-
ظلال قاتمة فوق الغابة المطيرةاستيقظ! ١٩٩٧ | آذار (مارس) ٢٢
-
-
ظلال قاتمة فوق الغابة المطيرة
اذا نظرتَ الى غابة الأمازون المطيرة من الجو، بدت لك وكأنها بساط زغِب ترامت اطرافه وحافظ على خضرته ورونقه الاصلي كما كان في ايام أورِيانا عندما اكتشف الغابة. أما على الارض، فيما تسير بصعوبة في الغابة الحارة والرطبة، محاولا تفادي الحشرات التي يبلغ حجمها حجم الثدييات الصغيرة، فستجد انك لا تعرف اين ينتهي الواقع ويبدأ الخيال. فما يبدو شكله كأوراق الشجر يتحول الى فراشات، والنبتات المعترشة الى افاعٍ، وقطع الخشب الجاف الى قواضم جافلة تهرب بأقصى سرعة. ففي غابة الأمازون، لا يزال الواقع يختلط بالخيال.
«اغرب وأجمل ما في الامر،» كما يلاحظ احد المراقبين، «هو ان الأمازون في حقيقته مثير كأساطيره.» وكم هو مثير فعلا! تخيَّل غابة تعادل مساحتها مساحة اوروپا الغربية. املأها بأكثر من ٠٠٠,٤ نوع مختلف من الاشجار. زيِّنها بجمال اكثر من ٠٠٠,٦٠ نوع من النباتات المزهرة. اصبغها بالألوان المشرقة لـ ٠٠٠,١ نوع من الطيور. زخرفها بـ ٣٠٠ نوع من الثدييات. أفعمها بطنين ربما مليونَي نوع من الحشرات. والآن يمكنك ان تفهم لماذا كل مَن يصف غابة الأمازون المطيرة ينتهي الى استعمال كلمات تصفها بأنها ‹الاجمل،› ‹الاغنى،› وغير ذلك. واستعمال تعابير مقارنة مثل ‹غابة الامازون اجمل من› او ‹اغنى من› لا يوفي هذه الغابة المدارية المطيرة الاكبر على الارض حقَّها — نظرا الى غناها بالحياة الحيوانية والنباتية التي تعجُّ بها.
‹الموتى الاحياء› المعزولون
قبل تسعين سنة وصف الكاتب الهزلي الاميركي مارك توَين هذه الغابة الرائعة بأنها «ارض ساحرة، ارض غنية جدا بالروائع المدارية، ارض حالِمة حيث تستحق كل الطيور والزهور والحيوانات ان تكون في متحف، وحيث يبدو ان القاطور والتمساح والسعدان تتنعم بالراحة كما لو انها في حديقة حيوانات.» واليوم، اتخذت ملاحظات توَين الطريفة منحى جديا. فقد تصير المتاحف وحدائق الحيوانات قريبا الموطن الوحيد الباقي لعدد متزايد من الروائع المدارية في الأمازون. ولماذا؟
لا يخفى ان السبب الرئيسي هو قطع الانسان لأشجار غابة الأمازون المطيرة، مدمِّرا بالتالي الموطن الطبيعي للنباتات والحيوانات في المنطقة. ولكن بالاضافة الى التدمير الواسع النطاق لهذه المواطن، هنالك اسباب اخرى اكثر غموضا تحوِّل الانواع النباتية والحيوانية، مع انها لا تزال حيَّة، الى «موتى احياء.» وبكلمات اخرى، يعتقد الخبراء ان لا شيء يمكن ان يحُول دون انقراض هذه الانواع.
وأحد هذه الاسباب هو العزل. فالمسؤولون الحكوميون الذين يهتمون بالحفاظ على البيئة قد يحظرون قطع الاشجار في مساحة من الغابة ليضمنوا بقاء الانواع الحيوانية والنباتية حيَّة هناك. لكنَّ المساحات المعزولة عن باقي الغابة تهدِّد وجود هذه الانواع. ويقدِّم كتاب حماية الغابات المدارية — واجب دولي ذو اولوية بارزة (بالانكليزية) هذا المثل ليوضح لماذا المساحات الصغيرة المعزولة لا تدعم الحياة وقتا طويلا.
غالبا ما تتألف الانواع الشجرية المدارية من اشجار ذكرية وأنثوية. ولكي تتكاثر، تنال المساعدة من الخفافيش التي تحمل اللقاح من الازهار الذكرية الى الانثوية. وطبعا، لا تتم عملية التلقيح اذا كانت الاشجار تنمو خارج نطاق طيران الخفافيش. فإذا كانت المسافة بين الشجرة الذكرية والشجرة الانثوية كبيرة جدا — كما يحدث غالبا عندما تحيط بهذه المساحات المعزولة مساحة شاسعة من الارض المحروقة — فلن يستطيع الخفاش قطع تلك المسافة. وتتحول الاشجار، كما يقول التقرير، الى «‹ميت حي› لأن تكاثرها على المدى الطويل لم يعد ممكنا.»
هذه الصلة بين الاشجار والخفافيش هي واحدة فقط من العلاقات التي تؤلف المجتمع الأمازوني الطبيعي. وبكلمات بسيطة، تشبه غابة الأمازون منزلا كبيرا يوفِّر الطعام والمأوى لتنوُّع من الكائنات المختلفة واحدها عن الآخر انما المرتبطة بعلاقات وثيقة متبادلة. ولتفادي التزاحم، يعيش سكان الغابة المطيرة في طوابق مختلفة، البعض قرب ارض الغابة والبعض الآخر في الظُّلة. وجميع السكان يعملون، ويتواصل العمل على مدار الساعة — البعض في النهار والبعض الآخر في الليل. وإذا لم يحُلْ شيء دون تأدية كل الانواع لوظيفتها، يعمل هذا المجتمع المعقد من النباتات والحيوانات الأمازونية بطريقة سلسة.
لكنَّ النظام البيئي في الأمازون (وكلمة بيئة تعني «منزل») هشّ. فحتى لو اقتصر تدخُّل الانسان في شؤون هذه الغابة على استغلال بعض الانواع، ينعكس ضرره على كل طوابق المنزل، اي الغابة. ويقدِّر نورمان مايرز، وهو من انصار المحافظة على البيئة، ان انقراض نوع نباتي واحد يمكن ان يؤدي مع الوقت الى موت ٣٠ نوعا حيوانيا. وبما ان معظم الاشجار المدارية تعتمد بدورها على الحيوانات لكي تنشر لها بزورها، فإن قضاء الانسان على الانواع الحيوانية يؤدي الى انقراض هذه الاشجار. (انظر الاطار «العلاقة بين اشجار وسمكة.») وكما هي الحال في العزل، يؤدي فصم العلاقات الى إدراج اعداد اكبر فأكبر من الانواع في الغابة في قائمة ‹الموتى الاحياء.›
قطْع قليل، اضرار قليلة؟
يبرِّر البعض ازالة الاشجار من مساحات صغيرة بالقول ان الغابة ستتعافى وستُنبت في البقعة الخالية من الاشجار طبقة جديدة من النباتات الخضراء كما يغطي جسمنا الجرح في الاصبع بطبقة جديدة من الجلد. فهل هذا صحيح؟ ليس تماما.
صحيح طبعا ان الغابة تنمو من جديد اذا ترك الانسان البقعة المقطوعة الاشجار وشأنها فترة طويلة، لكنه صحيح ايضا ان الطبقة النباتية الجديدة لن تكون مثل الغابة الاصلية كما ان النسخة الرديئة المصوَّرة بواسطة آلة تصوير المستندات لا تماثل تماما النسخة الطباعية الواضحة. لقد قامت إيما ڤييرا، وهي عالمة نبات برازيلية، بدراسة لمساحة واسعة من غابة في الأمازون عادت ونمت بعد ان قُطعت اشجارها قبل قرن، فوجدت انه من الـ ٢٦٨ نوعا من الاشجار التي كانت تنمو في الغابة القديمة، ٦٥ نوعا فقط تؤلف اليوم الغابة الجديدة. وتقول عالمة النبات ان الفرق نفسه يصحّ في الانواع الحيوانية في المنطقة. ومع ان ازالة الاحراج لا تحوِّل الغابات الخضراء الى صحارٍ حمراء كما يدّعي البعض فإنها تحوِّل غابة الأمازون المطيرة الى نسخة سيئة عن الاصل.
وبالاضافة الى ذلك، حتى لو قُطعت مساحات صغيرة من الغابة فهذا يؤدي غالبا الى هلاك الكثير من النباتات والحيوانات التي تنمو، تزحف، وتتسلق في ذلك الحيّز عينه من الغابة وليس في آخر. مثلا، وجد باحثون في إكوادور ٠٢٥,١ نوعا نباتيا في منطقة تبلغ مساحتها ٧,١ كيلومترا مربعا (١٠/٧ الميل المربع) من الغابة المدارية. وأكثر من ٢٥٠ نوعا منها لا ينمو في ايّ مكان آخر على الارض. «وكمثال محلي لذلك،» كما يقول عالم البيئة البرازيلي روجيريو ڠريبل، «لدينا الـ سويم-دي-كولَيرا،» وهو سعدان صغير جميل يبدو وكأنه يرتدي قميص «تي-شيرت» ابيض. «لم يبقَ منه إلا القليل في بقعة صغيرة في الغابة قرب ماناوس في وسط الأمازون، لكنَّ تدمير هذا الموطن الصغير،» كما يقول الدكتور ڠريبل، «سيمحو هذا النوع من الوجود الى الابد.» القَطْع قليل، لكنَّ الاضرار هائلة.
«البساط» الاخضر يتقلص
غير ان الخطر الادهى على غابة الأمازون المطيرة يأتي من الازالة الشاملة للاحراج. فعمال شقّ الطرقات وقطع الاشجار والتعدين وكثيرون غيرهم يسبِّبون تقلّص «بساط» الغابة، ماحين من الوجود انظمة بيئية بكاملها في طرفة عين.
وفي حين ان هنالك تفاوتا كبيرا في تحديد الارقام الدقيقة للمعدل السنوي لتدمير الغابات في البرازيل — علما بأن التقديرات المتحفظة تذكر انه يبلغ ٠٠٠,٣٦ كيلومتر مربع (٠٠٠,١٤ ميل مربع) في السنة — يمكن ان تكون النسبة الاجمالية للجزء المدمَّر من غابة الأمازون المطيرة حتى الآن قد بلغت اكثر من ١٠ في المئة، مساحة اكبر من المانيا. وأخبرت المجلة الاسبوعية البرازيلية البارزة ڤيجا (بالپرتغالية) ان البلاد اجتاحها في سنة ١٩٩٥ نحو ٠٠٠,٤٠ حريق في الغابة اشعلها مزارعون يعتمدون اسلوب «هشِّم وأحرِق» لزراعة الارض — اكثر من السنة السابقة بخمس مرات. ان الزخم الذي يُضرِم به الانسان النار في الغابة، كما تحذِّر ڤيجا، يجعل اجزاء من الأمازون تبدو مثل «جحيم عند التخوم الخضراء.»
الانواع تختفي — وإن يكن؟
ربَّ سائل يقول: ‹ولكن هل نحن بحاجة الى كل هذه الانواع التي تبلغ الملايين؟› نعم، نحن بحاجة اليها، كما يؤكد ادوارد ا. ويلسون، احد انصار المحافظة على البيئة، من جامعة هارڤرد. يقول ويلسون: «بما اننا نعتمد على الانظمة البيئية العاملة لتنقية مياهنا وإخصاب تربتنا وخلق الهواء الذي نتنفَّسه، فمن الواضح ان التنوُّع الحيوي ليس شيئا ليُتخلص منه بلا مبالاة.» ويقول كتاب الناس، النباتات، وبراءات الاختراع (بالانكليزية): «يتوقف بقاء البشر على استفادتهم من التنوُّع الوراثي الوافر. فإذا اختفى التنوُّع، نختفي بسرعة نحن ايضا.»
نعم، ان تأثير تدمير الانواع لا يقف عند قطْع الاشجار وتعريض وجود الحيوانات للخطر ومضايقة السكان الاصليين. (انظر الاطار «العنصر البشري.») فتقلّص الغابات يمكن ان يؤثر فيك. فكّر في هذا: مزارع في موزمبيق يقطع سوق المنيهوت، أُمّ في اوزبكستان تتناول حبة لتحديد النسل، صبي جريح في ساراييڤو يُعطى مادة المورفين، او زبونة في متجر في نيويورك تتمتع بشذا عطر غريب — جميع هؤلاء الاشخاص، كما يذكر معهد پانوس، يستعملون منتجات اصلها من الغابة المدارية. وهكذا فإن الغابة القائمة تخدم الناس حول العالم — بمن فيهم انت.
لا ولائم، انما لا مجاعات
صحيح انه لا يمكن لغابة الأمازون المطيرة ان تُولِم للعالم بأسره وليمة حافلة، ولكن يمكنها ان تساعد على الحؤول دون وقوع مجاعة عالمية. (انظر الاطار «خرافة خصوبة الارض.») كيف؟ بدأ الانسان في السبعينات يزرع على نطاق واسع بعض ضروب النباتات التي انتجت محاصيل هائلة جدا. ومع ان هذه النباتات الغزيرة الانتاج ساهمت في إطعام ٥٠٠ مليون شخص اضافي، هنالك مشكلة في الامر. فبما انه ليس لديها تنوُّع وراثي، فهي ضعيفة وعرضة للامراض. ويمكن لڤيروس ان يقضي على الجزء الاكبر من المحصول الغزير لبلد ما، الامر الذي يؤدي الى مجاعة.
لذلك، من اجل انتاج محاصيل اقوى وتفادي حصول مجاعة، تشجع الآن منظمة الاغذية والزراعة (الفاو) التابعة للامم المتحدة على «استعمال تشكيلة اوسع من المواد الوراثية.» وهنا يأتي دور الغابة المطيرة وسكانها الاصليين.
بما ان الغابات المدارية تؤوي اكثر من نصف الانواع النباتية في العالم (بما فيها نحو ٦٥٠,١ نوعا يمكن ان تكون محاصيل غذائية)، فالمشتل الأمازوني هو المكان المثالي لأيّ باحث يفتش عن انواع نباتية برية. وبالاضافة الى ذلك، يعرف سكان الغابات كيف يستفيدون من هذه النباتات. مثلا، لا ينتج هنود الكاياپو في البرازيل ضروبا جديدة من المحاصيل فحسب، بل يحفظون ايضا عيِّنات منها في منحدرات التلال التي تصير مثل بُنوك للمورِّثات. وبتهجين النبات — بين المحاصيل البرية والمحاصيل غير البرية انما السريعة التأثر بالامراض — تزداد قوة ومقاومة محاصيل الانسان الغذائية. وهذه التقوية ضرورية جدا، كما تقول الفاو، لأنه «يجب ان يزداد انتاج الطعام ٦٠٪ في السنوات الـ ٢٥ التالية.» ومع ذلك، لا تزال الجرافات التي تهشِّم الغابات تتغلغل اكثر فأكثر في عمق غابة الأمازون المطيرة.
وما هي العواقب؟ ان تدمير الانسان للغابة المطيرة يماثل كثيرا التهام المزارع حبوب الذرة التي ينوي زرعها — فهو يسدّ جوعه الحالي ولكنه يعرِّض مخزون الطعام المستقبلي للخطر. وقد حذَّرت مؤخرا مجموعة من الخبراء بالتنوُّع الحيوي قائلة: «ان حفظ التنويع المتبقي للمحاصيل وتطويره مسألة مهمة والجميع حول العالم معنيّون بها.»
نباتات قد تكون مفيدة
ادخل الآن الى «صيدلية» الغابة وانظر كيف ان مصير الانسان متعلق بالنباتات المدارية المعترشة وغيرها. مثلا، تُستعمل القلوانيات المستخرَجة من النباتات الأمازونية المعترشة كمُرخِيات عضلية قبل العمليات الجراحية؛ ٤ من ٥ اولاد مصابين بابيضاض الدم (اللوكيميا) يمكن ان يعيشوا مدة اطول، وذلك بفضل المواد الكيميائية الموجودة في العناقية الوردية، وهي زهرة تنمو في الغابات. وتزوِّد الغابة ايضا الكينين المستعمل لمحاربة الملاريا، الديجيتاليس المستعمل لمعالجة قصور القلب، والديوسْجنين المستعمل في حبوب تحديد النسل. وتبيَّن ان نباتات اخرى يمكن ان تكون مفيدة في محاربة الأيدز والسرطان. يقول تقرير للامم المتحدة: «لقد سُجِّل في الأمازون وحدها ٠٠٠,٢ نوع من النباتات التي يستخدمها السكان الاصليون كأدوية والتي يمكن استعمالها في تركيب المستحضرات الطبية.» وتقول دراسة اخرى ان ٨ من كل ١٠ اشخاص حول العالم يلجأون الى النباتات الطبية لمعالجة امراضهم.
لذلك من المنطقي ان ننقذ النباتات التي تنقذنا، كما يقول الدكتور فيليپ م. فيرنْسايد. «ان خسارة الغابة الأمازونية تُعتبر تراجعا محتمَلا خطيرا في الجهود المبذولة لإيجاد علاجات للسرطان البشري. . . . والفكرة القائلة ان الانجازات الباهرة في الطب الحديث تسمح لنا بالاستغناء عن جزء كبير من هذه الانواع،» كما يضيف، «تعبِّر عن اعتداد بالنفس قد تكون عاقبته مميتة.»
ومع ذلك يواصل الانسان اهلاك الحيوانات والنباتات بسرعة تفوق سرعة اكتشافها وتصنيفها علميا. ويجعلك ذلك تتساءل: ‹لماذا تتواصل ازالة الاحراج؟ هل يمكن تغيير مجرى الامور؟ هل لغابة الأمازون المطيرة مستقبل؟›
-
-
بحث عن الحلولاستيقظ! ١٩٩٧ | آذار (مارس) ٢٢
-
-
بحث عن الحلول
كتب المؤلف الانكليزي جون ليلي: «عندما يدور نقاش حول ظلال الامور، نغفل عن جوهرها.» ولكي لا نقع في هذا المأزق، ينبغي ان نتذكر دائما ان الظلال القاتمة التي تخيِّم على الغابة المطيرة هي انعكاسات لمشاكل اعمق وأن تدمير الغابة سيستمر ما لم تعالَج الاسباب الضمنية. فما هي هذه الاسباب؟ ان «العوامل الرئيسية التي تهدِّد عملية حفظ غابة الأمازون،» كما تقول دراسة رعتها الامم المتحدة، هي «الفقر والمظالم البشرية.»
ثورة لم تكن خضراء كثيرا
يقول بعض الباحثين ان تدمير الغابة هو الى حد ما تأثير جانبي لما يدعى بالثورة الخضراء التي ابتدأت قبل بضعة عقود في جنوب البرازيل ووسطها. فقبل تلك الثورة كانت آلاف العائلات التي تملك مزارع صغيرة تجني رزقها من زراعة الارزّ والفاصولياء والبطاطا بالاضافة الى تربية المواشي. ثم اخذت المشاريع الكهرمائية وعمليات زراعة فول الصويا الممَكْنَنة والواسعة النطاق تلتهم اراضيهم وتستبدل المحاصيل المحلية والابقار بمنتجات زراعية مخصصة لإطعام البلدان الصناعية. وبين السنتين ١٩٦٦ و ١٩٧٩ فقط، ازدادت مساحة الاراضي الزراعية المخصصة لتصدير المحاصيل بنسبة ١٨٢ في المئة. وهكذا فقدَ ١١ من كل ١٢ مزارعا تقليديا اراضيهم وأرزاقهم. فكانت هذه الثورة الخضراء في حالتهم ثورة قاتمة.
وإلى اين يذهب هؤلاء المزارعون الذين لا ارض لهم؟ لم يكن السياسيون راغبين في مواجهة مشكلة التوزيع غير المنصف للاراضي في منطقتهم، فكان حلّهم ترويج شعار يدعو منطقة الأمازون «ارضا بلا ناس لأناس بلا ارض.» وفي غضون عشر سنوات بعد افتتاح اول طريق رئيسي عبر الأمازون، كان اكثر من مليوني مزارع فقير — من جنوب البرازيل ومن شمال شرقي البرازيل حيث الجفاف والفقر — قد استقروا بآلاف الاكواخ على طول هذا الطريق الرئيسي. وعندما شُقَّت طرق اضافية، سافر اشخاص اكثر الى الأمازون ليصيروا مزارعين هناك، وكانوا على استعداد لتحويل الغابة الى ارض زراعية. وعند التكلم عن هذه البرامج الاستيطانية، يقول الباحثون انه بمقارنة المحاسن بالمساوئ «لنحو ٥٠ سنة من الاستيطان، كانت النتيجة سلبية.» فالفقر والظلم «صُدِّرا الى الأمازون،» وكذلك «ظهرت مشاكل جديدة في منطقة الأمازون.»
ثلاث خطوات نحو الافضل
للمساعدة على معالجة اسباب ازالة الاحراج وتحسين الظروف المعيشية لدى الانسان في غابة الأمازون المطيرة، قامت اللجنة الانمائية والبيئية لأمازونيا بنشر وثيقة توصي فيها الحكومات في حوض الأمازون — بين امور اخرى — باتخاذ ثلاث خطوات اساسية. (١) معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الفقيرة خارج غابة الأمازون المطيرة. (٢) الاستفادة من الغابة القائمة والاستفادة مجددا من المناطق التي سبق ان أُزيلت احراجها. (٣) معالجة المظالم الكبيرة في المجتمع، التي هي الاسباب الحقيقية للبؤس البشري وتدمير الغابة. فدعونا نفحص عن كثب هذه الخطوات الثلاث.
الاستثمارات
معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. «احد الخيارات الانجع لخفض ازالة الاحراج،» كما تقول اللجنة، «هو الاستثمار في بعض المناطق الافقر من البلدان الأمازونية حيث يُجبر السكان على النزوح الى الأمازون بحثا عن مستقبل افضل.» ولكن يضيف اعضاء اللجنة انه «نادرا ما يؤخذ هذا الخيار بعين الاعتبار في التخطيط الانمائي القومي او الاقليمي او من قِبل الاشخاص في البلدان الصناعية الذين يؤيدون خفض معدل ازالة الاحراج في الأمازون بنسبة كبيرة.» ومع ذلك، كما يوضح الخبراء، اذا عمل المسؤولون الحكوميون والحكومات الاجنبية المهتمة على توجيه خبرتهم ودعمهم المالي الى حلّ مشاكل كالتوزيع غير الكافي للاراضي او الفقر في المدن الواقعة في المناطق المحيطة بالأمازون، فسيبطئون تقاطر المزارعين على الأمازون ويساهمون في انقاذ الغابة.
ولكن ماذا يمكن فعله للمزارعين الصغار الذين يسكنون حاليا في الأمازون؟ فقوام بقائهم اليومي هو تنمية المحاصيل في تربة غير ملائمة للزراعة.
حفظ الغابة للاستفادة من الاشجار
الاستفادة من الغابة القائمة والمقطوعة الاشجار. تقول مطبوعة للأمم المتحدة تدعى الغابات المتلاشية (بالانكليزية) ان «الغابات المدارية تُستغل اكثر من اللازم ولكن يُستفاد منها اقل من اللازم. وعلى هذه المفارقة يعتمد بقاؤها.» فالخبراء يقولون انه بدلا من استغلال الغابة بقطع اشجارها، ينبغي ان يستفيد الانسان من الغابة باستخلاص او جني نتاجها، كالثمار والجوز والزيوت والمطاط والعطور والنباتات الطبية وغيرها من المنتجات الطبيعية. ويقال ان منتجات كهذه تمثل «ما يقدَّر بـ ٩٠ في المئة من القيمة الاقتصادية للغابة.»
ويوضح دوڠ دايلي، من الحديقة النباتية في نيويورك، لماذا يعتقد انه من المنطقي التخلي عن اسلوب تدمير الغابة والتحوُّل الى استخلاص نتاجها: «هذا يرضي الحكومة — فهي لن ترى اقساما كبيرة من امازونيا تخرج من السوق. . . . وهذه الطريقة تزوِّد اسباب الرزق التي تساعد الناس على العيش والعمل، وتحفظ الغابة ايضا. ومن الصعب العثور على ناحية سلبية فيها.» — الحفاظ على الحياة البرية (بالانكليزية).
وحفظ الغابة من اجل الاشجار يحسِّن في الواقع الظروف المعيشية لسكان الغابة. مثلا، حسبَ باحثون في بَليم في شمال البرازيل ان تحويل هكتار واحد (أكرين ونصف) من الغابة الى مرعى يدرُّ في السنة ٢٥ دولارا اميركيا فقط كأرباح. لذلك حتى يكسب الرجل الحد الادنى الشهري للاجور في البرازيل يجب ان يحصل على ٤٨ هكتارا (١٢٠ أكرا) من المراعي و ١٦ رأسا من الماشية. ولكن، كما تخبر ڤيجا (بالپرتغالية)، يمكن لمَن يريد ان يصبح مزارعا ان يجني مالا اكثر بكثير باستخلاص المنتجات الطبيعية للغابة. وكمية المنتجات التي يمكن تجميعها هائلة، كما يقول عالِم الاحياء تشارلز كليمانت. «فهنالك عشرات النباتات من البقول ومئات النباتات المنتجة للثمار والراتنجات والزيوت التي يمكن الاهتمام بها وجنيها.» ويضيف الدكتور كليمانت: «لكنَّ المشكلة هي انه يجب ان يتعلم الانسان ان الغابة هي مصدر ثروة وليست عائقا امام الإثراء.»
فرصة ثانية للارض المهملة
ان التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة لا يتضاربان بالضرورة، كما يقول الباحث البرازيلي جْواو فيرّاس. «انظروا كم دُمِّر من الغابة حتى الآن. لا حاجة الى قطع المزيد من اشجار الغابة العذراء، بل يمكننا استصلاح المساحات الواهنة المقطوعة الاشجار والاستفادة منها من جديد.» وفي منطقة الأمازون، هنالك الكثير من الاراضي الواهنة لاستصلاحها.
ابتداء من اواخر الستينات، كانت الحكومة تمنح اعانات هائلة لتشجيع كبار المستثمرين على تحويل الغابة الى مراعٍ. وهذا ما فعلوه، ولكن كما يوضح الدكتور فيرّاس، «انحطت المراعي بعد ست سنوات. وبعد ذلك، حين ادرك الجميع ان هذا كان خطأ فادحا، قال اصحاب الاراضي الكبار: ‹حسنا، لقد حصَّلنا من الحكومة ما يكفي من المال،› ورحلوا.» وماذا كانت النتيجة؟ «نحو ٠٠٠,٨٠ ميل مربع [٠٠٠,٢٠٠ كلم٢] من المراعي المهجورة تَبُور.»
ولكن يجد اليوم باحثون مثل فيرّاس استعمالات جديدة لهذه الاراضي الواهنة. كيف؟ قبل بضع سنوات غرسوا ٠٠٠,٣٢٠ شتلة من اشجار جوز امازونيا في مزرعة مهجورة للمواشي. واليوم صارت هذه النباتات اشجارا مثمرة. وبما ان هذه الاشجار تنمو بسرعة وتنتج خشبا قيِّما، تُغرس الآن شتلات جوز امازونيا في الاراضي المقطوعة الاشجار في مختلف انحاء حوض الأمازون. ويقول الخبراء ان استخلاص المنتجات، تعليم المزارعين زراعة المحاصيل المعمّرة، تبنّي اساليب للحصول على الخشب دون الإضرار بالغابة، وإعادة احياء الاراضي الواهنة هي بدائل ذكية تساعد على ابقاء الغابة قائمة. — انظر الاطار «العمل من اجل حفظ الغابة.»
ومع ذلك، يقول المسؤولون ان انقاذ الغابات يتطلب اكثر من استصلاح الاراضي الواهنة. فهو يتطلب اصلاح الطبيعة البشرية.
كيف يُقوَّم الاعوج
معالجة المظالم. غالبا ما يكون الجشع وراء السلوك البشري الظالم الذي ينتهك حقوق الآخرين. وكما لاحظ الفيلسوف القديم سَنيكا، «الجشِع لا تكفيه الطبيعة جمعاء» — بما فيها غابة الأمازون المطيرة الرحبة.
بالتباين مع المزارعين الكادحين الفقراء في الأمازون، يقوم الصناعيون وأصحاب الاراضي الكبيرة بتجريد الغابة لزيادة ارباحهم. ويشير الخبراء الى ان البلدان الغربية تلام هي ايضا لأن لها اليد الطولى في قطع الاشجار في الأمازون. «فالبلدان الصناعية الغنية،» كما استنتج فريق من الباحثين الالمان، هي التي «تسببت الى حد كبير بالضرر البيئي الحالي.» وتذكر اللجنة الانمائية والبيئية لأمازونيا ان حفظ الأمازون يستلزم بالتأكيد «أخلاقيات عالمية جديدة، أخلاقيات ينتج عنها منهج انمائي محسّن وقائم على التضامن البشري والعدل.»
لكنَّ سحب الدخان المتواصلة فوق الأمازون تذكّر المرء بأنه رغم الجهود التي يبذلها المهتمون بالبيئة حول العالم، يصعب تحويل الافكار الذكية الى واقع كما يصعب الامساك بالدخان. ولماذا؟
ان جذور رذائل كالجشع تتغلغل في بنية المجتمع البشري اكثر بكثير من جذور اشجار الأمازون في تربة الغابة. ومع انه ينبغي ان نساهم قدر الامكان في حفظ الغابة، من غير المنطقي التوقُّع ان ينجح البشر، مهما حسنت نيتهم، في استئصال الاسباب العميقة والمعقدة لتدمير الغابة. وما ذكره الملك القديم سليمان، مراقب حكيم للطبيعة البشرية، قبل ثلاثة آلاف سنة لا يزال يصحّ اليوم. فبالجهود البشرية وحدها «الأعوج لا يمكن ان يقوَّم.» (جامعة ١:١٥) ويشبه ذلك المثل الپرتغالي القائل ان «الشجرة المولودة عوجاء تموت عوجاء.» ولكن هنالك مستقبل للغابات المطيرة في العالم اجمع. كيف؟
الحل الذكي قريب
منذ مئة سنة تقريبا، أُعجب المؤلف البرازيلي أوكليدِس دا كونْيا بالغزارة الهائلة لأشكال الحياة في الأمازون حتى انه وصف الغابة بـ «صفحة معاصرة وغير منشورة من سفر التكوين.» ومع ان الانسان منهمك في خربشة وتمزيق هذه ‹الصفحة،› لا تزال غابة الأمازون القائمة، كما تخبر المطبوعة امازونيا بلا اساطير (بالانكليزية)، «رمزا يفيض بالحنين الى ما كانت عليه الارض زمن الخلق.» ولكن لِكَم من الوقت؟
تأملوا في هذا: ان غابة الأمازون المطيرة والغابات المطيرة الاخرى في العالم تشهد، على حد تعبير دا كونْيا، على وجود «ذكاء فريد.» فأشجار الغابات، من جذورها حتى اوراقها، تُظهر انها عمل مهندس بارع. فهل يسمح هذا المهندس العظيم اذًا للانسان الجشع بأن يقضي على الغابات المطيرة ويهلك الارض؟ تجيب نبوة في الكتاب المقدس عن هذا السؤال بـ ‹لا› مدوّية! فهي تقول: «غضبت الامم فأتى غضبك [اللّٰه] وزمان [«الوقت المعين،» عج] . . . ليُهلَك الذين كانوا يهلكون الارض.» — رؤيا ١١:١٨.
ولكن لاحظوا ان هذه النبوة لا تقول لنا فقط ان الخالق سيصل الى اصل المشكلة بإزالة الجشعين بل تقول ايضا انه سيفعل ذلك في زمننا. وكيف نعرف ذلك؟ تقول النبوة ان اللّٰه سيتدخل في زمن يقوم فيه الانسان ‹بإهلاك› الارض. وعندما كُتبت هذه الكلمات قبل ألفَي سنة تقريبا، كان ينقص الانسان العُدّة والعدد على السواء لفعل ذلك. لكنَّ الوضع تغير. «فللمرة الاولى في تاريخ البشرية،» كما يذكر كتاب حماية الغابات المدارية — واجب دولي ذو اولوية بارزة (بالانكليزية)، «بإمكان الانسان ان يدمر أُسُس وجوده لا على نطاق مناطق او قطاعات فحسب بل على نطاق عالمي.»
لذلك فقد دنا «الوقت المعين» الذي سيتخذ فيه الخالق اجراء في حق «الذين كانوا يهلكون الارض.» وغابة الأمازون المطيرة وغيرها من البيئات المعرَّضة للخطر على الارض لها مستقبل. وهذا ما سيفعله الخالق بالتأكيد — وليس ذلك اسطورة، بل واقع.
-
-
بحث عن الحلولاستيقظ! ١٩٩٧ | آذار (مارس) ٢٢
-
-
العمل من اجل حفظ الغابة
على مساحة ٠٠٠,٤٠٠ متر مربع (٠٠٠,٣٠٠,٤ قدم مربعة) تقريبا في مدينة ماناوس في وسط الأمازون تمتد حرجة ناضرة عادت فنمت بعد ان أُزيلت، وتقوم فيها المكاتب المختلفة للمعهد الوطني للابحاث في الأمازون بالبرازيل. هذا المعهد الذي بوشر العمل فيه قبل ٤٢ سنة، بأقسامه الـ ١٣ المختلفة التي تشمل كل شيء من علم البيئة الى علم الغابات الى صحة الانسان، يُعتبر اكبر منظمة ابحاث في المنطقة. وهو يؤوي ايضا احدى اغنى المجموعات من النباتات والاسماك والزواحف والبرمائيات والثدييات والطيور والحشرات الامازونية في العالم. ويساهم عمل الـ ٢٨٠ باحثا في المعهد في تحسين فهم الانسان للتفاعلات المعقدة بين الانظمة البيئية الأمازونية. ويخرج زوَّار المعهد وهم يشعرون بالتفاؤل. فعلى الرغم من القيود البيروقراطية والسياسية، شمَّر علماء برازيليون وأجانب عن سواعدهم للعمل من اجل حفظ لؤلؤة الغابات المطيرة في العالم — الأمازون.
-