-
هل هو قدر ام مجرد صدفة؟استيقظ! ١٩٩٩ | آب (اغسطس) ٨
-
-
هل هو قدر ام مجرد صدفة؟
ذكرت صحيفة انترناشونال هيرالد تريبيون (بالانكليزية): «اخذ القدر حياة كثيرين وأبقى على آخرين». ففي السنة الماضية، ادى هجومان ارهابيان على السفارتَين الاميركيتَين في كينيا وتنزانيا الى قتل نحو ٢٠٠ شخص وجرح المئات. لكنَّ «عامل الوقت انقذ حياة اهم الدبلوماسيين»، كما قالت الصحيفة.
لقد نجا هؤلاء لأنهم كانوا يحضرون اجتماعا يُعقد في موقع من البناء بعيد عن الانفجار. لكنَّ مسؤولا بارزا في السفارة، بدلا من ان يحضر الاجتماع كما هو معتاد، كان في مكان قريب من الانفجار، ولذلك قُتل.
وذكرت الصحيفة: «كان القدر قاسيا ايضا مع آرلين كيرك». فعندما ارادت آرلين العودة الى كينيا بعد انتهاء عطلتها، كانت الاماكن المحجوزة على متن طائرتها تفوق عدد المقاعد المتوفرة. فتطوَّعت وقدَّمت مقعدها. لكنَّ مسافرين آخرين كانوا قد قدَّموا مقاعدهم قبلها، وهذا ما اتاح لها ان تركب الطائرة. وبسبب ذلك عادت الى عملها في السفارة يوم وقوع الانفجار، وهكذا قُتلت.
ليست المصائب غريبة عن الانسان. ومع ذلك، ليس سهلا ابدا معرفة سبب المآسي التي تحصل. وعندما تقع الحوادث والكوارث في ايّ مكان حول العالم، غالبا ما يموت البعض وينجو آخرون. لكنَّ السؤال: ‹لماذا انا؟› لا يتردَّد على ألسنة الناس حين تحلّ الكوارث فقط. فمن النواحي الايجابية ايضا في الحياة، يبدو ان البعض تُتاح لهم مجالات اكثر من غيرهم. وفيما تكون الحياة بالنسبة الى كثيرين صراعا مستمرا، يتوفَّق آخرون في مساعيهم بكل سهولة. لذلك قد تسألون: ‹هل السبب هو ان كل ذلك مخطَّط له مسبقا؟ هل يتحكم القدر في حياتي؟›.
البحث عن تفاسير
قبل نحو ٠٠٠,٣ سنة، لاحظ ملك حكيم حدوث امور غير متوقعة حوله. وفسّر هذه الحوادث بالقول: «الوقت والعرَض يلاقيانهم كافة». (جامعة ٩:١١) فأحيانا تحدث امور غير متوقعة. ولا سبيل الى ان يحسب المرء حسابا مسبقا لها. وغالبا ما يكون لعامل الوقت دور كبير في وقوع الاحداث البارزة، سواء أكانت جيدة ام رديئة.
ولكن ربما كان رأيكم كرأي الاشخاص الذين لا يفسّرون الامور على انها وليدة الصدفة، بل يعتقدون ان قوة اخرى لها يد في المسألة: القدر. والايمان بالقدر هو احد اقدم المعتقدات الدينية عند الانسان وأكثرها انتشارا. يقول الپروفسور فرانسوا جوان، مدير مركز الابحاث الميثولوجية في جامعة پاريس: «لم يمرَّ عصر ولا حضارة لم يؤمَن فيهما بكائن الهي يتحكم في الاقدار . . . وذلك لتفسير كل ما لا يُفسَّر في وجودنا». لذلك من الشائع ان نسمع الناس يقولون: «لم تأتِ ساعته بعد» او «هذا نصيبه». ولكن ما هو القدر؟
تعريف القدر
تعني كلمة «القَدَر» بالعربية ‹القضاء والحكم›، وترتبط بما ‹يقضي ويحكم به اللّٰه من الامور›. وفي حين يعتقد اناس ان قوة عشوائية تحدِّد المستقبل بطريقة يتعذر تجنبها وتفسيرها، غالبا ما تُنسب هذه القوة الى كائن الهي.
يوضح المؤرخ الديني هلمر رِنڠْران: «احد العناصر الرئيسية للتديُّن هو الشعور بأن ‹مصير› الانسان لا يعتمد على الصدفة وأنه ليس بلا قصد، بل تسبِّبه قوة يمكن ان تُنسب اليها صفة الارادة والنيّة». ومع انه غالبا ما يُظن انه من الممكن تغيير مجرى الامور الى حد ما، يرى اناس كثيرون ان البشر هم كقطع عاجزة نسبيا في لعبة شطرنج تحرِّكها ايادٍ لا سلطة لهم عليها. وهكذا فإنهم يلاقون مصيرهم المحتوم.
لطالما شكّلت مسألة تفسير القدر معضلة كبيرة بين اللاهوتيين والفلاسفة. تقول دائرة معارف الدين (بالانكليزية): «ان مفهوم القدر — بأيّ شكل يتخذه، بأية لغة يَظهر فيها، او بأيّ اختلاف بسيط في معناه — يعتمد دائما على عنصر الغموض». ولكن ثمة خيط مشترك بين كل الافكار المتشابكة، وهو وجود قوة اسمى تتحكم في شؤون الانسان وتديرها. ويُعتقد ان هذه القوة تحدِّد حياة الافراد والامم مسبقا، وهي بذلك تجعل المستقبل كالماضي امرا محتوما.
عامل يحدِّد مجرى الامور
هل يهمّ ما اذا كنتم تؤمنون بالقدر ام لا؟ كتب الفيلسوف الانكليزي برتراند راسل: «ان الظروف التي يعيشها البشر تساهم كثيرا في تحديد فلسفتهم؛ والعكس صحيح، ففلسفتهم تساهم كثيرا في تحديد ظروفهم».
نعم، يمكن للايمان بالقدر — سواء كان هنالك قدر ام لا — ان يحدِّد طريقة تصرُّفاتنا. فكثيرون يؤمنون ان القدر يعبِّر عن مشيئة الآلهة، لذلك يرضخون للوضع الذي يعيشونه — مهما اتَّسم بالظلم او الاستبداد — كما لو ان ذلك نصيبهم في الحياة ولا يمكن تغييره. لذلك فإن الايمان بالقدر يقوِّض فكرة المسؤولية الشخصية.
ومن ناحية اخرى، كان الايمان بالقدر حافزا للبعض الى التقدُّم. مثلا، يقول المؤرخون ان نمو الرأسمالية والثورة الصناعية يرجعان الى عدد من العوامل. وكان الايمان بالقضاء والقدر واحدا منها. فقد علّمت بعض الاديان الپروتستانتية ان اللّٰه يقضي ويقدِّر مَن سيخلُصون. يقول عالِم الاجتماع الالماني ماكس ڤيبر: «عاجلا ام آجلا كان سينشأ عند كل مؤمن هذا السؤال: هل انا واحد من المختارين؟». وأراد البعض ان يعرفوا هل يحظون ببركة اللّٰه، مما يعني ان الخلاص مقدَّر لهم؟ وليعرفوا الجواب، كما قال ڤيبر، لجأوا الى ‹النشاط الدنيوي›. فقد اعتبروا ان النجاح في عالم الاعمال وتجميع الثروات هما دليلان على انهم يتمتعون بحظوة عند اللّٰه.
والايمان بالقدر يدفع البعض الى القيام بأعمال متطرفة. ففي الحرب العالمية الثانية، كان الطيارون اليابانيون الانتحاريون يؤمنون بـ «الكاميكاز»، او «الريح الالهية». والفكرة القائلة ان الآلهة تملك قصدا، وإنه يمكن للمرء ان يلعب دورا في هذا القصد، اضفت على الموت معاني دينية. ففي العقد الماضي، كثيرا ما احتلت اخبار المفجِّرين الانتحاريين في الشرق الاوسط العناوين العريضة بسبب الهجمات التي قاموا بها. وتلعب الجبرية دورا مهما في هذه «الهجمات الانتحارية ذات التأثير الديني»، كما تذكر احدى دوائر المعارف.
ولكن لماذا الايمان بالقدر شائع الى هذا الحد؟ سنجد الجواب عندما نلقي نظرة موجزة على اصله.
-
-
بحث الانسان عن قدرهاستيقظ! ١٩٩٩ | آب (اغسطس) ٨
-
-
بحث الانسان عن قدره
لماذا الايمان بالقدر شائع الى هذا الحد؟ لقد سعى الانسان، على مرِّ العصور، الى حلّ اسرار الحياة وإيجاد قصد في الاحداث الجارية. يوضح المؤرخ هلمر رِنڠْران: «من هنا ظهرت المفاهيم المتعلقة بـ ‹الاله› و ‹القدر› و ‹الصدفة›، وذلك بحسب ما اعتُبر المسبِّب للاحداث: أهو قوة تتمتع بشخصية، أم ترتيب للامور لا شخصية له، أم لا شيء على الاطلاق». ويزخر التاريخ بالمعتقدات والاساطير والخرافات التي ترتبط بفكرة القدر.
يقول عالم الاشوريات جان بوتيرو: «صاغت حضارة بلاد ما بين النهرين الى حد بعيد ثقافتنا في كل نواحيها»، مضيفا اننا نجد في بلاد ما بين النهرين القديمة او بابل «اقدم التفاعلات والآراء المحسوسة عند البشر ازاء ما هو فوق الطبيعة، اقدم بنية دينية يمكن تعريفها». وهنا ايضا نجد اصل القدر.
الجذور القديمة للقدر
اكتشف علماء الآثار بين الخرائب القديمة لبلاد ما بين النهرين، ما يُعرف اليوم بالعراق، بعض اقدم الكتابات المعروفة عند الانسان. فآلاف الالواح المكتوبة بالخط المسماري تعطينا فكرة واضحة عن الحياة في حضارتَي سومر وأكّاد القديمتين وفي مدينة بابل الشهيرة. ووفقا لعالم الآثار سامويل ن. كرايمر، كان السومريون «متحيِّرين من مشكلة الالم البشري، وخصوصا في ما يتعلق بأسبابه المبهمة». وقادهم بحثهم عن الاجوبة الى فكرة القدر.
تقول عالمة الآثار جوان اوتس في كتابها بابل (بالانكليزية) انه «كان لكل بابلي إلهه الخاص او إلاهته الخاصة». وكان البابليون يؤمنون بأن الآلهة «تحدِّد اقدار كل البشر، على صعيد فردي وجماعي». ووفقا لما قاله كرايمر، كان السومريون يؤمنون بأن «الآلهة المتحكمة في الكون تخطط وتجعل الشر والكذب والعنف جزءا لا يتجزأ من الحضارة». لقد كان الايمان بالقدر واسع الانتشار، وكانت هذه الفكرة تُجَلّ كثيرا.
وكان البابليون يعتقدون انه من الممكن معرفة خطط الآلهة عن طريق العرافة — «وسيلة للاتصال بالآلهة». وشملت العرافة محاولة الإنباء بالمستقبل من خلال مراقبة الاشياء والاحداث وفك رموزها وتفسيرها. وعادةً كان يُتحقق من الاحلام وسلوك الحيوانات والاحشاء. (قارنوا حزقيال ٢١:٢١؛ دانيال ٢:١-٤.) وكانت الاحداث غير المتوقعة او غير العادية التي يقال انها تكشف المستقبل تُسجّل على ألواح صلصالية.
وفقا للعالم الفرنسي بالحضارات القديمة ادوار دورم، «كلما توغلنا في تاريخ بلاد ما بين النهرين، وجدنا ذكرا للعرَّاف ولفكرة العرافة». فقد كانت العرافة ميزة بارزة في حياتهم. وفي الواقع، يقول الپروفسور بوتيرو ان «كل الاشياء كان يمكن فحصها واستخلاص دلائل منها لمعرفة المستقبل . . . والكون المادي بكامله كان يُعتبر بطريقة ما كمادة للدرس الدقيق الذي يمكن من خلاله استخلاص ما يخبئه المستقبل». لذلك كان سكان بلاد ما بين النهرين يُكثرون من ممارسة التنجيم كوسيلة لمعرفة المستقبل. — قارنوا اشعياء ٤٧:١٣.
وكان البابليون يستعملون ايضا زهر النَّرد او يُلقون القُرَع في العرافة. وتوضح ديبورا بينيت في كتابها العشوائية (بالانكليزية) ان القصد منها كان «إلغاء احتمال التأثير البشري وإعطاء الآلهة بذلك وسيلة واضحة لتعبِّر عن مشيئتها». لكنَّ قرارات الآلهة لم تُعتبر احكاما لا رجوع عنها. فكان يمكن تجنب القدر المشؤوم بالتوسل الى الآلهة.
القدر في مصر القديمة
في القرن الـ ١٥ قبل الميلاد، كان هنالك احتكاك كبير بين بابل ومصر. ونجم عن ذلك تبادل ثقافي اشتمل على ممارسات دينية تتعلق بالقدر. ولماذا تقبَّل المصريون الايمان بالقدر؟ حسبما قال جون ر. باينز، پروفسور في علم المصريات في جامعة أوكسفورد، «كان جزء كبير من الديانة [المصرية] يتناول محاولات لفهم الاحداث المشؤومة وغير المتوقعة ولمواجهتها».
وبين الآلهة المصرية الكثيرة، كانت إيزيس «سيدة الحياة، حاكمة القدر والمصير». ومارس المصريون ايضا العرافة والتنجيم. (قارنوا اشعياء ١٩:٣.) تقول احدى المؤرخات: «كانوا يملكون براعة لا حدود لها في الاستفسار من الآلهة». لكنَّ مصر لم تكن الحضارة الوحيدة التي اخذت من بابل.
اليونان وروما
في الامور المتعلقة بالدين، «لم تفلت اليونان القديمة من تأثير بابل الشديد والبعيد المدى»، كما يلاحظ جان بوتيرو. ويوضح الپروفسور پيتر ڠرين سبب شيوع الايمان بالقدر في اليونان: «في عالم متقلب، حيث كان الناس يترددون اكثر فأكثر في تحمُّل مسؤولية قراراتهم، وحيث كثيرا ما كانوا يشعرون بأنهم مجرد دمى تتقاذفها ايادي قدر غامض وقاسٍ، كان القرار الالهي الموحى به [القدر الذي تحدِّده الآلهة] طريقة يُرسم بها مستقبل الفرد. وما حتم به القدر يمكن التنبؤ به، شرط ان يملك المرء مهارات وبصائر خصوصية. وقد لا يكون ذلك ما اراد المرء سماعه؛ ولكن عندما يُحذَّر مسبقا يكون على الاقل مستعدا».
وبالاضافة الى ادّعاء الإنباء بمستقبل الافراد، خدم الايمان بالقدر مقاصد اخبث ايضا. ففكرة القدر ساعدت على إخضاع العامة. ولهذا السبب، حسبما قال المؤرخ ف. ه. ساندباك، «كان الاعتقاد ان العالم تسوده كليا العناية الالهية سيروق الطبقة الحاكمة لشعب حاكم».
ولماذا؟ يوضح الپروفسور ڠرين ان هذا الاعتقاد «كان تبريرا راسخا — من الناحية الادبية واللاهوتية واللغوية — للنظام الاجتماعي والسياسي القائم. وقد كان اقوى وأمكر وسيلة اخترعتها الطبقة الحاكمة الهلينستية لتحافظ على وجودها. وبما ان حدوث ايّ شيء يعني انه سبق وقُدِّر له ان يحدث، وبما ان الطبيعة ميَّالة الى العمل لمصلحة الجنس البشري، فما قُدِّر هو للافضل بالتأكيد». وفي الحقيقة، كان الاعتقاد يعطي «تبريرا لاتِّباع المصلحة الشخصية القاسية».
وشيوع تقبُّل فكرة القدر يَظهر في الادب اليوناني. فبين الاساليب الادبية القديمة هنالك الاسلوب الملحمي، الاسطوري، والمأساوي — وفيها يلعب القدر دورا رئيسيا. ففي الميثولوجيا اليونانية، مُثِّل قدر الانسان بثلاث إلاهات تدعى المويْرات. فكانت كلوثو تغزل خيط الحياة، ولاخيسيس تحدِّد طول الحياة، وأتروپوس تقطع خيط الحياة حين ينتهي الوقت المعيَّن للشخص. وكان عند الرومان ثالوث مماثل من الآلهة دعوه الپارسيات.
كان الرومان واليونانيون توَّاقين الى معرفة ما يخبئه قدرهم المزعوم. لذلك استعاروا من بابل التنجيم والعرافة وطوَّروهما. ودعا الرومان الاحداث المستخدمة للإنباء بالمستقبل پورْتانْتا (علامات). والرسائل التي تنقلها هذه العلامات كانت تدعى أومينا. وبحلول القرن الثالث قبل الميلاد، كان التنجيم قد صار شائعا في اليونان، وفي سنة ٦٢ قم ظهرت اول خريطة يونانية معروفة للابراج. وكان اليونانيون مهتمين جدا بالتنجيم حتى ان الپروفسور ڠيلبرت موراي قال ان التنجيم «تفشّى بالفكر الهلّينستي كما يتفشّى مرض جديد بسكان جزيرة نائية».
وفي محاولة لمعرفة المستقبل، استخدم اليونانيون والرومان وسطاء الوحي او الوسطاء الارواحيين على نطاق واسع. وكان يُعتقد ان الآلهة تخاطب البشر من خلال هؤلاء. (قارنوا اعمال ١٦:١٦-١٩.) وماذا كان تأثير هذه المعتقدات؟ قال الفيلسوف برتراند راسل: «حلّ الخوف محل الامل؛ وصار القصد من الحياة النجاة من البلايا بدلا من تحقيق ايّ امر مفيد». وصارت مواضيع مماثلة مثار جدال في العالم المسيحي.
الخلافات «المسيحية» حول موضوع القدر
كان المسيحيون الاولون يعيشون في مجتمع متأثر جدا بالافكار اليونانية والرومانية عن المصير والقدر. مثلا، ان المدعوين آباء الكنيسة اعتمدوا كثيرا على اعمال فلاسفة يونانيين كأرسطو وأفلاطون. وإحدى المشاكل التي حاولوا حلها كانت: كيف يمكن التوفيق بين اله كلي العلم والقدرة، «مخبر منذ البدء بالاخير»، وبين اله محب؟ (اشعياء ٤٦:١٠؛ ١ يوحنا ٤:٨) ففي رأيهم لو كان اللّٰه يعرف النهاية منذ البداية، فلا بد انه كان يعلم مسبقا بسقوط الانسان في الخطية والنتائج الوخيمة العاقبة لذلك.
حاجّ اوريجانس، احد اغزر الكتّاب المسيحيين الاولين انتاجا، ان احد العوامل المهمة التي لا يجب نسيانها هو مفهوم الارادة الحرة. كتب: «هنالك في الواقع آيات لا تُعدّ ولا تحصى في الاسفار المقدسة تؤكد بشكل واضح جدا وجود فكرة حرية الارادة».
وقال اوريجانس ان نسْب المسؤولية عن اعمالنا الى قوة خارجية «ليس صحيحا ولا ينسجم مع المنطق، انما هو حجة مَن يريد ان يقضي على مفهوم الارادة الحرة». وحاجّ اوريجانس انه في حين يمكن للّٰه ان يعرف الاحداث مسبقا من الناحية الزمنية، لا يعني ذلك انه يتسبَّب بوقوع حدث ما او ان هذا الحدث سيقع بحكم الضرورة. ولكن لم يتفق الجميع معه في الرأي.
فقد عقّد اوغسطين (٣٥٤-٤٣٠ بم)، احد آباء الكنيسة البارزين، المسألة بالتقليل من اهمية الدور الذي تلعبه الارادة الحرة في الاحداث. وأعطى اوغسطين القضاء والقدر اساسه اللاهوتي في العالم المسيحي. وكانت اعماله، وخصوصا دي ليبيرو اربيتريو، محور المناقشات في القرون الوسطى. وفي النهاية بلغ الخلاف ذروته مع ظهور الاصلاح، اذ حدث شرخ عظيم في العالم المسيحي حول مسألة القضاء والقدر.a
انتشار الايمان به
لكنَّ الافكار المتعلقة بالقدر ليست محصورة في العالم الغربي فقط. فالمسلمون يؤمنون بالقدر، ويُرى ذلك من قولهم «مكتوب» عندما تواجههم كارثة. وصحيح ان اديانا شرقية كثيرة تشدد على دور الفرد في القدر الشخصي، ولكن توجد اشارات الى الجبرية في تعاليمهم.
مثلا، الكَرْما في الهندوسية والبوذية هي القدر المحتوم الناجم عن الاعمال التي صُنعت في حياة سابقة. وفي الصين، كانت اقدم الكتابات التي اكتُشفت موجودة على دروع سلاحف كانت تُستعمل في العرافة. وكان القدر يشكّل جزءا من معتقدات السكان الاصليين في الاميركتين. فالازتكيون، مثلا، اخترعوا روزنامات خاصة بالعرافة تُستعمل لكشف قدر الافراد. والمعتقدات المتعلقة بالقدر شائعة ايضا في افريقيا.
ان انتشار الاعتراف بمفهوم القدر يُظهر في الواقع ان الانسان يملك حاجة راسخة الى الايمان بقوة اسمى. يقول جون ب. نوس، في كتابه اديان الانسان (بالانكليزية): «كل الاديان تقول بطريقة او بأخرى ان الانسان ليس مستقلا، ولا يمكنه ان يستقل، في وجوده. فهو مرتبط بشكل وثيق بقوى في الطبيعة والمجتمع خارجة عن ارادته، حتى انه يعتمد عليها. وهو يعرف، بشكل واضح او غير واضح، انه ليس مركزا مستقلا لقوة قادرة على الانفصال عن العالم».
وبالاضافة الى ضرورة الايمان باللّٰه، نملك ايضا حاجة راسخة الى فهم ما يحدث حولنا. ولكن ثمة فرق بين الاعتراف بوجود خالق قادر على كل شيء والايمان بأنه يرسم لكل واحد منا مصيرا معيَّنا. فأيّ دور نلعبه في صياغة مصيرنا؟ وما دور اللّٰه في ذلك؟
-
-
بإمكانكم ان تختاروا مستقبلكماستيقظ! ١٩٩٩ | آب (اغسطس) ٨
-
-
بإمكانكم ان تختاروا مستقبلكم
في حين ان العرافة كانت تُعتبر «انجازا فكريا عظيما في كل ارجاء العالم القديم»، فإن «الانبياء العبرانيين سخروا من هذا الفن»، كما تذكر عالمة الآثار جوان اوتس. ولماذا؟
مع ان الاسرائيليين القدماء كانت تحيط بهم امم تملك نظرة الجبرية تجاه الحياة، رفضوا فكرة وجود قوة عمياء تتحكم في حياتهم. فضمن الارشادات التي اعطاها اللّٰه لهذه الامة، قال لهم: «لا يوجد فيك . . . مَن يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا . . . تابعة». — تثنية ١٨:١٠، ١١.
وكان بإمكان الاسرائيليين ان يملكوا الثقة بشأن المستقبل، دون ان يؤمنوا بالقدر او يلجأوا الى العرّافين. والسبب توضحه دائرة المعارف الكاثوليكية الفرنسية تيو التي تقول ان هذه الامة كانت تؤمن بأن «الانسان والعالم ليسا تحت رحمة قوة عمياء. فاللّٰه يملك قصدا للانسان». وماذا كان هذا القصد؟
القدر والارادة الحرة
وعد اللّٰه الاسرائيليين بالسلام والازدهار اذا اطاعوا شرائعه. (لاويين ٢٦:٣-٦) وبالاضافة الى ذلك، كانوا ينتظرون مسيّا يوطّد الاحوال البارة على الارض. (اشعياء الاصحاح ١١) لكنَّ وعد اللّٰه بهذه الامور لم يعنِ انه كان يجب ان يقفوا مكتوفي الايدي ويدعوا هذه الامور تحدث. فقد قيل لهم: «كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك». — جامعة ٩:١٠.
وكان كل ذلك يدور حول محور الارادة الحرة. فكانت للاسرائيليين الحرية في خدمة اللّٰه وتحديد مستقبلهم. وقد وعدهم اللّٰه قائلا: «اذا سمعتم لوصاياي التي انا اوصيكم بها اليوم لتحبوا الرب الهكم وتعبدوه من كل قلوبكم ومن كل انفسكم اعطي مطر ارضكم في حينه المبكر والمتأخر. فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك». (تثنية ١١:١٣، ١٤) وحلَّت بركات اللّٰه على اسرائيل عندما اطاعوه.
وقُبيل دخول امة اسرائيل الارض التي وُعدوا بها، خيَّرهم اللّٰه قائلا: «انظر. قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر». (تثنية ٣٠:١٥) فقد كان مستقبل كل شخص يعتمد على اعماله وقراراته. وعنت خدمة اللّٰه الحياة والبركات، أما رفض خدمته فعنى المشقّات. ولكن ماذا عن اليوم؟
السبب والنتيجة
نحن مقيَّدون بعدد من القوانين الطبيعية التي وُضعت لخيرنا. وأحدها هو قانون السبب والنتيجة، او على حدّ تعبير الكتاب المقدس، «ما يزرعه الانسان اياه يحصد ايضا». (غلاطية ٦:٧) وعندما نعترف بهذا المبدإ، نتأكد ان احتمال وقوع بعض الاحداث المستقبلية موجود.
فإذا كنا نقود سيارتنا بتهوُّر وبسرعة كبيرة، يُحتمل ان يقع حادث سير اكثر مما لو اننا نقودها بحذر. وإذا كنا ندخّن، يُحتمل ان نصاب بالسرطان اكثر مما لو اننا لا ندخّن. صحيح ان احتمال تعرُّضنا لبعض الاحداث، كالهجومَين الارهابيَّين المذكورَين في المقالة الافتتاحية من هذه السلسلة، يبدو ضعيفا، ولا جدوى من حساب نسبة احتمال حدوثهما. لكنَّ اللجوء الى فكرة القدر لن يجدي نفعا. فهي لا تلقي ضوءا على الحاضر او المستقبل. والايمان بأمر باطل لا يعطي ثقة حقيقية بالمستقبل، وكذلك اعتبار اللّٰه مسؤولا عن كل حدث.
ماذا سيكون مستقبلكم؟
لم يُكتب مستقبلنا مسبقا، بل الحاضر يحدِّده. ومع ان الحياة هبة من اللّٰه، يشير الكتاب المقدس بوضوح الى اننا نلعب دورا كبيرا في تقرير حاضرنا ومستقبلنا. وبما انه يمكننا ان نختار تفريح يهوه او إحزانه، فهذا يعني ان اللّٰه منحَنا مقدارا من السلطة على حياتنا. — تكوين ٦:٦؛ مزمور ٧٨:٤٠؛ امثال ٢٧:١١.
وبالاضافة الى ذلك، تشدِّد الاسفار المقدسة مرة بعد اخرى على ان مستقبلنا مرتبط باحتمالنا وكيف نعيش حياتنا، وليس لهذا معنى اذا كانت الامور مقضيَّة ومقدَّرة لنا. (متى ٢٤:١٣؛ لوقا ١٠:٢٥-٢٨) وهكذا، اذا اخترنا ان نطيع اللّٰه وكنا امناء له، فأيّ مستقبل يمكن ان نتوقعه؟
يكشف الكتاب المقدس ان الجنس البشري ينتظره مستقبل ساطع. فستتحول الارض الى فردوس يعمّه السلام والامن. (مزمور ٣٧:٩-١١؛ ٤٦:٨، ٩) وهذا المستقبل اكيد لأن الخالق القادر على كل شيء سيتمِّم وعوده. (اشعياء ٥٥:١١) ولكن ليس القدر ما يحدِّد هل نتمتَّع بالحياة في الفردوس ام لا، فهذا التمتُّع سينتج عن اطاعتنا مشيئة اللّٰه في هذا الوقت. (٢ تسالونيكي ١:٦-٨؛ كشف ٧:١٤، ١٥) وقد اعطانا اللّٰه الارادة الحرة، وهو يشجِّعنا قائلا: «اختر الحياة لكي تحيا». (تثنية ٣٠:١٩) فماذا ستختارون؟ ان مستقبلكم يتوقف على ما تختارونه انتم، وليس الامر متروكا للقدر.
-