مكتبة برج المراقبة الإلكترونية
برج المراقبة
المكتبة الإلكترونية
العربية
  • الكتاب المقدس
  • المطبوعات
  • الاجتماعات
  • هل هو قدر ام مجرد صدفة؟‏
    استيقظ!‏ ١٩٩٩ | آب (‏اغسطس)‏ ٨
    • هل هو قدر ام مجرد صدفة؟‏

      ذكرت صحيفة انترناشونال هيرالد تريبيون (‏بالانكليزية)‏:‏ «اخذ القدر حياة كثيرين وأبقى على آخرين».‏ ففي السنة الماضية،‏ ادى هجومان ارهابيان على السفارتَين الاميركيتَين في كينيا وتنزانيا الى قتل نحو ٢٠٠ شخص وجرح المئات.‏ لكنَّ «عامل الوقت انقذ حياة اهم الدبلوماسيين»،‏ كما قالت الصحيفة.‏

      لقد نجا هؤلاء لأنهم كانوا يحضرون اجتماعا يُعقد في موقع من البناء بعيد عن الانفجار.‏ لكنَّ مسؤولا بارزا في السفارة،‏ بدلا من ان يحضر الاجتماع كما هو معتاد،‏ كان في مكان قريب من الانفجار،‏ ولذلك قُتل.‏

      وذكرت الصحيفة:‏ «كان القدر قاسيا ايضا مع آرلين كيرك».‏ فعندما ارادت آرلين العودة الى كينيا بعد انتهاء عطلتها،‏ كانت الاماكن المحجوزة على متن طائرتها تفوق عدد المقاعد المتوفرة.‏ فتطوَّعت وقدَّمت مقعدها.‏ لكنَّ مسافرين آخرين كانوا قد قدَّموا مقاعدهم قبلها،‏ وهذا ما اتاح لها ان تركب الطائرة.‏ وبسبب ذلك عادت الى عملها في السفارة يوم وقوع الانفجار،‏ وهكذا قُتلت.‏

      ليست المصائب غريبة عن الانسان.‏ ومع ذلك،‏ ليس سهلا ابدا معرفة سبب المآ‌سي التي تحصل.‏ وعندما تقع الحوادث والكوارث في ايّ مكان حول العالم،‏ غالبا ما يموت البعض وينجو آخرون.‏ لكنَّ السؤال:‏ ‹لماذا انا؟‏› لا يتردَّد على ألسنة الناس حين تحلّ الكوارث فقط.‏ فمن النواحي الايجابية ايضا في الحياة،‏ يبدو ان البعض تُتاح لهم مجالات اكثر من غيرهم.‏ وفيما تكون الحياة بالنسبة الى كثيرين صراعا مستمرا،‏ يتوفَّق آخرون في مساعيهم بكل سهولة.‏ لذلك قد تسألون:‏ ‹هل السبب هو ان كل ذلك مخطَّط له مسبقا؟‏ هل يتحكم القدر في حياتي؟‏›.‏

      البحث عن تفاسير

      قبل نحو ٠٠٠‏,٣ سنة،‏ لاحظ ملك حكيم حدوث امور غير متوقعة حوله.‏ وفسّر هذه الحوادث بالقول:‏ «الوقت والعرَض يلاقيانهم كافة».‏ (‏جامعة ٩:‏١١‏)‏ فأحيانا تحدث امور غير متوقعة.‏ ولا سبيل الى ان يحسب المرء حسابا مسبقا لها.‏ وغالبا ما يكون لعامل الوقت دور كبير في وقوع الاحداث البارزة،‏ سواء أكانت جيدة ام رديئة.‏

      ولكن ربما كان رأيكم كرأي الاشخاص الذين لا يفسّرون الامور على انها وليدة الصدفة،‏ بل يعتقدون ان قوة اخرى لها يد في المسألة:‏ القدر.‏ والايمان بالقدر هو احد اقدم المعتقدات الدينية عند الانسان وأكثرها انتشارا.‏ يقول الپروفسور فرانسوا جوان،‏ مدير مركز الابحاث الميثولوجية في جامعة پاريس:‏ «لم يمرَّ عصر ولا حضارة لم يؤمَن فيهما بكائن الهي يتحكم في الاقدار .‏ .‏ .‏ وذلك لتفسير كل ما لا يُفسَّر في وجودنا».‏ لذلك من الشائع ان نسمع الناس يقولون:‏ «لم تأتِ ساعته بعد» او «هذا نصيبه».‏ ولكن ما هو القدر؟‏

      تعريف القدر

      تعني كلمة «القَدَر» بالعربية ‹القضاء والحكم›،‏ وترتبط بما ‹يقضي ويحكم به اللّٰه من الامور›.‏ وفي حين يعتقد اناس ان قوة عشوائية تحدِّد المستقبل بطريقة يتعذر تجنبها وتفسيرها،‏ غالبا ما تُنسب هذه القوة الى كائن الهي.‏

      يوضح المؤرخ الديني هلمر رِنڠْران:‏ «احد العناصر الرئيسية للتديُّن هو الشعور بأن ‹مصير› الانسان لا يعتمد على الصدفة وأنه ليس بلا قصد،‏ بل تسبِّبه قوة يمكن ان تُنسب اليها صفة الارادة والنيّة».‏ ومع انه غالبا ما يُظن انه من الممكن تغيير مجرى الامور الى حد ما،‏ يرى اناس كثيرون ان البشر هم كقطع عاجزة نسبيا في لعبة شطرنج تحرِّكها ايادٍ لا سلطة لهم عليها.‏ وهكذا فإنهم يلاقون مصيرهم المحتوم.‏

      لطالما شكّلت مسألة تفسير القدر معضلة كبيرة بين اللاهوتيين والفلاسفة.‏ تقول دائرة معارف الدين (‏بالانكليزية)‏:‏ «ان مفهوم القدر —‏ بأيّ شكل يتخذه،‏ بأية لغة يَظهر فيها،‏ او بأيّ اختلاف بسيط في معناه —‏ يعتمد دائما على عنصر الغموض».‏ ولكن ثمة خيط مشترك بين كل الافكار المتشابكة،‏ وهو وجود قوة اسمى تتحكم في شؤون الانسان وتديرها.‏ ويُعتقد ان هذه القوة تحدِّد حياة الافراد والامم مسبقا،‏ وهي بذلك تجعل المستقبل كالماضي امرا محتوما.‏

      عامل يحدِّد مجرى الامور

      هل يهمّ ما اذا كنتم تؤمنون بالقدر ام لا؟‏ كتب الفيلسوف الانكليزي برتراند راسل:‏ «ان الظروف التي يعيشها البشر تساهم كثيرا في تحديد فلسفتهم؛‏ والعكس صحيح،‏ ففلسفتهم تساهم كثيرا في تحديد ظروفهم».‏

      نعم،‏ يمكن للايمان بالقدر —‏ سواء كان هنالك قدر ام لا —‏ ان يحدِّد طريقة تصرُّفاتنا.‏ فكثيرون يؤمنون ان القدر يعبِّر عن مشيئة الآلهة،‏ لذلك يرضخون للوضع الذي يعيشونه —‏ مهما اتَّسم بالظلم او الاستبداد —‏ كما لو ان ذلك نصيبهم في الحياة ولا يمكن تغييره.‏ لذلك فإن الايمان بالقدر يقوِّض فكرة المسؤولية الشخصية.‏

      ومن ناحية اخرى،‏ كان الايمان بالقدر حافزا للبعض الى التقدُّم.‏ مثلا،‏ يقول المؤرخون ان نمو الرأسمالية والثورة الصناعية يرجعان الى عدد من العوامل.‏ وكان الايمان بالقضاء والقدر واحدا منها.‏ فقد علّمت بعض الاديان الپروتستانتية ان اللّٰه يقضي ويقدِّر مَن سيخلُصون.‏ يقول عالِم الاجتماع الالماني ماكس ڤيبر:‏ «عاجلا ام آجلا كان سينشأ عند كل مؤمن هذا السؤال:‏ هل انا واحد من المختارين؟‏».‏ وأراد البعض ان يعرفوا هل يحظون ببركة اللّٰه،‏ مما يعني ان الخلاص مقدَّر لهم؟‏ وليعرفوا الجواب،‏ كما قال ڤيبر،‏ لجأوا الى ‹النشاط الدنيوي›.‏ فقد اعتبروا ان النجاح في عالم الاعمال وتجميع الثروات هما دليلان على انهم يتمتعون بحظوة عند اللّٰه.‏

      والايمان بالقدر يدفع البعض الى القيام بأعمال متطرفة.‏ ففي الحرب العالمية الثانية،‏ كان الطيارون اليابانيون الانتحاريون يؤمنون بـ‍ «الكاميكاز»،‏ او «الريح الالهية».‏ والفكرة القائلة ان الآلهة تملك قصدا،‏ وإنه يمكن للمرء ان يلعب دورا في هذا القصد،‏ اضفت على الموت معاني دينية.‏ ففي العقد الماضي،‏ كثيرا ما احتلت اخبار المفجِّرين الانتحاريين في الشرق الاوسط العناوين العريضة بسبب الهجمات التي قاموا بها.‏ وتلعب الجبرية دورا مهما في هذه «الهجمات الانتحارية ذات التأثير الديني»،‏ كما تذكر احدى دوائر المعارف.‏

      ولكن لماذا الايمان بالقدر شائع الى هذا الحد؟‏ سنجد الجواب عندما نلقي نظرة موجزة على اصله.‏

  • بحث الانسان عن قدره
    استيقظ!‏ ١٩٩٩ | آب (‏اغسطس)‏ ٨
    • بحث الانسان عن قدره

      لماذا الايمان بالقدر شائع الى هذا الحد؟‏ لقد سعى الانسان،‏ على مرِّ العصور،‏ الى حلّ اسرار الحياة وإيجاد قصد في الاحداث الجارية.‏ يوضح المؤرخ هلمر رِنڠْران:‏ «من هنا ظهرت المفاهيم المتعلقة بـ‍ ‹الاله› و ‹القدر› و ‹الصدفة›،‏ وذلك بحسب ما اعتُبر المسبِّب للاحداث:‏ أهو قوة تتمتع بشخصية،‏ أم ترتيب للامور لا شخصية له،‏ أم لا شيء على الاطلاق».‏ ويزخر التاريخ بالمعتقدات والاساطير والخرافات التي ترتبط بفكرة القدر.‏

      يقول عالم الاشوريات جان بوتيرو:‏ «صاغت حضارة بلاد ما بين النهرين الى حد بعيد ثقافتنا في كل نواحيها»،‏ مضيفا اننا نجد في بلاد ما بين النهرين القديمة او بابل «اقدم التفاعلات والآراء المحسوسة عند البشر ازاء ما هو فوق الطبيعة،‏ اقدم بنية دينية يمكن تعريفها».‏ وهنا ايضا نجد اصل القدر.‏

      الجذور القديمة للقدر

      اكتشف علماء الآثار بين الخرائب القديمة لبلاد ما بين النهرين،‏ ما يُعرف اليوم بالعراق،‏ بعض اقدم الكتابات المعروفة عند الانسان.‏ فآ‌لاف الالواح المكتوبة بالخط المسماري تعطينا فكرة واضحة عن الحياة في حضارتَي سومر وأكّاد القديمتين وفي مدينة بابل الشهيرة.‏ ووفقا لعالم الآثار سامويل ن.‏ كرايمر،‏ كان السومريون «متحيِّرين من مشكلة الالم البشري،‏ وخصوصا في ما يتعلق بأسبابه المبهمة».‏ وقادهم بحثهم عن الاجوبة الى فكرة القدر.‏

      تقول عالمة الآثار جوان اوتس في كتابها بابل (‏بالانكليزية)‏ انه «كان لكل بابلي إلهه الخاص او إلاهته الخاصة».‏ وكان البابليون يؤمنون بأن الآلهة «تحدِّد اقدار كل البشر،‏ على صعيد فردي وجماعي».‏ ووفقا لما قاله كرايمر،‏ كان السومريون يؤمنون بأن «الآلهة المتحكمة في الكون تخطط وتجعل الشر والكذب والعنف جزءا لا يتجزأ من الحضارة».‏ لقد كان الايمان بالقدر واسع الانتشار،‏ وكانت هذه الفكرة تُجَلّ كثيرا.‏

      وكان البابليون يعتقدون انه من الممكن معرفة خطط الآلهة عن طريق العرافة —‏ «وسيلة للاتصال بالآلهة».‏ وشملت العرافة محاولة الإنباء بالمستقبل من خلال مراقبة الاشياء والاحداث وفك رموزها وتفسيرها.‏ وعادةً كان يُتحقق من الاحلام وسلوك الحيوانات والاحشاء.‏ (‏قارنوا حزقيال ٢١:‏٢١؛‏ دانيال ٢:‏١-‏٤‏.‏)‏ وكانت الاحداث غير المتوقعة او غير العادية التي يقال انها تكشف المستقبل تُسجّل على ألواح صلصالية.‏

      وفقا للعالم الفرنسي بالحضارات القديمة ادوار دورم،‏ «كلما توغلنا في تاريخ بلاد ما بين النهرين،‏ وجدنا ذكرا للعرَّاف ولفكرة العرافة».‏ فقد كانت العرافة ميزة بارزة في حياتهم.‏ وفي الواقع،‏ يقول الپروفسور بوتيرو ان «كل الاشياء كان يمكن فحصها واستخلاص دلائل منها لمعرفة المستقبل .‏ .‏ .‏ والكون المادي بكامله كان يُعتبر بطريقة ما كمادة للدرس الدقيق الذي يمكن من خلاله استخلاص ما يخبئه المستقبل».‏ لذلك كان سكان بلاد ما بين النهرين يُكثرون من ممارسة التنجيم كوسيلة لمعرفة المستقبل.‏ —‏ قارنوا اشعياء ٤٧:‏١٣‏.‏

      وكان البابليون يستعملون ايضا زهر النَّرد او يُلقون القُرَع في العرافة.‏ وتوضح ديبورا بينيت في كتابها العشوائية (‏بالانكليزية)‏ ان القصد منها كان «إلغاء احتمال التأثير البشري وإعطاء الآلهة بذلك وسيلة واضحة لتعبِّر عن مشيئتها».‏ لكنَّ قرارات الآلهة لم تُعتبر احكاما لا رجوع عنها.‏ فكان يمكن تجنب القدر المشؤوم بالتوسل الى الآلهة.‏

      القدر في مصر القديمة

      في القرن الـ‍ ١٥ قبل الميلاد،‏ كان هنالك احتكاك كبير بين بابل ومصر.‏ ونجم عن ذلك تبادل ثقافي اشتمل على ممارسات دينية تتعلق بالقدر.‏ ولماذا تقبَّل المصريون الايمان بالقدر؟‏ حسبما قال جون ر.‏ باينز،‏ پروفسور في علم المصريات في جامعة أوكسفورد،‏ «كان جزء كبير من الديانة [المصرية] يتناول محاولات لفهم الاحداث المشؤومة وغير المتوقعة ولمواجهتها».‏

      وبين الآلهة المصرية الكثيرة،‏ كانت إيزيس «سيدة الحياة،‏ حاكمة القدر والمصير».‏ ومارس المصريون ايضا العرافة والتنجيم.‏ (‏قارنوا اشعياء ١٩:‏٣‏.‏)‏ تقول احدى المؤرخات:‏ «كانوا يملكون براعة لا حدود لها في الاستفسار من الآلهة».‏ لكنَّ مصر لم تكن الحضارة الوحيدة التي اخذت من بابل.‏

      اليونان وروما

      في الامور المتعلقة بالدين،‏ «لم تفلت اليونان القديمة من تأثير بابل الشديد والبعيد المدى»،‏ كما يلاحظ جان بوتيرو.‏ ويوضح الپروفسور پيتر ڠرين سبب شيوع الايمان بالقدر في اليونان:‏ «في عالم متقلب،‏ حيث كان الناس يترددون اكثر فأكثر في تحمُّل مسؤولية قراراتهم،‏ وحيث كثيرا ما كانوا يشعرون بأنهم مجرد دمى تتقاذفها ايادي قدر غامض وقاسٍ،‏ كان القرار الالهي الموحى به [القدر الذي تحدِّده الآلهة] طريقة يُرسم بها مستقبل الفرد.‏ وما حتم به القدر يمكن التنبؤ به،‏ شرط ان يملك المرء مهارات وبصائر خصوصية.‏ وقد لا يكون ذلك ما اراد المرء سماعه؛‏ ولكن عندما يُحذَّر مسبقا يكون على الاقل مستعدا».‏

      وبالاضافة الى ادّعاء الإنباء بمستقبل الافراد،‏ خدم الايمان بالقدر مقاصد اخبث ايضا.‏ ففكرة القدر ساعدت على إخضاع العامة.‏ ولهذا السبب،‏ حسبما قال المؤرخ ف.‏ ه‍.‏ ساندباك،‏ «كان الاعتقاد ان العالم تسوده كليا العناية الالهية سيروق الطبقة الحاكمة لشعب حاكم».‏

      ولماذا؟‏ يوضح الپروفسور ڠرين ان هذا الاعتقاد «كان تبريرا راسخا —‏ من الناحية الادبية واللاهوتية واللغوية —‏ للنظام الاجتماعي والسياسي القائم.‏ وقد كان اقوى وأمكر وسيلة اخترعتها الطبقة الحاكمة الهلينستية لتحافظ على وجودها.‏ وبما ان حدوث ايّ شيء يعني انه سبق وقُدِّر له ان يحدث،‏ وبما ان الطبيعة ميَّالة الى العمل لمصلحة الجنس البشري،‏ فما قُدِّر هو للافضل بالتأكيد».‏ وفي الحقيقة،‏ كان الاعتقاد يعطي «تبريرا لاتِّباع المصلحة الشخصية القاسية».‏

      وشيوع تقبُّل فكرة القدر يَظهر في الادب اليوناني.‏ فبين الاساليب الادبية القديمة هنالك الاسلوب الملحمي،‏ الاسطوري،‏ والمأساوي —‏ وفيها يلعب القدر دورا رئيسيا.‏ ففي الميثولوجيا اليونانية،‏ مُثِّل قدر الانسان بثلاث إلاهات تدعى المويْرات.‏ فكانت كلوثو تغزل خيط الحياة،‏ ولاخيسيس تحدِّد طول الحياة،‏ وأتروپوس تقطع خيط الحياة حين ينتهي الوقت المعيَّن للشخص.‏ وكان عند الرومان ثالوث مماثل من الآلهة دعوه الپارسيات.‏

      كان الرومان واليونانيون توَّاقين الى معرفة ما يخبئه قدرهم المزعوم.‏ لذلك استعاروا من بابل التنجيم والعرافة وطوَّروهما.‏ ودعا الرومان الاحداث المستخدمة للإنباء بالمستقبل پورْتانْتا (‏علامات)‏.‏ والرسائل التي تنقلها هذه العلامات كانت تدعى أومينا.‏ وبحلول القرن الثالث قبل الميلاد،‏ كان التنجيم قد صار شائعا في اليونان،‏ وفي سنة ٦٢ ق‌م ظهرت اول خريطة يونانية معروفة للابراج.‏ وكان اليونانيون مهتمين جدا بالتنجيم حتى ان الپروفسور ڠيلبرت موراي قال ان التنجيم «تفشّى بالفكر الهلّينستي كما يتفشّى مرض جديد بسكان جزيرة نائية».‏

      وفي محاولة لمعرفة المستقبل،‏ استخدم اليونانيون والرومان وسطاء الوحي او الوسطاء الارواحيين على نطاق واسع.‏ وكان يُعتقد ان الآلهة تخاطب البشر من خلال هؤلاء.‏ (‏قارنوا اعمال ١٦:‏١٦-‏١٩‏.‏)‏ وماذا كان تأثير هذه المعتقدات؟‏ قال الفيلسوف برتراند راسل:‏ «حلّ الخوف محل الامل؛‏ وصار القصد من الحياة النجاة من البلايا بدلا من تحقيق ايّ امر مفيد».‏ وصارت مواضيع مماثلة مثار جدال في العالم المسيحي.‏

      الخلافات «المسيحية» حول موضوع القدر

      كان المسيحيون الاولون يعيشون في مجتمع متأثر جدا بالافكار اليونانية والرومانية عن المصير والقدر.‏ مثلا،‏ ان المدعوين آباء الكنيسة اعتمدوا كثيرا على اعمال فلاسفة يونانيين كأرسطو وأفلاطون.‏ وإحدى المشاكل التي حاولوا حلها كانت:‏ كيف يمكن التوفيق بين اله كلي العلم والقدرة،‏ «مخبر منذ البدء بالاخير»،‏ وبين اله محب؟‏ (‏اشعياء ٤٦:‏١٠؛‏ ١ يوحنا ٤:‏٨‏)‏ ففي رأيهم لو كان اللّٰه يعرف النهاية منذ البداية،‏ فلا بد انه كان يعلم مسبقا بسقوط الانسان في الخطية والنتائج الوخيمة العاقبة لذلك.‏

      حاجّ اوريجانس،‏ احد اغزر الكتّاب المسيحيين الاولين انتاجا،‏ ان احد العوامل المهمة التي لا يجب نسيانها هو مفهوم الارادة الحرة.‏ كتب:‏ «هنالك في الواقع آيات لا تُعدّ ولا تحصى في الاسفار المقدسة تؤكد بشكل واضح جدا وجود فكرة حرية الارادة».‏

      وقال اوريجانس ان نسْب المسؤولية عن اعمالنا الى قوة خارجية «ليس صحيحا ولا ينسجم مع المنطق،‏ انما هو حجة مَن يريد ان يقضي على مفهوم الارادة الحرة».‏ وحاجّ اوريجانس انه في حين يمكن للّٰه ان يعرف الاحداث مسبقا من الناحية الزمنية،‏ لا يعني ذلك انه يتسبَّب بوقوع حدث ما او ان هذا الحدث سيقع بحكم الضرورة.‏ ولكن لم يتفق الجميع معه في الرأي.‏

      فقد عقّد اوغسطين (‏٣٥٤-‏٤٣٠ ب‌م)‏،‏ احد آباء الكنيسة البارزين،‏ المسألة بالتقليل من اهمية الدور الذي تلعبه الارادة الحرة في الاحداث.‏ وأعطى اوغسطين القضاء والقدر اساسه اللاهوتي في العالم المسيحي.‏ وكانت اعماله،‏ وخصوصا دي ليبيرو اربيتريو،‏ محور المناقشات في القرون الوسطى.‏ وفي النهاية بلغ الخلاف ذروته مع ظهور الاصلاح،‏ اذ حدث شرخ عظيم في العالم المسيحي حول مسألة القضاء والقدر.‏a

      انتشار الايمان به

      لكنَّ الافكار المتعلقة بالقدر ليست محصورة في العالم الغربي فقط.‏ فالمسلمون يؤمنون بالقدر،‏ ويُرى ذلك من قولهم «مكتوب» عندما تواجههم كارثة.‏ وصحيح ان اديانا شرقية كثيرة تشدد على دور الفرد في القدر الشخصي،‏ ولكن توجد اشارات الى الجبرية في تعاليمهم.‏

      مثلا،‏ الكَرْما في الهندوسية والبوذية هي القدر المحتوم الناجم عن الاعمال التي صُنعت في حياة سابقة.‏ وفي الصين،‏ كانت اقدم الكتابات التي اكتُشفت موجودة على دروع سلاحف كانت تُستعمل في العرافة.‏ وكان القدر يشكّل جزءا من معتقدات السكان الاصليين في الاميركتين.‏ فالازتكيون،‏ مثلا،‏ اخترعوا روزنامات خاصة بالعرافة تُستعمل لكشف قدر الافراد.‏ والمعتقدات المتعلقة بالقدر شائعة ايضا في افريقيا.‏

      ان انتشار الاعتراف بمفهوم القدر يُظهر في الواقع ان الانسان يملك حاجة راسخة الى الايمان بقوة اسمى.‏ يقول جون ب.‏ نوس،‏ في كتابه اديان الانسان (‏بالانكليزية)‏:‏ «كل الاديان تقول بطريقة او بأخرى ان الانسان ليس مستقلا،‏ ولا يمكنه ان يستقل،‏ في وجوده.‏ فهو مرتبط بشكل وثيق بقوى في الطبيعة والمجتمع خارجة عن ارادته،‏ حتى انه يعتمد عليها.‏ وهو يعرف،‏ بشكل واضح او غير واضح،‏ انه ليس مركزا مستقلا لقوة قادرة على الانفصال عن العالم».‏

      وبالاضافة الى ضرورة الايمان باللّٰه،‏ نملك ايضا حاجة راسخة الى فهم ما يحدث حولنا.‏ ولكن ثمة فرق بين الاعتراف بوجود خالق قادر على كل شيء والايمان بأنه يرسم لكل واحد منا مصيرا معيَّنا.‏ فأيّ دور نلعبه في صياغة مصيرنا؟‏ وما دور اللّٰه في ذلك؟‏

  • بإمكانكم ان تختاروا مستقبلكم
    استيقظ!‏ ١٩٩٩ | آب (‏اغسطس)‏ ٨
    • بإمكانكم ان تختاروا مستقبلكم

      في حين ان العرافة كانت تُعتبر «انجازا فكريا عظيما في كل ارجاء العالم القديم»،‏ فإن «الانبياء العبرانيين سخروا من هذا الفن»،‏ كما تذكر عالمة الآثار جوان اوتس.‏ ولماذا؟‏

      مع ان الاسرائيليين القدماء كانت تحيط بهم امم تملك نظرة الجبرية تجاه الحياة،‏ رفضوا فكرة وجود قوة عمياء تتحكم في حياتهم.‏ فضمن الارشادات التي اعطاها اللّٰه لهذه الامة،‏ قال لهم:‏ «لا يوجد فيك .‏ .‏ .‏ مَن يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا .‏ .‏ .‏ تابعة».‏ —‏ تثنية ١٨:‏١٠،‏ ١١‏.‏

      وكان بإمكان الاسرائيليين ان يملكوا الثقة بشأن المستقبل،‏ دون ان يؤمنوا بالقدر او يلجأوا الى العرّافين.‏ والسبب توضحه دائرة المعارف الكاثوليكية الفرنسية تيو التي تقول ان هذه الامة كانت تؤمن بأن «الانسان والعالم ليسا تحت رحمة قوة عمياء.‏ فاللّٰه يملك قصدا للانسان».‏ وماذا كان هذا القصد؟‏

      القدر والارادة الحرة

      وعد اللّٰه الاسرائيليين بالسلام والازدهار اذا اطاعوا شرائعه.‏ (‏لاويين ٢٦:‏٣-‏٦‏)‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ كانوا ينتظرون مسيّا يوطّد الاحوال البارة على الارض.‏ (‏اشعياء الاصحاح ١١‏)‏ لكنَّ وعد اللّٰه بهذه الامور لم يعنِ انه كان يجب ان يقفوا مكتوفي الايدي ويدعوا هذه الامور تحدث.‏ فقد قيل لهم:‏ «كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك».‏ —‏ جامعة ٩:‏١٠‏.‏

      وكان كل ذلك يدور حول محور الارادة الحرة.‏ فكانت للاسرائيليين الحرية في خدمة اللّٰه وتحديد مستقبلهم.‏ وقد وعدهم اللّٰه قائلا:‏ «اذا سمعتم لوصاياي التي انا اوصيكم بها اليوم لتحبوا الرب الهكم وتعبدوه من كل قلوبكم ومن كل انفسكم اعطي مطر ارضكم في حينه المبكر والمتأخر.‏ فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك».‏ (‏تثنية ١١:‏١٣،‏ ١٤‏)‏ وحلَّت بركات اللّٰه على اسرائيل عندما اطاعوه.‏

      وقُبيل دخول امة اسرائيل الارض التي وُعدوا بها،‏ خيَّرهم اللّٰه قائلا:‏ «انظر.‏ قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر».‏ (‏تثنية ٣٠:‏١٥‏)‏ فقد كان مستقبل كل شخص يعتمد على اعماله وقراراته.‏ وعنت خدمة اللّٰه الحياة والبركات،‏ أما رفض خدمته فعنى المشقّات.‏ ولكن ماذا عن اليوم؟‏

      السبب والنتيجة

      نحن مقيَّدون بعدد من القوانين الطبيعية التي وُضعت لخيرنا.‏ وأحدها هو قانون السبب والنتيجة،‏ او على حدّ تعبير الكتاب المقدس،‏ «ما يزرعه الانسان اياه يحصد ايضا».‏ (‏غلاطية ٦:‏٧‏)‏ وعندما نعترف بهذا المبدإ،‏ نتأكد ان احتمال وقوع بعض الاحداث المستقبلية موجود.‏

      فإذا كنا نقود سيارتنا بتهوُّر وبسرعة كبيرة،‏ يُحتمل ان يقع حادث سير اكثر مما لو اننا نقودها بحذر.‏ وإذا كنا ندخّن،‏ يُحتمل ان نصاب بالسرطان اكثر مما لو اننا لا ندخّن.‏ صحيح ان احتمال تعرُّضنا لبعض الاحداث،‏ كالهجومَين الارهابيَّين المذكورَين في المقالة الافتتاحية من هذه السلسلة،‏ يبدو ضعيفا،‏ ولا جدوى من حساب نسبة احتمال حدوثهما.‏ لكنَّ اللجوء الى فكرة القدر لن يجدي نفعا.‏ فهي لا تلقي ضوءا على الحاضر او المستقبل.‏ والايمان بأمر باطل لا يعطي ثقة حقيقية بالمستقبل،‏ وكذلك اعتبار اللّٰه مسؤولا عن كل حدث.‏

      ماذا سيكون مستقبلكم؟‏

      لم يُكتب مستقبلنا مسبقا،‏ بل الحاضر يحدِّده.‏ ومع ان الحياة هبة من اللّٰه،‏ يشير الكتاب المقدس بوضوح الى اننا نلعب دورا كبيرا في تقرير حاضرنا ومستقبلنا.‏ وبما انه يمكننا ان نختار تفريح يهوه او إحزانه،‏ فهذا يعني ان اللّٰه منحَنا مقدارا من السلطة على حياتنا.‏ —‏ تكوين ٦:‏٦؛‏ مزمور ٧٨:‏٤٠؛‏ امثال ٢٧:‏١١‏.‏

      وبالاضافة الى ذلك،‏ تشدِّد الاسفار المقدسة مرة بعد اخرى على ان مستقبلنا مرتبط باحتمالنا وكيف نعيش حياتنا،‏ وليس لهذا معنى اذا كانت الامور مقضيَّة ومقدَّرة لنا.‏ (‏متى ٢٤:‏١٣؛‏ لوقا ١٠:‏٢٥-‏٢٨‏)‏ وهكذا،‏ اذا اخترنا ان نطيع اللّٰه وكنا امناء له،‏ فأيّ مستقبل يمكن ان نتوقعه؟‏

      يكشف الكتاب المقدس ان الجنس البشري ينتظره مستقبل ساطع.‏ فستتحول الارض الى فردوس يعمّه السلام والامن.‏ (‏مزمور ٣٧:‏٩-‏١١؛‏ ٤٦:‏٨،‏ ٩‏)‏ وهذا المستقبل اكيد لأن الخالق القادر على كل شيء سيتمِّم وعوده.‏ (‏اشعياء ٥٥:‏١١‏)‏ ولكن ليس القدر ما يحدِّد هل نتمتَّع بالحياة في الفردوس ام لا،‏ فهذا التمتُّع سينتج عن اطاعتنا مشيئة اللّٰه في هذا الوقت.‏ (‏٢ تسالونيكي ١:‏٦-‏٨؛‏ كشف ٧:‏١٤،‏ ١٥‏)‏ وقد اعطانا اللّٰه الارادة الحرة،‏ وهو يشجِّعنا قائلا:‏ «اختر الحياة لكي تحيا».‏ (‏تثنية ٣٠:‏١٩‏)‏ فماذا ستختارون؟‏ ان مستقبلكم يتوقف على ما تختارونه انتم،‏ وليس الامر متروكا للقدر.‏

المطبوعات باللغة العربية (‏١٩٧٩-‏٢٠٢٥)‏
الخروج
الدخول
  • العربية
  • مشاركة
  • التفضيلات
  • Copyright © 2025 Watch Tower Bible and Tract Society of Pennsylvania
  • شروط الاستخدام
  • سياسة الخصوصية
  • إعدادات الخصوصية
  • JW.ORG
  • الدخول
مشاركة