بأمس الحاجة اليه. وفي احيان كثيرة اثناء الحرب، جازف النظار الجائلون وخدام بيت ايل وأعضاء في لجنة البلد بحياتهم من اجل مساعدة اخوتهم على البقاء احياء جسديا وروحيا.
اما بالنسبة الى بِهاتْش فقد استحال ادخال المساعدات الى اخوتنا هناك طوال اربع سنوات تقريبا. ومع ان الطعام الجسدي لم يعبر الحواجز التي عزلت هذه المدينة، استطاع اخوتنا الحصول على الطعام الروحي. كيف؟ كان في وسعهم استخدام خط هاتفي وجهاز فاكس، الامر الذي مكَّنهم ان يتسلَّموا دوريا خدمتنا للملكوت ونسخا من برج المراقبة. فكانوا يطبعونها على الآلة الكاتبة ويعطون نسخة واحدة لكل عائلة. في بداية الحرب، كان في بِهاتْش فريق صغير من ثلاثة ناشرين معتمدين. وكان معهم ١٢ ناشرا غير معتمد انتظروا بشوق سنتين مناسبةً ملائمة ليرمزوا الى انتذارهم ليهوه بالمعمودية.
وقد شكَّل الانعزال لسنوات كثيرة تحدِّيا. يروي أوسمان: «ان تلاميذي الذين يدرسون الكتاب المقدس لم يحضروا قط محفلا او زيارة لناظر الدائرة. فكنا دائما نتحدث عن هذه المناسبات ونتمنّى ان يأتي الوقت الذي فيه سنتمكن من التمتع بمعاشرة عدد اكبر من اخوتنا».
تخيَّل فرحة الاخوة في ١١ آب (اغسطس) ١٩٩٥ عندما دخلت الى بِهاتْش شاحنتان كُتب عليهما بجرأة «مؤن الاغاثة لشهود يهوه». وكانتا اولى الشاحنات الخاصة التي تحمل مساعدات انسانية منذ حوصرت المدينة. وقد وصلتا تماما حين شعر الاخوة بأنهم على شفير الانهيار جسديا ونفسيا.
لاحظ الجيران في بِهاتْش كيف اهتم الاخوة بحاجات واحدهم الآخر. فقد قاموا مثلا بتغيير الزجاج المكسور في بيوتهم. يقول أوسمان: «ما فعلوه اثَّر في جيراني كثيرا لأنهم كانوا يعرفون اننا لا نملك المال. فكان ذلك شهادة رائعة ما زال يُؤتى على ذكرها حتى الآن». واليوم، توجد في بِهاتْش جماعة غيورة تتألف من ٣٤ ناشرا و ٥ فاتحين.
رحلة لا تُنسى!
خاطر اخوتنا مرارا كثيرة بحياتهم لإيصال الطعام والمطبوعات الى المدن التي مزَّقتها الحرب في البوسنة. لكنّ الرحلة التي قاموا بها في ٧ حزيران (يونيو) ١٩٩٤ كانت مختلفة. ففي وقت باكر من ذلك الصباح، انطلقت من زغرب بكرواتيا قافلة من ثلاث شاحنات فيها اعضاء من لجنة البلد وعمّال آخرون. وكان الهدف منها نقل مؤن الاغاثة، بالاضافة الى تقديم برنامج يوم محفل خصوصي مختصر، هو الاول بعد ثلاث سنوات.
كانت مدينة توزلا احد المواقع التي عُقد فيها هذا البرنامج الخصوصي. في بداية الحرب، كانت الجماعة هناك تتألف من نحو ٢٠ ناشرا معتمدا فقط. ولكن لدهشة الاخوة، اتى اكثر من ٢٠٠ شخص للاستماع الى برنامج المحفل! كما اعتمد ثلاثون شخصا. واليوم توجد في توزلا ثلاث جماعات وأكثر من ٣٠٠ ناشر.
وكانت زينيكا الموقع الثاني للمحفل. وهناك وجد الاخوة مكانا ملائما للاجتماع معا لكنهم لم يجدوا حوضا ملائما للمعمودية. وأخيرا بعد بحث كثير، وجدوا برميلا يمكن استعماله. وكانت مشكلته الوحيدة رائحته، لأنه كان برميلا للسمك. لكنّ ذلك لم يثنِ المرشحين للمعمودية الذين قبلوا دعوة يسوع ان يصيروا «صيّادي ناس». (مت ٤:١٩) وقد ألقى خطاب المعمودية الاخ هربرت فْرِنزِل، الذي يخدم الآن كعضو في لجنة الفرع في كرواتيا. يروي قائلا: «انتظر المرشحون طويلا ليعتمدوا بحيث انهم ما كانوا ليدَعوا اي شيء يقف في طريقهم. وبعد معموديتهم شعروا بالفرح اذ تغلبوا على العقبات التي اعترضتهم». واليوم توجد في زينيكا جماعة غيورة تتألف من ٦٨ ناشرا.
اما الموقع الثالث للمحفل فكان ساراييفو. لم يكن بالإمكان عقد البرنامج هناك إلا قرب مُفترَق طرق كان هدفا للقنّاصين. ولكن بعيد وصول الجميع بسلام الى مكان المحفل، واجه الاخوة مشكلة. فقد كان عليهم ليس فقط ان يجدوا مكانا للمعمودية بل ايضا طريقة لتوفير الماء الثمين. فماذا فعلوا ليضمنوا ان يبقى هنالك ماء كاف ليعتمد الجميع؟ أوقفوا كل المرشحين للمعمودية في صف بحسب حجمهم، وعمَّدوهم من الاصغر الى الاكبر حجما!
وكم كان يوم المحفل هذا وقتا سعيدا لإخوتنا وأخواتنا! فهم لم يسمحوا لأي من الحوادث المريعة حولهم ان يؤثِّر على فرحهم الغامر بتقديم العبادة معا ليهوه. واليوم توجد في ساراييفو ثلاث جماعات نشيطة.
بعد الحرب
بعدما فُتحت طرق الامدادات، صارت الحياة اسهل على اخوتنا وأخواتنا من بعض النواحي. لكنّ التطهير العرقي استمر، واستمر معه تهجير الناس من بيوتهم. يخبر إيڤيتْسا أرابادْجيتش، شيخ يخدم في كرواتيا، انه أُجبر على إخلاء بيت العائلة في بانيا لوكا. ويتذكر قائلا: «اتى رجل يحمل بندقية وقال لنا ان نخلي البيت لأنه صار ملكه الآن. وكان قد أُجبر هو ايضا على اخلاء بيته في شيبينيك بكرواتيا لأنه صربي، ويريد الآن ان نخلي نحن بيتنا. فتدخَّل لمساعدتنا ضابط في الجيش ادرس الحق معه. ورغم اننا لم نتمكن من الاحتفاظ ببيتنا، تمكنا من مقايضة بيتنا ببيت هذا الصربي. وكم شقَّ علينا ان نترك بيتنا والجماعة التي ساعدتنا على تعلُّم الحق! ولكن لم يكن امامنا خيار آخر. وبعدما اخذنا القليل من الامتعة، ذهبنا لنقيم ببيتنا ‹الجديد› في كرواتيا. وحين وصلنا الى شيبينيك، كان شخص آخر قد سكن في البيت الذي اصبح ملكنا. فماذا نفعل؟ رحَّب بنا الاخوة على الفور، واستضافنا شيخ في بيته طيلة سنة الى ان حُلَّت مشكلة بيتنا».
مع ان عدم الاستقرار السياسي لا يزال سائدا في البوسنة والهرسك الى هذا اليوم، فإن الحق يزدهر في هذا البلد الذي يدين نحو ٤٠ في المئة من سكانه بالاسلام. ومنذ نهاية الحرب، يبني اخوتنا قاعات ملكوت جديدة. وإحداها القاعة في بانيا لوكا التي لا تمثِّل فقط مكانا للاجتماع نحتاج اليه حاجة ماسة بل ايضا انتصارا قانونيا. فطوال سنوات يحاول اخوتنا الحصول على رخصة لبناء قاعة ملكوت في هذه المنطقة حيث تمارس الكنيسة الارثوذكسية الصربية نفوذا كبيرا. ومع ان السلطات في البوسنة منحتهم اعترافا شرعيا بعد الحرب، لم يُمنحوا رخصة لبناء قاعة ملكوت في بانيا لوكا. وأخيرا، بعد الكثير من الصلوات والجهود الحثيثة، حصلوا على الرخصة اللازمة. وشكَّل هذا الانتصار سابقة قانونية يمكن الاستناد اليها في المستقبل لبناء قاعات ملكوت اخرى في تلك الناحية من البوسنة والهرسك.
اتاحت حرية العبادة ان يخدم ٣٢ فاتحا خصوصيا — الكثير منهم اتوا من بلدان اخرى — في المناطق حيث الحاجة اعظم. وقد كانت غيرتهم في الخدمة بالاضافة الى التصاقهم الولي بالترتيبات الثيوقراطية بركة حقيقية.
قبل عقد فقط، كان اخوتنا في ساراييفو يتعرَّضون دائما لنيران القنّاصين. اما اليوم، وبحلول السلام، فإنهم يستضيفون مندوبين الى المحافل الكورية من كل انحاء يوغوسلافيا السابقة. وفيما مزَّقت حروب القرن الماضي هذا البلد الجبلي الجميل، قرَّب رباط ‹المودة الاخوية العديمة الرياء› شعب يهوه اكثر فأكثر بعضهم الى بعض. (١ بط ١:٢٢) واليوم هنالك ١٦٣,١ ناشرا في ١٦ جماعة في البوسنة والهرسك، وهم يسبِّحون باتحاد الاله الحق يهوه.
-
-
اراضي يوغوسلافيا السابقةالكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٩
-
-
[الاطار/الصورة في الصفحتين ١٩٥، ١٩٦]
وعدناهم بأن نعود
هَليم تْسوري
تاريخ الولادة: ١٩٦٨
تاريخ المعمودية: ١٩٨٨
لمحة عن حياته: ساعد على تنظيم وتوزيع المساعدات الانسانية في ساراييفو. ويخدم الآن شيخا في الجماعة، عضوا في لجنة الاتصال بالمستشفيات، وممثلا قانونيا لشهود يهوه في البوسنة والهرسك.
عام ١٩٩٢، دخلت مدينة ساراييفو تحت الحصار. لذلك كنا ندرس المجلات الاقدم عندما لا نحصل على مطبوعات جديدة. فقد استخدم الاخوة آلة كاتبة قديمة لطبع نسخ من مقالات الدروس المتوفرة. ورغم ان عدد الناشرين كان ٥٢ فقط، بلغ عدد الحضور في اجتماعاتنا اكثر من ٢٠٠ شخص وعقدنا نحو ٢٤٠ درسا في الكتاب المقدس.
في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٩٣، خلال اسوإ فترة من الحرب، وُلدت ابنتنا أرييانا. وكم كان صعبا آنذاك انجاب ولد في هذا العالم! فقد كانت المياه والكهرباء تنقطع طوال اسابيع، وكنا نستخدم الاثاث كوقود. كما كنا نمرّ بأماكن خطرة للوصول الى الاجتماعات. وإذ كان القنّاصون يطلقون النار عشوائيا على الناس، وجب ان نعبر بعض الشوارع والحواجز ركضًا.
في احد الايام الهادئة، كنا انا وزوجتي وابنتنا والاخ دْراجِن راديشيتْش في طريقنا الى البيت من الاجتماع حين بدأ فجأة اطلاق نار من مدافع رشّاشة. فانبطحنا على الارض، لكنّ رصاصة اصابتني في معدتي وكان الالم مبرِّحا. رأى كثيرون من نوافذ بيوتهم ما حدث، فركض بعض الشبان الشجعان وأخذونا الى مكان آمن. ثم اسرعوا بي الى المستشفى حيث اراد الفريق الطبي ان ينقل اليّ دما بسرعة. فأوضحت ان ضميري لا يسمح لي بقبول الدم. فألحّوا عليّ ان اعيد النظر في الموضوع؛ لكنني كنت مصمِّما على الرفض ومستعدا لمواجهة العواقب. عندئذ قرَّروا اجراء العملية الجراحية مهما حدث. وقد دامت ساعتين ونصفا، وتعافيت من دون نقل دم.
احتجت بعد العملية الجراحية الى فترة نقاهة، الامر الذي كان مستحيلا بسبب الحرب. فقرَّرنا ان نذهب الى النمسا لزيارة عائلتنا. لكنّ الطريقة الوحيدة لمغادرة ساراييفو كانت عبر نفق تحت المطار طوله تسعمئة متر وارتفاعه مئة وعشرون سنتيمترا. فحملتْ زوجتي الطفلة وحاولت انا حمل الحقائب. لكنّ زوجتي اضطرت الى مساعدتي بسبب عمليتي الجراحية.
يتعذَّر علينا وصف الفرح الذي شعرنا به اثناء اقامتنا في النمسا. ولكن حين غادرنا ساراييفو، وعدنا اخوتنا وخالقنا بأن نعود. وكان صعبا جدا ان نترك عائلتنا هنا وخصوصا امي. لكننا اوضحنا لهم اننا وعدنا اللّٰه بأن نعود الى ساراييفو اذا ساعدنا على الخروج منها والحصول على قسط من الراحة. فكيف يُعقل ان نقول له الآن: «نشكرك لأنك ساعدتنا على المجيء الى هنا. لقد امضينا اوقاتا ممتعة جدا، والآن نريد ان نبقى»؟ وبالاضافة الى ذلك، كان اخوتنا في ساراييفو بحاجة الينا. في كل هذه الامور، كانت زوجتي آمْرا دعما كبيرا لي.
وهكذا في كانون الاول (ديسمبر) ١٩٩٤، وصلنا الى النفق في ساراييفو. لكننا هذه المرة كنا ندخل اليها بدل ان نخرج منها. لذلك حين رآنا الناس نعود عبر النفق، قالوا لنا: «ماذا تفعلون؟ يريد الجميع الخروج من هذه المدينة المحاصرة وأنتم تعودون اليها!». اعجز عن ايجاد الكلمات التي تصف لقاءنا الرائع بإخوتنا في قاعة الملكوت في ساراييفو. ونحن لم نندم قط على عودتنا.
-