مكتبة برج المراقبة الإلكترونية
برج المراقبة
المكتبة الإلكترونية
العربية
  • الكتاب المقدس
  • المطبوعات
  • الاجتماعات
  • ماذا يمكن ان تتعلموا عن الخالق من كتاب؟‏
    هل يوجد خالق يهتم بامركم؟‏
    • الفصل السابع

      ماذا يمكن ان تتعلموا عن الخالق من كتاب؟‏

      توافقون على الارجح ان الكتاب الشيِّق والغني بالمعلومات له قيمة كبيرة.‏ هكذا هو الكتاب المقدس.‏ ففيه تجدون قصص حياة تشدّ انتباهكم وترسم قيما ادبية سامية.‏ وتجدون ايضا امثالا حية لحقائق مهمة.‏ وقد قال كاتب من كتبته اشتهر بحكمته انه «طلب ان يجد كلمات مُسرة مكتوبة بالاستقامة كلمات حق».‏ —‏ جامعة ١٢:‏١٠‏.‏

      ان الكتاب الذي نشير اليه باسم «الكتاب المقدس» هو مجموعة من ٦٦ سفرا كُتبت خلال فترة تزيد على ٥٠٠‏,١ سنة.‏ مثلا،‏ بين سنتَي ١٥١٣ و ١٤٧٣ ق‌م،‏ كتب موسى الاسفار الخمسة الاولى،‏ ابتداء من التكوين.‏ وكان يوحنا،‏ احد رسل يسوع،‏ آخر كتبة الكتاب المقدس.‏ وقد سجّل تاريخا لحياة يسوع (‏انجيل يوحنا)‏،‏ بالاضافة الى رسائل قصيرة وسفر الرؤيا الذي هو آخر سفر في معظم الكتب المقدسة.‏

      خلال السنوات الـ‍ ٥٠٠‏,١ من موسى الى يوحنا،‏ اشترك نحو ٤٠ شخصا في كتابة الكتاب المقدس.‏ وكان هؤلاء الاشخاص رجالا مخلصين وأتقياء ارادوا ان يساعدوا غيرهم على التعلم عن خالقنا.‏ فمن كتاباتهم يمكن ان نفهم شخصية اللّٰه ونتعلم كيف نرضيه.‏ ويوضح لنا الكتاب المقدس ايضا لماذا يكثر الشر وكيف سيوضَع حد له.‏ فكتبة الكتاب المقدس اشاروا مسبقا الى الوقت الذي فيه يعيش الجنس البشري تحت توجيه مباشر اكثر لحكم اللّٰه،‏ ووصفوا بعض الاحوال المثيرة التي يمكننا التمتع بها آنذاك.‏ —‏ مزمور ٣٧:‏​١٠،‏ ١١؛‏ اشعياء ٢:‏​٢-‏٤؛‏ ٦٥:‏​١٧-‏٢٥؛‏ رؤيا ٢١:‏​٣-‏٥‏.‏

      تدركون على الارجح ان كثيرين يرفضون الكتاب المقدس لأنهم يعتبرونه كتابا قديما يعكس حكمة بشرية.‏ لكنَّ ملايين الاشخاص مقتنعون بأن اللّٰه هو مؤلفه الحقيقي وبأنه وجَّه افكار كتبته.‏ (‏٢ بطرس ١:‏​٢٠،‏ ٢١‏)‏ فكيف تعرفون ان ما سجّله كتبة الكتاب المقدس هو فعلا من اللّٰه؟‏

      هنالك عدد من الادلة المختلفة التي تجمع على ذلك والتي يمكنكم التأمل فيها.‏ وكثيرون فعلوا ذلك قبلما استنتجوا أن الكتاب المقدس هو اكثر من مجرد كتاب بشري،‏ أنه من مصدر فوق الطبيعة البشرية.‏ فلنوضح ذلك بمناقشة دليل واحد فقط.‏ وبهذه الطريقة نتعلم اكثر عن خالق كوننا،‏ مصدر الحياة البشرية.‏

      تنبؤات تحققت

      كثيرون هم كتبة الكتاب المقدس الذين سجّلوا نبوات.‏ ولم يدَّعِ هؤلاء الكتبة ان الإنباء بالمستقبل كان بمقدرتهم الخاصة،‏ بل نسبوا الفضل الى الخالق.‏ مثلا،‏ قال اشعياء عن اللّٰه انه «مخبر منذ البدء بالاخير».‏ (‏اشعياء ١:‏١؛‏ ٤٢:‏​٨،‏ ٩؛‏ ٤٦:‏​٨-‏١١‏)‏ والقدرة على الإنباء بحوادث تقع بعد عقود او حتى قرون في المستقبل تجعل اله اشعياء فريدا؛‏ فهو ليس مجرد صنم كالاصنام التي عُبدت في الماضي وتُعبَد اليوم.‏ وتزوِّد النبوات دليلا مقنِعا على ان مؤلف الكتاب المقدس ليس بشرا.‏ فتأملوا كيف يؤكد سفر اشعياء ذلك.‏

      ان مقارنة محتويات سفر اشعياء بالمعلومات التاريخية تُظهر ان هذا السفر كُتب نحو سنة ٧٣٢ ق‌م.‏ سبق اشعياء وأخبر ان كارثة ستحلّ بسكان اورشليم ويهوذا لأنهم كانوا مذنبين بسفك الدم وعبادة الاصنام.‏ وتنبأ اشعياء بأن الارض ستُقفِر،‏ وأورشليم وهيكلها سيدمَّران،‏ والناجين سيؤخذون اسرى الى بابل.‏ لكنَّ اشعياء تنبأ ايضا بأن اللّٰه لن ينسى الامة المسبيّة.‏ فقد اخبر هذا السفر مسبقا بأن ملكا اجنبيا يدعى كورش سيغزو بابل ويحرِّر اليهود ليعودوا الى موطنهم.‏ وفي الواقع،‏ وصف اشعياء اللّٰه بأنه «القائل عن كورش راعيَّ فكل مسرتي يتمم ويقول عن اورشليم ستُبنى وللهيكل ستؤسَّس».‏ —‏ اشعياء ٢:‏٨؛‏ ٢٤:‏١؛‏ ٣٩:‏​٥-‏٧؛‏ ٤٣:‏١٤؛‏ ٤٤:‏​٢٤-‏٢٨؛‏ ٤٥:‏١‏.‏

      في ايام اشعياء،‏ اي في القرن الثامن قبل الميلاد،‏ ربما بدت هذه التنبؤات غير قابلة للتصديق.‏ ففي ذلك الوقت لم تكن بابل قوة عسكرية كبيرة،‏ بل كانت خاضعة للقوة العالمية الفعلية في ذلك الوقت،‏ الامبراطورية الاشورية.‏ وفكرة إعتاق شعب مأسور واسترجاعه ارضَه بعد اخذه الى السبي في ارض بعيدة كانت غريبة هي ايضا.‏ كتب اشعياء:‏ «مَن سمع مثل هذا».‏ —‏ اشعياء ٦٦:‏٨‏.‏

      ولكن ماذا نجد اذا تقدَّمنا في الزمن فترة قرنَين؟‏ يُظهر التاريخ اللاحق للشعب اليهودي القديم ان نبوة اشعياء تمَّت بالتفصيل.‏ فقد صارت بابل فعلا قوة جبارة،‏ ودمَّرت اورشليم.‏ واسم الملك الفارسي (‏كورش)‏،‏ غزوه اللاحق لبابل،‏ وعودة اليهود هي كلها وقائع يعترف التاريخ بصحتها.‏ لقد تحققت هذه التفاصيل النبوية بحذافيرها،‏ حتى ان النقاد في القرن الـ‍ ١٩ ادّعوا ان سفر اشعياء كان خدعة.‏ وقد قالوا في الواقع:‏ ‹كتب اشعياء الاصحاحات الاولى،‏ ولكن جاء كاتب بعده في زمن الملك كورش واختلق بقية السفر لكي يبدو وكأنه نبوة›.‏ قد يأتي شخص ويُطلق ادعاءات رافضة كهذه،‏ ولكن ماذا تقول الوقائع؟‏

      تنبؤات حقيقية؟‏

      ان التنبؤات في سفر اشعياء لا تقتصر على الحوادث المتعلقة بكورش والمسبيين اليهود.‏ فقد سبق اشعياء وأخبر ايضا عما ستؤول اليه بابل في النهاية،‏ وزوَّد سفره تفاصيل كثيرة عن مجيء مسيَّا،‏ او منقذ،‏ سيتألم ثم يتمجد.‏ فهل يمكننا ان نؤكد ان هذه الكلمات كُتبت قبل حدوثها بوقت طويل،‏ وهكذا تكون نبوات تنتظر الاتمام؟‏

      تأملوا في هذه النقطة.‏ كتب اشعياء عما ستؤول اليه بابل:‏ «تصير بابل بهاءُ الممالك وزينة فخر الكلدانيين كتقليب اللّٰه سدوم وعمورة.‏ لا تُعمر الى الابد ولا تُسكن الى دور فدور».‏ (‏اشعياء ١٣:‏​١٩،‏ ٢٠؛‏ الاصحاح ٤٧‏)‏ فكيف تطوَّرت الامور؟‏

      تُظهر الوقائع ان بابل كانت تعتمد لزمن طويل على شبكة ريّ معقدة مؤلفة من سدود وقنوات بين نهرَي دجلة والفرات.‏ ويبدو انه في سنة ١٤٠ ق‌م تقريبا،‏ تضرَّرت شبكة المياه هذه نتيجة الغزو الفَرْتيّ المدمِّر وأخذت تنهار.‏ وماذا كانت النتيجة؟‏ توضح دائرة المعارف الاميركية (‏بالانكليزية)‏:‏ «صارت التربة مشبعة بالاملاح المعدنية،‏ وتكوَّنت قشرة من القلْي alkali على سطحها،‏ وهذا ما جعل استخدامها لأغراض زراعية مستحيلا».‏ وبعد نحو ٢٠٠ سنة كانت بابل لا تزال مدينة كثيرة السكان،‏ ولكن ليس لوقت طويل.‏ (‏قارنوا ١ بطرس ٥:‏١٣‏.‏)‏ فبحلول القرن الثالث بعد الميلاد،‏ تحدَّث المؤرخ ديو كاسيوس (‏نحو ١٥٠-‏٢٣٥ ب‌م)‏ عن شخص زار بابل ولم يجد شيئا سوى «تلال وحجارة وخرائب».‏ (‏LXVIII‏،‏ ٣٠)‏ والمهم في هذا هو ان اشعياء كان ميتا في ذلك الوقت،‏ وكان سفره الكامل متداوَلا قبل قرون.‏ وإذا زرتم بابل اليوم،‏ فلن تروا سوى خرائب لمدينة كانت لها امجادها في الماضي.‏ ومع ان مدنا قديمة مثل روما وأورشليم (‏القدس)‏ وأثينا لا تزال قائمة حتى يومنا هذا،‏ فقد صارت بابل قفرًا،‏ خالية من السكان،‏ ومجرد خراب؛‏ تماما كما اخبر اشعياء.‏ لقد تحققت النبوة.‏

      لنركّز الآن على وصف اشعياء للمسيَّا الآتي.‏ فوفقا لإشعياء ٥٢:‏١٣‏،‏ كان عبد اللّٰه المميَّز هذا ‹سيتعالى ويتسامى جدا› في النهاية.‏ لكنَّ الاصحاح التالي (‏اشعياء ٥٣‏)‏ تنبأ قائلا ان المسيَّا،‏ وبشكل يدعو الى الاستغراب،‏ سيمرّ قبل تَسامِيه بتجربة مختلفة جدا.‏ وقد تدهشكم التفاصيل المسجلة في هذا الاصحاح المتعارَف على نطاق واسع على انه نبوة مسيَّانية.‏

      يمكنكم ان تقرأوا هناك ان المسيَّا كان سيُحتقَر من قِبل ابناء بلده.‏ ولأن اشعياء كان متأكدا من ان ذلك سيحدث،‏ كتب كما لو ان الامر قد حصل:‏ ‹احتقره الناس وتجنَّبوه›.‏ (‏العدد ٣‏،‏ ع‌ج‏)‏ وكانت اساءة المعاملة هذه غير مبرَّرة اطلاقا بسبب الخير الذي كان المسيَّا سيفعله للناس.‏ فقد وصف اشعياء اعمال الشفاء التي يقوم بها المسيَّا بالقول:‏ ‹امراضنا هو حملها›.‏ (‏العدد ٤‏،‏ ع‌ج‏)‏ ومع ذلك،‏ كان المسيَّا سيحاكَم ويُدان ظلما،‏ ويبقى صامتا امام متَّهِميه.‏ (‏العددان ٧،‏ ٨‏)‏ وكان سيترك نفسه يُسلَّم ليُقتل مع مجرمين؛‏ وخلال عملية إعدامه،‏ كان جسده سيُثقَب.‏ (‏العددان ٥‏،‏ ع‌ج‏،‏ ١٢‏)‏ ومع انه يُقتل كمجرم،‏ كان سيُدفن كما لو انه انسان غني.‏ (‏العدد ٩‏)‏ وذكر اشعياء تكرارا ان ميتة المسيَّا الظالمة كانت ستملك قوة كفّارية،‏ مغطية خطايا البشر الآخرين.‏ —‏ الاعداد ٥‏،‏ ٨‏،‏ ١١،‏ ١٢ ‏.‏

      كل هذه الامور حدثت.‏ فالروايات التاريخية التي سجلها معاصرو يسوع —‏ متى،‏ مرقس،‏ لوقا،‏ ويوحنا —‏ تؤكد ان ما سبق وأخبر به اشعياء حصل فعلا.‏ ووقع بعض الاحداث بعد موت يسوع،‏ لذلك لا يمكن ان يكون قد تحكّم فيها.‏ (‏متى ٨:‏​١٦،‏ ١٧؛‏ ٢٦:‏٦٧؛‏ ٢٧:‏​١٤،‏ ٣٩-‏٤٤،‏ ٥٧-‏٦٠؛‏ يوحنا ١٩:‏​١،‏ ٣٤‏)‏ والاتمام الكامل لنبوة اشعياء المسيَّانية كان له تأثير شديد في قراء الكتاب المقدس المخلصين على مرِّ القرون،‏ بمَن فيهم مَن لم يعترفوا قبلا بيسوع.‏ يلاحظ العالِم وليم ارْويك:‏ «كثيرون من اليهود،‏ حين دوَّنوا سبب اهتدائهم الى المسيحية،‏ اعترفوا بأن قراءة هذا الاصحاح [‏اشعياء ٥٣‏] هي التي زعزعت ثقتهم بعقيدتهم القديمة وبمعلميهم».‏ —‏ خادم يهوه (‏بالانكليزية)‏.‏a

      ذكر ارْويك هذه الكلمات في اواخر القرن الـ‍ ١٩،‏ حين كان البعض لا يزالون يشكون في ما اذا كان اشعياء الاصحاح ٥٣ من سفر اشعياء قد كُتب فعلا قبل قرون من ولادة يسوع.‏ لكنَّ الاشياء المكتشَفة منذ ذلك الوقت ازالت كل اساس للشك.‏ ففي سنة ١٩٤٧،‏ اكتشف راعٍ من البدو درجا قديما لكامل سفر اشعياء قرب البحر الميت.‏ وذكر خبراء بالكتابة القديمة ان تاريخ الدرج يعود الى ما بين سنتَي ١٢٥ و ١٠٠ ق‌م.‏ وفي سنة ١٩٩٠،‏ وعن طريق تحليل الكربون ١٤ للدرج،‏ ذُكر انه يعود الى ما بين سنتَي ٢٠٢ و ١٠٧ ق‌م.‏ نعم،‏ لقد كان درج اشعياء الشهير هذا قديما جدا عندما وُلد يسوع.‏ وماذا تكشف مقارنته بالكتب المقدسة العصرية؟‏

      اذا زرتم مدينة القدس،‏ فبإمكانكم ان تروا جذاذات من ادراج البحر الميت.‏ يوضح تسجيل صوتي لعالِم الآثار الپروفسور ييڠل يادين:‏ «انقضت فترة لا تزيد على خمسمئة او ستمئة سنة بين التفوُّه بكلمات اشعياء ونسخ هذا الدرج في القرن الثاني قبل الميلاد.‏ والمدهش هو مدى تشابه هذا الدرج الاصلي الموجود في المتحف —‏ مع ان عمره اكثر من ٠٠٠‏,٢ سنة —‏ مع الكتاب المقدس الذي نقرأه اليوم إما بالعبرانية او في الترجمات المنقولة عن اللغة الاصلية».‏

      من الواضح ان هذا الامر ينبغي ان يؤثر في نظرتنا.‏ نظرتنا الى ماذا؟‏ ينبغي ان يزيل اية شكوك انتقادية تجعل من اشعياء سفرا يدّعي التنبؤ بأمور سبق ان حدثت.‏ فهنالك الآن برهان علمي على ان نسخة من كتابات اشعياء صُنعت قبل اكثر من مئة سنة من ولادة يسوع وقبل وقت اطول بكثير من إقفار بابل.‏ لذلك كيف يمكن ان يُشَكّ في ان كتابات اشعياء تنبأت بالنتيجة النهائية لبابل وبآ‌لام المسيَّا الظالمة،‏ وطريقة موته ومعاملته؟‏!‏ وتزيل الوقائع التاريخية ايّ اساس للمجادلة في ان اشعياء تنبأ بدقة بأسْر اليهود وإطلاقهم من بابل.‏ وهذه التنبؤات المتمَّمة تشكل مجرد دليل واحد من ادلة مختلفة كثيرة على ان المؤلف الحقيقي للكتاب المقدس هو الخالق وأن الكتاب المقدس هو «موحى به من اللّٰه».‏ —‏ ٢ تيموثاوس ٣:‏١٦‏.‏

      توجد ادلة كثيرة اخرى على ان الكتاب المقدس من تأليف الهي.‏ وهي تشمل دقة الكتاب المقدس في المسائل الفلكية والجيولوجية والطبية،‏ الانسجام الداخلي بين اسفاره التي كتبها عشرات الاشخاص طوال مئات كثيرة من السنين،‏ اتفاقه مع حقائق كثيرة في التاريخ الدنيوي وعلم الآثار،‏ وشريعته الادبية التي تفوقت على شرائع الامم المحيطة في تلك الازمنة والتي لا تزال تُعتبر شريعة بلا منازع.‏ وقد اقنعت هذه الادلة المختلفة،‏ وغيرها ايضا،‏ اعدادا لا تحصى من الاشخاص المجتهدين والمخلصين بأن الكتاب المقدس هو فعلا كتاب من عند خالقنا.‏b

      يمكن ان يساعدنا ذلك ايضا على التوصل الى استنتاجات صحيحة عن الخالق —‏ الامر الذي يساعدنا على معرفة صفاته.‏ ألا تشهد قدرته على النظر الى المستقبل انه يملك قدرات ادراكية لا يملكها البشر؟‏ فالبشر لا يعرفون ماذا سيحدث في المستقبل البعيد،‏ ولا يمكنهم التحكم فيه.‏ أما الخالق فيقدر على ذلك.‏ فبإمكانه ان يرى المستقبل ويرتِّب الامور بطريقة تُنفَّذ بواسطتها مشيئته.‏ لذلك وصف اشعياء الخالق بهذه الكلمات المناسبة:‏ «مخبر منذ البدء بالاخير ومنذ القديم بما لم يُفعل قائلا رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي».‏ —‏ اشعياء ٤٦:‏١٠؛‏ ٥٥:‏١١‏.‏

      التعرُّف اكثر بالمؤلف

      عندما نمتلك معرفة شخصية بفرد آخر،‏ يكون ذلك من خلال التحدُّث اليه ورؤية رد فعله في مختلف الظروف.‏ وكلتا الطريقتين ممكنتان للتعرُّف بالبشر الآخرين،‏ ولكن ماذا عن التعرُّف بالخالق؟‏ فلا يمكن ان نتحادث معه بطريقة مباشرة.‏ ولكن كما برهنّا،‏ يكشف الخالق الكثير عن نفسه في الكتاب المقدس —‏ سواء من خلال اقواله او من خلال اعماله.‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ يدعونا هذا الكتاب الفريد في الواقع الى تنمية علاقة بالخالق.‏ فهو يحثنا قائلا:‏ «اقتربوا الى اللّٰه فيقترب اليكم».‏ —‏ يعقوب ٢:‏٢٣؛‏ ٤:‏٨‏.‏

      تأملوا في احدى الخطوات الاساسية:‏ اذا كنتم تريدون مصادقة شخص،‏ يجب طبعا ان تعرفوا اسمه.‏ فما هو اسم الخالق،‏ وماذا يكشف اسمه عنه؟‏

      ان الجزء العبراني من الكتاب المقدس (‏الذي يدعى غالبا «العهد القديم»)‏ يخبرنا بالاسم الفريد للخالق.‏ وهو يُمَثَّل في المخطوطات القديمة بأربعة احرف عبرانية ساكنة تقابلها بالعربية الاحرف ي ه‍ و ه‍.‏ ويَظهر اسم الخالق نحو ٠٠٠‏,٧ مرة،‏ اكثر بكثير من ايّ لقب مثل اللّٰه او الرب.‏ وطوال قرون كان قراء الكتاب المقدس العبراني يستعملون هذا الاسم الشخصي.‏ ولكن،‏ على مرِّ الوقت،‏ صار عند يهود كثيرين خوف خرافي من التلفظ بالاسم الالهي،‏ وهكذا لم يحفظوا طريقة التلفّظ به.‏

      يذكر تعليق يهودي على سفر الخروج:‏ «ضاعت في النهاية طريقة اللفظ الاصلية؛‏ والمحاولات العصرية لمعرفتها من جديد ليست إلا تخمينات».‏ صحيح اننا لسنا متأكدين كيف تلفَّظ موسى بالاسم الالهي الموجود اصلا في الخروج ٣:‏١٦ والذي نجده في الخروج ٦:‏٣‏.‏ ولكن مَن بصراحة يشعر اليوم بأنه مجبر على التلفُّظ باسم موسى او اسم يسوع بالصوت والتنغيم انفسهما اللذين استُعملا حين سارا على الارض؟‏!‏ ومع ذلك لا نمتنع عن الاشارة الى موسى وإلى يسوع باسمهما.‏ فالفكرة هي انه بدلا من الاهتمام المفرط بالطريقة التي كان شعب قديم ناطق بلغة اخرى يستعملها للتلفّظ باسم اللّٰه،‏ لِمَ لا نستعمل طريقة اللفظ الشائعة في لغتنا؟‏!‏ مثلا،‏ اللفظة المستعملة بالعربية لفترة طويلة هي «يَهْوَه»،‏ وهي لفظة مقبولة على نطاق واسع.‏

      ولكن يوجد شيء اهم من التفاصيل المتعلقة بطريقة التلفُّظ بالاسم.‏ وهذا الشيء هو معناه.‏ فهذا الاسم باللغة العبرانية هو في صيغة التَّعدِية السببية (‏كوزن فَعَّلَ)‏ للفعل هَوَه الذي يعني «يصير» او «يكون».‏ (‏تكوين ٢٧:‏٢٩‏،‏ ع‌ج؛‏ جامعة ١١:‏٣‏)‏ ويقترح دليل أوكسفورد الى الكتاب المقدس (‏بالانكليزية)‏ هذا المعنى:‏ « ‹يسبِّب› او ‹سيسبِّب ان يكون› ».‏ وهكذا يمكننا القول ان اسم الخالق الشخصي يعني حرفيا «يسبِّب ان يصير» او «يُصَيِّر».‏ ولاحظوا انه لا يُشدَّد هنا على عمل الخالق في الماضي السحيق،‏ كما يفكّر البعض عندما يستعملون عبارة «العلّة الاولى»،‏ او «السبب الاول».‏ ولِمَ لا؟‏

      لأن الاسم الالهي مرتبط بما يقصد الخالق ان يفعله.‏ وهنالك من حيث الاساس صيغتان فقط للأفعال العبرانية،‏ والصيغة المستعملة في حالة اسم الخالق «تشير الى اعمال .‏ .‏ .‏ في طور التقدُّم.‏ انها لا تعبِّر عن مجرد الاستمرار في عمل ما .‏ .‏ .‏ بل عن التقدُّم فيه من بدايته نحو اكتماله».‏ (‏وصف موجز للصيغ العبرانية [بالانكليزية])‏ نعم،‏ فمن خلال اسمه يكشف يهوه عن نفسه أنه صاحب مقاصد.‏ وهكذا نتعلم انه —‏ بالعمل التقدُّمي —‏ يصير متمِّما للمواعيد.‏ ويشعر كثيرون بالراحة والاطمئنان حين يعلمون ان الخالق يعمل دائما على تحقيق مقاصده.‏

      قصده —‏ قصدكم

      في حين يعكس اسم اللّٰه فكرة القصد،‏ يلاقي اناس كثيرون صعوبة في رؤية قصد من وجودهم.‏ فهم يلاحظون الجنس البشري يتخبط في ازمة بعد اخرى —‏ الحروب،‏ الكوارث الطبيعية،‏ الامراض،‏ الفقر،‏ والجريمة.‏ حتى الاشخاص السعداء القليلون،‏ الذين يتمكنون بطريقة ما من تفادي هذه التأثيرات المدمِّرة،‏ يعترفون بأن شكوكا تنتابهم دائما بشأن المستقبل وبشأن معنى حياتهم.‏

      يذكر الكتاب المقدس هذا التعليق:‏ «لقد أُخضع العالم المادي للإحباط،‏ ليس رغبةً منه في هذا،‏ بل بمشيئة الخالق،‏ الذي عند جعله كذلك اعطاه املا في ان يُنقَذ ذات يوم .‏ .‏ .‏ وأن يشترك في الحرية المجيدة لأولاد اللّٰه».‏ (‏رومية ٨:‏​٢٠،‏ ٢١‏،‏ رسائل العهد الجديد [بالانكليزية]،‏ بقلم ج.‏ و.‏ سي.‏ واند)‏ تُظهر الرواية في التكوين انه في وقت من الاوقات،‏ كان البشر في سلام مع خالقهم.‏ ونتيجةً لسوء السلوك البشري،‏ تصرَّف اللّٰه بعدل وأخضع الجنس البشري لحالة ادت،‏ الى حد ما،‏ الى الإحباط.‏ فلنرَ كيف حدث هذا،‏ وماذا يخبرنا عن الخالق،‏ وماذا يمكننا توقعه للمستقبل.‏

      بحسب ذلك التاريخ المكتوب،‏ الذي تبيَّن انه يمكن إثبات صحته بطرائق عديدة،‏ كان اول مخلوقَين بشريَّين يدعيان آدم وحواء.‏ ويُظهر السجل انهما لم يُتركا ليتلمّسا طريقهما بدون قصد او تعليمات عن مشيئة اللّٰه.‏ فكما يفعل ايّ اب بشري محب وعطوف مع ذريته،‏ اعطى الخالقُ البشرَ ارشادات نافعة.‏ فقال:‏ «اثمروا واكثروا واملأوا الارض وأخضِعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الارض».‏ —‏ تكوين ١:‏٢٨‏.‏

      وهكذا كان للبشرَين الاولَين قصد ذو معنى في حياتهما.‏ وشمل ذلك اهتمامهما ببيئة الارض وملء الكرة الارضية بسكان يتحملون المسؤولية.‏ (‏قارنوا اشعياء ١١:‏٩‏.‏)‏ ولا يمكن لأحد ان يلوم الخالق بحق على الوضع الحالي لكوكبنا الملوَّث،‏ كما لو انه هو الذي اتاح للبشر ان يستغلوا الكرة الارضية ويخرِّبوها.‏ فكلمة «أخضِعوها» لم تُجِز الاستغلال،‏ بل تضمنت فكرة عمل وحفظ الارض التي اؤتمن البشر على ادارتها.‏ (‏تكوين ٢:‏١٥‏)‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ كانوا سيتمتعون بمستقبل مديد ينجزون فيه هذا العمل ذا المعنى.‏ وإمكانية عدم موتهم تنسجم مع الواقع ان البشر يملكون طاقة دماغية تزيد كثيرا على ما يمكن استعماله كاملا في مدى حياة يبلغ ٧٠ او ٨٠ او حتى ١٠٠ سنة.‏ لقد صُنع الدماغ ليُستعمل الى زمن غير محدَّد.‏

      ان يهوه اللّٰه،‏ بصفته منتج خليقته ومنظِّمها،‏ اعطى البشر بعض الحرية في طريقة انجازهم قصده نحو الارض والجنس البشري.‏ فلم يكن كثير المتطلَّبات ولم يفرض قيودا خانقة.‏ مثلا،‏ اعطى آدمَ تعيينا يحلم به كل عالِم بالحيوان:‏ دراسة الحيوانات وتسميتها.‏ وبعدما راقب آدم خصائصها اطلق عليها اسماء،‏ وكثير من هذه الاسماء يعرِّف بصفاتها.‏ (‏تكوين ٢:‏١٩‏)‏ وهذا مجرد مثال واحد يوضح كيف يمكن للبشر استخدام مواهبهم وقدراتهم بشكل ينسجم مع قصد اللّٰه.‏

      انتم تدركون ان الخالق الحكيم لكل الكون لن يصعب عليه ضبط ايّ وضع يطرأ على الارض،‏ حتى لو اختار البشر مسلكا احمق او مضرّا.‏ ويخبرنا السجل التاريخي ان اللّٰه اوصى آدم وصية مقيِّدة واحدة فقط:‏ «من جميع شجر الجنة تأكل اكلا.‏ وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها.‏ لأنك يوم تأكل منها موتا تموت».‏ —‏ تكوين ٢:‏​١٦،‏ ١٧‏.‏

      تطلّبت هذه الوصية من الجنس البشري الاعتراف بحق اللّٰه في ان يُطاع.‏ لقد كان البشر،‏ من زمن آدم الى ايامنا،‏ مضطرين الى الخضوع لقانون الجاذبية والعيش كما يقتضي هذا القانون؛‏ ففعل العكس يُعتبر عملا احمق ومضرّا.‏ فلماذا يرفض البشر العيش وفق ما يقتضيه قانون آخر،‏ او وصية اخرى،‏ من الخالق المُحب؟‏!‏ وقد بيَّن الخالق عاقبة رفض قانونه،‏ لكنه ترك لآدم وحواء الخيار لكي يطيعاه بمحض ارادتهما.‏ وليس صعبا ان نرى في رواية التاريخ الباكر للانسان ان الخالق يتيح للبشر حرية الاختيار.‏ لكنه يريد ان تكون خليقته سعيدة الى اقصى حد،‏ وهذا يأتي كنتيجة طبيعية للعيش بانسجام مع القوانين النافعة التي يضعها.‏

      ذكرنا في فصل سابق ان الخالق اوجد مخلوقات ذكية لا تُرى —‏ مخلوقات روحانية.‏ ويكشف تاريخ بدايات الانسان ان احد هذه الارواح استحوذت عليه فكرة اغتصاب مركز اللّٰه.‏ (‏قارنوا حزقيال ٢٨:‏​١٣-‏١٥‏.‏)‏ فأساء استعمال حرية الاختيار التي يمنحها اللّٰه واستمال البشرَين الاولَين الى فعل ما لا بد ان ندعوه تمرُّدًا سافِرًا.‏ وبالعصيان المباشر من خلال عمل تَحَدٍّ واحد —‏ اكْلهما من «شجرة معرفة الخير والشر» —‏ اعلن الزوجان الاولان استقلالهما عن حكم اللّٰه.‏ لكنَّ الاكثر من ذلك هو ان مسلكهما دلَّ على تأييدهما الادعاء ان الخالق يمنع الخير عن الانسان.‏ وكان الامر كما لو ان آدم وحواء يطالبان بأن يقرِّرا لأنفسهما ما هو خير وما هو شر —‏ مهما يكن رأي صانعهما في الموضوع.‏

      كم هو جنون ان يقول الرجال والنساء ان قانون الجاذبية لا يعجبهم ويقرِّروا مخالفته!‏ كذلك لم يكن امرا منطقيا من جهة آدم وحواء ان يرفضا مقاييس الخالق الادبية.‏ وكما ان عواقب مضرّة تحلّ بمَن يتجاهل قانون الجاذبية،‏ ينبغي ان يتوقع البشر بالتأكيد عواقب سلبية لانتهاكهم شريعة اللّٰه الاساسية التي تتطلّب الطاعة له.‏

      يخبرنا التاريخ ان يهوه اتخذ عندئذ اجراء.‏ ففي «اليوم» الذي رفض فيه آدم وحواء مشيئة الخالق،‏ بدأا ينحدران نحو الموت،‏ كما سبق اللّٰه وحذرهما.‏ (‏قارنوا ٢ بطرس ٣:‏٨‏.‏)‏ ويكشف ذلك عن وجه آخر لشخصية الخالق.‏ فهو اله عادل لا يتغاضى بضعف عن العصيان الفاضح.‏ انه يملك مقاييس حكيمة وعادلة،‏ وهو يلتزم بها.‏

      وانسجاما مع صفاته البارزة،‏ اظهر اللّٰه الرحمة ولم يُنهِ الحياة البشرية على الفور.‏ ولماذا؟‏ كان ذلك بدافع الاهتمام بذرية آدم وحواء،‏ التي لم يكن قد حُبل بها بعد ولم تكن مسؤولة مباشرة عن مسلك سَلَفَيها الخاطئ.‏ واهتمام اللّٰه بالحياة التي كان سيُحبل بها يشهد لنا على شخصية الخالق.‏ فهو ليس قاضيا عديم الرحمة ومجردا من المشاعر،‏ بل نزيه وراغب في منح الجميع الفرصة،‏ وهو يُظهر الاحترام لقدسية الحياة البشرية.‏

      لا يعني ذلك ان الاجيال البشرية اللاحقة كانت ستتمتع بالاحوال المبهجة نفسها التي كان الزوجان الاولان يتمتعان بها.‏ فبسماح الخالق لذرية آدم بالظهور على المسرح العالمي،‏ «أُخضع العالم المادي للإحباط».‏ لكنه لم يكن إحباطا او يأسا مُطبِقا.‏ تذكروا ان رومية ٨:‏٢٠،‏ ٢١ قالت ايضا ان الخالق «اعطاه املا في ان يُنقَذ ذات يوم».‏ وهذا امر ينبغي ان نعرف المزيد عنه.‏

      هل من مكان نبحث فيه؟‏

      ان العدو الذي قاد الزوجَين البشريَّين الاولَين الى التمرُّد يُسمى في الكتاب المقدس الشيطان ابليس،‏ الذي يعني «مقاوم» و «مفترٍ».‏ وفي الحكم الصادر على المحرِّض الرئيسي على التمرُّد،‏ وصمه اللّٰه كعدو لكنه وضع اساسا لشيء يعلّق عليه البشر في المستقبل آمالهم.‏ قال اللّٰه:‏ «أضع عداوة بينك [اشارة الى الشيطان] وبين المرأة وبين نسلك ونسلها.‏ هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه».‏ (‏تكوين ٣:‏١٥‏)‏ من الواضح انه استُخدمت هنا لغة مجازية.‏ فما معنى القول ان ‹نسلا› سيأتي؟‏

      تلقي اجزاء اخرى من الكتاب المقدس الضوء على هذا العدد المثير للاهتمام.‏ وهي تُظهر انه مرتبط بعمل يهوه وفق اسمه و ‹صيرورته› ما يلزم ان يصير ليتمِّم قصده نحو البشر على الارض.‏ وبفعله ذلك استخدم امة معيَّنة،‏ وتاريخ تعاملاته مع هذه الامة القديمة يؤلف جزءا كبيرا من الكتاب المقدس.‏ فلنتأمل باختصار في هذا التاريخ المهم.‏ وفيما نقوم بذلك،‏ يمكننا التعلم اكثر عن صفات الخالق.‏ نعم،‏ يمكننا تعلم امور قيِّمة كثيرة عنه بالاستمرار في فحص الكتاب الذي زوَّده لأجل الجنس البشري،‏ الكتاب المقدس.‏

  • الخالق يكشف عن نفسه —‏ لفائدتنا!‏
    هل يوجد خالق يهتم بامركم؟‏
    • الفصل الثامن

      الخالق يكشف عن نفسه —‏ لفائدتنا!‏

      في وسط الرعد والبرق،‏ وقف نحو ثلاثة ملايين شخص امام جبل عالٍ في شبه جزيرة سيناء.‏ وأحاطت السحب بجبل سيناء،‏ وارتجت الارض.‏ في هذه الظروف التي لا تُنسى،‏ أدخل موسى اسرائيل القديمة في علاقة رسمية بخالق السماء والارض.‏ —‏ الخروج الاصحاح ١٩؛‏ اشعياء ٤٥:‏١٨‏.‏

      ولكن لماذا كشف خالق الكون عن نفسه بطريقة مميّزة لأمة واحدة،‏ وأمة صغيرة ايضا بالمقارنة مع غيرها؟‏ اوضح موسى قائلا:‏ «من محبة الرب اياكم وحفظه القسم الذي اقسم لآبائكم».‏ —‏ تثنية ٧:‏​٦-‏٨‏.‏

      تكشف هذه الكلمات ان الكتاب المقدس يحتوي على اكثر من مجرد وقائع عن اصل الكون والحياة على الارض.‏ فهو يتحدث كثيرا عن تعاملات الخالق مع البشر —‏ في الماضي والحاضر والمستقبل.‏ والكتاب المقدس هو اكثر الكتب التي تُدرس في العالم وأوسعها انتشارا،‏ لذلك ينبغي لكل مَن يقدِّر الثقافة ان يتعرَّف بمحتوياته.‏ فلنقم بمراجعة لما يمكن ان نجده في الكتاب المقدس،‏ مركّزين اولا على الجزء الذي يدعى غالبا «العهد القديم».‏ وبذلك نحرز ايضا فهما قيِّما لشخصية خالق الكون ومؤلف الكتاب المقدس.‏

      في الفصل ٦،‏ «سجل قديم عن الخلق —‏ هل ينال ثقتكم؟‏»،‏ رأينا ان رواية الخلق في الكتاب المقدس تحتوي وحدها على حقائق عن سلَفَينا الاولَين —‏ عن اصلنا.‏ ويحتوي هذا السفر الاول في الكتاب المقدس على المزيد.‏ مثل ماذا؟‏

      تصف الاساطير اليونانية وغيرها زمنا كانت فيه الآلهة وأنصاف الآلهة تتعامل مع البشر.‏ ويخبر علماء الانسان ايضا انه تنتشر حول العالم اساطير عن طوفان قديم محا معظم الجنس البشري من الوجود.‏ من حقكم ألا تعيروا اساطير كهذه اهتماما.‏ ولكن هل تعلمون ان سفر التكوين وحده يكشف الحقائق التاريخية الضمنية التي انعكست لاحقا في هذه الخرافات والاساطير؟‏ —‏ التكوين الاصحاحان ٦،‏ ٧‏.‏a

      تقرأون في سفر التكوين ايضا عن رجال ونساء —‏ اشخاص حقيقيين بمشاعر مماثلة لمشاعرنا —‏ عرفوا ان الخالق موجود وأخذوا مشيئته بعين الاعتبار في حياتهم.‏ ويليق بنا ان نعرف عن اشخاص كإبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين كانوا بين ‹الآباء› الذين ذكرهم موسى.‏ فقد عرف الخالق ابراهيم ودعاه «خليلي».‏ (‏اشعياء ٤١:‏٨؛‏ تكوين ١٨:‏​١٨،‏ ١٩‏)‏ ولماذا؟‏ كان يهوه قد لاحظ ابراهيم ووثق به كرجل ايمان.‏ (‏عبرانيين ١١:‏​٨-‏١٠،‏ ١٧-‏١٩؛‏ يعقوب ٢:‏٢٣‏)‏ ويُظهر اختبار ابراهيم انه يمكن الاقتراب الى اللّٰه.‏ صحيح ان جبروته وقدراته مهيبة،‏ لكنه ليس مجرد قوة او علّة غير شخصية.‏ انه كائن حقيقي ذو شخصية،‏ ويمكننا نحن البشر ان ننمي علاقة احترام به —‏ لفائدتنا الدائمة.‏

      وعد يهوه ابراهيم:‏ «يتبارك في نسلك جميع امم الارض».‏ ‏(‏تكوين ٢٢:‏١٨‏)‏ هذه الكلمات هي امتداد للوعد الذي ذُكر في ايام آدم عن «نسل» آتٍ.‏ (‏تكوين ٣:‏١٥‏)‏ نعم،‏ ان ما قاله يهوه لإبراهيم وطّد الامل في ان يَظهر مع الوقت شخص —‏ هو النسل —‏ يجعل البركة متاحة لجميع الشعوب.‏ وستجدون ان هذا هو المحور الرئيسي الذي يتخلل كامل الكتاب المقدس،‏ مما يشير الى ان هذا الكتاب ليس مجموعة من الكتابات البشرية المختلفة.‏ ومعرفتكم محور الكتاب المقدس تساعدكم على الادراك ان اللّٰه استخدم امة قديمة واحدة —‏ بهدف مباركة جميع الامم.‏ —‏ مزمور ١٤٧:‏​١٩،‏ ٢٠‏.‏

      وامتلاك يهوه هذا الهدف في تعامله مع اسرائيل دليل على انه «لا يفضِّل احدا على احد».‏ (‏اعمال ١٠:‏​٣٤‏،‏ ترجمة تفسيرية؛‏ غلاطية ٣:‏١٤‏)‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ حتى عندما كان اللّٰه يتعامل بشكل رئيسي مع المتحدِّرين من ابراهيم،‏ كان الباب مفتوحا على مصراعيه امام الافراد من امم اخرى ليأتوا هم ايضا ويخدموا يهوه.‏ (‏١ ملوك ٨:‏​٤١-‏٤٣‏)‏ وكما سنرى لاحقا،‏ يَظهر اليوم عدم تفضيل اللّٰه احدا على احد في تمكُّننا نحن جميعا —‏ مهما تكن خلفيتنا القومية او العرقية —‏ من معرفته وإرضائه.‏

      يمكننا تعلُّم الكثير من تاريخ الامة التي تعامل الخالق معها طوال قرون.‏ فلنقسم تاريخها الى ثلاثة اجزاء.‏ وعند التأمل في هذه الاجزاء،‏ لاحظوا كيف يعمل يهوه وفق اسمه،‏ الذي يعني «يُصَيِّر»،‏ وكيف تتجلى شخصيته في تعاملاته مع اناس حقيقيين.‏

      الجزء الاول —‏ امة يحكمها الخالق

      استُعبد المتحدِّرون من ابراهيم في مصر.‏ وأخيرا اقام اللّٰه موسى الذي قادهم الى الحرية في سنة ١٥١٣ ق‌م.‏ وعندما صارت اسرائيل امة،‏ كان اللّٰه حاكمها.‏ ولكن في سنة ١١١٧ ق‌م،‏ طلب الشعب ملكا بشريا.‏

      اية تطوُّرات ادّت الى وجود اسرائيل مع موسى عند جبل سيناء؟‏ يزوِّدنا سفر التكوين في الكتاب المقدس بالمعلومات.‏ فقبل ذلك،‏ حين كان يعقوب (‏المدعو ايضا اسرائيل)‏ يعيش ناحية شمالي شرقي مصر،‏ حدثت مجاعة في كل انحاء العالم المعروف آنذاك.‏ وقلَقُ يعقوب على عائلته جعله يطلب الطعام من مصر،‏ حيث كانت هنالك مؤونة وافرة من الحبوب المخزَّنة.‏ واكتشف يعقوب ان مدير الاغذية كان في الحقيقة ابنه يوسف الذي اعتقد انه مات قبل سنوات.‏ فانتقل يعقوب وعائلته الى مصر ودُعوا الى البقاء هناك.‏ (‏تكوين ٤٥:‏٢٥–‏٤٦:‏٥؛‏ ٤٧:‏​٥-‏١٢‏)‏ ولكن،‏ بعد موت يوسف،‏ سخَّر فرعون جديد المتحدِّرين من يعقوب ‹ومرَّر حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللِّبن›.‏ (‏خروج ١:‏​٨-‏١٤‏)‏ وبإمكانكم قراءة هذه الرواية الحية وكثير غيرها في السفر الثاني من الكتاب المقدس،‏ الخروج.‏

      عانى الاسرائيليون سوء المعاملة طوال عقود،‏ و «صعد صراخهم الى اللّٰه».‏ وكان مسلكا حكيما منهم ان يلتفتوا الى يهوه.‏ فقد كان مهتما بالمتحدِّرين من ابراهيم ومصمِّما على اتمام قصده،‏ ألا وهو تزويد بركة مستقبلية لجميع الشعوب.‏ ‹فسمع يهوه انين اسرائيل وعلم›،‏ مما يُظهر لنا ان الخالق يتعاطف مع الناس المضطهَدين والمتألمين.‏ (‏خروج ٢:‏​٢٣-‏٢٥‏)‏ واختار موسى ليخلّص الاسرائيليين من عبوديتهم.‏ ولكن عندما اتى موسى وأخوه هارون الى فرعون مصر وطلبا منه السماح لهذا الشعب المستعبَد بأن يغادر،‏ اجاب بتحدٍّ:‏ «مَن هو الرب [«يهوه»،‏ ع‌ج‏] حتى اسمع لقوله فأطلق اسرائيل».‏ —‏ خروج ٥:‏٢‏.‏

      هل تتخيَّلون خالق الكون يتراجع امام هذا التحدّي،‏ حتى ولو صدر من حاكم اعظم قوة عسكرية قائمة؟‏ وجَّه اللّٰه الى فرعون والمصريين سلسلة من الضربات.‏ وأخيرا،‏ بعد الضربة العاشرة،‏ وافق فرعون على إطلاق الاسرائيليين.‏ (‏خروج ١٢:‏​٢٩-‏٣٢‏)‏ وهكذا صار المتحدِّرون من ابراهيم يعرفون يهوه ككائن حقيقي له شخصية —‏ كائن يزوِّد الحرية في وقته المعيَّن.‏ نعم،‏ فكما يشير اسمه،‏ صار يهوه متمِّما لوعوده بطريقة مذهلة.‏ (‏خروج ٦:‏٣‏)‏ ولكن كان فرعون والاسرائيليون سيتعلمون المزيد عن هذا الاسم.‏

      حدث ذلك لأن فرعون غيَّر رأيه بسرعة.‏ وقاد جيشه في مطاردة حثيثة للعبيد المغادرين،‏ وأدركهم قرب البحر الاحمر.‏ فعلق الاسرائيليون بين البحر الاحمر والجيش المصري.‏ عندئذ تدخل يهوه وفتح طريقا عبر البحر الاحمر.‏ وكان ينبغي لفرعون ان يعرف ان هذا دليل على قدرة اللّٰه التي لا تُقهر.‏ لكنه تهوَّر وقاد قواته وراء الاسرائيليين،‏ انما ليغرق مع جيشه عندما اعاد اللّٰه البحر الى وضعه الطبيعي.‏ لا تذكر الرواية في الخروج بدقة كيف انجز اللّٰه هذه الاعمال الجبارة.‏ ويمكننا فعلا ان ندعوها عجائب لأن هذه الاعمال وتوقيتها هي فوق طاقة البشر.‏ لكنَّ اعمالا كهذه ليست طبعا فوق طاقة خالق الكون وواضع كل قوانينه.‏ —‏ خروج ١٤:‏​١-‏٣١‏.‏

      اظهرت هذه الحادثة للاسرائيليين —‏ كما ينبغي ان تؤكد لنا ايضا —‏ ان يهوه مخلِّص يعمل وفق اسمه.‏ ولكن يجب ان نستخلص من هذه الرواية امورا اضافية عن طرق اللّٰه.‏ مثلا،‏ اجرى حكم العدل على امة ظالمة،‏ وأظهر اللطف الحبي نحو شعبه الذي كان النسل سيأتي منه.‏ وعن هذه النقطة الاخيرة،‏ من الواضح ان ما نقرأه في الخروج هو اكثر بكثير من تاريخ قديم؛‏ انه يرتبط بقصد اللّٰه ان يجعل البركة متاحة للجميع.‏

      في الطريق الى ارض الموعد

      بعد مغادرة مصر،‏ سار موسى والشعب في الصحراء الى جبل سيناء.‏ وما حدث هناك كان سيصوغ لقرون تعاملات اللّٰه مع الامة.‏ فقد اعطاهم شرائع.‏ طبعا،‏ كان الخالق قد وضع قبل دهور من ذلك شرائع وقوانين تتحكم في المادة في كوننا،‏ وهذه القوانين لا تزال سارية المفعول.‏ أما في جبل سيناء،‏ فقد استخدم اللّٰه موسى لتزويد شرائع قومية.‏ ويمكننا ان نقرأ عما فعله اللّٰه وعن الناموس الذي اعطاه في سفر الخروج وفي ثلاثة اسفار لاحقة:‏ اللاويين،‏ العدد،‏ و التثنية.‏ ويعتقد العلماء ان موسى كتب ايضا سفر ايوب.‏ وسنتأمل في بعض محتوياته المهمة في الفصل ١٠.‏

      حتى هذا اليوم يعرف ملايين الاشخاص حول العالم الوصايا العشر ويحاولون اتِّباعها،‏ وقد كانت محور الارشاد الادبي لكامل هذا الناموس.‏ لكنَّ الناموس احتوى على ارشادات كثيرة اخرى يُنظر اليها بإعجاب لِما تمتاز به.‏ وليس غريبا ان تركّز فرائض كثيرة على الحياة الاسرائيلية في ذلك الوقت،‏ كالقواعد المتعلقة بالعادات الصحية والنظافة والامراض.‏ ومع ان هذه الشرائع وُضعت اصلا لشعب قديم،‏ فهي تعكس معرفة للحقائق العلمية التي لم يكتشفها الخبراء البشر إلا في القرن الماضي تقريبا.‏ (‏لاويين ١٣:‏​٤٦،‏ ٥٢؛‏ ١٥:‏​٤-‏١٣؛‏ عدد ١٩:‏​١١-‏٢٠؛‏ تثنية ٢٣:‏​١٢،‏ ١٣‏)‏ لذلك يحسن بالمرء ان يسأل:‏ كيف يمكن لشرائع اسرائيل القديمة ان تعكس معرفة وحكمة اسمى بكثير مما كان معروفا عند امم معاصرة لها؟‏ الجواب المنطقي هو ان هذه الشرائع اتت من الخالق.‏

      ساعدت الشرائع ايضا على حفظ سلالات النسب وفرضت واجبات دينية ليتبعها الاسرائيليون حتى ظهور النسل.‏ وبالموافقة على فعل كل ما يطلبه اللّٰه،‏ حُمِّلوا مسؤولية العيش وفق هذا الناموس.‏ (‏تثنية ٢٧:‏٢٦؛‏ ٣٠:‏​١٧-‏٢٠‏)‏ صحيح انه لم يكن باستطاعتهم حفظ الناموس كاملا،‏ ولكن حتى هذا كان له قصد جيد.‏ فقد اوضح خبير قانوني لاحقا ان الناموس ‹أُضيف إظهارا للمعاصي،‏ الى ان يجيء «النسل» الذي قُطع له الوعد›.‏ (‏غلاطية ٣:‏​١٩،‏ ٢٤‏،‏ تف )‏ فالناموس اذًا جعلهم امة مفروزة،‏ ذكّرَهم بحاجتهم الى النسل،‏ او المسيَّا،‏ وأعدَّهم لاستقباله.‏

      وافق الاسرائيليون المجتمعون عند جبل سيناء على اطاعة ناموس اللّٰه.‏ وهكذا صاروا تحت ما يدعوه الكتاب المقدس عهدا،‏ او اتفاقا.‏ وكان العهد بين اللّٰه وهذه الامة.‏ ولكن رغم دخولهم الطوعي في هذا العهد،‏ أظهروا انهم شعب صلب الرقبة.‏ فقد صنعوا،‏ مثلا،‏ عجلا ذهبيا واعتبروه يمثِّل اللّٰه.‏ وكان ذلك خطية لأن عبادة الاصنام تخالف مباشرة الوصايا العشر.‏ (‏خروج ٢٠:‏​٤-‏٦‏)‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ تذمروا بشأن طعامهم،‏ تمرَّدوا على قائدهم (‏موسى)‏ المعيَّن من اللّٰه،‏ وانغمسوا في علاقات فاسدة ادبيا مع نساء اجنبيات يعبدن الاصنام.‏ ولكن لماذا ينبغي ان يهمَّنا هذا الموضوع،‏ ما دامت قرون كثيرة تفصلنا عن ايام موسى؟‏

      هنا ايضا يتبيَّن ان هذه الحوادث ليست مجرد تاريخ قديم.‏ فروايات الكتاب المقدس عن نكران اسرائيل للجميل وتجاوُب اللّٰه مع ذلك تُظهر انه فعلا يهتمّ.‏ فالكتاب المقدس يقول ان الاسرائيليين جرَّبوا يهوه ‹المرة تلو المرة›،‏ و ‹أحزنوه› و ‹آلَموه›.‏ (‏مزمور ٧٨:‏​٤٠،‏ ٤١‏،‏ ع‌ج‏)‏ وبذلك يتأكد لنا ان الخالق يملك مشاعر وأنه يهتمّ بشأن ما يفعله البشر.‏

      من وجهة نظرنا البشرية،‏ قد يعتقد المرء ان اثم اسرائيل كان سيؤدي الى إنهاء اللّٰه عهده معهم وربما اختياره امة اخرى تتمِّم وعده.‏ لكنه لم يفعل ذلك.‏ فقد انزل العقاب بفاعلي الاثم الفاضح،‏ لكنه اظهر الرحمة لأمته الضالة ككل.‏ نعم،‏ بقي اللّٰه وليا للوعد الذي قطعه مع خليله الامين ابراهيم.‏

      بعد وقت قصير،‏ اقتربت اسرائيل من كنعان التي يدعوها الكتاب المقدس ارض الموعد.‏ وكانت تسكنها شعوب قوية منغمسة بشدة في الممارسات الفاسدة ادبيا.‏ وكان الخالق قد سمح بمرور ٤٠٠ سنة قبل ان يضع حدا لها،‏ أما الآن فقد قرر بعدل ان يعطي الارض لإسرائيل القديمة.‏ (‏تكوين ١٥:‏١٦‏؛‏ انظروا ايضا «اله غيور —‏ بأيّ معنى؟‏»،‏ في الصفحتين ١٣٢-‏١٣٣.‏)‏ واستعدادا لذلك ارسل موسى ١٢ جاسوسا الى الارض.‏ فأعرب عشرة منهم عن عدم ايمان بقوة يهوه المنقِذة.‏ ودفع كلامهم الشعب الى التذمر على اللّٰه والتآ‌مر للعودة الى مصر.‏ وبسبب ذلك عاقب اللّٰه الشعب بالتيهان في البرية طوال ٤٠ سنة.‏ —‏ عدد ١٤:‏​١-‏٤،‏ ٢٦-‏٣٤‏.‏

      وماذا حقق هذا الحكم؟‏ ناشد موسى،‏ قبل موته،‏ بني اسرائيل ان يتذكروا تلك السنوات التي اذلّهم يهوه فيها.‏ قال موسى لهم:‏ «اعلم في قلبك انه كما يؤدب الانسان ابنه قد ادبك الرب الهك».‏ (‏تثنية ٨:‏​١-‏٥‏)‏ فمع انهم تصرَّفوا تجاهه بطريقة مهينة،‏ كان يهوه يعيلهم،‏ مما يُظهر انه لم يكن لهم غنى عنه.‏ مثلا،‏ بقوا احياء لأنه زوَّد الامة بالمَنّ،‏ وهو أكْل طعمه كرقاق بعسل.‏ ومن الواضح انهم تعلّموا دون شك الكثير من تجربتهم في البرية.‏ ولا بد انها بيَّنت لهم اهمية اطاعة الههم الرحيم والاعتماد عليه.‏ —‏ خروج ١٦:‏​١٣-‏١٦،‏ ٣١؛‏ ٣٤:‏​٦،‏ ٧‏.‏

      بعد موت موسى،‏ فوَّض اللّٰه الى يشوع قيادة اسرائيل.‏ فأدخل هذا الرجل المقدام والولي الامةَ الى كنعان وشرع يفتح الارض بشجاعة.‏ وفي غضون فترة قصيرة،‏ هزم يشوع ٣١ ملكا واحتل معظم ارض الموعد.‏ وبإمكانكم قراءة هذا التاريخ الحافل في سفر يشوع.‏

      حُكم بلا ملك بشري

      طوال فترة الترحال في البرية وخلال السنوات الاولى في ارض الموعد،‏ كان موسى وبعده يشوع قائدَي الامة.‏ فلم يكن الاسرائيليون بحاجة الى ملك بشري،‏ لأن يهوه كان حاكمهم المتسلط.‏ وقد رتّب ان يستمع شيوخ معيَّنون الى الدعاوى في ابواب المدن.‏ وكانوا يحافظون على النظام ويساعدون الناس روحيا.‏ (‏تثنية ١٦:‏١٨؛‏ ٢١:‏​١٨-‏٢٠‏)‏ ويقدِّم سفر راعوث لمحة مثيرة للاهتمام عن الطريقة التي عالج بها شيوخ كهؤلاء احدى الدعاوى على اساس الشريعة الموجودة في التثنية ٢٥:‏​٧-‏٩‏.‏

      على مرِّ السنين،‏ غالبا ما جلبت الامة على نفسها غضب اللّٰه بعدم اطاعته مرارا وتكرارا وبالالتفات الى الآلهة الكنعانية.‏ ومع ذلك،‏ كان يهوه يتذكرهم عندما يقعون في ضيقات شديدة ويصرخون اليه طلبا للعون.‏ فكان يقيم قضاة ليأخذوا القيادة في تحرير اسرائيل،‏ منقذين اياهم من الشعوب المجاورة المستبدة.‏ والسفر المسمى القضاة يروي بشكل حي مآ‌ثر ١٢ من هؤلاء القضاة الشجعان.‏ —‏ قضاة ٢:‏​١١-‏١٩؛‏ نحميا ٩:‏٢٧‏.‏

      يقول السجل:‏ «في تلك الايام لم يكن ملك في اسرائيل.‏ كل واحد عمل ما حسن في عينيه».‏ (‏قضاة ٢١:‏٢٥‏)‏ كانت الامة تملك المقاييس المرسومة في الناموس.‏ لذلك،‏ بمساعدة الشيوخ وتعليم الكهنة،‏ كان الشعب يملك اساسا ‹ليعمل ما يحسن في عينيه› ويبقى مطمئنا.‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ رتّب الناموس لوجود مسكن،‏ او هيكل قابل للحمل،‏ حيث كانت الذبائح تُقدَّم.‏ وقد تمركزت العبادة الحقة هناك،‏ وساعدت على توحيد الامة خلال تلك الفترة.‏

      الجزء الثاني —‏ الازدهار في ظل الملوك

      عندما كان صموئيل قاضيا في اسرائيل،‏ طالب الشعب بملك بشري.‏ وكلٌّ من الملوك الثلاثة الاولين —‏ شاول وداود وسليمان —‏ حكم ٤٠ سنة،‏ من سنة ١١١٧ حتى سنة ٩٩٧ ق‌م.‏ وبلغت اسرائيل قمة الغنى والمجد،‏ واتخذ الخالق خطوات مهمة لإعداد المُلك للنسل الآتي.‏

      اهتم القاضي والنبي صموئيل جيدا بخير اسرائيل الروحي،‏ لكنَّ ابنَيه كانا مختلفَين.‏ فطلب الشعب اخيرا من صموئيل قائلين:‏ «الآن اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب».‏ وأوضح يهوه لصموئيل مغزى طلبهم،‏ وقال:‏ «اسمع لصوت الشعب .‏ .‏ .‏ لأنهم لم يرفضوك انت بل اياي رفضوا حتى لا املك عليهم».‏ ورأى يهوه مسبقا العواقب السيئة لهذا التطوُّر الجديد.‏ (‏١ صموئيل ٨:‏​١-‏٩‏)‏ ومع ذلك،‏ استجابةً لطلبهم،‏ عيَّن رجلا متواضعا يدعى شاول ملكا على اسرائيل.‏ ورغم بدايته الواعدة،‏ اعرب شاول بعدما صار ملكا عن مواقف متصلبة وتعدّى وصايا اللّٰه.‏ فأعلن نبي اللّٰه ان المملكة ستُعطى لرجل حسب قلب يهوه.‏ ويُظهر لنا ذلك كم يقدِّر الخالق الطاعة من القلب.‏ —‏ ١ صموئيل ١٥:‏​٢٢،‏ ٢٣‏.‏

      وداود،‏ الملك التالي على اسرائيل،‏ كان الابن الاصغر في عائلة من سبط يهوذا.‏ وعن اختياره المفاجئ قال اللّٰه لصموئيل:‏ «الانسان ينظر الى العينين وأما الرب فإنه ينظر الى القلب».‏ (‏١ صموئيل ١٦:‏٧‏)‏ ألا نتشجع حين نعرف ان الخالق ينظر الى ما نحن عليه في الداخل لا الى المظهر الخارجي؟‏ أما شاول فكان يخطّط لأمور اخرى.‏ فمن الوقت الذي اختار فيه يهوه داود ليكون ملكا،‏ استحوذت عليه فكرة التخلص من داود.‏ لكنَّ يهوه لم يسمح بحدوث ذلك،‏ وفي النهاية مات شاول وأبناؤه في معركة ضد شعب محارب يدعى الفلسطيين.‏

      ملكَ داود من مدينة حبرون.‏ وبعد ذلك اخذ اورشليم وجعلها هي العاصمة.‏ ووسّع ايضا حدود اسرائيل الى الحد الاقصى للارض التي وعد بها اللّٰه المتحدِّرين من ابراهيم.‏ وبإمكانكم ان تقرأوا عن هذه الفترة (‏وعن تاريخ الملوك اللاحقين)‏ في ستة اسفار تاريخية في الكتاب المقدس.‏b وهي تكشف ان حياة داود لم تكن خالية من المشاكل.‏ فقد استسلم مثلا للشهوة البشرية وارتكب الزنا مع بثشبع الجميلة ثم ارتكب اخطاء اخرى لكي يغطي خطيته.‏ وبما ان يهوه اله العدل،‏ فلم يكن ممكنا ان يتغاضى عن خطية داود.‏ ولكن لأن داود اعرب عن توبة قلبية،‏ لم يطالب اللّٰه بتطبيق صارم للعقوبة التي نصَّ عليها الناموس؛‏ ومع ذلك،‏ كان داود سيعاني مشاكل عائلية كثيرة بسبب خطاياه.‏

      وفي كل هذه الازمات،‏ صار داود يعرف اللّٰه ككائن له شخصية،‏ كائن له مشاعر.‏ كتب:‏ ‏«الرب قريب لكل الذين يدعونه .‏ .‏ .‏ ويسمع تضرعهم».‏ (‏مزمور ١٤٥:‏​١٨-‏٢٠‏)‏ ويتجلى صدق داود وتعبُّده في الترانيم الجميلة التي نظمها،‏ والتي تشكل نحو نصف سفر المزامير.‏ وملايين الاشخاص يستمدون التعزية والتشجيع من هذا الشعر.‏ تأملوا في مدى تقرُّب داود الى اللّٰه كما ينعكس في المزمور ١٣٩:‏​١-‏٤‏:‏ «يا رب قد اختبرتني وعرفتني.‏ انت عرفت جلوسي وقيامي.‏ فهمت فكري من بعيد .‏ .‏ .‏ لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها».‏

      عرف داود خصوصا قوة اللّٰه المنقِذة.‏ (‏مزمور ٢٠:‏٦؛‏ ٢٨:‏٩؛‏ ٣٤:‏​٧،‏ ٩؛‏ ٣٧:‏٣٩‏)‏ وكلما لمس هذه القوة،‏ زادت ثقته بيهوه.‏ ويمكن ان تروا ادلة على ذلك في المزمور ٣٠:‏٥؛‏ ٦٢:‏٨‏؛‏ و المزمور ١٠٣:‏٩‏.‏ او اقرأوا المزمور ٥١ الذي نظمه داود بعدما وُبِّخ على خطيته مع بثشبع.‏ كم تريحنا المعرفة انه بإمكاننا التعبير عن انفسنا للخالق دون تردُّد،‏ ونحن على ثقة بأنه ليس متعجرفا بل هو مستعد للاصغاء بتواضع!‏ (‏مزمور ١٨:‏٣٥؛‏ ٦٩:‏٣٣؛‏ ٨٦:‏​١-‏٨‏)‏ ولم ينمُ تقدير داود ليهوه خلال التجربة فقط.‏ فقد كتب:‏ ‹أتأمل في جميع اعمالك،‏ اتفكّر في صنيع يديك›.‏ —‏ مزمور ٦٣:‏٦؛‏ ١٤٣:‏٥‏،‏ تف.‏

      دخل يهوه مع داود في عهد خاص لمملكة ابدية.‏ وداود لم يفهم على الارجح المغزى الكامل لهذا العهد،‏ ولكن من التفاصيل المسجلة لاحقا في الكتاب المقدس،‏ نرى ان اللّٰه كان يشير الى ان النسل الموعود به كان سيأتي من سلالة داود.‏ —‏ ٢ صموئيل ٧:‏١٦‏.‏

      الملك سليمان الحكيم ومعنى الحياة

      كان سليمان بن داود معروفا بحكمته،‏ وبإمكاننا الاستفادة منها بقراءة السفرَين العمليَّين جدا:‏ الامثال و الجامعة.‏c (‏١ ملوك ١٠:‏​٢٣-‏٢٥‏)‏ والسفر الثاني مفيد خصوصا للذين يبحثون عن معنى لحياتهم،‏ كما كان الملك سليمان الحكيم يفعل.‏ فبما انه اول ملك اسرائيلي يولَد في اسرة ملكية،‏ سنحت له فرص واسعة.‏ وقد قام ايضا بمشاريع بناء فخمة،‏ وفرش مائدته بتنوُّع مذهل من الاطعمة،‏ وتمتع بالموسيقى وبرفقة شخصيات بارزة.‏ لكنه كتب:‏ «ثم التفتُّ انا الى كل اعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل».‏ (‏جامعة ٢:‏​٣-‏٩،‏ ١١‏)‏ فماذا استخلص من ذلك؟‏

      كتب سليمان:‏ «لنسمع ختام الامر كله.‏ اتقِ اللّٰه واحفظ وصاياه لأن هذا هو [«التزام»،‏ ع‌ج‏] الانسان كله.‏ لأن اللّٰه يحضر كل عمل الى الدينونة على كل خفي إن كان خيرا او شرا».‏ (‏جامعة ١٢:‏١٣،‏ ١٤‏)‏ وانسجاما مع ذلك،‏ انهمك سليمان في مشروع بناء دام سبع سنوات لهيكل مجيد يعبد فيه الناس اللّٰه.‏ —‏ ١ ملوك الاصحاح ٦ .‏

      اتسم حكم سليمان طوال سنوات بالسلام والوفرة.‏ (‏١ ملوك ٤:‏​٢٠-‏٢٥‏)‏ لكنَّ قلبه لم يكن كاملا مع يهوه كقلب داود.‏ واتخذ لنفسه نساء اجنبيات كثيرات وسمح لهن بإمالة قلبه وراء آلهتهن.‏ وأخيرا قال يهوه:‏ «امزق المملكة عنك تمزيقا .‏ .‏ .‏ [و] أعطي سبطا واحدا لابنك لأجل داود عبدي ولأجل اورشليم».‏ —‏ ١ ملوك ١١:‏٤،‏ ١١-‏١٣‏.‏

      الجزء الثالث —‏ المملكة تنقسم

      بعد موت سليمان في سنة ٩٩٧ ق‌م،‏ انفصلت العشرة الاسباط الشمالية.‏ وشكلت هذه مملكة اسرائيل التي احتلها الاشوريون سنة ٧٤٠ ق‌م.‏ أما الملوك في اورشليم فقد حكموا على سبطين اثنين.‏ وهذه المملكة،‏ اي يهوذا،‏ استمرت الى ان احتل البابليون اورشليم سنة ٦٠٧ ق‌م وأخذوا سكانها اسرى.‏ وبقيت يهوذا مقفرة ٧٠ سنة.‏

      عندما مات سليمان،‏ تسلّم ابنه رحبعام مقاليد الحكم ونكّد عيش الشعب.‏ فأدى ذلك الى ثورة،‏ وانفصلت عشرة اسباط وشكلت مملكة اسرائيل.‏ (‏١ ملوك ١٢:‏​١-‏٤،‏ ١٦-‏٢٠‏)‏ وعلى مرِّ السنين،‏ لم تُخلِص هذه المملكة الشمالية للاله الحقيقي.‏ فغالبا ما خرَّ الشعب لصنمَين لهما شكل عجل ذهبي او ضلوا وراء اشكال اخرى من العبادة الباطلة.‏ واغتيل بعض الملوك،‏ وأطاح مغتصبو السلطة بحكم سلالاتهم الملكية.‏ وقد اعرب يهوه عن جزيل الصبر،‏ مرسلا مرة بعد اخرى الانبياء ليحذِّروا الامة من المأساة التي ستحلّ بها اذا استمرت في ارتدادها.‏ وقد كتب سفرَي هوشع و عاموس نبيَّان تركّزت رسالتاهما على هذه المملكة الشمالية.‏ وفي النهاية،‏ في سنة ٧٤٠ ق‌م،‏ حلّت المأساة على يد الاشوريين كما سبق وأخبر انبياء اللّٰه.‏

      أما في الجنوب،‏ فقد تعاقب ١٩ ملكا من بيت داود في حكم يهوذا حتى سنة ٦٠٧ ق‌م.‏ وحكم الملوك آسا ويهوشافاط وحزقيا ويوشيا كما حكم ابوهم داود،‏ ونالوا حظوة في عيني يهوه.‏ (‏١ ملوك ١٥:‏​٩-‏١١؛‏ ٢ ملوك ١٨:‏​١-‏٧؛‏ ٢٢:‏​١،‏ ٢؛‏ ٢ أخبار الايام ١٧:‏​١-‏٦‏)‏ فعندما ملكَ هؤلاء،‏ بارك يهوه الامة.‏ تذكر موسوعة إنڠليشْمان النقدية والتفسيرية للكتاب المقدس (‏بالانكليزية)‏:‏ «ان السمة التقليدية الرفيعة التي ميَّزت يهوذا كانت هيكلها المختار من اللّٰه،‏ كهنوتها،‏ ناموسها المكتوب،‏ واعترافها بالاله الحقيقي الواحد يهوه بصفته ملكها الثيوقراطي الحقيقي.‏ .‏ .‏ .‏ وهذا الالتصاق بالناموس .‏ .‏ .‏ انتج سلسلة من الملوك ضمت حكاما حكماء وصالحين كثيرين .‏ .‏ .‏ لذلك دامت يهوذا اكثر من اختها الشمالية التي سكانها اكثر عددا».‏ لكنَّ هؤلاء الملوك الصالحين فاقهم عددا الملوك الذين لم يسلكوا في طريق داود.‏ ومع ذلك وجَّه يهوه الامور ‹ليكون سراج لداود عبده كل الايام امامه في اورشليم،‏ المدينة التي اختارها لنفسه ليضع اسمه فيها›.‏ —‏ ١ ملوك ١١:‏٣٦‏.‏

      نحو الدمار

      كان منسى احد ملوك يهوذا الذين ابتعدوا عن العبادة الحقة.‏ «وعبَّر ابنه في النار وعاف وتفاءل واستخدم جانا وتوابع وأكثر عمل الشر في عيني الرب لإغاظته».‏ (‏٢ ملوك ٢١:‏٦،‏ ١٦‏)‏ وأضل الملك منسى شعبه «ليعملوا اشر من الامم الذين طردهم الرب».‏ وبعدما حذر الخالق منسى وشعبه مرارا،‏ اعلن:‏ «أمسح اورشليم كما يمسح واحد الصحن».‏ —‏ ٢ أخبار الايام ٣٣:‏​٩،‏ ١٠؛‏ ٢ ملوك ٢١:‏​١٠-‏١٣‏.‏

      وكبداية جعل يهوه الاشوريين يأسرون منسى ويسبونه مقيَّدا بسلاسل نحاس.‏ (‏٢ أخبار الايام ٣٣:‏١١‏)‏ وفيما كان منسى في سبيه عاد الى رشده «وتواضع جدا امام اله آبائه».‏ فكيف تجاوب يهوه؟‏ «سمع [اللّٰه] تضرعه ورده الى اورشليم الى مملكته.‏ فعلم منسى ان الرب هو اللّٰه».‏ وأنجز الملك منسى وحفيده الملك يوشيا الاصلاحات اللازمة.‏ ومع ذلك لم تبتعد الامة دائما عن الانحلال الادبي والديني الشامل.‏ —‏ ٢ أخبار الايام ٣٣:‏​١-‏٢٠؛‏ ٣٤:‏١–‏٣٥:‏٢٥؛‏ ٢ ملوك الاصحاح ٢٢‏.‏

      والجدير بالملاحظة ان يهوه ارسل انبياء غيورين ليعلنوا رأيه في ما يحدث.‏d وأورد ارميا كلام يهوه قائلا:‏ «من اليوم الذي خرج فيه آباؤكم من ارض مصر الى هذا اليوم ارسلت اليكم كل عبيدي الانبياء مبكرا كل يوم ومرسلا».‏ لكنَّ الشعب لم يسمعوا للّٰه.‏ وأساءوا اكثر من آبائهم!‏ (‏ارميا ٧:‏٢٥،‏ ٢٦‏)‏ فحذَّرهم مرارا «لأنه شفق على شعبه».‏ ومع ذلك رفضوا التجاوب معه.‏ لذلك سمح للبابليين سنة ٦٠٧ ق‌م بأن يدمروا اورشليم ويجعلوا الارض مقفرة؛‏ وبقيت الارض مهجورة ٧٠ سنة.‏ —‏ ٢ أخبار الايام ٣٦:‏​١٥،‏ ١٦؛‏ ارميا ٢٥:‏​٤-‏١١‏.‏

      ان هذه المراجعة المختصرة لأفعال اللّٰه ينبغي ان تساعدنا على تقدير اهتمام يهوه وتعاملاته العادلة مع امته.‏ فهو لم يقف جانبا وينتظر ليرى ماذا سيفعل الشعب،‏ كما لو انه غير مبالٍ،‏ بل حاول فعلا مساعدتهم.‏ يمكنكم اذًا ان تفهموا لماذا قال اشعياء:‏ «يا رب انت ابونا.‏ .‏ .‏ .‏ وكلنا عمل يديك».‏ (‏اشعياء ٦٤:‏٨‏)‏ وانسجاما مع ذلك يشير كثيرون اليوم الى الخالق بصفته «الآب»،‏ لأنه يستجيب كما يفعل اب بشري محبّ ومهتم.‏ لكنه يعرف ايضا انه يجب ان نتحمل مسؤولية مسلكنا الخاص ونتيجته.‏

      بعدما عانت الامة ٧٠ سنة من الاسر في بابل،‏ تمَّم يهوه اللّٰه نبوته بردّ اورشليم.‏ فتحرَّر الشعب وسُمح لهم بالعودة الى موطنهم ‹لإعادة بناء بيت الرب الذي في اورشليم›.‏ (‏عزرا ١:‏​١-‏٤؛‏ اشعياء ٤٤:‏٢٤–‏٤٥:‏٧‏)‏ ويتناول عدد من اسفار الكتاب المقدسe موضوع هذا الرد،‏ او اعادة بناء الهيكل،‏ او الاحداث التي تلت ذلك.‏ وأحد هذه الاسفار،‏ دانيال،‏ مثير للاهتمام على وجه التخصيص لأنه تنبأ متى سيَظهر بالضبط النسل،‏ او المسيَّا،‏ وأخبر مسبقا بالتطوُّرات العالمية في هذه الفترة التي نعيش فيها.‏

      وأخيرا أُعيد بناء الهيكل،‏ لكنَّ اورشليم كانت في حالة مزرية.‏ فكانت اسوارها وأبوابها خربة.‏ لذلك اقام اللّٰه رجالا كنحميا لتشجيع اليهود وتنظيمهم.‏ والصلاة التي يمكن ان نقرأها في نحميا الاصحاح ٩ تختصر ببراعة تعاملات يهوه مع الاسرائيليين.‏ وهي تُظهر ان يهوه «اله غفور وحنّان ورحيم طويل الروح وكثير الرحمة».‏ وتُظهر الصلاة ايضا ان يهوه يعمل بانسجام مع مقياس عدله الكامل.‏ وحتى عندما يكون عنده سبب وجيه ليُظهر قدرته وينفِّذ الاحكام،‏ لا يتردَّد في تلطيف العدل بالمحبة.‏ وفعله ذلك بطريقة متزنة ورائعة يتطلب الحكمة.‏ فمن الواضح ان تعاملات الخالق مع امة اسرائيل يجب ان تقرِّبنا اليه وتدفعنا الى الاهتمام بفعل مشيئته.‏

      بانتهاء هذا الجزء من الكتاب المقدس (‏العهد القديم)‏،‏ تكون يهوذا،‏ مع هيكلها في اورشليم،‏ قد رُدَّت ولكن تحت حكم وثني.‏ فكيف سيتم عهد اللّٰه مع داود عن «نسل» يحكم «الى الابد»؟‏ (‏مزمور ٨٩:‏​٣،‏ ٤؛‏ ١٣٢:‏​١١،‏ ١٢‏)‏ كان اليهود لا يزالون يتطلعون الى ظهور «المسيح الرئيس» الذي سيحرِّر شعب اللّٰه ويؤسس مملكة ثيوقراطية (‏اي حاكمها اللّٰه)‏ على الارض.‏ (‏دانيال ٩:‏​٢٤،‏ ٢٥‏)‏ ولكن هل كان هذا قصد يهوه؟‏ اذا كان الجواب لا،‏ فكيف سيجلب المسيَّا الموعود به الانقاذ؟‏ وكيف يؤثر ذلك فينا اليوم؟‏ سيتناول الفصل التالي هذه المسائل الحيوية.‏

      ‏[الحواشي]‏

      a طُبعت اسماء اسفار الكتاب المقدس بأحرف سوداء ثخينة كمساعد على تحديد محتوياتها.‏

      b هذه الاسفار هي:‏ ١ صموئيل،‏ ٢ صموئيل،‏ ١ ملوك،‏ ٢ ملوك،‏ ١ أخبار الايام،‏ و ٢ أخبار الايام.‏

      c وكتب ايضا نشيد الانشاد،‏ وهو قصيدة حب تركز على ولاء شابة لراعٍ متواضع.‏

      d يحتوي عدد من اسفار الكتاب المقدس على رسائل نبوية ملهمة كهذه.‏ وهي تشمل اشعياء،‏ ارميا،‏ مراثي ارميا،‏ حزقيال،‏ يوئيل،‏ ميخا،‏ حبقوق،‏ و صفنيا.‏ أما اسفار عوبديا،‏ يونان،‏ و ناحوم فتركز على الامم المحيطة التي كانت تعاملاتها تؤثر في شعب اللّٰه.‏

      e هذه الاسفار التاريخية والنبوية تشمل عزرا،‏ نحميا،‏ استير،‏ حجَّي،‏ زكريا،‏ و ملاخي.‏

      ‏[الاطار في الصفحتين ١٢٦ و١٢٧]‏

      العجائب —‏ هل يمكن ان تؤمنوا بها؟‏

      «يستحيل ان نستعمل المصباح الكهربائي والاجهزة اللاسلكية ونستفيد من الاكتشافات العصرية في حقل الطب والجراحة،‏ ونؤمن في الوقت نفسه بعالَم الارواح والعجائب في العهد الجديد».‏ هذه الكلمات التي تفوَّه بها اللاهوتي الالماني رودولف بولتْمان تعكس رأي اناس كثيرين اليوم في العجائب.‏ فهل هذا هو رأيكم في العجائب المسجلة في الكتاب المقدس،‏ كعجيبة شقّ اللّٰه البحر الاحمر؟‏

      يعرِّف قاموس أوكسفورد الوجيز (‏بالانكليزية)‏ الكلمة الانكليزية التي تقابل «عجيبة» بأنها «حادثة خارقة تُنسب الى قوة فوق الطبيعة».‏ وهذه الحادثة الخارقة تشمل تعطيلا للنظام الطبيعي،‏ الامر الذي يجعل كثيرين يميلون الى عدم الايمان بالعجائب.‏ لكنَّ ما يبدو انه خرق لقانون من قوانين الطبيعة يمكن ان يفسَّر بسهولة على ضوء قوانين اخرى للطبيعة.‏

      لإيضاح ذلك،‏ اخبرت العالِم الجديد (‏بالانكليزية)‏ ان فيزيائيَّين في جامعة طوكيو وضعا بشكل افقي انبوبا يحتوي على بعض الماء ضمن حقل مغنطيسي قوي للغاية.‏ فاندفع الماء نحو طرفَي الانبوب،‏ تاركا الجزء الاوسط جافا.‏ هذه الظاهرة،‏ المكتشَفة سنة ١٩٩٤،‏ تنجح لأن الماء مغاير للمغنطيسية diamagnetic (‏اي ان هنالك تنافرا بين المغنطيس والماء)‏ بشكل ضعيف.‏ والظاهرة المبرهَنة،‏ التي يتحرك فيها الماء من حيث يكون الحقل المغنطيسي عاليا جدا الى حيث يكون ادنى،‏ دعيت «تأثير موسى».‏ ذكرت العالِم الجديد:‏ «إزاحة الماء امر سهل —‏ اذا كان عندكم مغنطيس كبير الى الحد الكافي.‏ وإذا كان عندكم واحد كهذا،‏ فكل شيء تقريبا ممكن».‏

      طبعا،‏ لا يمكن لأحد ان يجزم اية عملية استخدمها اللّٰه عندما شقّ البحر الاحمر امام الاسرائيليين.‏ لكنَّ الخالق يعرف كل قوانين الطبيعة بأدق تفاصيلها.‏ وباستطاعته ان يتحكم بسهولة في بعض جوانب قانون ما باستخدام قانون آخر من القوانين التي وضعها هو.‏ وقد تبدو النتيجة في نظر البشر عجائبية،‏ وخصوصا اذا كانوا لا يفهمون كاملا القوانين المشمولة بالامر.‏

      وعن العجائب في الكتاب المقدس يقول أكيرا يامادا،‏ وهو پروفسور متقاعد من جامعة كيوتو في اليابان:‏ «مع انه يصحّ القول ان [العجيبة] لا يمكن ان تُفهم في الوقت الحاضر من منظار العلم الذي يتناولها (‏او من الوضع الراهن للعلم)‏،‏ فمن الخطإ الاستنتاج انها لم تحدث لمجرد الاعتماد على الفيزياء الحديثة المتقدمة او علم الأحياء الحديث المتقدم.‏ فبعد عشر سنوات،‏ سيصير العلم الحديث شيئا من الماضي.‏ وكلما زادت سرعة تقدُّم العلم كبُر احتمال صيرورة علماء اليوم عرضة للتنكيت،‏ كالقول مثلا:‏ ‹قبل عشر سنوات،‏ كان العلماء يعتقدون جدّيا كذا وكذا› ».‏ —‏ الآلهة في عصر العلم (‏باليابانية)‏.‏

      ويهوه،‏ بصفته الخالق القادر على التنسيق بين كل قوانين الطبيعة،‏ يمكنه ان يستخدم قوته ليصنع العجائب.‏

      ‏[الاطار في الصفحتين ١٣٢ و ١٣٣]‏

      اله غيور —‏ بأيّ معنى؟‏

      «الرب اسمه غيور.‏ اله غيور هو».‏ يمكن ان نقرأ هذا التعليق في الخروج ٣٤:‏١٤‏،‏ ولكن ايّ مغزى يحمله؟‏

      ان الكلمة العبرانية المنقولة الى «غيور» يمكن ان تعني «يتطلب التعبُّد المطلق،‏ لا يرضى بأية منافسة».‏ ويغار يهوه على اسمه وعبادته غيرة ايجابية تفيد مخلوقاته.‏ (‏حزقيال ٣٩:‏٢٥‏)‏ فغيرته لإتمام ما يمثّله اسمه تعني انه سيحقِّق قصده نحو الجنس البشري.‏

      تأملوا مثلا في حكمه على الشعب الساكن في ارض كنعان.‏ يذكر احد العلماء هذا الوصف الذي يصدم:‏ «كانت عبادة بعل،‏ عَشْتورة،‏ والآلهة الكنعانية الاخرى عبارة عن طقوس من العربدة المفرطة الى ابعد حد؛‏ وكانت هياكلهم مراكز للرذيلة.‏ .‏ .‏ .‏ وقد مارس الكنعانيون عبادتهم بالانغماس في الفساد الادبي،‏ .‏ .‏ .‏ ثم بتقديم ابكارهم ذبيحة لهذه الآلهة نفسها».‏ وقد اكتشف علماء الآثار جِرارًا تحتوي على بقايا اولاد قُدِّموا ذبائح.‏ ومع ان اللّٰه لاحظ اثم الكنعانيين في ايام ابراهيم،‏ فقد تصبَّر عليهم طوال ٤٠٠ سنة،‏ مانحا اياهم متسعا من الوقت ليتغيَّروا.‏ —‏ تكوين ١٥:‏١٦‏.‏

      هل كان الكنعانيون يعون فداحة اثمهم؟‏ لقد كانت عندهم مَلَكة الضمير البشرية،‏ التي يعتبرها الفقهاء اساسا عالميا للاخلاق والعدل.‏ (‏رومية ٢:‏​١٢-‏١٥‏)‏ ومع ذلك استمر الكنعانيون في تقديم اولادهم ذبائح مقيتة وفي ارتكاب ممارسات جنسية منحطة.‏

      فقرَّر يهوه،‏ بعدله المتزن،‏ ان يطهّر الارض.‏ ولم تكن هذه ابادة جماعية.‏ فهنالك كنعانيون بقوا احياء،‏ سواء كانوا افرادا كراحاب او جماعات كالجبعونيين،‏ اذ قبلوا طوعا مقاييس اللّٰه الادبية السامية.‏ (‏يشوع ٦:‏٢٥؛‏ ٩:‏​٣-‏١٥‏)‏ وصارت راحاب حلقة وصل في سلسلة النسب الملكية التي انتهت الى المسيَّا،‏ وكان للمتحدِّرين من الجبعونيين امتياز الخدمة في هيكل يهوه.‏ —‏ يشوع ٩:‏٢٧؛‏ عزرا ٨:‏٢٠؛‏ متى ١:‏​١،‏ ٥-‏١٦‏.‏

      وهكذا عندما يتوخى المرء الدقة وينظر الى الموضوع من كل جوانبه على اساس المنطق،‏ يسهل عليه ان يرى في يهوه الها عادلا وجديرا بالإعجاب،‏ الها غيورا بطريقة حسنة تفيد مخلوقاته الامينة.‏

  • معلّم عظيم يوضِح لنا المزيد عن الخالق
    هل يوجد خالق يهتم بامركم؟‏
    • الفصل التاسع

      معلّم عظيم يوضِح لنا المزيد عن الخالق

      كان الشعب في فلسطين في القرن الاول «ينتظر».‏ ينتظر مَن؟‏ «المسيح» او «المسيَّا» الذي تنبأ عنه انبياء اللّٰه قبل قرون.‏ وكان الشعب على ثقة بأن الكتاب المقدس كُتب بتوجيه من اللّٰه ويحتوي على لمحات الى امور مستقبلية.‏ وقد اشارت احداها،‏ في سفر دانيال،‏ الى مجيء المسيح في وقت باكر من القرن الذي يعيشون فيه.‏ —‏ لوقا ٣:‏١٥؛‏ دانيال ٩:‏​٢٤-‏٢٦‏.‏

      ولكن كان يلزم ان يحذروا من قيام اشخاص يجعلون انفسهم المسيَّا.‏ (‏متى ٢٤:‏٥‏)‏ ويذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس بعضا منهم:‏ ثوداس،‏ الذي قاد أتباعه الى نهر الاردن وادّعى ان مياهه ستنفلق؛‏ رجل من مصر قاد اناسا الى جبل الزيتون،‏ مؤكدا ان سور اورشليم سينهار بأمر منه؛‏ ودجّال في زمن الوالي فستوس وعد بالراحة من المشاكل.‏ —‏ قارنوا اعمال ٥:‏٣٦؛‏ ٢١:‏٣٨‏.‏

      وبالتباين مع هؤلاء الأتباع المخدوعين،‏ فإن مجموعة صارت تُعرف باسم «مسيحيين» رأت في يسوع الناصري معلّما عظيما واعتبرته المسيَّا الحقيقي.‏ (‏اعمال ١١:‏٢٦؛‏ مرقس ١٠:‏٤٧‏)‏ ولم يكن يسوع مسيّا دجّالا؛‏ فقد كانت اوراق اعتماده صحيحة،‏ كما تُسهِب في تأكيده الاسفار التاريخية الاربعة المدعوّة «الاناجيل».‏a مثلا،‏ كان اليهود يعرفون ان المسيَّا سيولَد في بيت لحم،‏ وأنه سيكون من سلالة داود،‏ وأنه سيصنع عجائب.‏ ويسوع تمَّمها كلها،‏ كما يشهد على ذلك حتى المقاومون.‏ نعم،‏ وفى يسوع بمؤهلات مسيَّا الكتاب المقدس.‏ —‏ متى ٢:‏​٣-‏٦؛‏ ٢٢:‏​٤١-‏٤٥؛‏ يوحنا ٧:‏​٣١،‏ ٤٢‏.‏

      ان الجموع التي التقت يسوع ورأت اعماله الخارقة،‏ وسمعت كلمات الحكمة الفريدة التي نطق بها،‏ وأدركت بُعد نظره،‏ اقتنعت بأنه هو المسيَّا.‏ وخلال خدمته (‏٢٩-‏٣٣ ب‌م)‏،‏ اخذت تتزايد البراهين التي تدعم كونه المسيَّا.‏ وفي الواقع،‏ تبيَّن انه اكثر من المسيَّا.‏ فقد استنتج تلميذ مطلّع على الوقائع ان «يسوع هو المسيح ابن اللّٰه».‏b —‏ يوحنا ٢٠:‏٣١‏.‏

      ونظرا الى هذه العلاقة الحميمة بين اللّٰه ويسوع،‏ كان بإمكانه ان يوضح ويكشف صفات خالقنا.‏ (‏لوقا ١٠:‏٢٢؛‏ يوحنا ١:‏١٨‏)‏ وشهد يسوع ان علاقته الحميمة بأبيه بدأت في السماء،‏ حيث كان يعمل عند اللّٰه في جلب كل الاشياء الاخرى،‏ الحية والجامدة،‏ الى الوجود.‏ —‏ يوحنا ٣:‏١٣؛‏ ٦:‏٣٨؛‏ ٨:‏​٢٣،‏ ٤٢؛‏ ١٣:‏٣؛‏ كولوسي ١:‏​١٥،‏ ١٦‏.‏

      ويخبر الكتاب المقدس ان الابن نُقل من الحيِّز الروحي وصار ‏«في شبه الناس».‏ (‏فيلبي ٢:‏​٥-‏٨‏)‏ هذا الامر ليس عاديا،‏ ولكن هل هو ممكن؟‏ يؤكد العلماء ان عنصرا طبيعيا،‏ كاليورانيوم،‏ يمكن ان يتحوَّل الى آخر؛‏ حتى انهم يحسبون النتائج حين تتحوَّل الكتلة الى طاقة (‏طا=ك‌سر٢ )‏‏.‏ فلماذا نشك حين يقول الكتاب المقدس ان مخلوقا روحانيا تحوَّل لكي يعيش كبشر؟‏!‏

      لإيضاح الامر بطريقة اخرى،‏ فكّروا في ما يفعله بعض الاطباء عند الإخصاب في الانبوب.‏ فالحياة التي تبدأ في «انبوبة اختبار» تُنقل الى رحم امرأة،‏ وبعد ذلك يولد الطفل.‏ وفي حالة يسوع،‏ يؤكد لنا الكتاب المقدس ان حياته نُقلت بواسطة «قوة العلي» الى رحم عذراء تدعى مريم كانت من سلالة داود.‏ وهذا ما مكّن يسوع من ان يكون الوارث الدائم للملكوت المسيَّاني الذي وُعد به داود.‏ —‏ لوقا ١:‏​٢٦-‏٣٨؛‏ ٣:‏​٢٣-‏٣٨؛‏ متى ١:‏٢٣‏.‏

      وعلى اساس علاقته الحميمة بالخالق وشبهه له،‏ قال يسوع:‏ «الذي رآني فقد رأى الآب».‏ (‏يوحنا ١٤:‏٩‏)‏ وقال ايضا:‏ «ليس احد يعرف .‏ .‏ .‏ مَن هو الآب إلا الابن ومَن اراد الابن ان يعلِن له».‏ (‏لوقا ١٠:‏٢٢‏)‏ لذلك كلما تعلّمنا عما علّمه يسوع وفعله على الارض،‏ تجلّت لنا شخصية الخالق بأكثر وضوح.‏ فلنتأمل في هذه المسألة،‏ متناولين تجارب رجال ونساء تعاملوا مع يسوع.‏

      امرأة سامرية

      ‏«ألعل هذا هو المسيح».‏ هذا ما سألته امرأة سامرية بعد تحدُّثها الى يسوع لبعض الوقت.‏ (‏يوحنا ٤:‏٢٩‏)‏ حتى انها حثّت الآخرين من مدينة سوخار المجاورة على مقابلة يسوع.‏ فماذا دفعها الى الاعتراف بيسوع بصفته المسيَّا؟‏

      التقت هذه المرأة يسوع فيما كان يستريح من السير طوال الصباح في الطرقات المغبَّرة في تلال السامرة.‏ ومع ان يسوع كان تعبا،‏ تحدَّث اليها.‏ ولما لاحظ اهتمامها الروحي الشديد،‏ اخبرها بالحقائق العميقة التي ترتكز على ضرورة ‹السجود للآب بالروح والحق›.‏ وفي النهاية كشف انه هو المسيح،‏ وهذا امر لم يكن قد صرَّح به علنا من قبل.‏ —‏ يوحنا ٤:‏​٣-‏٢٦‏.‏

      حمل اللقاء بين المرأة السامرية ويسوع معاني عميقة لها.‏ فقد كانت نشاطاتها الدينية السابقة تركّز على العبادة في جبل جِرِزِّيم وتعتمد فقط على الاسفار الخمسة الاولى من الكتاب المقدس.‏ وكان اليهود يتجنَّبون السامريين الذين كان كثيرون منهم متحدِّرين من مصاهرة اسباط اسرائيل العشرة شعوبا اخرى.‏ ولكن كم كان يسوع مختلفا!‏ فقد كان راغبا في تعليم هذه السامرية،‏ مع ان تفويضه كان الذهاب الى «خراف بيت اسرائيل الضالة».‏ (‏متى ١٥:‏٢٤‏)‏ هنا عكس يسوع رغبة يهوه في قبول الاشخاص المخلصين من جميع الامم.‏ (‏١ ملوك ٨:‏​٤١-‏٤٣‏)‏ نعم،‏ يترفّع يهوه ويسوع كلاهما عن العداوة الدينية التعصُّبية التي تتفشى بالعالم اليوم.‏ ومعرفتنا ذلك ينبغي ان تقرِّبنا الى الخالق وإلى ابنه.‏

      وهنالك عبرة اخرى نستمدها من رغبة يسوع في تعليم هذه المرأة.‏ فقد كانت تعيش مع رجل ليس زوجها.‏ (‏يوحنا ٤:‏​١٦-‏١٩‏)‏ لكنَّ يسوع لم يدع ذلك يمنعه من التحدُّث اليها.‏ يمكنكم ان تتخيَّلوا كم قدَّرت دون شك معاملته لها بكرامة.‏ ولم تكن تجربتها فريدة.‏ فعندما انتقد بعض القادة اليهود (‏الفريسيون)‏ على يسوع تناوله العشاء مع خطاة تائبين،‏ قال:‏ «لا يحتاج الاصحّاء الى طبيب بل المرضى.‏ فاذهبوا وتعلّموا ما هو.‏ اني اريد رحمة لا ذبيحة.‏ لأني لم آتِ لأدعو ابرارا بل خطاة الى التوبة».‏ (‏متى ٩:‏​١٠-‏١٣‏)‏ لقد مدَّ يسوع يد المساعدة الى اشخاص يرزحون تحت ثقل خطاياهم —‏ انتهاكاتهم لشرائع اللّٰه او مقاييسه.‏ فكم يبتهج قلبنا حين نعرف ان اللّٰه وابنه يساعدان الذين يعانون المشاكل الناجمة عن مسلكهم الماضي!‏ —‏ متى ١١:‏​٢٨-‏٣٠‏.‏c

      ولا ننسَ ان يسوع،‏ في هذه المناسبة في السامرة،‏ كان يتحدَّث بلطف وتفهُّم الى امرأة.‏ وما العجيب في ذلك؟‏ في ذلك الوقت كان الرجال اليهود يُعلَّمون ضرورة تجنُّب التحدُّث الى النساء في الشارع،‏ حتى الى زوجاتهم.‏ ولم يكن الربَّانيون اليهود يعتبرون النساء قادرات على استيعاب الارشاد الروحي العميق،‏ بل قالوا عنهن انهن «خفيفات العقل».‏ قال البعض:‏ «ان حرق كلمات الشريعة خير من تلاوتها على النساء».‏ وقد ترعرع تلاميذ يسوع في جوّ كهذا؛‏ لذلك عندما عادوا،‏ بدأوا «يتعجبون انه يتكلم مع امرأة».‏ (‏يوحنا ٤:‏٢٧‏)‏ لكنَّ هذه الرواية —‏ هي والكثير غيرها —‏ تُظهر ان يسوع كان في صورة ابيه الذي خلق الذكر والانثى وأولاهما كليهما الحق في الكرامة.‏ —‏ تكوين ٢:‏١٨‏.‏

      وبعد ذلك اقنعت المرأة السامرية سكان مدينتها بالاستماع الى يسوع.‏ وفحص كثيرون الوقائع وآمنوا قائلين:‏ «نعلم ان هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم».‏ (‏يوحنا ٤:‏​٣٩-‏٤٢‏)‏ وبما اننا جزء من «عالم» الجنس البشري هذا،‏ يلعب يسوع دورا حيويا بالنسبة الى مستقبلنا نحن ايضا.‏

      وجهة نظر صياد سمك

      لنلقِ الآن نظرة على يسوع من خلال عيون اثنين من عشرائه الاحماء:‏ اولا بطرس ثم يوحنا.‏ كان هذان الصيادان العاديان بين أتباعه الاولين.‏ (‏متى ٤:‏​١٣-‏٢٢؛‏ يوحنا ١:‏​٣٥-‏٤٢‏)‏ واعتبرهما الفريسيون ‹انسانَين عديمَي العلم وعاميَّين›،‏ من شعب الارض (‏عَم ها أَرِص‏)‏ الذين كان يُنظر اليهم نظرة احتقار لأنهم لم يتعلموا كالربَّانيين.‏ (‏اعمال ٤:‏١٣؛‏ يوحنا ٧:‏٤٩‏)‏ وكثيرون من هذا الشعب،‏ الذين كانوا ‹متعَبين وثقيلي الاحمال› من نير المتمسكين بالتقاليد الدينية،‏ كانوا يتوقون الى الاستنارة الروحية.‏ وعلّق الپروفسور شارل ڠينْيوبير من السُّوربون على ذلك بالقول ان «قلوبهم كانت كلها ليهوِه [يهوَه]».‏ ولم يدر يسوع ظهره لهؤلاء المتواضعين لكسب ودّ اصحاب المال والنفوذ،‏ بل كشف لهم عن الآب من خلال تعاليمه وتعاملاته.‏ —‏ متى ١١:‏​٢٥-‏٢٨‏.‏

      ولمس بطرس تعاطف يسوع بطريقة مباشرة.‏ فبُعيد انضمامه الى يسوع في الخدمة،‏ أُصيبت حماة بطرس بحمى.‏ وعندما اتى يسوع الى بيت بطرس وأمسك بيدها،‏ تركتها الحمى!‏ لا نعلم بالتحديد العملية التي انتجت هذا الشفاء،‏ كما ان الاطباء اليوم لا يستطيعون ان يشرحوا كاملا كيف تحدث عملية الشفاء من بعض الامراض،‏ لكنَّ الحمى تركت هذه المرأة.‏ والاهم من معرفة الطريقة التي استخدمها يسوع في الشفاء هو الادراك ان شفاء يسوع للمرضى دليل على انه يتحنن عليهم.‏ فهو يرغب من صميم قلبه في مساعدة الناس،‏ وهذا ما يرغب فيه ابوه ايضا.‏ ‏(‏مرقس ١:‏​٢٩-‏٣١،‏ ٤٠-‏٤٣؛‏ ٦:‏٣٤‏)‏ وكان بإمكان بطرس ان يرى،‏ من خلال تجربته مع يسوع،‏ ان الخالق ينظر الى كل واحد كشخص جدير بالعناية والاهتمام.‏ —‏ ١ بطرس ٥:‏٧‏.‏

      وفي وقت لاحق،‏ كان يسوع في دار النساء في هيكل اورشليم.‏ ولاحظ الناس يلقون تبرُّعاتهم في صناديق الخزانة.‏ وكان الاغنياء يلقون فلوسا كثيرة.‏ لكنَّ يسوع ركّز انتباهه على ارملة فقيرة ألقت فلسين قيمتهما ضئيلة جدا.‏ فقال يسوع لبطرس ويوحنا والآخرين:‏ «الحق اقول لكم ان هذه الارملة الفقيرة قد ألقت اكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة.‏ لأن الجميع من فضلتهم ألقوا.‏ وأما هذه فمن اعوازها ألقت كل ما عندها».‏ —‏ مرقس ١٢:‏​٤١-‏٤٤‏.‏

      ترون من ذلك ان يسوع كان يبحث عن الصفات الجيدة في الناس،‏ وكان يقدِّر جهود كل شخص.‏ وماذا كان تأثير ذلك في بطرس والرسل الآخرين في رأيكم؟‏ تعرَّف بطرس بصفات يهوه من مثال يسوع،‏ لذلك اقتبس لاحقا من احد المزامير هذه الكلمات:‏ «لأن عيني الرب على الابرار وأذنيه الى طلبتهم».‏ (‏١ بطرس ٣:‏١٢؛‏ مزمور ٣٤:‏​١٥،‏ ١٦‏)‏ أفلا تنجذبون الى خالق وابنه يريدان ان يجدا الصفات الجيدة فيكم ويصغيا الى تضرعاتكم؟‏

      بعد نحو سنتين من معاشرة يسوع،‏ كان بطرس متأكدا ان يسوع هو المسيَّا.‏ ففي احدى المرات سأل يسوع تلاميذه:‏ «مَن يقول الناس اني انا»،‏ وتلقى اجوبة مختلفة.‏ ثم سألهم:‏ «وأنتم مَن تقولون اني انا».‏ فأجاب بطرس بثقة:‏ «انت المسيح».‏ وقد تستغربون ما فعله يسوع بعد ذلك.‏ فقد «انتهرهم كي لا يقولوا لأحد» عن ذلك.‏ (‏مرقس ٨:‏​٢٧-‏٣٠؛‏ ٩:‏٣٠؛‏ متى ١٢:‏١٦‏)‏ فلماذا قال هذا؟‏ كان يسوع حاضرا في وسطهم،‏ لذلك لم يرد ان يتوصل الناس الى استنتاجات عنه على اساس ما يسمعونه من اقاويل.‏ وهذا منطقي،‏ أليس كذلك؟‏ (‏يوحنا ١٠:‏​٢٤-‏٢٦‏)‏ الفكرة هنا هي ان خالقنا ايضا يريد منا ان نعرف عنه من خلال تحرِّينا عن ادلة متينة.‏ فهو يتوقع ان تكون اقتناعاتنا مؤسسة على وقائع.‏ —‏ اعمال ١٧:‏٢٧‏.‏

      وكما تخيَّلتم على الارجح،‏ لم يعترف بيسوع بعض ابناء بلده،‏ رغم وجود ادلة وافرة على دعم الخالق له.‏ ولم يكن هذا المسيَّا الصادق والمتواضع يروق كثيرين ممَّن كان مركزهم الاجتماعي او اهدافهم السياسية شغلهم الشاغل.‏ وعندما كانت خدمة يسوع تشرف على نهايتها،‏ قال:‏ «يا اورشليم يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسَلين اليها كم مرة اردتُ ان اجمع اولادك .‏ .‏ .‏ ولم تريدوا.‏ هوذا بيتكم يُترك لكم خرابا».‏ (‏متى ٢٣:‏٣٧،‏ ٣٨‏)‏ وشكّل هذا التغيير في وضع تلك الامة خطوة كبيرة في تحقيق قصد اللّٰه لمباركة جميع الامم.‏

      وبُعيد ذلك سمع بطرس وثلاثة رسل آخرون يسوعَ يتفوَّه بنبوة مفصلة عن «انقضاء الدهر».‏d وكان لِما انبأ يسوع به اتمام اولي خلال الهجوم الروماني على اورشليم وتدميرها في السنوات ٦٦-‏٧٠ ب‌م.‏ ويؤكد التاريخ ان ما تنبأ به يسوع حدث فعلا.‏ وشهد بطرس امورا كثيرة انبأ بها يسوع،‏ وينعكس ذلك في ١ و ٢ بطرس،‏ وهما سفران كتبهما بطرس.‏ —‏ ١ بطرس ١:‏١٣؛‏ ٤:‏٧؛‏ ٥:‏​٧،‏ ٨؛‏ ٢ بطرس ٣:‏​١-‏٣،‏ ١١،‏ ١٢‏.‏

      كان يسوع،‏ خلال خدمته،‏ يُعرب بصبر عن اللطف نحو اليهود حوله.‏ لكنه لم يتردَّد في ادانة الشر.‏ وقد ساعد ذلك بطرس،‏ كما ينبغي ان يساعدنا نحن ايضا،‏ على معرفة خالقنا بشكل اكمل.‏ فعندما رأى بطرس امورا اخرى تتمِّم نبوة يسوع،‏ كتب انه ينبغي للمسيحيين ان يطلبوا «سرعة مجيء يوم الرب».‏ وقال بطرس ايضا:‏ «لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء ان يهلك اناس بل ان يُقبل الجميع الى التوبة».‏ ثم ذكر بطرس كلمات تشجيع عن ‹سموات جديدة وأرض جديدة يسكن فيها البر›.‏ (‏٢ بطرس ٣:‏​٣-‏١٣‏)‏ فهل نقدِّر،‏ كما قدَّر بطرس،‏ صفات اللّٰه المنعكسة في يسوع،‏ وهل نثق بمواعيده بشأن المستقبل؟‏

      لماذا مات يسوع؟‏

      في الليلة الاخيرة مع الرسل،‏ اشترك يسوع في وجبة خصوصية معهم.‏ وفي وجبات كهذه،‏ كان المضيف اليهودي يُظهر ضيافته بغسل ارجل الضيوف الذين ربما ساروا في طرقات مغبَّرة لابسين صنادل.‏ لكنَّ احدا لم يعرض على يسوع فعل ذلك.‏ فقام بتواضع وأخذ منشفة ومغسلا،‏ وابتدأ يغسل ارجل الرسل.‏ وعندما حان دور بطرس،‏ خجل من قبول هذه الخدمة من يسوع.‏ قال بطرس:‏ «لن تغسل رِجليَّ ابدا».‏ فأجاب يسوع:‏ «إن كنت لا اغسلك فليس لك معي نصيب».‏ وكان يسوع يعرف انه سيموت قريبا،‏ لذلك اضاف:‏ «إن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت ارجلكم فأنتم يجب عليكم ان يغسل بعضكم ارجل بعض.‏ لأني اعطيتكم مثالا حتى كما صنعت انا بكم تصنعون انتم ايضا».‏ —‏ يوحنا ١٣:‏​٥-‏١٧‏.‏

      وبعد عقود حثَّ بطرس المسيحيين على التمثُّل بيسوع،‏ ليس بالقيام برتبة غسل ارجل طقسية،‏ بل بخدمة الآخرين بتواضع دون ان ‹يسودوا› عليهم.‏ وأدرك بطرس ايضا ان مثال يسوع يثبت ان «اللّٰه يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة».‏ فما اروع هذا الدرس عن الخالق!‏ (‏١ بطرس ٥:‏​١-‏٥؛‏ مزمور ١٨:‏٣٥‏،‏ ع‌ج‏)‏ لكنَّ بطرس تعلّم المزيد.‏

      فبعد تلك الوجبة الاخيرة،‏ قاد يهوذا الاسخريوطي،‏ وهو واحد من الرسل لكنه صار سارقا،‏ فرقة مسلّحة لاعتقال يسوع.‏ وفيما كانوا يقبضون عليه،‏ تدخَّل بطرس.‏ فقد استلّ سيفه وجرح شخصا منهم.‏ فقوَّم يسوع بطرس وقال:‏ «ردَّ سيفك الى مكانه.‏ لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون».‏ ثم لمس يسوع الرجل،‏ فيما كان بطرس ينظر،‏ وشفاه.‏ (‏متى ٢٦:‏​٤٧-‏٥٢؛‏ لوقا ٢٢:‏​٤٩-‏٥١‏)‏ فمن الواضح ان يسوع كان يعيش وفق ما علّمه حين ذكر:‏ «احبوا اعداءكم»،‏ وذلك تمثّلا بأبيه الذي «يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين».‏ —‏ متى ٥:‏٤٤،‏ ٤٥‏.‏

      وخلال تلك الليلة العصيبة،‏ استمعت المحكمة اليهودية العليا على عجلة الى قضية يسوع.‏ واتُّهم زورا بالتجديف،‏ وأُخذ الى الوالي الروماني،‏ ثم سُلِّم ظلما ليُعدَم.‏ واستهزأ به اليهود والرومان.‏ وعومل معاملة وحشية وفي النهاية عُلِّق.‏ ان الكثير من المعاملة السيئة تمَّم نبوات كُتبت قبل قرون.‏ وحتى الجند الذين كانوا يراقبون يسوع على خشبة الآلام اعترفوا قائلين:‏ «حقا كان هذا ابن اللّٰه».‏ —‏ متى ٢٦:‏٥٧–‏٢٧:‏٥٤؛‏ يوحنا ١٨:‏١٢–‏١٩:‏٣٧‏.‏

      لا بد ان هذه التطوُّرات دفعت بطرس وغيره الى السؤال:‏ ‹لماذا كان يلزم ان يموت المسيح؟‏›.‏ لكنهم لم يفهموا إلا لاحقا.‏ فهذه الحوادث تمَّمت النبوة في اشعياء الاصحاح ٥٣ التي اظهرت ان المسيح لن يزوِّد فرصة التحرُّر لليهود فحسب بل لكل الجنس البشري ايضا.‏ كتب بطرس:‏ «حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر.‏ الذي بجَلدته شُفيتم».‏ (‏١ بطرس ٢:‏​٢١-‏٢٥‏)‏ لقد لمس بطرس حقيقة ما ذكره يسوع سابقا:‏ «ابن الانسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين».‏ (‏متى ٢٠:‏٢٨‏)‏ نعم،‏ كان على يسوع ان يضحّي بحقه في الحياة كإنسان كامل لكي يشتري من جديد الجنس البشري من الحالة الخاطئة الموروثة عن آدم.‏ وهذا احد تعاليم الكتاب المقدس الرئيسية:‏ الفدية.‏

      وعلامَ تشتمل الفدية؟‏ فكروا في الامر بهذه الطريقة:‏ لنفترض انكم تملكون جهاز كمپيوتر،‏ لكنَّ احد ملفاته files الالكترونية أُفسد بسبب خطإ (‏او ڤيروس)‏ كان شخص قد زرعه في برنامج سليم.‏ يفسِّر ذلك تأثير ما فعله آدم حين تمرَّد على اللّٰه بمحض ارادته،‏ او اخطأ.‏ لنتابع المثل.‏ مهما يكن عدد النسخ التي تصنعونها عن هذا الملف الالكتروني الفاسد،‏ فكلها ستحتوي على الخطإ.‏ لكنَّ هذا لا يعني انه يلزم محو كل شيء.‏ فبواسطة برنامج خاص،‏ بإمكانكم اكتشاف وإزالة الخطإ المعطِّل من ملفاتكم وجهازكم.‏ وبشكل مماثل،‏ اخذ الجنس البشري «ڤيروسًا»،‏ هو الخطية،‏ من آدم وحواء،‏ ونحتاج الى مساعدة خارجية لإزالته.‏ (‏رومية ٥:‏١٢‏)‏ ووفقا للكتاب المقدس،‏ زوَّد اللّٰه هذا التطهير بواسطة موت يسوع.‏ انه لَتدبير حبي يمكننا ان نستفيد منه.‏ —‏ ١ كورنثوس ١٥:‏٢٢‏.‏

      والتقدير لما فعله يسوع دفع بطرس الى عدم عيش «الزمان الباقي في الجسد لشهوات الناس بل لإرادة اللّٰه».‏ وكان ذلك يعني،‏ بالنسبة الى بطرس وإلينا ايضا،‏ تجنُّب العادات الفاسدة وأنماط الحياة اللاأخلاقية.‏ وقد يحاول الآخرون تسبيب المشاكل للشخص الذي يجاهد لفعل «ارادة اللّٰه».‏ لكنه سيجد ان حياته تصير اغنى وذات معنى اكبر.‏ (‏١ بطرس ٤:‏​١-‏٣،‏ ٧-‏١٠،‏ ١٥،‏ ١٦‏)‏ هذا ما حصل لبطرس،‏ ويمكن ان يحصل لنا نحن حين ‹نستودع انفسنا،‏ او حياتنا،‏ لخالق امين في عمل الخير›.‏ —‏ ١ بطرس ٤:‏١٩‏.‏

      تلميذ قدَّر المحبة

      كان الرسول يوحنا تلميذا آخر عاشر يسوع معاشرة لصيقة،‏ لذلك يمكنه ان يساعدنا على معرفة الخالق بشكل اكمل.‏ كتب يوحنا انجيلا وثلاث رسائل ‏(‏١،‏ ٢،‏ و ٣ يوحنا)‏.‏ وفي احدى رسائله،‏ اوضح لنا هذا الامر:‏ «نعلم ان ابن اللّٰه قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف [الخالق] الحق.‏ ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح.‏ هذا هو الاله الحق والحياة الابدية».‏ —‏ ١ يوحنا ٥:‏٢٠‏.‏

      ان معرفة يوحنا ‹للخالق الحق› شملت استخدام «بصيرة».‏ فماذا تبيَّن ليوحنا عن صفات الخالق؟‏ كتب:‏ «اللّٰه محبة ومَن يثبت في المحبة يثبت في اللّٰه».‏ وماذا جعل يوحنا يذكر ذلك وله ملء الثقة؟‏ «في هذا هي المحبة ليس اننا نحن احببنا اللّٰه بل انه هو احبنا وأرسل ابنه» ليقدِّم لأجلنا ذبيحة فدائية.‏ (‏١ يوحنا ٤:‏​١٠،‏ ١٦‏)‏ فكما تأثر بطرس،‏ تأثر يوحنا ايضا بمحبة اللّٰه المعرَب عنها بإرسال ابنه ليموت لأجلنا.‏

      وبما ان يوحنا كان مقرَّبا جدا الى يسوع،‏ كان بإمكانه ان يعرف مشاعره.‏ وثمة حادثة في بيت عنيا،‏ قرب اورشليم،‏ تركت انطباعا عميقا في يوحنا.‏ كان يسوع قد تلقى خبرا مفاده ان صديقه لعازر مريض جدا.‏ فقصد يسوع بيت عنيا.‏ وعندما وصل هو والرسل الى هناك،‏ كان لعازر قد مات قبل اربعة ايام على الاقل.‏ كان يوحنا يعرف ان الخالق،‏ ينبوع الحياة البشرية،‏ يدعم يسوع.‏ فهل كان بإمكان يسوع ان يقيم لعازر؟‏ (‏لوقا ٧:‏​١١-‏١٧؛‏ ٨:‏​٤١،‏ ٤٢،‏ ٤٩-‏٥٦‏)‏ قال يسوع لمرثا اخت لعازر:‏ «سيقوم اخوك».‏ —‏ يوحنا ١١:‏​١-‏٢٣‏.‏

      ثم رأى يوحنا مريم،‏ اخت لعازر الاخرى،‏ تأتي للقاء يسوع.‏ فماذا كان رد فعل يسوع؟‏ «انزعج بالروح واضطرب».‏ لكي يصف يوحنا رد فعل يسوع،‏ استخدم كلمة يونانية (‏تُرجمت الى «انزعج» بالعربية)‏ تحمل معنى التعبير عن الانفعالات العميقة الناجمة عن تعصُّر القلب حزنا.‏ وكان بإمكان يوحنا ان يرى يسوع ‹يضطرب›،‏ او تجيش نفسه من الحزن الشديد.‏ لم يكن يسوع باردا او غير مبالٍ.‏ فقد «بكى».‏ (‏يوحنا ١١:‏​٣٠-‏٣٧‏)‏ فمن الواضح ان يسوع كان يكنّ مشاعر عميقة ورقيقة،‏ وهذا ما ساعد يوحنا على ادراك مشاعر الخالق،‏ وينبغي ان يساعدنا نحن ايضا.‏

      وعرف يوحنا ان مشاعر يسوع ترتبط بأعمال ايجابية،‏ لأنه سمع يسوع يصرخ:‏ «لعازر هلم خارجا».‏ وهذا ما حدث.‏ فقد عاد لعازر الى الحياة وخرج من القبر.‏ ويا للفرح الذي غمر دون شك اختيه والمتفرِّجين الآخرين!‏ وآمن كثيرون بيسوع.‏ ولم يكن بإمكان اعدائه ان ينكروا إقامته لعازر،‏ ولكن عندما انتشر الخبر،‏ ‹تشاوروا ليقتلوا لعازر› ويسوع ايضا.‏ —‏ يوحنا ١١:‏٤٣؛‏ ١٢:‏​٩-‏١١‏.‏

      يصف الكتاب المقدس يسوع بأنه «رسم جوهر» الخالق.‏ (‏عبرانيين ١:‏٣‏)‏ وهكذا زوَّدت خدمته دليلا وافرا على رغبته ورغبة ابيه الشديدتَين في إبطال ويلات المرض والموت.‏ ولا يتوقف ذلك عند القيامات القليلة المسجلة في الكتاب المقدس.‏ فقد كان يوحنا حاضرا عندما سمع يسوع يقول:‏ ‹تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور [«التذكارية»،‏ ع‌ج‏] صوته فيخرجون›.‏ (‏يوحنا ٥:‏​٢٨،‏ ٢٩‏)‏ لاحظوا انه بدلا من استعمال الكلمة المألوفة التي تقابل «قبر»،‏ استخدم يوحنا كلمة تُنقل الى ‹قبور تذكارية›.‏ ولماذا؟‏

      يتعلق الامر بذاكرة اللّٰه.‏ فخالق الكون الرحب قادر طبعا ان يتذكر كل التفاصيل عن كل شخص من احبائنا الموتى،‏ بما في ذلك ميزاته الفطرية والمكتسبة.‏ (‏قارنوا اشعياء ٤٠:‏٢٦‏.‏)‏ والامر يتعدى كونه قادرا على التذكر.‏ فهو وابنه على السواء يريدان التذكر.‏ قال ايوب الامين عن اللّٰه في ما يتعلق برجاء القيامة الرائع:‏ «إن مات رجل أفيحيا.‏ .‏ .‏ .‏ تدعو [يا يهوه] فأنا اجيبك.‏ تشتاق الى عمل يدك».‏ (‏ايوب ١٤:‏​١٤،‏ ١٥؛‏ مرقس ١:‏​٤٠-‏٤٢‏)‏ فما اروع خالقنا؛‏ انه فعلا يستحق عبادتنا!‏

      يسوع المقام —‏ مفتاح الى حياة ذات معنى

      كان يوحنا،‏ التلميذ الحبيب،‏ يراقب يسوع عن قرب حتى موته.‏ والاكثر من ذلك،‏ سجّل يوحنا اعظم قيامة حصلت على الاطلاق،‏ حادثة وضعت اساسا متينا لتمتُّعنا بحياة مديدة وذات معنى.‏

      تسبَّب اعداء يسوع بإعدامه،‏ اذ سُمِّر على خشبة كأيّ مجرم.‏ وهزأ به المتفرِّجون —‏ بمَن فيهم القادة الدينيون —‏ وهو يتألم طوال ساعات.‏ ومع ان يسوع كان يتعذب على الخشبة،‏ رأى امه وقال لها عن يوحنا:‏ «يا امرأة هوذا ابنك».‏ لا بد ان مريم كانت عندئذ ارملة،‏ ولم يكن اولادها الآخرون قد صاروا تلاميذ بعد.‏e لذلك ائتمن يسوع تلميذه يوحنا على الاعتناء بأمه التي تقدَّمت بها السن.‏ يعكس ذلك ايضا تفكير الخالق الذي شجّع على الاعتناء بالارامل واليتامى.‏ —‏ يوحنا ٧:‏٥؛‏ ١٩:‏​١٢-‏٣٠؛‏ مرقس ١٥:‏​١٦-‏٣٩؛‏ يعقوب ١:‏٢٧‏.‏

      ولكن عندما مات يسوع،‏ كيف كان سيتمكن من اتمام دوره ‹كنسل تتبارك فيه جميع امم الارض›؟‏ (‏تكوين ٢٢:‏١٨‏)‏ ان يسوع،‏ بموته بعد ظهر ذلك اليوم من شهر نيسان سنة ٣٣ ب‌م،‏ ضحى بحياته كأساس للفدية.‏ ولا بد ان اباه المرهف الاحساس تألم عندما رأى العذاب الذي عاناه ابنه البريء.‏ ولكن بهذه الطريقة،‏ تَوفَّر ثمن الفدية الضروري لتحرير الجنس البشري من عبودية الخطية والموت.‏ (‏يوحنا ٣:‏١٦؛‏ ١ يوحنا ١:‏٧‏)‏ وقد مهَّد ذلك الطريق لنتيجة حاسمة.‏

      بما ان يسوع المسيح يلعب دورا رئيسيا في تحقيق مقاصد اللّٰه،‏ كان لا بد ان يعود الى الحياة.‏ وهذا ما حدث،‏ وكان يوحنا شاهدا على ذلك.‏ ففي وقت باكر من اليوم الثالث بعد موت يسوع ودفنه،‏ ذهب بعض التلاميذ الى القبر.‏ فكان فارغا.‏ وبقوا متحيِّرين من ذلك الى ان ظهر يسوع لأشخاص مختلفين.‏ فقد اخبرت مريم المجدلية «انها رأت الرب»،‏ لكنَّ التلاميذ لم يصدِّقوا شهادتها.‏ وبعد ذلك اجتمع التلاميذ في غرفة مغلقة وظهر يسوع ثانية،‏ حتى انه تحدَّث اليهم.‏ وبعد ايام،‏ صار اكثر من ٥٠٠ رجل وامرأة شهود عيان على ان يسوع حيّ فعلا.‏ وكان بإمكان المتشككين في ذلك الوقت ان يقابلوا هؤلاء الشهودَ العدْلَ ويتحققوا من شهادتهم.‏ وكان المسيحيون متأكدين ان يسوع أُقيم،‏ وأنه حيّ ككائن روحاني مثلما هو الخالق.‏ وكانت الادلة على ذلك وافرة وموثوقا بها حتى ان كثيرين واجهوا الموت ولم ينكروا قيامة يسوع.‏ —‏ يوحنا ٢٠:‏​١-‏٢٩؛‏ لوقا ٢٤:‏​٤٦-‏٤٨؛‏ ١ كورنثوس ١٥:‏​٣-‏٨‏.‏f

      وعانى الرسول يوحنا ايضا الاضطهاد من اجل الشهادة بقيامة يسوع.‏ (‏رؤيا ١:‏٩‏)‏ ولكن عندما كان في منفاه الجزائي،‏ تلقى مكافأة غير عادية.‏ فقد اعطاه يسوع سلسلة من الرؤى تعرِّفنا بالخالق بشكل اكثر وضوحا وتكشف عما سيجلبه المستقبل.‏ وستجدون ذلك في سفر الرؤيا،‏ الذي يستعمل رموزا كثيرة.‏ ويُصوَّر يسوع المسيح هنا كملك منتصر سيكمل قريبا غلبته على اعدائه.‏ ويشمل هؤلاء الاعداء الموت (‏عدو لنا جميعا)‏ والمخلوق الروحاني الفاسد الذي يدعى الشيطان.‏ —‏ رؤيا ٦:‏​١،‏ ٢؛‏ ١٢:‏​٧-‏٩؛‏ ١٩:‏١٩–‏٢٠:‏​٣،‏ ١٣،‏ ١٤‏.‏

      ونحو نهاية رسالته الرؤيوية،‏ نال يوحنا رؤيا عن زمن تصير فيه الارض فردوسا.‏ ووصف صوتٌ الاحوال التي ستسود آنذاك:‏ «اللّٰه نفسه يكون مع [الناس] الها لهم.‏ وسيمسح اللّٰه كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأن الامور الاولى قد مضت».‏ (‏رؤيا ٢١:‏​٣،‏ ٤‏)‏ وتحقيقا لقصد اللّٰه،‏ سيتمّ وعد اللّٰه لإبراهيم.‏ —‏ تكوين ١٢:‏٣؛‏ ١٨:‏١٨‏.‏

      عندئذ ستكون الحياة ‹حياة حقيقية›،‏ مثلما كانت عندما خُلق آدم.‏ (‏١ تيموثاوس ٦:‏١٩‏،‏ ع‌ج‏)‏ ولن يتلمّس الجنس البشري ثانية طريقه ليجد خالقه وليفهم علاقته به.‏ ولكن قد تسألون:‏ ‹متى سيحدث ذلك؟‏ ولماذا يسمح خالقنا المهتم بوجود الشر والالم حتى هذا الوقت؟‏›.‏ لنتأمل في هذين السؤالين في الفصل التالي.‏

المطبوعات باللغة العربية (‏١٩٧٩-‏٢٠٢٥)‏
الخروج
الدخول
  • العربية
  • مشاركة
  • التفضيلات
  • Copyright © 2025 Watch Tower Bible and Tract Society of Pennsylvania
  • شروط الاستخدام
  • سياسة الخصوصية
  • إعدادات الخصوصية
  • JW.ORG
  • الدخول
مشاركة