مكتبة برج المراقبة الإلكترونية
برج المراقبة
المكتبة الإلكترونية
العربية
  • الكتاب المقدس
  • المطبوعات
  • الاجتماعات
  • اراضي يوغوسلافيا السابقة
    الكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٩
    • تاريخ البوسنة والهرسك الحديث

      ‏«في ١٦ ايار (‏مايو)‏ ١٩٩٢،‏ كنا نحو ١٣ شخصا قابعين في احدى الشقق فيما كانت قذائف الهاون المتفجِّرة تنثر شظاياها وتخردق ساراييفو.‏ وقد اصابت اثنتان منها المبنى الذي لجأنا اليه للحماية.‏ ومع اننا نتحدر من اصل كرواتي وصربي وبوسني —‏ الفرق الثلاث عينها التي تتحارب في الخارج —‏ كانت العبادة النقية توحِّدنا.‏ عندما خفَّت حدة القصف فجرًا،‏ غادرنا الشقة بحثا عن مكان اكثر أمانا.‏ وكما فعلنا في الليلة السابقة،‏ صلَّينا الى يهوه بصوت عال وهو استجاب لنا».‏ —‏ هَليم تْسوري.‏

      كانت ساراييفو،‏ التي يزيد عدد سكانها على ٠٠٠‏,٤٠٠ نسمة،‏ تحت احد اعنف وأطول الحصارات في التاريخ الحديث.‏ فكيف واجه اخوتنا وأخواتنا الروحيون النزاعات الإثنية والدينية التي مزَّقت هذا البلد؟‏ قبل ان نروي قصتهم،‏ لنتعرَّف اكثر على البوسنة والهرسك.‏

      يقع البلد المعروف بالبوسنة والهرسك في وسط يوغوسلافيا السابقة وتحيط به كرواتيا،‏ صِربيا،‏ والجبل الاسود.‏ وهو يتميز بروابط حضارية وعائلية قوية،‏ ويولي الضيافة اهمية كبيرة.‏ يُعدّ ارتشاف القهوة التركية في منزل الجيران او تمضية الوقت في الكافيتشي (‏المقاهي)‏ تسلية شائعة هناك.‏ ومع انه لا يمكن تمييز السكان جسديا واحدهم عن الآخر،‏ فهم يتألفون من بوسنيين وصربيين وكرواتيين.‏ صحيح ان كثيرين لا يعتبرون انفسهم متديِّنين جدا،‏ إلا ان الدين هو الذي قسَّم الناس.‏ ويدين معظم البوسنيين بالإسلام،‏ في حين ينتمي الصربيون الى الكنيسة الارثوذكسية والكرواتيون الى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.‏

      ادَّى الازدياد الهائل للتعصب الديني والبغض الإثني في اوائل التسعينات الى اتِّباع سياسة مفجعة دُعيت التطهير العرقي.‏ فقد هجَّرت القوات المنتصرة المدنيين —‏ في القرى الصغيرة والمدن الكبيرة على السواء —‏ لتشكِّل مناطق من عرق واحد ينتمي الى فريقهم الديني.‏ فعرَّض ذلك اخوتنا وأخواتنا لامتحانات الحياد.‏ وفي البوسنة كما في بلدان يوغوسلافيا السابقة الاخرى،‏ يدين معظم الناس بدين والديهم،‏ وغالبا ما يكشف اسم العائلة عن دينها.‏ لذلك حين يصير المستقيمو القلوب خداما ليهوه،‏ يمكن ان يُعتبروا خَوَنة لعائلتهم وتقاليدهم.‏ لكنّ اخوتنا تعلَّموا ان الولاء ليهوه هو حماية.‏

      مدينة تحت الحصار

      كما رأينا سابقا،‏ تأثر اخوتنا اليوغوسلافيون عميقا بالمحبة والوحدة اللتين أُعرب عنهما في محفل «محبّو الحرية الالهية» الذي عُقد عام ١٩٩١ في زغرب بكرواتيا.‏ وهذا المحفل الذي لا يُنسى حصَّنهم لمواجهة المحن التي كانوا سيتعرَّضون لها.‏ ففيما كان البوسنيون والصربيون والكرواتيون يعيشون معا بسلام في ساراييفو،‏ احاطت فجأة قوات مسلَّحة بالمدينة واحتُجز الجميع فيها،‏ من بينهم اخوتنا.‏ وبالرغم من الوضع السياسي المضطرب،‏ لم يتوقع احد ان يدوم النزاع طويلا.‏

      اخبر هَليم تْسوري،‏ شيخ في ساراييفو:‏ «الناس يتضوَّرون جوعا.‏ ففي كل شهر يحصلون فقط على كيلوغرامات قليلة من الطحين،‏ مئة غرام من السكر،‏ ونصف ليتر من الزيت.‏ وبسبب النقص في المواد الغذائية،‏ لا يوفِّرون قطعة ارض في المدينة إلا ويزرعونها بالخضر.‏ كما انهم يقطعون اشجار ساراييفو للحصول على الحطب.‏ وحين تنفد الاشجار،‏ ينزعون خشب الارضيات في شققهم ويستخدمونه كوقود للطبخ والتدفئة.‏ انهم يستعملون اي شيء يحترق،‏ حتى الاحذية القديمة».‏

      عندما ضُرب الحصار على ساراييفو،‏ احتُجزت ليلييانا نينْكوڤيتش وزوجها نيناد في المدينة وفُصلا عن ابنتيهما.‏ تقول ليلييانا:‏ «كنا عائلة نموذجية لها ولدان وتملك شقة وسيارة.‏ وفجأة تغيَّر كل شيء».‏

      لكنهما اختبرا حماية يهوه في احيان كثيرة.‏ تتابع ليلييانا قائلة:‏ «أُصيبت شقتنا مرتين بالقذائف بعيد مغادرتنا اياها.‏ ورغم المشقّات،‏ وجدنا الفرح في الامور البسيطة.‏ مثلا،‏ كنا نفرح بالذهاب الى الحديقة العامة والتقاط بعض اوراق الهندباء البرية لإعداد السَلَطة كيلا نتناول الارزّ الابيض وحده.‏ وتعلَّمنا ان نكتفي بما عندنا وأن نقدِّر قيمة اي شيء نحصل عليه».‏

      التدابير المادية والروحية

      كان الحصول على المياه احد اصعب المشاكل التي واجهها الناس لأنها نادرا ما كانت تصل الى البيوت.‏ فقد لزم ان يسيروا مسافة خمسة كيلومترات عبر مناطق يستهدفها القنّاصون لجلب المياه.‏ كما لزم عند مكان تعبئة المياه ان يقفوا في الصف ساعات حتى يأتي دورهم ليملأوا حاوياتهم،‏ وأن يرجعوا بخطوات مثقلة الى البيت وهم يحملونها.‏

      يخبر هَليم:‏ «شكَّل وصول المياه الى البيوت لوقت قصير امتحانا لنا.‏ ففي هذا الوقت كان علينا ان نستحمّ،‏ نغسل الثياب،‏ ونخزِّن الماء في اكبر عدد ممكن من الحاويات.‏ ولكن ماذا لو تزامن هذا الوقت الذي طالما انتظرناه مع موعد الاجتماع؟‏ عندئذ كان علينا ان نقرِّر:‏ إما ان نذهب الى الاجتماع او نبقى في البيت لخزن المياه».‏

      فيما كانت التدابير المادية ضرورية،‏ قدَّر الاخوة كثيرا اهمية التدابير الروحية.‏ وفي الاجتماعات لم يحصلوا على الطعام الروحي فقط بل ايضا على معلومات تفصيلية عن الذين سُجنوا،‏ أُصيبوا من جراء القصف،‏ او حتى قُتلوا.‏ يروي ميلوتين پاييتش الذي يخدم شيخا في الجماعة:‏ «كنا مثل عائلة.‏ فبعد الاجتماع،‏ لم يكن احد يرغب في المغادرة.‏ وغالبا ما بقينا ساعات ونحن نتحدث عن الحق».‏

      لم تكن الحياة سهلة،‏ وكثيرا ما خاف الاخوة على انفسهم.‏ رغم ذلك،‏ وضعوا مصالح الملكوت اولا.‏ وفيما كانت الحرب تمزِّق البلد،‏ كان شعب يهوه يقتربون اكثر واحدهم الى الآخر وإلى إلههم السماوي.‏ وقد لاحظ الاولاد ولاء آبائهم ونمّوا هم ايضا ولاء لا يتزعزع ليهوه.‏

      حوصرت مدينة بِهاتْش الواقعة قرب الحدود الكرواتية طوال اربع سنوات تقريبا.‏ ولم يتمكن الناس هناك من مغادرتها،‏ كما تعذَّر ادخال مؤن الاغاثة اليها.‏ يروي أوسمان شاتْشيرْبيڠوڤيتش،‏ الشاهد الذكر الوحيد الذي كان معتمدا في هذه المدينة:‏ «كانت بداية الحرب هي الاصعب.‏ والسبب في ذلك ليس لأن الوضع كان عسيرا فحسب بل لأننا كنا نواجه امرا جديدا،‏ امرا لم نختبره من قبل قط.‏ وما ادهشنا انه حين بدأ القصف،‏ خفّ توترنا لأننا ادركنا انه ليست كل القنابل تسبِّب الموت.‏ حتى ان بعضها لا ينفجر».‏

      لم يعرف احد في البداية الى متى سيدوم القتال،‏ لذلك صنع بيت ايل في زغرب بكرواتيا وبيت ايل في فيينا بالنمسا الترتيبات لخزن مساعدات انسانية في قاعات الملكوت وبيوت الشهود في ساراييفو،‏ زينيكا،‏ توزلا،‏ موستار،‏ تراڤنيك،‏ وبِهاتْش.‏ ومع احتدام القتال،‏ كانت المدن تُحاصَر وتُعزل فجأة.‏ فتنقطع خطوط الامداد،‏ وتنفد المؤن الضرورية بسرعة.‏ ولكن رغم انقطاع عدة مدن في البوسنة عن باقي العالم،‏ لم ينقطع قط رباط الوحدة الاخوية بين شهود يهوه.‏ وكم تباين ذلك مع جحيم البغض الإثني والديني الذي اجتاح البلد!‏

      غيورون لكن حذرون

      الى جانب تحدّي العثور على ضرورات الحياة اليومية،‏ تعرَّض الناس لخطر القنّاصين المتمركزين حول ساراييفو الذين كانوا يطلقون النار عشوائيا على المدنيين الابرياء.‏ كما استمر وابل القذائف المدفعية يتساقط ويودي بحياة كثيرين.‏ فكان من الخطر احيانا التنقل في المدن المحاصرة.‏ لذلك عاش الناس في خوف دائم.‏ لكنّ اخوتنا وازنوا بين الحكمة والشجاعة،‏ واستمروا يكرزون ببشارة الملكوت للناس الذين كانوا بحاجة ماسة الى التعزية.‏

      يروي احد الشيوخ:‏ «خلال احدى اعنف الهجمات على ساراييفو،‏ سقطت آلاف القذائف في مجرد يوم واحد.‏ ومع ذلك،‏ اتصل الاخوة في صباح ذلك السبت بالشيوخ وسألوهم:‏ ‹اين سيكون اجتماع خدمة الحقل؟‏›».‏

      تقول احدى الاخوات:‏ «ان رؤية حاجة الناس الماسة الى الحق هي بالتحديد ما ساعدني ليس فقط على الاحتمال بل ايضا على الشعور بالفرح في الظروف الصعبة».‏

      وقد ادرك كثيرون من السكان المحليين انهم بحاجة الى رجاء الكتاب المقدس.‏ قال احد الاخوة:‏ «يبحث الناس عنا ليحصلوا على المساعدة الروحية بدل ان نبحث نحن عنهم.‏ فكانوا يأتون الى قاعة الملكوت ويطلبون درسا».‏

      يعود السبب الرئيسي لنجاح عمل الكرازة اثناء الحرب الى وحدة معشر اخوتنا المسيحي التي كانت واضحة جدا للناس.‏ تروي ندى بِشْكِر،‏ اخت خدمت سنوات كثيرة كفاتحة خصوصية:‏ «قدَّمت وحدتنا شهادة رائعة.‏ فكثيرون كانوا يرون اخوة بوسنيين وصربيين يعملون معا في الخدمة.‏ وعندما يرون اختا كرواتية وأختا من خلفية مسلمة تدرسان مع امرأة صربية،‏ يدركون فورا اننا مختلفون».‏

      تُرى نتائج غيرة اخوتنا الى هذا اليوم،‏ لأن كثيرين ممَّن يخدمون يهوه الآن قبلوا الحق اثناء الحرب.‏ على سبيل المثال،‏ تضاعف عدد الناشرين في الجماعة في بانيا لوكا مع ان مئة ناشر انتقلوا منها الى جماعات اخرى.‏

      عائلة امينة

      توخَّى اخوتنا الحذر الشديد دائما.‏ رغم ذلك،‏ وقع البعض ضحية «الوقت والحوادث غير المتوقعة» بسبب وجودهم في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب.‏ (‏جا ٩:‏١١‏)‏ كان بوزو جورِم،‏ وهو من اصل صربي،‏ قد اعتمد في المحفل الاممي الذي عُقد في زغرب عام ١٩٩١.‏ وبعد عودته الى ساراييفو زُجّ عدة مرات في السجن بسبب موقفه الحيادي وعُومل معاملة سيئة.‏ وفي عام ١٩٩٤،‏ حُكم عليه بالسجن ١٤ شهرا.‏ غير ان الامر الاصعب عليه كان ابتعاده عن زوجته هينا وابنته ماڠدالينا البالغة من العمر خمس سنوات.‏

      بعيد اطلاق سراحه من السجن،‏ حلَّت مأساة.‏ فبعد ظهر احد الايام الهادئة،‏ ذهب الثلاثة لعقد درس في الكتاب المقدس قرب منزلهم.‏ وفي طريقهم،‏ شقّ السكون فجأة انفجار قذيفة مدفعية.‏ فقُتلت هينا وماڠدالينا على الفور،‏ وفارق بوزو الحياة لاحقا في المستشفى.‏

      الحياد المسيحي

      بسبب ازدياد التحامل،‏ قلّما كان موقف الحياد مقبولا.‏ ففي بانيا لوكا،‏ كانت الجماعة مؤلّفة في معظمها من اخوة شبّان ارادت القوات العسكرية ان يحاربوا معها.‏ ولأنهم حافظوا على حيادهم،‏ تعرَّضوا للضرب.‏

      يتذكر أوسمان شاتْشيرْبيڠوڤيتش:‏ «كثيرا ما كانت الشرطة تستجوبنا وتدعونا بالجبناء بحجة اننا لا ندافع عن عائلاتنا».‏

      فكان يحاجّهم قائلا:‏ «أليست بندقيتكم هي التي تحميكم؟‏».‏

      فيجيب رجال الشرطة:‏ «بالتأكيد!‏».‏

      ‏—‏ «هل تستبدلونها بمدفع لتنالوا المزيد من الحماية؟‏».‏

      ‏—‏ «اجل».‏

      ‏—‏ «هل تستبدلون المدفع بدبّابة؟‏».‏

      ‏—‏ «طبعا!‏».‏

      عندئذ يقول أوسمان:‏ «تفعلون كل ذلك لتنالوا حماية افضل.‏ اما انا فحمايتي هي بيهوه الاله القادر على كل شيء،‏ خالق الكون.‏ وأية حماية هي افضل من حمايته؟‏».‏ فتصير النقطة التي يرمي اليها واضحة،‏ ويتركه رجال الشرطة وشأنه.‏

      وصول المساعدات الانسانية

      مع ان الاخوة في البلدان المجاورة عرفوا ان الشهود البوسنيين متضايقون،‏ استحال عليهم لمدة من الوقت نقل مؤن الاغاثة اليهم.‏ ولكن في تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ ١٩٩٣،‏ ذكرت السلطات انه يمكن ادخال مؤن الاغاثة.‏ فقرَّر اخوتنا،‏ رغم الاخطار،‏ ان يستفيدوا من هذه الفرصة الى اقصى حد.‏ وفي ٢٦ تشرين الاول (‏اكتوبر)‏،‏ غادرت خمس شاحنات فيينا بالنمسا وتوجَّهت الى البوسنة محمَّلة ١٦ طنا من الطعام والحطب.‏ فكيف اجتازت قافلة الشاحنات هذه الكثير من المناطق التي كان القتال لا يزال محتدما فيها؟‏c

      في بعض الاحيان،‏ تعرَّض اخوتنا لخطر جسيم اثناء الرحلة.‏ يتذكر احد السائقين:‏ «انطلقتُ في وقت متأخر من ذلك الصباح وسرت خلف عدة شاحنات اخرى تنقل المساعدات الانسانية.‏ حين اقتربتُ من احد حواجز التفتيش،‏ كانت كل الشاحنات متوقِّفة فيما يدقِّق الضباط في الاوراق.‏ وفجأة سمعت صوت طلقة صادرة من بندقية قنّاص،‏ فأصابت سائقا من غير الشهود».‏

      لم يُسمح إلا للسائقين وشاحناتهم بدخول ساراييفو،‏ لذلك وجب على الاخوة الآخرين الذين رافقوا الشاحنات ان ينتظروا خارج المدينة.‏ لكنهم كانوا مصمِّمين على تشجيع الاخوة هناك.‏ فوجدوا هاتفا واتصلوا بالناشرين في ساراييفو،‏ وقدَّم احدهم خطابا عاما مشجِّعا كان الاخوة بأمس الحاجة اليه.‏ وفي احيان كثيرة اثناء الحرب،‏ جازف النظار الجائلون وخدام بيت ايل وأعضاء في لجنة البلد بحياتهم من اجل مساعدة اخوتهم على البقاء احياء جسديا وروحيا.‏

      اما بالنسبة الى بِهاتْش فقد استحال ادخال المساعدات الى اخوتنا هناك طوال اربع سنوات تقريبا.‏ ومع ان الطعام الجسدي لم يعبر الحواجز التي عزلت هذه المدينة،‏ استطاع اخوتنا الحصول على الطعام الروحي.‏ كيف؟‏ كان في وسعهم استخدام خط هاتفي وجهاز فاكس،‏ الامر الذي مكَّنهم ان يتسلَّموا دوريا خدمتنا للملكوت ونسخا من برج المراقبة.‏ فكانوا يطبعونها على الآلة الكاتبة ويعطون نسخة واحدة لكل عائلة.‏ في بداية الحرب،‏ كان في بِهاتْش فريق صغير من ثلاثة ناشرين معتمدين.‏ وكان معهم ١٢ ناشرا غير معتمد انتظروا بشوق سنتين مناسبةً ملائمة ليرمزوا الى انتذارهم ليهوه بالمعمودية.‏

      وقد شكَّل الانعزال لسنوات كثيرة تحدِّيا.‏ يروي أوسمان:‏ «ان تلاميذي الذين يدرسون الكتاب المقدس لم يحضروا قط محفلا او زيارة لناظر الدائرة.‏ فكنا دائما نتحدث عن هذه المناسبات ونتمنّى ان يأتي الوقت الذي فيه سنتمكن من التمتع بمعاشرة عدد اكبر من اخوتنا».‏

      تخيَّل فرحة الاخوة في ١١ آب (‏اغسطس)‏ ١٩٩٥ عندما دخلت الى بِهاتْش شاحنتان كُتب عليهما بجرأة «مؤن الاغاثة لشهود يهوه».‏ وكانتا اولى الشاحنات الخاصة التي تحمل مساعدات انسانية منذ حوصرت المدينة.‏ وقد وصلتا تماما حين شعر الاخوة بأنهم على شفير الانهيار جسديا ونفسيا.‏

      لاحظ الجيران في بِهاتْش كيف اهتم الاخوة بحاجات واحدهم الآخر.‏ فقد قاموا مثلا بتغيير الزجاج المكسور في بيوتهم.‏ يقول أوسمان:‏ «ما فعلوه اثَّر في جيراني كثيرا لأنهم كانوا يعرفون اننا لا نملك المال.‏ فكان ذلك شهادة رائعة ما زال يُؤتى على ذكرها حتى الآن».‏ واليوم،‏ توجد في بِهاتْش جماعة غيورة تتألف من ٣٤ ناشرا و ٥ فاتحين.‏

      رحلة لا تُنسى!‏

      خاطر اخوتنا مرارا كثيرة بحياتهم لإيصال الطعام والمطبوعات الى المدن التي مزَّقتها الحرب في البوسنة.‏ لكنّ الرحلة التي قاموا بها في ٧ حزيران (‏يونيو)‏ ١٩٩٤ كانت مختلفة.‏ ففي وقت باكر من ذلك الصباح،‏ انطلقت من زغرب بكرواتيا قافلة من ثلاث شاحنات فيها اعضاء من لجنة البلد وعمّال آخرون.‏ وكان الهدف منها نقل مؤن الاغاثة،‏ بالاضافة الى تقديم برنامج يوم محفل خصوصي مختصر،‏ هو الاول بعد ثلاث سنوات.‏

      كانت مدينة توزلا احد المواقع التي عُقد فيها هذا البرنامج الخصوصي.‏ في بداية الحرب،‏ كانت الجماعة هناك تتألف من نحو ٢٠ ناشرا معتمدا فقط.‏ ولكن لدهشة الاخوة،‏ اتى اكثر من ٢٠٠ شخص للاستماع الى برنامج المحفل!‏ كما اعتمد ثلاثون شخصا.‏ واليوم توجد في توزلا ثلاث جماعات وأكثر من ٣٠٠ ناشر.‏

      وكانت زينيكا الموقع الثاني للمحفل.‏ وهناك وجد الاخوة مكانا ملائما للاجتماع معا لكنهم لم يجدوا حوضا ملائما للمعمودية.‏ وأخيرا بعد بحث كثير،‏ وجدوا برميلا يمكن استعماله.‏ وكانت مشكلته الوحيدة رائحته،‏ لأنه كان برميلا للسمك.‏ لكنّ ذلك لم يثنِ المرشحين للمعمودية الذين قبلوا دعوة يسوع ان يصيروا «صيّادي ناس».‏ (‏مت ٤:‏١٩‏)‏ وقد ألقى خطاب المعمودية الاخ هربرت فْرِنزِل،‏ الذي يخدم الآن كعضو في لجنة الفرع في كرواتيا.‏ يروي قائلا:‏ «انتظر المرشحون طويلا ليعتمدوا بحيث انهم ما كانوا ليدَعوا اي شيء يقف في طريقهم.‏ وبعد معموديتهم شعروا بالفرح اذ تغلبوا على العقبات التي اعترضتهم».‏ واليوم توجد في زينيكا جماعة غيورة تتألف من ٦٨ ناشرا.‏

      اما الموقع الثالث للمحفل فكان ساراييفو.‏ لم يكن بالإمكان عقد البرنامج هناك إلا قرب مُفترَق طرق كان هدفا للقنّاصين.‏ ولكن بعيد وصول الجميع بسلام الى مكان المحفل،‏ واجه الاخوة مشكلة.‏ فقد كان عليهم ليس فقط ان يجدوا مكانا للمعمودية بل ايضا طريقة لتوفير الماء الثمين.‏ فماذا فعلوا ليضمنوا ان يبقى هنالك ماء كاف ليعتمد الجميع؟‏ أوقفوا كل المرشحين للمعمودية في صف بحسب حجمهم،‏ وعمَّدوهم من الاصغر الى الاكبر حجما!‏

      وكم كان يوم المحفل هذا وقتا سعيدا لإخوتنا وأخواتنا!‏ فهم لم يسمحوا لأي من الحوادث المريعة حولهم ان يؤثِّر على فرحهم الغامر بتقديم العبادة معا ليهوه.‏ واليوم توجد في ساراييفو ثلاث جماعات نشيطة.‏

      بعد الحرب

      بعدما فُتحت طرق الامدادات،‏ صارت الحياة اسهل على اخوتنا وأخواتنا من بعض النواحي.‏ لكنّ التطهير العرقي استمر،‏ واستمر معه تهجير الناس من بيوتهم.‏ يخبر إيڤيتْسا أرابادْجيتش،‏ شيخ يخدم في كرواتيا،‏ انه أُجبر على إخلاء بيت العائلة في بانيا لوكا.‏ ويتذكر قائلا:‏ «اتى رجل يحمل بندقية وقال لنا ان نخلي البيت لأنه صار ملكه الآن.‏ وكان قد أُجبر هو ايضا على اخلاء بيته في شيبينيك بكرواتيا لأنه صربي،‏ ويريد الآن ان نخلي نحن بيتنا.‏ فتدخَّل لمساعدتنا ضابط في الجيش ادرس الحق معه.‏ ورغم اننا لم نتمكن من الاحتفاظ ببيتنا،‏ تمكنا من مقايضة بيتنا ببيت هذا الصربي.‏ وكم شقَّ علينا ان نترك بيتنا والجماعة التي ساعدتنا على تعلُّم الحق!‏ ولكن لم يكن امامنا خيار آخر.‏ وبعدما اخذنا القليل من الامتعة،‏ ذهبنا لنقيم ببيتنا ‹الجديد› في كرواتيا.‏ وحين وصلنا الى شيبينيك،‏ كان شخص آخر قد سكن في البيت الذي اصبح ملكنا.‏ فماذا نفعل؟‏ رحَّب بنا الاخوة على الفور،‏ واستضافنا شيخ في بيته طيلة سنة الى ان حُلَّت مشكلة بيتنا».‏

      مع ان عدم الاستقرار السياسي لا يزال سائدا في البوسنة والهرسك الى هذا اليوم،‏ فإن الحق يزدهر في هذا البلد الذي يدين نحو ٤٠ في المئة من سكانه بالاسلام.‏ ومنذ نهاية الحرب،‏ يبني اخوتنا قاعات ملكوت جديدة.‏ وإحداها القاعة في بانيا لوكا التي لا تمثِّل فقط مكانا للاجتماع نحتاج اليه حاجة ماسة بل ايضا انتصارا قانونيا.‏ فطوال سنوات يحاول اخوتنا الحصول على رخصة لبناء قاعة ملكوت في هذه المنطقة حيث تمارس الكنيسة الارثوذكسية الصربية نفوذا كبيرا.‏ ومع ان السلطات في البوسنة منحتهم اعترافا شرعيا بعد الحرب،‏ لم يُمنحوا رخصة لبناء قاعة ملكوت في بانيا لوكا.‏ وأخيرا،‏ بعد الكثير من الصلوات والجهود الحثيثة،‏ حصلوا على الرخصة اللازمة.‏ وشكَّل هذا الانتصار سابقة قانونية يمكن الاستناد اليها في المستقبل لبناء قاعات ملكوت اخرى في تلك الناحية من البوسنة والهرسك.‏

      اتاحت حرية العبادة ان يخدم ٣٢ فاتحا خصوصيا —‏ الكثير منهم اتوا من بلدان اخرى —‏ في المناطق حيث الحاجة اعظم.‏ وقد كانت غيرتهم في الخدمة بالاضافة الى التصاقهم الولي بالترتيبات الثيوقراطية بركة حقيقية.‏

      قبل عقد فقط،‏ كان اخوتنا في ساراييفو يتعرَّضون دائما لنيران القنّاصين.‏ اما اليوم،‏ وبحلول السلام،‏ فإنهم يستضيفون مندوبين الى المحافل الكورية من كل انحاء يوغوسلافيا السابقة.‏ وفيما مزَّقت حروب القرن الماضي هذا البلد الجبلي الجميل،‏ قرَّب رباط ‹المودة الاخوية العديمة الرياء› شعب يهوه اكثر فأكثر بعضهم الى بعض.‏ (‏١ بط ١:‏٢٢‏)‏ واليوم هنالك ١٦٣‏,١ ناشرا في ١٦ جماعة في البوسنة والهرسك،‏ وهم يسبِّحون باتحاد الاله الحق يهوه.‏

  • اراضي يوغوسلافيا السابقة
    الكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٩
    • ‏[الاطار/‏الصورة في الصفحتين ١٩٥،‏ ١٩٦]‏

      وعدناهم بأن نعود

      هَليم تْسوري

      تاريخ الولادة:‏ ١٩٦٨

      تاريخ المعمودية:‏ ١٩٨٨

      لمحة عن حياته:‏ ساعد على تنظيم وتوزيع المساعدات الانسانية في ساراييفو.‏ ويخدم الآن شيخا في الجماعة،‏ عضوا في لجنة الاتصال بالمستشفيات،‏ وممثلا قانونيا لشهود يهوه في البوسنة والهرسك.‏

      عام ١٩٩٢،‏ دخلت مدينة ساراييفو تحت الحصار.‏ لذلك كنا ندرس المجلات الاقدم عندما لا نحصل على مطبوعات جديدة.‏ فقد استخدم الاخوة آلة كاتبة قديمة لطبع نسخ من مقالات الدروس المتوفرة.‏ ورغم ان عدد الناشرين كان ٥٢ فقط،‏ بلغ عدد الحضور في اجتماعاتنا اكثر من ٢٠٠ شخص وعقدنا نحو ٢٤٠ درسا في الكتاب المقدس.‏

      في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏ ١٩٩٣،‏ خلال اسوإ فترة من الحرب،‏ وُلدت ابنتنا أرييانا.‏ وكم كان صعبا آنذاك انجاب ولد في هذا العالم!‏ فقد كانت المياه والكهرباء تنقطع طوال اسابيع،‏ وكنا نستخدم الاثاث كوقود.‏ كما كنا نمرّ بأماكن خطرة للوصول الى الاجتماعات.‏ وإذ كان القنّاصون يطلقون النار عشوائيا على الناس،‏ وجب ان نعبر بعض الشوارع والحواجز ركضًا.‏

      في احد الايام الهادئة،‏ كنا انا وزوجتي وابنتنا والاخ دْراجِن راديشيتْش في طريقنا الى البيت من الاجتماع حين بدأ فجأة اطلاق نار من مدافع رشّاشة.‏ فانبطحنا على الارض،‏ لكنّ رصاصة اصابتني في معدتي وكان الالم مبرِّحا.‏ رأى كثيرون من نوافذ بيوتهم ما حدث،‏ فركض بعض الشبان الشجعان وأخذونا الى مكان آمن.‏ ثم اسرعوا بي الى المستشفى حيث اراد الفريق الطبي ان ينقل اليّ دما بسرعة.‏ فأوضحت ان ضميري لا يسمح لي بقبول الدم.‏ فألحّوا عليّ ان اعيد النظر في الموضوع؛‏ لكنني كنت مصمِّما على الرفض ومستعدا لمواجهة العواقب.‏ عندئذ قرَّروا اجراء العملية الجراحية مهما حدث.‏ وقد دامت ساعتين ونصفا،‏ وتعافيت من دون نقل دم.‏

      احتجت بعد العملية الجراحية الى فترة نقاهة،‏ الامر الذي كان مستحيلا بسبب الحرب.‏ فقرَّرنا ان نذهب الى النمسا لزيارة عائلتنا.‏ لكنّ الطريقة الوحيدة لمغادرة ساراييفو كانت عبر نفق تحت المطار طوله تسعمئة متر وارتفاعه مئة وعشرون سنتيمترا.‏ فحملتْ زوجتي الطفلة وحاولت انا حمل الحقائب.‏ لكنّ زوجتي اضطرت الى مساعدتي بسبب عمليتي الجراحية.‏

      يتعذَّر علينا وصف الفرح الذي شعرنا به اثناء اقامتنا في النمسا.‏ ولكن حين غادرنا ساراييفو،‏ وعدنا اخوتنا وخالقنا بأن نعود.‏ وكان صعبا جدا ان نترك عائلتنا هنا وخصوصا امي.‏ لكننا اوضحنا لهم اننا وعدنا اللّٰه بأن نعود الى ساراييفو اذا ساعدنا على الخروج منها والحصول على قسط من الراحة.‏ فكيف يُعقل ان نقول له الآن:‏ «نشكرك لأنك ساعدتنا على المجيء الى هنا.‏ لقد امضينا اوقاتا ممتعة جدا،‏ والآن نريد ان نبقى»؟‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ كان اخوتنا في ساراييفو بحاجة الينا.‏ في كل هذه الامور،‏ كانت زوجتي آمْرا دعما كبيرا لي.‏

      وهكذا في كانون الاول (‏ديسمبر)‏ ١٩٩٤،‏ وصلنا الى النفق في ساراييفو.‏ لكننا هذه المرة كنا ندخل اليها بدل ان نخرج منها.‏ لذلك حين رآنا الناس نعود عبر النفق،‏ قالوا لنا:‏ «ماذا تفعلون؟‏ يريد الجميع الخروج من هذه المدينة المحاصرة وأنتم تعودون اليها!‏».‏ اعجز عن ايجاد الكلمات التي تصف لقاءنا الرائع بإخوتنا في قاعة الملكوت في ساراييفو.‏ ونحن لم نندم قط على عودتنا.‏

المطبوعات باللغة العربية (‏١٩٧٩-‏٢٠٢٥)‏
الخروج
الدخول
  • العربية
  • مشاركة
  • التفضيلات
  • Copyright © 2025 Watch Tower Bible and Tract Society of Pennsylvania
  • شروط الاستخدام
  • سياسة الخصوصية
  • إعدادات الخصوصية
  • JW.ORG
  • الدخول
مشاركة