-
البشر — مَن نحن؟استيقظ! ١٩٩٨ | حزيران (يونيو) ٢٢
-
-
البشر — مَن نحن؟
يبدو ان الانسان لا يعرف مَن هو حقا! يذكر مؤيد التطور ريتشارد ليكي: «لقرون خَلَت يبحث الفلاسفة في اوجهِ بشريةِ البشر. ولكن ما يدعو الى الدهشة هو انه ما من تعريف متَّفق عليه للبشرية كمزية».
إلّا ان حديقة حيوانات كوپنهاڠن ادلت برأيها بجرأة بواسطة احد المعروضات في قسمها المخصَّص للحيوانات الرئيسية primates. يوضح كتاب دائرة المعارف البريطانية للسنة ١٩٩٧ (بالانكليزية): «انتقل زوجان دانماركيان للعيش في مسكن مؤقت في الحديقة بنيَّة تذكير الزائرين بالقرابة الوثيقة التي تربطهم بالقرود».
وتدعم الكتب المرجعية هذه القرابة الوثيقة المزعومة بين البشر وبعض الحيوانات. مثلا، تقول دائرة معارف الكتاب العالمي (بالانكليزية): «بين الثدييَّات تتألف الرتبة المسماة رُتبة الرئيسيات من الكائنات البشرية، بالاضافة الى القرود، حيوانات الراسغ، السعادين، وحيوانات اللَّيمور».
لكنَّ الواقع هو ان البشر يتمتعون بميزات كثيرة جدا وفريدة لا تنطبق على الحيوانات. وبين هذه هنالك المحبة، الضمير، الاخلاق، الروحيات، العدل، الرحمة، روح الفكاهة، الابداع، الإدراك للوقت، الوعي الذاتي، الحس الجَمالي، الاهتمام بالمستقبل، القدرة على تجميع المعارف عبر الاجيال، والرجاء بأن الموت ليس نهاية وجودنا.
وفي محاولة للتوفيق بين هذه الميزات وتلك التي للحيوانات، يشير البعض الى علم النفس التطوُّري، وهو خليط من التطوُّر، علم النفس، والعلوم الاجتماعية. فهل ألقى علم النفس التطوُّري ضوءا على لغز الطبيعة البشرية؟
ما هو القصد من الحياة؟
يقول مؤيد التطور روبرت رايت: «ان الفرضية التي يرتكز عليها علم النفس التطوُّري بسيطة». وهي ان «الدماغ البشري، كأيّ عضوٍ آخر، صُمِّم بهدف نقل المورِّثات الى الجيل التالي؛ وهذه الفرضية هي افضل اساس لفهم المشاعر والافكار التي يخلقها». وبكلمات اخرى، فإن القصد الوحيد من الحياة، كما تمليه علينا مورِّثاتنا وكما يظهر من طريقة عمل دماغنا، هو التناسل.
فعلا، «ان جزءا كبيرا من الطبيعة البشرية»، وفقا لعلم النفس التطوُّري، «يتلخَّص بالمصلحة الشخصية الوراثية التي لا ترحم». ويقول كتاب الحيوان الفاضل (بالانكليزية): «‹يريد› الانتقاء الطبيعي ان تكون للرجال علاقات جنسية مع سلسلة لامتناهية من النساء». ووفق هذا المفهوم التطوُّري، يُعتبر الفساد الادبي عند النساء طبيعيا ايضا، في ظروف معيَّنة. وحتى محبة الوالدين لأولادهم تُعتبر حيلة من صُنع المورِّثات لضمان دوام حياة ذريتهم. ولذلك، يشدِّد احد الآراء على اهمية ما يُنقل بالوراثة في ضمان استمرارية العائلة البشرية.
تتأثر بعض كتب المساعدة الذاتية في الوقت الحاضر بموجة علم النفس التطوُّري الجديدة. ويصف احدها الطبيعة البشرية بأنها «لا تختلف كثيرا عن طبيعة الشمپانزي، او طبيعة الڠورلا، او طبيعة البابون». ويذكر ايضا: «ما يهم في التطور هو التكاثر».
من جهة اخرى، يعلِّم الكتاب المقدس ان اللّٰه خلق البشر لقصد يتعدّى التناسل. فقد خُلقنا على «صورة» اللّٰه، بقدرة على عكس صفاته، وخصوصا المحبة، العدل، الحكمة، والقدرة. اضِف الى هذه ميزات البشر الفريدة التي سبق ذكرها، فيتَّضح لماذا يصنِّف الكتاب المقدس البشر في مرتبة اسمى من الحيوانات. وفي الواقع، يكشف الكتاب المقدس ان اللّٰه خلق الانسان ليس فقط بالرغبة في الحياة الى الابد بل ايضا بالقدرة على التمتع بتحقيق هذه الرغبة في عالم جديد بار من صنع اللّٰه. — تكوين ١:٢٧، ٢٨؛ مزمور ٣٧:٩-١١، ٢٩؛ جامعة ٣:١١؛ يوحنا ٣:١٦؛ رؤيا ٢١:٣، ٤.
ما نؤمن به مهمّ
ان تحديد النظرة الصحيحة الى هذه المسألة ليس ابدا عملية نظرية، لأن ما نؤمن به بشأن أصلنا يمكن ان يؤثر في طريقة عيشنا حياتنا. ذكر المؤرِّخ ه. ج. وِلز الاستنتاجات التي توصَّل اليها عديدون بعدما نُشر كتاب اصل الانواع (بالانكليزية)، بقلم تشارلز داروين، عام ١٨٥٩.
«نتج فساد حقيقي للأخلاق. . . . وبعد سنة ١٨٥٩ فُقد الايمان فعلا. . . . وصارت الشعوب المسيطِرة في نهاية القرن التاسع عشر تعتقد انها تسيطر بسبب ‹الصراع من اجل البقاء›، الذي ينتصر فيه القوي والبارع، على الضعيف والساذج. . . . وتوصَّلوا الى الاستنتاج ان الانسان هو حيوان اجتماعي، يتصرف تماما كالكلاب المفترسة في الهند. . . . فقد بدا لهم صائبا ان تتهجم الكلاب البشرية القوية على الاضعف منها وتُخضِعه».
من الواضح اذًا، انه من المهم امتلاك نظرة صائبة بشأن من نحن حقا. لأنه، كما سأل احد مؤيِّدي التطور، «اذا كانت الفلسفة الداروينية البسيطة والبدائية . . . قد اضعفت القوة الاخلاقية للحضارة الغربية، فماذا سيحدث حين تُفهم الفكرة الجديدة [لعلم النفس التطوُّري] كاملا؟».
بما ان ما نؤمن به بشأن أصلنا يؤثر في آرائنا الاساسية حول الحياة وحول الخطإ والصواب، فمن المهم ان نفحص كامل هذه المسألة بدقة.
-
-
على صورة اللّٰه ام البهيمة؟استيقظ! ١٩٩٨ | حزيران (يونيو) ٢٢
-
-
على صورة اللّٰه ام البهيمة؟
دُعي الانسان الاول، آدم، «ابن اللّٰه». (لوقا ٣:٣٨) وما من حيوان حظي يوما ما بهذا الشرف. إلّا ان الكتاب المقدس يُظهر ان بين البشر والحيوانات امورا كثيرة مشتركة. مثلا، الحيوانات والبشر على السواء هم أنفس. تقول تكوين ٢:٧ انه عندما جبل اللّٰه آدم، «صار آدم نفسا حيَّة». وتوافق كورنثوس الاولى ١٥:٤٥ على ذلك بالقول: «صار آدم الانسان الاول نفسا حيَّة». فالبشر هم أنفس، ولذلك ليست النفس كيانا وهميا يستمر في العيش بعد موت الجسد.
وفي ما يتعلق بالحيوانات، تقول تكوين ١:٢٤، عج: «لتُخرج الارض انفسا حية بحسب اجناسها، حيوانا داجنا وحيوانا جائلا ووحش ارض بحسب جنسه». وهكذا، فيما يرفِّع الكتاب المقدس البشر بالكشف اننا خُلقنا على صورة اللّٰه، يذكِّرنا ايضا بمركزنا الوضيع كأنفس على الارض، مثلنا مثل الحيوانات. لكن هنالك قاسم مشترك آخر بين الانسان والحيوان.
يوضح الكتاب المقدس: «ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك . . . فليس للانسان مزية على البهيمة . . . يذهب كلاهما الى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما». نعم، يتشابه الانسان والحيوان في الموت. فكلاهما يعود «الى الارض»، «الى التراب»، من حيث اتى. — جامعة ٣:١٩، ٢٠؛ تكوين ٣:١٩.
لكن لماذا يفجع الموت البشر الى هذا الحد؟ ولماذا نحلم بالعيش الى الابد؟ ولماذا لا بد لنا من امتلاك قصد في الحياة؟ لا شك في اننا مختلفون اشد الاختلاف عن الحيوانات!
بماذا نختلف عن الحيوانات
هل تسعدون اذا عشتم حياتكم دون قصد سوى الاكل، النوم، والتناسل؟ تنفِّر هذه الفكرة حتى مؤيِّدي التطوُّر الاشد تمسُّكا بمبدئهم. يكتب مؤيِّد التطوُّر ث. دوبجانسكي: «ان الانسان العصري، هذا الشكوكي واللاأدري المنوَّر، لا يمكنه ان يمتنع، ولو سرا، عن طرح الاسئلة القديمة على نفسه: هل لحياتي ايّ معنى وهدف يتجاوز إبقاء نفسي حيا ومتابعة سلسلة الحياة؟ هل للكون الذي اعيش فيه ايّ معنى؟».
حقا، لا يُخمِد انكارُ وجود خالق بحث الانسان عن معنى لحياته. فريتشارد ليكي يكتب، مقتبسا من المؤرِّخ آرنولد تويْنبي: «هذه المَلَكة الروحية [عند الانسان] تحكم عليه بصراع يدوم مدى العمر ليوفِّق بين ذاته والكون الذي وُلد فيه».
غير ان الاسئلة الاساسية بشأن الطبيعة البشرية، اصلنا، وميلنا الروحي، تبقى دون اجوبة. ومن الواضح ان هنالك هوة شاسعة بين الانسان والحيوان. فكم شاسعة هي هذه الهوة؟
هوَّة اكبر من ان تُسدّ؟
هنالك مشكلة اساسية في نظرية التطوُّر وهي الهوَّة الشاسعة التي تفصل البشر عن الحيوانات. فكم شاسعة هي في الحقيقة؟ تأمَّلوا في بعض ما قاله مؤيِّدو التطوُّر انفسهم بشأن هذه الهوَّة.
كتب توماس ه. هَكسلي، وهو من مؤيِّدي نظرية التطوُّر البارزين في القرن الـ ١٩: «ما من احد اكثر اقتناعا مني بمدى اتساع الهوَّة بين . . . الانسان والبهيمة . . .، فهو وحده يملك الموهبة الرائعة للكلام المنطقي والمفهوم . . . [و]يرتفع بفضلها كما لو انه على رأس جبل، اعلى بكثير من مستوى رفاقه الوضعاء».
ويلاحظ مؤيِّد التطوُّر مايكل سي. كورباليس ان «هنالك هوَّة لافتة للنظر بين البشر والحيوانات الاخرى من رتبة الرئيسيات . . . ‹ان دماغنا هو اكبر بثلاث مرات مما هو متوقَّع لدماغ حيوان من الرئيسيات بحجم جسمنا›». ويوضح طبيب الاعصاب ريتشارد م. رستاك: «ان الدماغ [البشري] هو العضو الوحيد في الكون المعروف الذي يسعى الى فهم ذاته».
ويعترف ليكي: «يشكِّل الوعي بالنسبة الى العلماء معضلة يعتقد بعضهم انه لا يمكن حلُّها. فالشعور بالوعي الذاتي الذي نتمتع به كلنا هو بارز جدا بحيث يؤثر في كل ما نفكر فيه ونفعله». ويقول ايضا: «تخلق اللغة فعلا هوَّة بين الانسان العاقل وبقية العالم الطبيعي».
ويكتب پيتر رصل مشيرا الى احدى الروائع الاخرى للدماغ البشري: «ان الذاكرة هي دون شك احدى اهم المقدرات البشرية الطبيعية. فدونها ينعدم كل تعلُّم . . .، كل عمل فكري، كل تطوُّر للغة، وكل صفة . . . تميِّز عادة البشر».
وإضافة الى ما سبق، ما من حيوان يمارس العبادة. ولذلك يذكر ادوارد أُو. ويلسون: «ان استعداد الدماغ البشري لتقبُّل الاعتقاد الديني هو القوة الاكثر تعقيدا وفعَّالية فيه، وربما جزء لا يتجزَّأ من الطبيعة البشرية».
ويعترف مؤيِّد التطوُّر روبرت رايت: «يُنشئ التصرُّف البشري معضلات عديدة اخرى بالنسبة الى نظرية داروين». ويضيف: «فما هو دور الفكاهة والضحك؟ ولماذا يعترف الناس وهم على فراش الموت؟ . . . وما هو بالتحديد دور التفجُّع؟ . . . وبما ان الشخص يكون قد مات، فكيف يخدم التفجُّع المورِّثات؟».
وتقِرُّ مؤيِّدة التطوُّر إيلاين مورڠن: «ان اربعة من اعظم الاسرار بشأن البشر هي: (١) لماذا يمشون على قائمتين؟ (٢) لماذا فقدوا فروهم؟ (٣) لماذا تطوَّرت لديهم ادمغة كبيرة الى هذا الحد؟ (٤) لماذا تعلَّموا ان يتكلَّموا؟».
وكيف يجيب مؤيدو التطوُّر عن هذه الاسئلة؟ توضح مورڠن: «ان الاجوبة التقليدية عن هذه الاسئلة هي: (١) ‹لا نعرف بعد›؛ (٢) ‹لا نعرف بعد›؛ (٣) ‹لا نعرف بعد›؛ و (٤) ‹لا نعرف بعد›».
نظرية مشكوك فيها
ذكر مؤلِّف كتاب القرد ذو الجانب الاثقل (بالانكليزية) ان هدفه كان «تزويد وصف شامل للتطوُّر البشري عبر الزمن. والكثير من الاستنتاجات كان مؤسسا على تخمينات ارتكزت بشكل رئيسي على بعض الاسنان والعظام والحجارة القديمة». وفي الواقع، حتى نظرية داروين الاصلية لا يقبلها كثيرون. يقول ريتشارد ليكي: «حتى سنوات قليلة ماضية، هيمنت رواية داروين عن طريقة تطوُّرنا على الانثروپولوجيا، واتضح في النهاية انها خاطئة».
وبحسب إيلاين مورڠن، فإن مؤيِّدين عديدين للتطوُّر «قد فقدوا الثقة بالاجوبة التي اعتقدوا انهم يعرفونها منذ ثلاثين سنة». ولذلك لا عجب ان تكون بعض النظريات التي يتمسك بها مؤيِّدو التطوُّر قد انهارت.
نتائج مريعة
وجدت بعض الدراسات ان عدد الاناث اللواتي يتزاوج معهن الذكر مرتبط بفارق الحجم بين الجنسين. وبناء على ذلك، استنتج البعض ان العادات الجنسية عند البشر ينبغي ان تكون مماثلة للعادات الجنسية عند قرود الشمپانزي، لأن ذكور الشمپانزي اكبر بقليل من الاناث، تماما كما هي الحال عند البشر. ولذلك يحاجّ البعض انه ينبغي السماح للبشر بحيازة اكثر من شريك جنسي واحد، شأنهم في ذلك شأن الشمپانزي. وفي الواقع، هذا ما يفعله العديد من الناس.
لكن ما يبدو انه ينجح عند الشمپانزي اتضح بشكل عام انه كارثة بالنسبة الى البشر. فالوقائع تُظهر ان الاختلاط الجنسي هو طريق الى البؤس تنتشر فيه العائلات المحطَّمة، عمليات الاجهاض، المرض، الجراح النفسية والعاطفية، الحسد، العنف العائلي، والاولاد المهجورون الذين يكبرون دون التمكن من النجاح في بيئتهم، وتنتهي بهم الحال الى تكرار الدورة الاليمة. فلو كانت طبيعة الانسان كطبيعة الحيوان، لماذا تسبِّب هذه الامور كل هذا الالم؟
ويولِّد التفكير التطوُّري الشك ايضا في قدسية الحياة البشرية. فعلى ايّ اساس تكون الحياة البشرية مقدسة اذا قلنا انه لا اله، واعتبرنا انفسنا مجرد حيوانات اكثر تطوُّرا؟ ألعلّ ذلك على اساس مقدراتنا التفكيرية؟ لو صحَّ ذلك، لكان السؤال المطروح في كتاب الفارق البشري (بالانكليزية) في محله تماما: «هل من العدل معاملة البشر على انهم اكثر قيمة من الكلاب والقططة لمجرَّد اننا حظينا بكل التوفيق في لعبة الحظ [التطوُّرية]؟».
ويقول كتاب الحيوان الفاضل (بالانكليزية) انه إذ ينتشر النمط الاحدث للتفكير التطوُّري، «سيؤثِّر دون شك تأثيرا كبيرا في التفكير الاخلاقي». لكنَّ الآداب المؤسسة على فرضية اننا شُكِّلنا بواسطة «الانتقاء الطبيعي» الذي فيه، كما يقول ه. ج. وِلز، «ينتصر القوي والبارع على الضعيف والساذج» هي آداب قاسية.
والجدير بالملاحظة ان العديد من نظريات مؤيِّدي التطوُّر التي قوَّضت الآداب تدريجيا على مرّ السنين انهار امام الفوج الجديد من المفكِّرين. لكنَّ المأساة هي ان الضرر الذي خلَّفته هذه النظريات لم يزُل.
عبادة الخليقة ام الخالق
يجعل التطوُّر المرء يتطلَّع بحثا عن الاجوبة الى اسفل، الى الخليقة، وليس الى اعلى، الى الخالق. لكنَّ الكتاب المقدس من جهة اخرى يوجِّه نظرنا الى اعلى، الى الاله الحقيقي في بحثنا عن قيَمنا الادبية وقصدنا في الحياة. وهو يوضح ايضا لماذا يجب ان نصارع لنتجنب فعل الخطإ، ولماذا البشر وحدهم يقلقون جدا بشأن الموت. وبالاضافة الى ذلك، ان تفسيره لسبب ميلنا الى فعل الشر له رنة الحق في عقل الانسان وقلبه. ونحن ندعوكم الى التأمل في هذا التفسير المرضي.
-
-
التطلُّع الى اعلى، وليس الى اسفل، بحثا عن الاجوبةاستيقظ! ١٩٩٨ | حزيران (يونيو) ٢٢
-
-
التطلُّع الى اعلى، وليس الى اسفل، بحثا عن الاجوبة
يعلِّم التطوُّر ان سلسلة من التغييرات حوَّلتنا شيئا فشيئا الى شكل من الحيوانات اكثر تطوُّرا. ومن ناحية اخرى، يقول الكتاب المقدس اننا كنا في البداية كاملين، على صورة اللّٰه، ولكن بُعيد ذلك، ظهر النقص وابتدأ البشر بانحطاط طويل.
ان ابوَينا الاوَّلَين، آدم وحواء، هما مَن بدأ هذا الانحطاط حين سعَيا الى الاستقلال الادبي وجرَحا ضميرَيهما بالعصيان العمدي على اللّٰه. فكأنهما كانا يقودان سيارة ويخترقان عمدا السياج الواقي لشريعة اللّٰه وينحدران بسرعة الى حالتنا اليوم، حيث نعاني المرض، الشيخوخة، والموت، هذا إن لم نذكر التحامل العرقي، الكره الديني، والحروب الفظيعة. — تكوين ٢:١٧؛ ٣:٦، ٧.
مورِّثات الحيوان ام مورِّثات فيها عيب؟
طبعا، لا يوضح الكتاب المقدس بتعابير علمية ما حدث لجسدَي آدم وحواء الكاملَين حين أخطأا. فالكتاب المقدس ليس كتابا علميا، تماما كما ان كُتيِّب الارشادات الذي في حوزة مالك السيارة ليس كتابا دراسيا يتناول هندسة المركبات الآلية. لكنَّ الكتاب المقدس، مثل كُتيِّب الارشادات، دقيق، وليس خرافة.
حين اخترق آدم وحواء الحاجز الواقي لشريعة اللّٰه، تأذَّى جسداهما. وابتدأا بعدئذ بانحدار بطيء نحو الموت. وورث اولادهما، العائلة البشرية، النقص بفعل قوانين الوراثة. ولذلك يموتون هم ايضا. — ايوب ١٤:٤؛ مزمور ٥١:٥؛ رومية ٥:١٢.
ومن المؤسف ان ميراثنا يشمل ميلا نحو الخطية، يظهر في اعمال الانانية والفساد الادبي. فالجنس، مثلا، لائق طبعا في مكانه. فاللّٰه اوصى الزوجين البشريَّين الاوَّلَين: «أَثمروا واكثروا واملأوا الارض». (تكوين ١:٢٨) وبصفته خالقا محبا، جعل اتِّباع هذه الوصية امرا ممتعا للزوج والزوجة. (امثال ٥:١٨) لكنَّ النقص البشري ادَّى الى اساءة استعمال الجنس. وفي الواقع، يؤثر النقص في كل وجه من اوجه حياتنا، بما فيها عمل عقلنا وجسدنا، كما نعلم كلنا.
لكنَّ النقص لم يقضِ على حسِّنا الادبي. فإن اردنا حقا، يمكننا ان نسيطر على «المِقوَد» ونتجنَّب مآزق الحياة بمحاربة ميلنا الى الانحراف نحو الخطية. طبعا، لا يمكن لأيّ انسان ناقص ان يحارب الخطية وينتصر عليها كاملا، واللّٰه برحمته يأخذ ذلك بعين الاعتبار. — مزمور ١٠٣:١٤؛ رومية ٧:٢١-٢٣.
لماذا لا نريد ان نموت
يلقي الكتاب المقدس ايضا الضوء على معضلة اخرى لا يمكن للتطوُّر ان يشرحها على نحو مُرضٍ: الميل الطبيعي عند البشر الى رفض الموت، مع ان الموت قد يبدو طبيعيا وحتميا.
كما يكشف الكتاب المقدس، ما سبَّب الموت هو الخطية، العصيان على اللّٰه. فلو بقي ابوانا الاولان طائعَين، لَعاشا الى الابد مع اولادهما. فاللّٰه في الواقع، صمَّم العقل البشري برغبة في الحياة الابدية. تقول الجامعة ٣:١١، حسب الترجمة التفسيرية: «غرس الابدية في قلوب البشر». ولذلك، فقد انشأ الحكم على البشر بالموت صراعا داخليا فيهم، عدم انسجام دائما فيهم.
ولفضِّ هذا الصراع الداخلي وإشباع التوق الطبيعي الى الاستمرار في العيش، ابتدع البشر كل انواع المعتقدات، من عقيدة خلود النفس الى الايمان بالتقمُّص. ويدرس العلماء لغز الشيخوخة لأنهم يبغون هم ايضا تجنُّب الموت او، على الاقل، تأجيله. ويرفض مؤيِّدو التطور الملحدون فكرة الرغبة في الحياة الابدية باعتبارها حيلة، او خدعة تطوُّرية، لأنها تتعارض مع فكرتهم ان البشر هم مجرد حيوانات متطوِّرة. ومن ناحية اخرى، ينسجم قول الكتاب المقدس ان الموت عدو مع توقنا الطبيعي الى الحياة. — ١ كورنثوس ١٥:٢٦.
فهل تعطي اجسامنا ايّ دليل على انه قُصد ان نحيا الى الابد؟ الجواب هو نعم! فالدماغ البشري وحده يذهلنا بالادلّة اننا صُنعنا لنحيا مدة اطول بكثير مما نحيا الآن.
صُنعنا لنحيا الى الابد
يزن الدماغ ٤,١ كيلوڠراما (٣ پاوندات) تقريبا، ويحتوي من ١٠ بلايين الى ١٠٠ بليون عصبون؛ ويقال انه ما من اثنين منها متشابهان تماما. ويمكن ان يتصل كل عصبون بما يبلغ ٠٠٠,٢٠٠ عصبون آخر، مما يجعل عدد الدارات، او الطرق، المختلفة في الدماغ خياليا. وكما لو ان ذلك لا يكفي، تقول ساينتفيك امريكان (بالانكليزية) ان «كل عصبون هو كمپيوتر متطور» بحد ذاته.
والدماغ يسبح في حساء كيميائي يؤثر في طريقة عمل العصبونات. ومستوى تعقيده يفوق كثيرا حتى اقوى اجهزة الكمپيوتر. يكتب طوني بوزان وتِرِنتس ديكسون: «داخل كل رأس هنالك مصدر للطاقة يوحي بالرهبة، عضو صغير وفعَّال يتبيَّن، كلَّما تعلَّمنا عنه، ان قدرته تتوغَّل اكثر فأكثر في اللاحدود». ويضيفان مقتبسَين من الپروفسور پْيوتْر انوخين: «لم يأتِ بعد انسان يمكنه ان يستعمل كل قدرة دماغه. ولذلك نحن لا نقبل ايّ تقدير متشائم لحدود الدماغ البشري. فهو غير محدود».
وتتحدَّى هذه الوقائع المذهلة نظرية التطوُّر. فلماذا «يوجِد» التطوُّر لسكان الكهوف البسطاء، او حتى لذوي الثقافة العالية اليوم، عضوا يمكنه ان يخدم ملايين او حتى بلايين السنين؟ حقا، ان التفسير المنطقي الوحيد هو الحياة الابدية! ولكن ماذا عن جسمنا؟
يذكر كتاب الاصلاح والتجديد — رحلة عبر العقل والجسم (بالانكليزية): «ان الطريقة التي تقوم بها العظام، الانسجة، والاعضاء، المتضرِّرة بإصلاح نفسها لا يمكن تسميتها بأقل من عجائبية. وإذا صرفنا الوقت في التفكير في ذلك، نجد ان تجديد الجلد، الشعر، والاظافير — بالاضافة الى اجزاء اخرى من الجسم — الذي يجري دون ان نشعر به، انما هو عملية مدهشة جدا: فهي تستمر ٢٤ ساعة في اليوم، وأسبوعا بعد اسبوع، معيدة حرفيا صنعنا، من الناحية الكيميائية الحيوية، مرات عديدة خلال مجرى حياتنا».
وفي وقت اللّٰه المعيَّن، لن يصعب عليه ان يجعل عملية التجديد الذاتي العجائبية هذه تدوم الى ما لا نهاية. وحينئذ ‹يُبطل الموت› اخيرا. (١ كورنثوس ١٥:٢٦) ولكن لنيل السعادة الحقيقية نحتاج الى اكثر من الحياة الابدية. نحتاج الى السلام — السلام مع اللّٰه ومع رفقائنا البشر. ولا يمكن بلوغ هذا السلام إلّا اذا كان الناس يحبون حقا واحدهم الآخر.
عالم جديد مؤسَّس على المحبة
تقول ١ يوحنا ٤:٨: «اللّٰه محبة». والمحبة — وخصوصا محبة يهوه اللّٰه — قوية جدا حتى انها السبب الذي يتأسس عليه رجاؤنا بالعيش الى الابد. تقول يوحنا ٣:١٦: «هكذا احب اللّٰه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية».
الحياة الابدية! يا له من توقُّع رائع! لكن بما اننا ورثنا الخطية، لا حق لنا في الحياة. يقول الكتاب المقدس: «اجرة الخطية هي موت». (رومية ٦:٢٣) لكن لسعادتنا، دفعت المحبة ابن اللّٰه، يسوع المسيح، الى الموت لأجلنا. كتب الرسول يوحنا عن يسوع: «ذاك وضع نفسه لأجلنا». (١ يوحنا ٣:١٦) نعم، فقد وهب حياته البشرية الكاملة «فدية عن كثيرين» حتى تُمحى خطايانا نحن الذين نمارس الايمان به وحتى نتمتع بالحياة الابدية. (متى ٢٠:٢٨) يوضح الكتاب المقدس: «اللّٰه قد ارسل ابنه الوحيد الى العالم لكي نحيا به». — ١ يوحنا ٤:٩.
فكيف ينبغي اذًا ان نتجاوب مع المحبة التي اظهرها لنا اللّٰه وابنه؟ يتابع الكتاب المقدس: «ايها الاحباء إن كان اللّٰه قد احبنا هكذا ينبغي لنا ايضا ان يحب بعضنا بعضا». (١ يوحنا ٤:١١) فيجب ان نتعلَّم المحبة، لأن هذه الصفة ستكون اساس عالم اللّٰه الجديد. واليوم، صار عديدون يدركون اهمية المحبة، كما يشدِّد عليها يهوه اللّٰه في كلمته، الكتاب المقدس.
ذكر كتاب المحبة ومكانها في الطبيعة (بالانكليزية) انه بدون محبة «غالبا ما يموت الاولاد». لكنَّ هذه الحاجة الى المحبة لا تنتهي عندما يكبر الناس. وذكر احد علماء الانسان البارزين ان المحبة «هي النقطة المركزية لكل الحاجات البشرية كما ان الشمس هي النقطة المركزية لنظامنا الشمسي . . . والولد الذي لم يحظَ بالمحبة يكون مختلفا جدا من الناحية الكيميائية الحيوية، الفيزيولوجية، والنفسية عن ولد آخر مُنح المحبة. حتى ان الاول ينمو بطريقة مختلفة عن الثاني».
هل يمكنكم ان تتخيَّلوا كيف ستكون الحياة حين يحب كل الناس على الارض واحدهم الآخر حقا؟ فلا احد سيضمر التحامل ابدا في ما بعد لأن قومية او عرق او لون بشرة الشخص الآخر هي مختلفة! وتحت ادارة ملك اللّٰه المعيَّن، يسوع المسيح، ستمتلئ الارض من السلام والمحبة، اتماما للمزمور الموحى به في الكتاب المقدس:
«اللَّهم أعطِ احكامك للملك . . . يقضي لمساكين الشعب. يخلّص بني البائسين ويسحق الظالم. . . . يشرق في ايامه الصدِّيق وكثرة السلام الى ان يضمحل القمر. ويملك من البحر الى البحر ومن النهر الى اقاصي الارض. لأنه ينجِّي الفقير المستغيث والمسكين اذ لا معين له. يشفق على المسكين والبائس ويخلّص انفس الفقراء.». — مزمور ٧٢:١، ٤، ٧، ٨، ١٢، ١٣.
ولن يُسمح للاشرار بالعيش في عالم اللّٰه الجديد، كما يعد مزمور آخر في الكتاب المقدس: «عاملي الشر يُقطعون والذين ينتظرون الرب هم يرثون الارض. بعد قليل لا يكون الشرير. تطَّلِع في مكانه فلا يكون. أما الودعاء فيرثون الارض ويتلذذون في كثرة السلامة». — مزمور ٣٧:٩-١١.
وحينئذ ستكون عقول كل البشر الطائعين وأجسامهم، بمن فيهم الذين أُقيموا من القبور في قيامة الموتى، قد شُفيت. وفي النهاية، سيعكس كل شخص حيّ صورة اللّٰه على نحو كامل. وأخيرا سينتهي الصراع الكبير لفعل ما هو صائب. وسيولِّي ايضا عدم الانسجام بين توقنا الى الحياة والواقع الاليم الحالي للموت! نعم، هذا هو الوعد الاكيد لإلهنا المحب: «الموت لا يكون في ما بعد». — رؤيا ٢١:٤؛ اعمال ٢٤:١٥.
فلا تستسلموا ابدا في المعركة لفعل ما هو صواب. وأصغوا الى النصح الالهي: «جاهد جهاد الايمان الحسن وأمسك بالحياة الابدية». وهذه الحياة في عالم اللّٰه الجديد هي ما يدعوه الكتاب المقدس حسب ترجمة العالم الجديد «الحياة الحقيقية». — ١ تيموثاوس ٦:١٢، ١٩.
ونرجو ان تدركوا الحقيقة المذكورة في الكتاب المقدس: «يهوه هو اللّٰه. هو الذي صنعنا، لا نحن انفسنا». وإدراك هذه الحقيقة انما هو خطوة حيوية نحو التأهُّل للعيش في عالم يهوه الجديد الذي تملأه المحبة والبرّ. — مزمور ١٠٠:٣، عج؛ ٢ بطرس ٣:١٣.
-