-
ماذا يمكن ان تتعلموا عن الخالق من كتاب؟هل يوجد خالق يهتم بامركم؟
-
-
الفصل السابع
ماذا يمكن ان تتعلموا عن الخالق من كتاب؟
توافقون على الارجح ان الكتاب الشيِّق والغني بالمعلومات له قيمة كبيرة. هكذا هو الكتاب المقدس. ففيه تجدون قصص حياة تشدّ انتباهكم وترسم قيما ادبية سامية. وتجدون ايضا امثالا حية لحقائق مهمة. وقد قال كاتب من كتبته اشتهر بحكمته انه «طلب ان يجد كلمات مُسرة مكتوبة بالاستقامة كلمات حق». — جامعة ١٢:١٠.
ان الكتاب الذي نشير اليه باسم «الكتاب المقدس» هو مجموعة من ٦٦ سفرا كُتبت خلال فترة تزيد على ٥٠٠,١ سنة. مثلا، بين سنتَي ١٥١٣ و ١٤٧٣ قم، كتب موسى الاسفار الخمسة الاولى، ابتداء من التكوين. وكان يوحنا، احد رسل يسوع، آخر كتبة الكتاب المقدس. وقد سجّل تاريخا لحياة يسوع (انجيل يوحنا)، بالاضافة الى رسائل قصيرة وسفر الرؤيا الذي هو آخر سفر في معظم الكتب المقدسة.
خلال السنوات الـ ٥٠٠,١ من موسى الى يوحنا، اشترك نحو ٤٠ شخصا في كتابة الكتاب المقدس. وكان هؤلاء الاشخاص رجالا مخلصين وأتقياء ارادوا ان يساعدوا غيرهم على التعلم عن خالقنا. فمن كتاباتهم يمكن ان نفهم شخصية اللّٰه ونتعلم كيف نرضيه. ويوضح لنا الكتاب المقدس ايضا لماذا يكثر الشر وكيف سيوضَع حد له. فكتبة الكتاب المقدس اشاروا مسبقا الى الوقت الذي فيه يعيش الجنس البشري تحت توجيه مباشر اكثر لحكم اللّٰه، ووصفوا بعض الاحوال المثيرة التي يمكننا التمتع بها آنذاك. — مزمور ٣٧:١٠، ١١؛ اشعياء ٢:٢-٤؛ ٦٥:١٧-٢٥؛ رؤيا ٢١:٣-٥.
تدركون على الارجح ان كثيرين يرفضون الكتاب المقدس لأنهم يعتبرونه كتابا قديما يعكس حكمة بشرية. لكنَّ ملايين الاشخاص مقتنعون بأن اللّٰه هو مؤلفه الحقيقي وبأنه وجَّه افكار كتبته. (٢ بطرس ١:٢٠، ٢١) فكيف تعرفون ان ما سجّله كتبة الكتاب المقدس هو فعلا من اللّٰه؟
هنالك عدد من الادلة المختلفة التي تجمع على ذلك والتي يمكنكم التأمل فيها. وكثيرون فعلوا ذلك قبلما استنتجوا أن الكتاب المقدس هو اكثر من مجرد كتاب بشري، أنه من مصدر فوق الطبيعة البشرية. فلنوضح ذلك بمناقشة دليل واحد فقط. وبهذه الطريقة نتعلم اكثر عن خالق كوننا، مصدر الحياة البشرية.
تنبؤات تحققت
كثيرون هم كتبة الكتاب المقدس الذين سجّلوا نبوات. ولم يدَّعِ هؤلاء الكتبة ان الإنباء بالمستقبل كان بمقدرتهم الخاصة، بل نسبوا الفضل الى الخالق. مثلا، قال اشعياء عن اللّٰه انه «مخبر منذ البدء بالاخير». (اشعياء ١:١؛ ٤٢:٨، ٩؛ ٤٦:٨-١١) والقدرة على الإنباء بحوادث تقع بعد عقود او حتى قرون في المستقبل تجعل اله اشعياء فريدا؛ فهو ليس مجرد صنم كالاصنام التي عُبدت في الماضي وتُعبَد اليوم. وتزوِّد النبوات دليلا مقنِعا على ان مؤلف الكتاب المقدس ليس بشرا. فتأملوا كيف يؤكد سفر اشعياء ذلك.
ان مقارنة محتويات سفر اشعياء بالمعلومات التاريخية تُظهر ان هذا السفر كُتب نحو سنة ٧٣٢ قم. سبق اشعياء وأخبر ان كارثة ستحلّ بسكان اورشليم ويهوذا لأنهم كانوا مذنبين بسفك الدم وعبادة الاصنام. وتنبأ اشعياء بأن الارض ستُقفِر، وأورشليم وهيكلها سيدمَّران، والناجين سيؤخذون اسرى الى بابل. لكنَّ اشعياء تنبأ ايضا بأن اللّٰه لن ينسى الامة المسبيّة. فقد اخبر هذا السفر مسبقا بأن ملكا اجنبيا يدعى كورش سيغزو بابل ويحرِّر اليهود ليعودوا الى موطنهم. وفي الواقع، وصف اشعياء اللّٰه بأنه «القائل عن كورش راعيَّ فكل مسرتي يتمم ويقول عن اورشليم ستُبنى وللهيكل ستؤسَّس». — اشعياء ٢:٨؛ ٢٤:١؛ ٣٩:٥-٧؛ ٤٣:١٤؛ ٤٤:٢٤-٢٨؛ ٤٥:١.
في ايام اشعياء، اي في القرن الثامن قبل الميلاد، ربما بدت هذه التنبؤات غير قابلة للتصديق. ففي ذلك الوقت لم تكن بابل قوة عسكرية كبيرة، بل كانت خاضعة للقوة العالمية الفعلية في ذلك الوقت، الامبراطورية الاشورية. وفكرة إعتاق شعب مأسور واسترجاعه ارضَه بعد اخذه الى السبي في ارض بعيدة كانت غريبة هي ايضا. كتب اشعياء: «مَن سمع مثل هذا». — اشعياء ٦٦:٨.
ولكن ماذا نجد اذا تقدَّمنا في الزمن فترة قرنَين؟ يُظهر التاريخ اللاحق للشعب اليهودي القديم ان نبوة اشعياء تمَّت بالتفصيل. فقد صارت بابل فعلا قوة جبارة، ودمَّرت اورشليم. واسم الملك الفارسي (كورش)، غزوه اللاحق لبابل، وعودة اليهود هي كلها وقائع يعترف التاريخ بصحتها. لقد تحققت هذه التفاصيل النبوية بحذافيرها، حتى ان النقاد في القرن الـ ١٩ ادّعوا ان سفر اشعياء كان خدعة. وقد قالوا في الواقع: ‹كتب اشعياء الاصحاحات الاولى، ولكن جاء كاتب بعده في زمن الملك كورش واختلق بقية السفر لكي يبدو وكأنه نبوة›. قد يأتي شخص ويُطلق ادعاءات رافضة كهذه، ولكن ماذا تقول الوقائع؟
تنبؤات حقيقية؟
ان التنبؤات في سفر اشعياء لا تقتصر على الحوادث المتعلقة بكورش والمسبيين اليهود. فقد سبق اشعياء وأخبر ايضا عما ستؤول اليه بابل في النهاية، وزوَّد سفره تفاصيل كثيرة عن مجيء مسيَّا، او منقذ، سيتألم ثم يتمجد. فهل يمكننا ان نؤكد ان هذه الكلمات كُتبت قبل حدوثها بوقت طويل، وهكذا تكون نبوات تنتظر الاتمام؟
تأملوا في هذه النقطة. كتب اشعياء عما ستؤول اليه بابل: «تصير بابل بهاءُ الممالك وزينة فخر الكلدانيين كتقليب اللّٰه سدوم وعمورة. لا تُعمر الى الابد ولا تُسكن الى دور فدور». (اشعياء ١٣:١٩، ٢٠؛ الاصحاح ٤٧) فكيف تطوَّرت الامور؟
تُظهر الوقائع ان بابل كانت تعتمد لزمن طويل على شبكة ريّ معقدة مؤلفة من سدود وقنوات بين نهرَي دجلة والفرات. ويبدو انه في سنة ١٤٠ قم تقريبا، تضرَّرت شبكة المياه هذه نتيجة الغزو الفَرْتيّ المدمِّر وأخذت تنهار. وماذا كانت النتيجة؟ توضح دائرة المعارف الاميركية (بالانكليزية): «صارت التربة مشبعة بالاملاح المعدنية، وتكوَّنت قشرة من القلْي alkali على سطحها، وهذا ما جعل استخدامها لأغراض زراعية مستحيلا». وبعد نحو ٢٠٠ سنة كانت بابل لا تزال مدينة كثيرة السكان، ولكن ليس لوقت طويل. (قارنوا ١ بطرس ٥:١٣.) فبحلول القرن الثالث بعد الميلاد، تحدَّث المؤرخ ديو كاسيوس (نحو ١٥٠-٢٣٥ بم) عن شخص زار بابل ولم يجد شيئا سوى «تلال وحجارة وخرائب». (LXVIII، ٣٠) والمهم في هذا هو ان اشعياء كان ميتا في ذلك الوقت، وكان سفره الكامل متداوَلا قبل قرون. وإذا زرتم بابل اليوم، فلن تروا سوى خرائب لمدينة كانت لها امجادها في الماضي. ومع ان مدنا قديمة مثل روما وأورشليم (القدس) وأثينا لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، فقد صارت بابل قفرًا، خالية من السكان، ومجرد خراب؛ تماما كما اخبر اشعياء. لقد تحققت النبوة.
لنركّز الآن على وصف اشعياء للمسيَّا الآتي. فوفقا لإشعياء ٥٢:١٣، كان عبد اللّٰه المميَّز هذا ‹سيتعالى ويتسامى جدا› في النهاية. لكنَّ الاصحاح التالي (اشعياء ٥٣) تنبأ قائلا ان المسيَّا، وبشكل يدعو الى الاستغراب، سيمرّ قبل تَسامِيه بتجربة مختلفة جدا. وقد تدهشكم التفاصيل المسجلة في هذا الاصحاح المتعارَف على نطاق واسع على انه نبوة مسيَّانية.
يمكنكم ان تقرأوا هناك ان المسيَّا كان سيُحتقَر من قِبل ابناء بلده. ولأن اشعياء كان متأكدا من ان ذلك سيحدث، كتب كما لو ان الامر قد حصل: ‹احتقره الناس وتجنَّبوه›. (العدد ٣، عج) وكانت اساءة المعاملة هذه غير مبرَّرة اطلاقا بسبب الخير الذي كان المسيَّا سيفعله للناس. فقد وصف اشعياء اعمال الشفاء التي يقوم بها المسيَّا بالقول: ‹امراضنا هو حملها›. (العدد ٤، عج) ومع ذلك، كان المسيَّا سيحاكَم ويُدان ظلما، ويبقى صامتا امام متَّهِميه. (العددان ٧، ٨) وكان سيترك نفسه يُسلَّم ليُقتل مع مجرمين؛ وخلال عملية إعدامه، كان جسده سيُثقَب. (العددان ٥، عج، ١٢) ومع انه يُقتل كمجرم، كان سيُدفن كما لو انه انسان غني. (العدد ٩) وذكر اشعياء تكرارا ان ميتة المسيَّا الظالمة كانت ستملك قوة كفّارية، مغطية خطايا البشر الآخرين. — الاعداد ٥، ٨، ١١، ١٢ .
كل هذه الامور حدثت. فالروايات التاريخية التي سجلها معاصرو يسوع — متى، مرقس، لوقا، ويوحنا — تؤكد ان ما سبق وأخبر به اشعياء حصل فعلا. ووقع بعض الاحداث بعد موت يسوع، لذلك لا يمكن ان يكون قد تحكّم فيها. (متى ٨:١٦، ١٧؛ ٢٦:٦٧؛ ٢٧:١٤، ٣٩-٤٤، ٥٧-٦٠؛ يوحنا ١٩:١، ٣٤) والاتمام الكامل لنبوة اشعياء المسيَّانية كان له تأثير شديد في قراء الكتاب المقدس المخلصين على مرِّ القرون، بمَن فيهم مَن لم يعترفوا قبلا بيسوع. يلاحظ العالِم وليم ارْويك: «كثيرون من اليهود، حين دوَّنوا سبب اهتدائهم الى المسيحية، اعترفوا بأن قراءة هذا الاصحاح [اشعياء ٥٣] هي التي زعزعت ثقتهم بعقيدتهم القديمة وبمعلميهم». — خادم يهوه (بالانكليزية).a
ذكر ارْويك هذه الكلمات في اواخر القرن الـ ١٩، حين كان البعض لا يزالون يشكون في ما اذا كان اشعياء الاصحاح ٥٣ من سفر اشعياء قد كُتب فعلا قبل قرون من ولادة يسوع. لكنَّ الاشياء المكتشَفة منذ ذلك الوقت ازالت كل اساس للشك. ففي سنة ١٩٤٧، اكتشف راعٍ من البدو درجا قديما لكامل سفر اشعياء قرب البحر الميت. وذكر خبراء بالكتابة القديمة ان تاريخ الدرج يعود الى ما بين سنتَي ١٢٥ و ١٠٠ قم. وفي سنة ١٩٩٠، وعن طريق تحليل الكربون ١٤ للدرج، ذُكر انه يعود الى ما بين سنتَي ٢٠٢ و ١٠٧ قم. نعم، لقد كان درج اشعياء الشهير هذا قديما جدا عندما وُلد يسوع. وماذا تكشف مقارنته بالكتب المقدسة العصرية؟
اذا زرتم مدينة القدس، فبإمكانكم ان تروا جذاذات من ادراج البحر الميت. يوضح تسجيل صوتي لعالِم الآثار الپروفسور ييڠل يادين: «انقضت فترة لا تزيد على خمسمئة او ستمئة سنة بين التفوُّه بكلمات اشعياء ونسخ هذا الدرج في القرن الثاني قبل الميلاد. والمدهش هو مدى تشابه هذا الدرج الاصلي الموجود في المتحف — مع ان عمره اكثر من ٠٠٠,٢ سنة — مع الكتاب المقدس الذي نقرأه اليوم إما بالعبرانية او في الترجمات المنقولة عن اللغة الاصلية».
من الواضح ان هذا الامر ينبغي ان يؤثر في نظرتنا. نظرتنا الى ماذا؟ ينبغي ان يزيل اية شكوك انتقادية تجعل من اشعياء سفرا يدّعي التنبؤ بأمور سبق ان حدثت. فهنالك الآن برهان علمي على ان نسخة من كتابات اشعياء صُنعت قبل اكثر من مئة سنة من ولادة يسوع وقبل وقت اطول بكثير من إقفار بابل. لذلك كيف يمكن ان يُشَكّ في ان كتابات اشعياء تنبأت بالنتيجة النهائية لبابل وبآلام المسيَّا الظالمة، وطريقة موته ومعاملته؟! وتزيل الوقائع التاريخية ايّ اساس للمجادلة في ان اشعياء تنبأ بدقة بأسْر اليهود وإطلاقهم من بابل. وهذه التنبؤات المتمَّمة تشكل مجرد دليل واحد من ادلة مختلفة كثيرة على ان المؤلف الحقيقي للكتاب المقدس هو الخالق وأن الكتاب المقدس هو «موحى به من اللّٰه». — ٢ تيموثاوس ٣:١٦.
توجد ادلة كثيرة اخرى على ان الكتاب المقدس من تأليف الهي. وهي تشمل دقة الكتاب المقدس في المسائل الفلكية والجيولوجية والطبية، الانسجام الداخلي بين اسفاره التي كتبها عشرات الاشخاص طوال مئات كثيرة من السنين، اتفاقه مع حقائق كثيرة في التاريخ الدنيوي وعلم الآثار، وشريعته الادبية التي تفوقت على شرائع الامم المحيطة في تلك الازمنة والتي لا تزال تُعتبر شريعة بلا منازع. وقد اقنعت هذه الادلة المختلفة، وغيرها ايضا، اعدادا لا تحصى من الاشخاص المجتهدين والمخلصين بأن الكتاب المقدس هو فعلا كتاب من عند خالقنا.b
يمكن ان يساعدنا ذلك ايضا على التوصل الى استنتاجات صحيحة عن الخالق — الامر الذي يساعدنا على معرفة صفاته. ألا تشهد قدرته على النظر الى المستقبل انه يملك قدرات ادراكية لا يملكها البشر؟ فالبشر لا يعرفون ماذا سيحدث في المستقبل البعيد، ولا يمكنهم التحكم فيه. أما الخالق فيقدر على ذلك. فبإمكانه ان يرى المستقبل ويرتِّب الامور بطريقة تُنفَّذ بواسطتها مشيئته. لذلك وصف اشعياء الخالق بهذه الكلمات المناسبة: «مخبر منذ البدء بالاخير ومنذ القديم بما لم يُفعل قائلا رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي». — اشعياء ٤٦:١٠؛ ٥٥:١١.
التعرُّف اكثر بالمؤلف
عندما نمتلك معرفة شخصية بفرد آخر، يكون ذلك من خلال التحدُّث اليه ورؤية رد فعله في مختلف الظروف. وكلتا الطريقتين ممكنتان للتعرُّف بالبشر الآخرين، ولكن ماذا عن التعرُّف بالخالق؟ فلا يمكن ان نتحادث معه بطريقة مباشرة. ولكن كما برهنّا، يكشف الخالق الكثير عن نفسه في الكتاب المقدس — سواء من خلال اقواله او من خلال اعماله. وبالاضافة الى ذلك، يدعونا هذا الكتاب الفريد في الواقع الى تنمية علاقة بالخالق. فهو يحثنا قائلا: «اقتربوا الى اللّٰه فيقترب اليكم». — يعقوب ٢:٢٣؛ ٤:٨.
تأملوا في احدى الخطوات الاساسية: اذا كنتم تريدون مصادقة شخص، يجب طبعا ان تعرفوا اسمه. فما هو اسم الخالق، وماذا يكشف اسمه عنه؟
ان الجزء العبراني من الكتاب المقدس (الذي يدعى غالبا «العهد القديم») يخبرنا بالاسم الفريد للخالق. وهو يُمَثَّل في المخطوطات القديمة بأربعة احرف عبرانية ساكنة تقابلها بالعربية الاحرف ي ه و ه. ويَظهر اسم الخالق نحو ٠٠٠,٧ مرة، اكثر بكثير من ايّ لقب مثل اللّٰه او الرب. وطوال قرون كان قراء الكتاب المقدس العبراني يستعملون هذا الاسم الشخصي. ولكن، على مرِّ الوقت، صار عند يهود كثيرين خوف خرافي من التلفظ بالاسم الالهي، وهكذا لم يحفظوا طريقة التلفّظ به.
يذكر تعليق يهودي على سفر الخروج: «ضاعت في النهاية طريقة اللفظ الاصلية؛ والمحاولات العصرية لمعرفتها من جديد ليست إلا تخمينات». صحيح اننا لسنا متأكدين كيف تلفَّظ موسى بالاسم الالهي الموجود اصلا في الخروج ٣:١٦ والذي نجده في الخروج ٦:٣. ولكن مَن بصراحة يشعر اليوم بأنه مجبر على التلفُّظ باسم موسى او اسم يسوع بالصوت والتنغيم انفسهما اللذين استُعملا حين سارا على الارض؟! ومع ذلك لا نمتنع عن الاشارة الى موسى وإلى يسوع باسمهما. فالفكرة هي انه بدلا من الاهتمام المفرط بالطريقة التي كان شعب قديم ناطق بلغة اخرى يستعملها للتلفّظ باسم اللّٰه، لِمَ لا نستعمل طريقة اللفظ الشائعة في لغتنا؟! مثلا، اللفظة المستعملة بالعربية لفترة طويلة هي «يَهْوَه»، وهي لفظة مقبولة على نطاق واسع.
ولكن يوجد شيء اهم من التفاصيل المتعلقة بطريقة التلفُّظ بالاسم. وهذا الشيء هو معناه. فهذا الاسم باللغة العبرانية هو في صيغة التَّعدِية السببية (كوزن فَعَّلَ) للفعل هَوَه الذي يعني «يصير» او «يكون». (تكوين ٢٧:٢٩، عج؛ جامعة ١١:٣) ويقترح دليل أوكسفورد الى الكتاب المقدس (بالانكليزية) هذا المعنى: « ‹يسبِّب› او ‹سيسبِّب ان يكون› ». وهكذا يمكننا القول ان اسم الخالق الشخصي يعني حرفيا «يسبِّب ان يصير» او «يُصَيِّر». ولاحظوا انه لا يُشدَّد هنا على عمل الخالق في الماضي السحيق، كما يفكّر البعض عندما يستعملون عبارة «العلّة الاولى»، او «السبب الاول». ولِمَ لا؟
لأن الاسم الالهي مرتبط بما يقصد الخالق ان يفعله. وهنالك من حيث الاساس صيغتان فقط للأفعال العبرانية، والصيغة المستعملة في حالة اسم الخالق «تشير الى اعمال . . . في طور التقدُّم. انها لا تعبِّر عن مجرد الاستمرار في عمل ما . . . بل عن التقدُّم فيه من بدايته نحو اكتماله». (وصف موجز للصيغ العبرانية [بالانكليزية]) نعم، فمن خلال اسمه يكشف يهوه عن نفسه أنه صاحب مقاصد. وهكذا نتعلم انه — بالعمل التقدُّمي — يصير متمِّما للمواعيد. ويشعر كثيرون بالراحة والاطمئنان حين يعلمون ان الخالق يعمل دائما على تحقيق مقاصده.
قصده — قصدكم
في حين يعكس اسم اللّٰه فكرة القصد، يلاقي اناس كثيرون صعوبة في رؤية قصد من وجودهم. فهم يلاحظون الجنس البشري يتخبط في ازمة بعد اخرى — الحروب، الكوارث الطبيعية، الامراض، الفقر، والجريمة. حتى الاشخاص السعداء القليلون، الذين يتمكنون بطريقة ما من تفادي هذه التأثيرات المدمِّرة، يعترفون بأن شكوكا تنتابهم دائما بشأن المستقبل وبشأن معنى حياتهم.
يذكر الكتاب المقدس هذا التعليق: «لقد أُخضع العالم المادي للإحباط، ليس رغبةً منه في هذا، بل بمشيئة الخالق، الذي عند جعله كذلك اعطاه املا في ان يُنقَذ ذات يوم . . . وأن يشترك في الحرية المجيدة لأولاد اللّٰه». (رومية ٨:٢٠، ٢١، رسائل العهد الجديد [بالانكليزية]، بقلم ج. و. سي. واند) تُظهر الرواية في التكوين انه في وقت من الاوقات، كان البشر في سلام مع خالقهم. ونتيجةً لسوء السلوك البشري، تصرَّف اللّٰه بعدل وأخضع الجنس البشري لحالة ادت، الى حد ما، الى الإحباط. فلنرَ كيف حدث هذا، وماذا يخبرنا عن الخالق، وماذا يمكننا توقعه للمستقبل.
بحسب ذلك التاريخ المكتوب، الذي تبيَّن انه يمكن إثبات صحته بطرائق عديدة، كان اول مخلوقَين بشريَّين يدعيان آدم وحواء. ويُظهر السجل انهما لم يُتركا ليتلمّسا طريقهما بدون قصد او تعليمات عن مشيئة اللّٰه. فكما يفعل ايّ اب بشري محب وعطوف مع ذريته، اعطى الخالقُ البشرَ ارشادات نافعة. فقال: «اثمروا واكثروا واملأوا الارض وأخضِعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الارض». — تكوين ١:٢٨.
وهكذا كان للبشرَين الاولَين قصد ذو معنى في حياتهما. وشمل ذلك اهتمامهما ببيئة الارض وملء الكرة الارضية بسكان يتحملون المسؤولية. (قارنوا اشعياء ١١:٩.) ولا يمكن لأحد ان يلوم الخالق بحق على الوضع الحالي لكوكبنا الملوَّث، كما لو انه هو الذي اتاح للبشر ان يستغلوا الكرة الارضية ويخرِّبوها. فكلمة «أخضِعوها» لم تُجِز الاستغلال، بل تضمنت فكرة عمل وحفظ الارض التي اؤتمن البشر على ادارتها. (تكوين ٢:١٥) وبالاضافة الى ذلك، كانوا سيتمتعون بمستقبل مديد ينجزون فيه هذا العمل ذا المعنى. وإمكانية عدم موتهم تنسجم مع الواقع ان البشر يملكون طاقة دماغية تزيد كثيرا على ما يمكن استعماله كاملا في مدى حياة يبلغ ٧٠ او ٨٠ او حتى ١٠٠ سنة. لقد صُنع الدماغ ليُستعمل الى زمن غير محدَّد.
ان يهوه اللّٰه، بصفته منتج خليقته ومنظِّمها، اعطى البشر بعض الحرية في طريقة انجازهم قصده نحو الارض والجنس البشري. فلم يكن كثير المتطلَّبات ولم يفرض قيودا خانقة. مثلا، اعطى آدمَ تعيينا يحلم به كل عالِم بالحيوان: دراسة الحيوانات وتسميتها. وبعدما راقب آدم خصائصها اطلق عليها اسماء، وكثير من هذه الاسماء يعرِّف بصفاتها. (تكوين ٢:١٩) وهذا مجرد مثال واحد يوضح كيف يمكن للبشر استخدام مواهبهم وقدراتهم بشكل ينسجم مع قصد اللّٰه.
انتم تدركون ان الخالق الحكيم لكل الكون لن يصعب عليه ضبط ايّ وضع يطرأ على الارض، حتى لو اختار البشر مسلكا احمق او مضرّا. ويخبرنا السجل التاريخي ان اللّٰه اوصى آدم وصية مقيِّدة واحدة فقط: «من جميع شجر الجنة تأكل اكلا. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتا تموت». — تكوين ٢:١٦، ١٧.
تطلّبت هذه الوصية من الجنس البشري الاعتراف بحق اللّٰه في ان يُطاع. لقد كان البشر، من زمن آدم الى ايامنا، مضطرين الى الخضوع لقانون الجاذبية والعيش كما يقتضي هذا القانون؛ ففعل العكس يُعتبر عملا احمق ومضرّا. فلماذا يرفض البشر العيش وفق ما يقتضيه قانون آخر، او وصية اخرى، من الخالق المُحب؟! وقد بيَّن الخالق عاقبة رفض قانونه، لكنه ترك لآدم وحواء الخيار لكي يطيعاه بمحض ارادتهما. وليس صعبا ان نرى في رواية التاريخ الباكر للانسان ان الخالق يتيح للبشر حرية الاختيار. لكنه يريد ان تكون خليقته سعيدة الى اقصى حد، وهذا يأتي كنتيجة طبيعية للعيش بانسجام مع القوانين النافعة التي يضعها.
ذكرنا في فصل سابق ان الخالق اوجد مخلوقات ذكية لا تُرى — مخلوقات روحانية. ويكشف تاريخ بدايات الانسان ان احد هذه الارواح استحوذت عليه فكرة اغتصاب مركز اللّٰه. (قارنوا حزقيال ٢٨:١٣-١٥.) فأساء استعمال حرية الاختيار التي يمنحها اللّٰه واستمال البشرَين الاولَين الى فعل ما لا بد ان ندعوه تمرُّدًا سافِرًا. وبالعصيان المباشر من خلال عمل تَحَدٍّ واحد — اكْلهما من «شجرة معرفة الخير والشر» — اعلن الزوجان الاولان استقلالهما عن حكم اللّٰه. لكنَّ الاكثر من ذلك هو ان مسلكهما دلَّ على تأييدهما الادعاء ان الخالق يمنع الخير عن الانسان. وكان الامر كما لو ان آدم وحواء يطالبان بأن يقرِّرا لأنفسهما ما هو خير وما هو شر — مهما يكن رأي صانعهما في الموضوع.
كم هو جنون ان يقول الرجال والنساء ان قانون الجاذبية لا يعجبهم ويقرِّروا مخالفته! كذلك لم يكن امرا منطقيا من جهة آدم وحواء ان يرفضا مقاييس الخالق الادبية. وكما ان عواقب مضرّة تحلّ بمَن يتجاهل قانون الجاذبية، ينبغي ان يتوقع البشر بالتأكيد عواقب سلبية لانتهاكهم شريعة اللّٰه الاساسية التي تتطلّب الطاعة له.
يخبرنا التاريخ ان يهوه اتخذ عندئذ اجراء. ففي «اليوم» الذي رفض فيه آدم وحواء مشيئة الخالق، بدأا ينحدران نحو الموت، كما سبق اللّٰه وحذرهما. (قارنوا ٢ بطرس ٣:٨.) ويكشف ذلك عن وجه آخر لشخصية الخالق. فهو اله عادل لا يتغاضى بضعف عن العصيان الفاضح. انه يملك مقاييس حكيمة وعادلة، وهو يلتزم بها.
وانسجاما مع صفاته البارزة، اظهر اللّٰه الرحمة ولم يُنهِ الحياة البشرية على الفور. ولماذا؟ كان ذلك بدافع الاهتمام بذرية آدم وحواء، التي لم يكن قد حُبل بها بعد ولم تكن مسؤولة مباشرة عن مسلك سَلَفَيها الخاطئ. واهتمام اللّٰه بالحياة التي كان سيُحبل بها يشهد لنا على شخصية الخالق. فهو ليس قاضيا عديم الرحمة ومجردا من المشاعر، بل نزيه وراغب في منح الجميع الفرصة، وهو يُظهر الاحترام لقدسية الحياة البشرية.
لا يعني ذلك ان الاجيال البشرية اللاحقة كانت ستتمتع بالاحوال المبهجة نفسها التي كان الزوجان الاولان يتمتعان بها. فبسماح الخالق لذرية آدم بالظهور على المسرح العالمي، «أُخضع العالم المادي للإحباط». لكنه لم يكن إحباطا او يأسا مُطبِقا. تذكروا ان رومية ٨:٢٠، ٢١ قالت ايضا ان الخالق «اعطاه املا في ان يُنقَذ ذات يوم». وهذا امر ينبغي ان نعرف المزيد عنه.
هل من مكان نبحث فيه؟
ان العدو الذي قاد الزوجَين البشريَّين الاولَين الى التمرُّد يُسمى في الكتاب المقدس الشيطان ابليس، الذي يعني «مقاوم» و «مفترٍ». وفي الحكم الصادر على المحرِّض الرئيسي على التمرُّد، وصمه اللّٰه كعدو لكنه وضع اساسا لشيء يعلّق عليه البشر في المستقبل آمالهم. قال اللّٰه: «أضع عداوة بينك [اشارة الى الشيطان] وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه». (تكوين ٣:١٥) من الواضح انه استُخدمت هنا لغة مجازية. فما معنى القول ان ‹نسلا› سيأتي؟
تلقي اجزاء اخرى من الكتاب المقدس الضوء على هذا العدد المثير للاهتمام. وهي تُظهر انه مرتبط بعمل يهوه وفق اسمه و ‹صيرورته› ما يلزم ان يصير ليتمِّم قصده نحو البشر على الارض. وبفعله ذلك استخدم امة معيَّنة، وتاريخ تعاملاته مع هذه الامة القديمة يؤلف جزءا كبيرا من الكتاب المقدس. فلنتأمل باختصار في هذا التاريخ المهم. وفيما نقوم بذلك، يمكننا التعلم اكثر عن صفات الخالق. نعم، يمكننا تعلم امور قيِّمة كثيرة عنه بالاستمرار في فحص الكتاب الذي زوَّده لأجل الجنس البشري، الكتاب المقدس.
-
-
الخالق يكشف عن نفسه — لفائدتنا!هل يوجد خالق يهتم بامركم؟
-
-
الفصل الثامن
الخالق يكشف عن نفسه — لفائدتنا!
في وسط الرعد والبرق، وقف نحو ثلاثة ملايين شخص امام جبل عالٍ في شبه جزيرة سيناء. وأحاطت السحب بجبل سيناء، وارتجت الارض. في هذه الظروف التي لا تُنسى، أدخل موسى اسرائيل القديمة في علاقة رسمية بخالق السماء والارض. — الخروج الاصحاح ١٩؛ اشعياء ٤٥:١٨.
ولكن لماذا كشف خالق الكون عن نفسه بطريقة مميّزة لأمة واحدة، وأمة صغيرة ايضا بالمقارنة مع غيرها؟ اوضح موسى قائلا: «من محبة الرب اياكم وحفظه القسم الذي اقسم لآبائكم». — تثنية ٧:٦-٨.
تكشف هذه الكلمات ان الكتاب المقدس يحتوي على اكثر من مجرد وقائع عن اصل الكون والحياة على الارض. فهو يتحدث كثيرا عن تعاملات الخالق مع البشر — في الماضي والحاضر والمستقبل. والكتاب المقدس هو اكثر الكتب التي تُدرس في العالم وأوسعها انتشارا، لذلك ينبغي لكل مَن يقدِّر الثقافة ان يتعرَّف بمحتوياته. فلنقم بمراجعة لما يمكن ان نجده في الكتاب المقدس، مركّزين اولا على الجزء الذي يدعى غالبا «العهد القديم». وبذلك نحرز ايضا فهما قيِّما لشخصية خالق الكون ومؤلف الكتاب المقدس.
في الفصل ٦، «سجل قديم عن الخلق — هل ينال ثقتكم؟»، رأينا ان رواية الخلق في الكتاب المقدس تحتوي وحدها على حقائق عن سلَفَينا الاولَين — عن اصلنا. ويحتوي هذا السفر الاول في الكتاب المقدس على المزيد. مثل ماذا؟
تصف الاساطير اليونانية وغيرها زمنا كانت فيه الآلهة وأنصاف الآلهة تتعامل مع البشر. ويخبر علماء الانسان ايضا انه تنتشر حول العالم اساطير عن طوفان قديم محا معظم الجنس البشري من الوجود. من حقكم ألا تعيروا اساطير كهذه اهتماما. ولكن هل تعلمون ان سفر التكوين وحده يكشف الحقائق التاريخية الضمنية التي انعكست لاحقا في هذه الخرافات والاساطير؟ — التكوين الاصحاحان ٦، ٧.a
تقرأون في سفر التكوين ايضا عن رجال ونساء — اشخاص حقيقيين بمشاعر مماثلة لمشاعرنا — عرفوا ان الخالق موجود وأخذوا مشيئته بعين الاعتبار في حياتهم. ويليق بنا ان نعرف عن اشخاص كإبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين كانوا بين ‹الآباء› الذين ذكرهم موسى. فقد عرف الخالق ابراهيم ودعاه «خليلي». (اشعياء ٤١:٨؛ تكوين ١٨:١٨، ١٩) ولماذا؟ كان يهوه قد لاحظ ابراهيم ووثق به كرجل ايمان. (عبرانيين ١١:٨-١٠، ١٧-١٩؛ يعقوب ٢:٢٣) ويُظهر اختبار ابراهيم انه يمكن الاقتراب الى اللّٰه. صحيح ان جبروته وقدراته مهيبة، لكنه ليس مجرد قوة او علّة غير شخصية. انه كائن حقيقي ذو شخصية، ويمكننا نحن البشر ان ننمي علاقة احترام به — لفائدتنا الدائمة.
وعد يهوه ابراهيم: «يتبارك في نسلك جميع امم الارض». (تكوين ٢٢:١٨) هذه الكلمات هي امتداد للوعد الذي ذُكر في ايام آدم عن «نسل» آتٍ. (تكوين ٣:١٥) نعم، ان ما قاله يهوه لإبراهيم وطّد الامل في ان يَظهر مع الوقت شخص — هو النسل — يجعل البركة متاحة لجميع الشعوب. وستجدون ان هذا هو المحور الرئيسي الذي يتخلل كامل الكتاب المقدس، مما يشير الى ان هذا الكتاب ليس مجموعة من الكتابات البشرية المختلفة. ومعرفتكم محور الكتاب المقدس تساعدكم على الادراك ان اللّٰه استخدم امة قديمة واحدة — بهدف مباركة جميع الامم. — مزمور ١٤٧:١٩، ٢٠.
وامتلاك يهوه هذا الهدف في تعامله مع اسرائيل دليل على انه «لا يفضِّل احدا على احد». (اعمال ١٠:٣٤، ترجمة تفسيرية؛ غلاطية ٣:١٤) وبالاضافة الى ذلك، حتى عندما كان اللّٰه يتعامل بشكل رئيسي مع المتحدِّرين من ابراهيم، كان الباب مفتوحا على مصراعيه امام الافراد من امم اخرى ليأتوا هم ايضا ويخدموا يهوه. (١ ملوك ٨:٤١-٤٣) وكما سنرى لاحقا، يَظهر اليوم عدم تفضيل اللّٰه احدا على احد في تمكُّننا نحن جميعا — مهما تكن خلفيتنا القومية او العرقية — من معرفته وإرضائه.
يمكننا تعلُّم الكثير من تاريخ الامة التي تعامل الخالق معها طوال قرون. فلنقسم تاريخها الى ثلاثة اجزاء. وعند التأمل في هذه الاجزاء، لاحظوا كيف يعمل يهوه وفق اسمه، الذي يعني «يُصَيِّر»، وكيف تتجلى شخصيته في تعاملاته مع اناس حقيقيين.
الجزء الاول — امة يحكمها الخالق
استُعبد المتحدِّرون من ابراهيم في مصر. وأخيرا اقام اللّٰه موسى الذي قادهم الى الحرية في سنة ١٥١٣ قم. وعندما صارت اسرائيل امة، كان اللّٰه حاكمها. ولكن في سنة ١١١٧ قم، طلب الشعب ملكا بشريا.
اية تطوُّرات ادّت الى وجود اسرائيل مع موسى عند جبل سيناء؟ يزوِّدنا سفر التكوين في الكتاب المقدس بالمعلومات. فقبل ذلك، حين كان يعقوب (المدعو ايضا اسرائيل) يعيش ناحية شمالي شرقي مصر، حدثت مجاعة في كل انحاء العالم المعروف آنذاك. وقلَقُ يعقوب على عائلته جعله يطلب الطعام من مصر، حيث كانت هنالك مؤونة وافرة من الحبوب المخزَّنة. واكتشف يعقوب ان مدير الاغذية كان في الحقيقة ابنه يوسف الذي اعتقد انه مات قبل سنوات. فانتقل يعقوب وعائلته الى مصر ودُعوا الى البقاء هناك. (تكوين ٤٥:٢٥–٤٦:٥؛ ٤٧:٥-١٢) ولكن، بعد موت يوسف، سخَّر فرعون جديد المتحدِّرين من يعقوب ‹ومرَّر حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللِّبن›. (خروج ١:٨-١٤) وبإمكانكم قراءة هذه الرواية الحية وكثير غيرها في السفر الثاني من الكتاب المقدس، الخروج.
عانى الاسرائيليون سوء المعاملة طوال عقود، و «صعد صراخهم الى اللّٰه». وكان مسلكا حكيما منهم ان يلتفتوا الى يهوه. فقد كان مهتما بالمتحدِّرين من ابراهيم ومصمِّما على اتمام قصده، ألا وهو تزويد بركة مستقبلية لجميع الشعوب. ‹فسمع يهوه انين اسرائيل وعلم›، مما يُظهر لنا ان الخالق يتعاطف مع الناس المضطهَدين والمتألمين. (خروج ٢:٢٣-٢٥) واختار موسى ليخلّص الاسرائيليين من عبوديتهم. ولكن عندما اتى موسى وأخوه هارون الى فرعون مصر وطلبا منه السماح لهذا الشعب المستعبَد بأن يغادر، اجاب بتحدٍّ: «مَن هو الرب [«يهوه»، عج] حتى اسمع لقوله فأطلق اسرائيل». — خروج ٥:٢.
هل تتخيَّلون خالق الكون يتراجع امام هذا التحدّي، حتى ولو صدر من حاكم اعظم قوة عسكرية قائمة؟ وجَّه اللّٰه الى فرعون والمصريين سلسلة من الضربات. وأخيرا، بعد الضربة العاشرة، وافق فرعون على إطلاق الاسرائيليين. (خروج ١٢:٢٩-٣٢) وهكذا صار المتحدِّرون من ابراهيم يعرفون يهوه ككائن حقيقي له شخصية — كائن يزوِّد الحرية في وقته المعيَّن. نعم، فكما يشير اسمه، صار يهوه متمِّما لوعوده بطريقة مذهلة. (خروج ٦:٣) ولكن كان فرعون والاسرائيليون سيتعلمون المزيد عن هذا الاسم.
حدث ذلك لأن فرعون غيَّر رأيه بسرعة. وقاد جيشه في مطاردة حثيثة للعبيد المغادرين، وأدركهم قرب البحر الاحمر. فعلق الاسرائيليون بين البحر الاحمر والجيش المصري. عندئذ تدخل يهوه وفتح طريقا عبر البحر الاحمر. وكان ينبغي لفرعون ان يعرف ان هذا دليل على قدرة اللّٰه التي لا تُقهر. لكنه تهوَّر وقاد قواته وراء الاسرائيليين، انما ليغرق مع جيشه عندما اعاد اللّٰه البحر الى وضعه الطبيعي. لا تذكر الرواية في الخروج بدقة كيف انجز اللّٰه هذه الاعمال الجبارة. ويمكننا فعلا ان ندعوها عجائب لأن هذه الاعمال وتوقيتها هي فوق طاقة البشر. لكنَّ اعمالا كهذه ليست طبعا فوق طاقة خالق الكون وواضع كل قوانينه. — خروج ١٤:١-٣١.
اظهرت هذه الحادثة للاسرائيليين — كما ينبغي ان تؤكد لنا ايضا — ان يهوه مخلِّص يعمل وفق اسمه. ولكن يجب ان نستخلص من هذه الرواية امورا اضافية عن طرق اللّٰه. مثلا، اجرى حكم العدل على امة ظالمة، وأظهر اللطف الحبي نحو شعبه الذي كان النسل سيأتي منه. وعن هذه النقطة الاخيرة، من الواضح ان ما نقرأه في الخروج هو اكثر بكثير من تاريخ قديم؛ انه يرتبط بقصد اللّٰه ان يجعل البركة متاحة للجميع.
في الطريق الى ارض الموعد
بعد مغادرة مصر، سار موسى والشعب في الصحراء الى جبل سيناء. وما حدث هناك كان سيصوغ لقرون تعاملات اللّٰه مع الامة. فقد اعطاهم شرائع. طبعا، كان الخالق قد وضع قبل دهور من ذلك شرائع وقوانين تتحكم في المادة في كوننا، وهذه القوانين لا تزال سارية المفعول. أما في جبل سيناء، فقد استخدم اللّٰه موسى لتزويد شرائع قومية. ويمكننا ان نقرأ عما فعله اللّٰه وعن الناموس الذي اعطاه في سفر الخروج وفي ثلاثة اسفار لاحقة: اللاويين، العدد، و التثنية. ويعتقد العلماء ان موسى كتب ايضا سفر ايوب. وسنتأمل في بعض محتوياته المهمة في الفصل ١٠.
حتى هذا اليوم يعرف ملايين الاشخاص حول العالم الوصايا العشر ويحاولون اتِّباعها، وقد كانت محور الارشاد الادبي لكامل هذا الناموس. لكنَّ الناموس احتوى على ارشادات كثيرة اخرى يُنظر اليها بإعجاب لِما تمتاز به. وليس غريبا ان تركّز فرائض كثيرة على الحياة الاسرائيلية في ذلك الوقت، كالقواعد المتعلقة بالعادات الصحية والنظافة والامراض. ومع ان هذه الشرائع وُضعت اصلا لشعب قديم، فهي تعكس معرفة للحقائق العلمية التي لم يكتشفها الخبراء البشر إلا في القرن الماضي تقريبا. (لاويين ١٣:٤٦، ٥٢؛ ١٥:٤-١٣؛ عدد ١٩:١١-٢٠؛ تثنية ٢٣:١٢، ١٣) لذلك يحسن بالمرء ان يسأل: كيف يمكن لشرائع اسرائيل القديمة ان تعكس معرفة وحكمة اسمى بكثير مما كان معروفا عند امم معاصرة لها؟ الجواب المنطقي هو ان هذه الشرائع اتت من الخالق.
ساعدت الشرائع ايضا على حفظ سلالات النسب وفرضت واجبات دينية ليتبعها الاسرائيليون حتى ظهور النسل. وبالموافقة على فعل كل ما يطلبه اللّٰه، حُمِّلوا مسؤولية العيش وفق هذا الناموس. (تثنية ٢٧:٢٦؛ ٣٠:١٧-٢٠) صحيح انه لم يكن باستطاعتهم حفظ الناموس كاملا، ولكن حتى هذا كان له قصد جيد. فقد اوضح خبير قانوني لاحقا ان الناموس ‹أُضيف إظهارا للمعاصي، الى ان يجيء «النسل» الذي قُطع له الوعد›. (غلاطية ٣:١٩، ٢٤، تف ) فالناموس اذًا جعلهم امة مفروزة، ذكّرَهم بحاجتهم الى النسل، او المسيَّا، وأعدَّهم لاستقباله.
وافق الاسرائيليون المجتمعون عند جبل سيناء على اطاعة ناموس اللّٰه. وهكذا صاروا تحت ما يدعوه الكتاب المقدس عهدا، او اتفاقا. وكان العهد بين اللّٰه وهذه الامة. ولكن رغم دخولهم الطوعي في هذا العهد، أظهروا انهم شعب صلب الرقبة. فقد صنعوا، مثلا، عجلا ذهبيا واعتبروه يمثِّل اللّٰه. وكان ذلك خطية لأن عبادة الاصنام تخالف مباشرة الوصايا العشر. (خروج ٢٠:٤-٦) وبالاضافة الى ذلك، تذمروا بشأن طعامهم، تمرَّدوا على قائدهم (موسى) المعيَّن من اللّٰه، وانغمسوا في علاقات فاسدة ادبيا مع نساء اجنبيات يعبدن الاصنام. ولكن لماذا ينبغي ان يهمَّنا هذا الموضوع، ما دامت قرون كثيرة تفصلنا عن ايام موسى؟
هنا ايضا يتبيَّن ان هذه الحوادث ليست مجرد تاريخ قديم. فروايات الكتاب المقدس عن نكران اسرائيل للجميل وتجاوُب اللّٰه مع ذلك تُظهر انه فعلا يهتمّ. فالكتاب المقدس يقول ان الاسرائيليين جرَّبوا يهوه ‹المرة تلو المرة›، و ‹أحزنوه› و ‹آلَموه›. (مزمور ٧٨:٤٠، ٤١، عج) وبذلك يتأكد لنا ان الخالق يملك مشاعر وأنه يهتمّ بشأن ما يفعله البشر.
من وجهة نظرنا البشرية، قد يعتقد المرء ان اثم اسرائيل كان سيؤدي الى إنهاء اللّٰه عهده معهم وربما اختياره امة اخرى تتمِّم وعده. لكنه لم يفعل ذلك. فقد انزل العقاب بفاعلي الاثم الفاضح، لكنه اظهر الرحمة لأمته الضالة ككل. نعم، بقي اللّٰه وليا للوعد الذي قطعه مع خليله الامين ابراهيم.
بعد وقت قصير، اقتربت اسرائيل من كنعان التي يدعوها الكتاب المقدس ارض الموعد. وكانت تسكنها شعوب قوية منغمسة بشدة في الممارسات الفاسدة ادبيا. وكان الخالق قد سمح بمرور ٤٠٠ سنة قبل ان يضع حدا لها، أما الآن فقد قرر بعدل ان يعطي الارض لإسرائيل القديمة. (تكوين ١٥:١٦؛ انظروا ايضا «اله غيور — بأيّ معنى؟»، في الصفحتين ١٣٢-١٣٣.) واستعدادا لذلك ارسل موسى ١٢ جاسوسا الى الارض. فأعرب عشرة منهم عن عدم ايمان بقوة يهوه المنقِذة. ودفع كلامهم الشعب الى التذمر على اللّٰه والتآمر للعودة الى مصر. وبسبب ذلك عاقب اللّٰه الشعب بالتيهان في البرية طوال ٤٠ سنة. — عدد ١٤:١-٤، ٢٦-٣٤.
وماذا حقق هذا الحكم؟ ناشد موسى، قبل موته، بني اسرائيل ان يتذكروا تلك السنوات التي اذلّهم يهوه فيها. قال موسى لهم: «اعلم في قلبك انه كما يؤدب الانسان ابنه قد ادبك الرب الهك». (تثنية ٨:١-٥) فمع انهم تصرَّفوا تجاهه بطريقة مهينة، كان يهوه يعيلهم، مما يُظهر انه لم يكن لهم غنى عنه. مثلا، بقوا احياء لأنه زوَّد الامة بالمَنّ، وهو أكْل طعمه كرقاق بعسل. ومن الواضح انهم تعلّموا دون شك الكثير من تجربتهم في البرية. ولا بد انها بيَّنت لهم اهمية اطاعة الههم الرحيم والاعتماد عليه. — خروج ١٦:١٣-١٦، ٣١؛ ٣٤:٦، ٧.
بعد موت موسى، فوَّض اللّٰه الى يشوع قيادة اسرائيل. فأدخل هذا الرجل المقدام والولي الامةَ الى كنعان وشرع يفتح الارض بشجاعة. وفي غضون فترة قصيرة، هزم يشوع ٣١ ملكا واحتل معظم ارض الموعد. وبإمكانكم قراءة هذا التاريخ الحافل في سفر يشوع.
حُكم بلا ملك بشري
طوال فترة الترحال في البرية وخلال السنوات الاولى في ارض الموعد، كان موسى وبعده يشوع قائدَي الامة. فلم يكن الاسرائيليون بحاجة الى ملك بشري، لأن يهوه كان حاكمهم المتسلط. وقد رتّب ان يستمع شيوخ معيَّنون الى الدعاوى في ابواب المدن. وكانوا يحافظون على النظام ويساعدون الناس روحيا. (تثنية ١٦:١٨؛ ٢١:١٨-٢٠) ويقدِّم سفر راعوث لمحة مثيرة للاهتمام عن الطريقة التي عالج بها شيوخ كهؤلاء احدى الدعاوى على اساس الشريعة الموجودة في التثنية ٢٥:٧-٩.
على مرِّ السنين، غالبا ما جلبت الامة على نفسها غضب اللّٰه بعدم اطاعته مرارا وتكرارا وبالالتفات الى الآلهة الكنعانية. ومع ذلك، كان يهوه يتذكرهم عندما يقعون في ضيقات شديدة ويصرخون اليه طلبا للعون. فكان يقيم قضاة ليأخذوا القيادة في تحرير اسرائيل، منقذين اياهم من الشعوب المجاورة المستبدة. والسفر المسمى القضاة يروي بشكل حي مآثر ١٢ من هؤلاء القضاة الشجعان. — قضاة ٢:١١-١٩؛ نحميا ٩:٢٧.
يقول السجل: «في تلك الايام لم يكن ملك في اسرائيل. كل واحد عمل ما حسن في عينيه». (قضاة ٢١:٢٥) كانت الامة تملك المقاييس المرسومة في الناموس. لذلك، بمساعدة الشيوخ وتعليم الكهنة، كان الشعب يملك اساسا ‹ليعمل ما يحسن في عينيه› ويبقى مطمئنا. وبالاضافة الى ذلك، رتّب الناموس لوجود مسكن، او هيكل قابل للحمل، حيث كانت الذبائح تُقدَّم. وقد تمركزت العبادة الحقة هناك، وساعدت على توحيد الامة خلال تلك الفترة.
الجزء الثاني — الازدهار في ظل الملوك
عندما كان صموئيل قاضيا في اسرائيل، طالب الشعب بملك بشري. وكلٌّ من الملوك الثلاثة الاولين — شاول وداود وسليمان — حكم ٤٠ سنة، من سنة ١١١٧ حتى سنة ٩٩٧ قم. وبلغت اسرائيل قمة الغنى والمجد، واتخذ الخالق خطوات مهمة لإعداد المُلك للنسل الآتي.
اهتم القاضي والنبي صموئيل جيدا بخير اسرائيل الروحي، لكنَّ ابنَيه كانا مختلفَين. فطلب الشعب اخيرا من صموئيل قائلين: «الآن اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب». وأوضح يهوه لصموئيل مغزى طلبهم، وقال: «اسمع لصوت الشعب . . . لأنهم لم يرفضوك انت بل اياي رفضوا حتى لا املك عليهم». ورأى يهوه مسبقا العواقب السيئة لهذا التطوُّر الجديد. (١ صموئيل ٨:١-٩) ومع ذلك، استجابةً لطلبهم، عيَّن رجلا متواضعا يدعى شاول ملكا على اسرائيل. ورغم بدايته الواعدة، اعرب شاول بعدما صار ملكا عن مواقف متصلبة وتعدّى وصايا اللّٰه. فأعلن نبي اللّٰه ان المملكة ستُعطى لرجل حسب قلب يهوه. ويُظهر لنا ذلك كم يقدِّر الخالق الطاعة من القلب. — ١ صموئيل ١٥:٢٢، ٢٣.
وداود، الملك التالي على اسرائيل، كان الابن الاصغر في عائلة من سبط يهوذا. وعن اختياره المفاجئ قال اللّٰه لصموئيل: «الانسان ينظر الى العينين وأما الرب فإنه ينظر الى القلب». (١ صموئيل ١٦:٧) ألا نتشجع حين نعرف ان الخالق ينظر الى ما نحن عليه في الداخل لا الى المظهر الخارجي؟ أما شاول فكان يخطّط لأمور اخرى. فمن الوقت الذي اختار فيه يهوه داود ليكون ملكا، استحوذت عليه فكرة التخلص من داود. لكنَّ يهوه لم يسمح بحدوث ذلك، وفي النهاية مات شاول وأبناؤه في معركة ضد شعب محارب يدعى الفلسطيين.
ملكَ داود من مدينة حبرون. وبعد ذلك اخذ اورشليم وجعلها هي العاصمة. ووسّع ايضا حدود اسرائيل الى الحد الاقصى للارض التي وعد بها اللّٰه المتحدِّرين من ابراهيم. وبإمكانكم ان تقرأوا عن هذه الفترة (وعن تاريخ الملوك اللاحقين) في ستة اسفار تاريخية في الكتاب المقدس.b وهي تكشف ان حياة داود لم تكن خالية من المشاكل. فقد استسلم مثلا للشهوة البشرية وارتكب الزنا مع بثشبع الجميلة ثم ارتكب اخطاء اخرى لكي يغطي خطيته. وبما ان يهوه اله العدل، فلم يكن ممكنا ان يتغاضى عن خطية داود. ولكن لأن داود اعرب عن توبة قلبية، لم يطالب اللّٰه بتطبيق صارم للعقوبة التي نصَّ عليها الناموس؛ ومع ذلك، كان داود سيعاني مشاكل عائلية كثيرة بسبب خطاياه.
وفي كل هذه الازمات، صار داود يعرف اللّٰه ككائن له شخصية، كائن له مشاعر. كتب: «الرب قريب لكل الذين يدعونه . . . ويسمع تضرعهم». (مزمور ١٤٥:١٨-٢٠) ويتجلى صدق داود وتعبُّده في الترانيم الجميلة التي نظمها، والتي تشكل نحو نصف سفر المزامير. وملايين الاشخاص يستمدون التعزية والتشجيع من هذا الشعر. تأملوا في مدى تقرُّب داود الى اللّٰه كما ينعكس في المزمور ١٣٩:١-٤: «يا رب قد اختبرتني وعرفتني. انت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيد . . . لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها».
عرف داود خصوصا قوة اللّٰه المنقِذة. (مزمور ٢٠:٦؛ ٢٨:٩؛ ٣٤:٧، ٩؛ ٣٧:٣٩) وكلما لمس هذه القوة، زادت ثقته بيهوه. ويمكن ان تروا ادلة على ذلك في المزمور ٣٠:٥؛ ٦٢:٨؛ و المزمور ١٠٣:٩. او اقرأوا المزمور ٥١ الذي نظمه داود بعدما وُبِّخ على خطيته مع بثشبع. كم تريحنا المعرفة انه بإمكاننا التعبير عن انفسنا للخالق دون تردُّد، ونحن على ثقة بأنه ليس متعجرفا بل هو مستعد للاصغاء بتواضع! (مزمور ١٨:٣٥؛ ٦٩:٣٣؛ ٨٦:١-٨) ولم ينمُ تقدير داود ليهوه خلال التجربة فقط. فقد كتب: ‹أتأمل في جميع اعمالك، اتفكّر في صنيع يديك›. — مزمور ٦٣:٦؛ ١٤٣:٥، تف.
دخل يهوه مع داود في عهد خاص لمملكة ابدية. وداود لم يفهم على الارجح المغزى الكامل لهذا العهد، ولكن من التفاصيل المسجلة لاحقا في الكتاب المقدس، نرى ان اللّٰه كان يشير الى ان النسل الموعود به كان سيأتي من سلالة داود. — ٢ صموئيل ٧:١٦.
الملك سليمان الحكيم ومعنى الحياة
كان سليمان بن داود معروفا بحكمته، وبإمكاننا الاستفادة منها بقراءة السفرَين العمليَّين جدا: الامثال و الجامعة.c (١ ملوك ١٠:٢٣-٢٥) والسفر الثاني مفيد خصوصا للذين يبحثون عن معنى لحياتهم، كما كان الملك سليمان الحكيم يفعل. فبما انه اول ملك اسرائيلي يولَد في اسرة ملكية، سنحت له فرص واسعة. وقد قام ايضا بمشاريع بناء فخمة، وفرش مائدته بتنوُّع مذهل من الاطعمة، وتمتع بالموسيقى وبرفقة شخصيات بارزة. لكنه كتب: «ثم التفتُّ انا الى كل اعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل». (جامعة ٢:٣-٩، ١١) فماذا استخلص من ذلك؟
كتب سليمان: «لنسمع ختام الامر كله. اتقِ اللّٰه واحفظ وصاياه لأن هذا هو [«التزام»، عج] الانسان كله. لأن اللّٰه يحضر كل عمل الى الدينونة على كل خفي إن كان خيرا او شرا». (جامعة ١٢:١٣، ١٤) وانسجاما مع ذلك، انهمك سليمان في مشروع بناء دام سبع سنوات لهيكل مجيد يعبد فيه الناس اللّٰه. — ١ ملوك الاصحاح ٦ .
اتسم حكم سليمان طوال سنوات بالسلام والوفرة. (١ ملوك ٤:٢٠-٢٥) لكنَّ قلبه لم يكن كاملا مع يهوه كقلب داود. واتخذ لنفسه نساء اجنبيات كثيرات وسمح لهن بإمالة قلبه وراء آلهتهن. وأخيرا قال يهوه: «امزق المملكة عنك تمزيقا . . . [و] أعطي سبطا واحدا لابنك لأجل داود عبدي ولأجل اورشليم». — ١ ملوك ١١:٤، ١١-١٣.
الجزء الثالث — المملكة تنقسم
بعد موت سليمان في سنة ٩٩٧ قم، انفصلت العشرة الاسباط الشمالية. وشكلت هذه مملكة اسرائيل التي احتلها الاشوريون سنة ٧٤٠ قم. أما الملوك في اورشليم فقد حكموا على سبطين اثنين. وهذه المملكة، اي يهوذا، استمرت الى ان احتل البابليون اورشليم سنة ٦٠٧ قم وأخذوا سكانها اسرى. وبقيت يهوذا مقفرة ٧٠ سنة.
عندما مات سليمان، تسلّم ابنه رحبعام مقاليد الحكم ونكّد عيش الشعب. فأدى ذلك الى ثورة، وانفصلت عشرة اسباط وشكلت مملكة اسرائيل. (١ ملوك ١٢:١-٤، ١٦-٢٠) وعلى مرِّ السنين، لم تُخلِص هذه المملكة الشمالية للاله الحقيقي. فغالبا ما خرَّ الشعب لصنمَين لهما شكل عجل ذهبي او ضلوا وراء اشكال اخرى من العبادة الباطلة. واغتيل بعض الملوك، وأطاح مغتصبو السلطة بحكم سلالاتهم الملكية. وقد اعرب يهوه عن جزيل الصبر، مرسلا مرة بعد اخرى الانبياء ليحذِّروا الامة من المأساة التي ستحلّ بها اذا استمرت في ارتدادها. وقد كتب سفرَي هوشع و عاموس نبيَّان تركّزت رسالتاهما على هذه المملكة الشمالية. وفي النهاية، في سنة ٧٤٠ قم، حلّت المأساة على يد الاشوريين كما سبق وأخبر انبياء اللّٰه.
أما في الجنوب، فقد تعاقب ١٩ ملكا من بيت داود في حكم يهوذا حتى سنة ٦٠٧ قم. وحكم الملوك آسا ويهوشافاط وحزقيا ويوشيا كما حكم ابوهم داود، ونالوا حظوة في عيني يهوه. (١ ملوك ١٥:٩-١١؛ ٢ ملوك ١٨:١-٧؛ ٢٢:١، ٢؛ ٢ أخبار الايام ١٧:١-٦) فعندما ملكَ هؤلاء، بارك يهوه الامة. تذكر موسوعة إنڠليشْمان النقدية والتفسيرية للكتاب المقدس (بالانكليزية): «ان السمة التقليدية الرفيعة التي ميَّزت يهوذا كانت هيكلها المختار من اللّٰه، كهنوتها، ناموسها المكتوب، واعترافها بالاله الحقيقي الواحد يهوه بصفته ملكها الثيوقراطي الحقيقي. . . . وهذا الالتصاق بالناموس . . . انتج سلسلة من الملوك ضمت حكاما حكماء وصالحين كثيرين . . . لذلك دامت يهوذا اكثر من اختها الشمالية التي سكانها اكثر عددا». لكنَّ هؤلاء الملوك الصالحين فاقهم عددا الملوك الذين لم يسلكوا في طريق داود. ومع ذلك وجَّه يهوه الامور ‹ليكون سراج لداود عبده كل الايام امامه في اورشليم، المدينة التي اختارها لنفسه ليضع اسمه فيها›. — ١ ملوك ١١:٣٦.
نحو الدمار
كان منسى احد ملوك يهوذا الذين ابتعدوا عن العبادة الحقة. «وعبَّر ابنه في النار وعاف وتفاءل واستخدم جانا وتوابع وأكثر عمل الشر في عيني الرب لإغاظته». (٢ ملوك ٢١:٦، ١٦) وأضل الملك منسى شعبه «ليعملوا اشر من الامم الذين طردهم الرب». وبعدما حذر الخالق منسى وشعبه مرارا، اعلن: «أمسح اورشليم كما يمسح واحد الصحن». — ٢ أخبار الايام ٣٣:٩، ١٠؛ ٢ ملوك ٢١:١٠-١٣.
وكبداية جعل يهوه الاشوريين يأسرون منسى ويسبونه مقيَّدا بسلاسل نحاس. (٢ أخبار الايام ٣٣:١١) وفيما كان منسى في سبيه عاد الى رشده «وتواضع جدا امام اله آبائه». فكيف تجاوب يهوه؟ «سمع [اللّٰه] تضرعه ورده الى اورشليم الى مملكته. فعلم منسى ان الرب هو اللّٰه». وأنجز الملك منسى وحفيده الملك يوشيا الاصلاحات اللازمة. ومع ذلك لم تبتعد الامة دائما عن الانحلال الادبي والديني الشامل. — ٢ أخبار الايام ٣٣:١-٢٠؛ ٣٤:١–٣٥:٢٥؛ ٢ ملوك الاصحاح ٢٢.
والجدير بالملاحظة ان يهوه ارسل انبياء غيورين ليعلنوا رأيه في ما يحدث.d وأورد ارميا كلام يهوه قائلا: «من اليوم الذي خرج فيه آباؤكم من ارض مصر الى هذا اليوم ارسلت اليكم كل عبيدي الانبياء مبكرا كل يوم ومرسلا». لكنَّ الشعب لم يسمعوا للّٰه. وأساءوا اكثر من آبائهم! (ارميا ٧:٢٥، ٢٦) فحذَّرهم مرارا «لأنه شفق على شعبه». ومع ذلك رفضوا التجاوب معه. لذلك سمح للبابليين سنة ٦٠٧ قم بأن يدمروا اورشليم ويجعلوا الارض مقفرة؛ وبقيت الارض مهجورة ٧٠ سنة. — ٢ أخبار الايام ٣٦:١٥، ١٦؛ ارميا ٢٥:٤-١١.
ان هذه المراجعة المختصرة لأفعال اللّٰه ينبغي ان تساعدنا على تقدير اهتمام يهوه وتعاملاته العادلة مع امته. فهو لم يقف جانبا وينتظر ليرى ماذا سيفعل الشعب، كما لو انه غير مبالٍ، بل حاول فعلا مساعدتهم. يمكنكم اذًا ان تفهموا لماذا قال اشعياء: «يا رب انت ابونا. . . . وكلنا عمل يديك». (اشعياء ٦٤:٨) وانسجاما مع ذلك يشير كثيرون اليوم الى الخالق بصفته «الآب»، لأنه يستجيب كما يفعل اب بشري محبّ ومهتم. لكنه يعرف ايضا انه يجب ان نتحمل مسؤولية مسلكنا الخاص ونتيجته.
بعدما عانت الامة ٧٠ سنة من الاسر في بابل، تمَّم يهوه اللّٰه نبوته بردّ اورشليم. فتحرَّر الشعب وسُمح لهم بالعودة الى موطنهم ‹لإعادة بناء بيت الرب الذي في اورشليم›. (عزرا ١:١-٤؛ اشعياء ٤٤:٢٤–٤٥:٧) ويتناول عدد من اسفار الكتاب المقدسe موضوع هذا الرد، او اعادة بناء الهيكل، او الاحداث التي تلت ذلك. وأحد هذه الاسفار، دانيال، مثير للاهتمام على وجه التخصيص لأنه تنبأ متى سيَظهر بالضبط النسل، او المسيَّا، وأخبر مسبقا بالتطوُّرات العالمية في هذه الفترة التي نعيش فيها.
وأخيرا أُعيد بناء الهيكل، لكنَّ اورشليم كانت في حالة مزرية. فكانت اسوارها وأبوابها خربة. لذلك اقام اللّٰه رجالا كنحميا لتشجيع اليهود وتنظيمهم. والصلاة التي يمكن ان نقرأها في نحميا الاصحاح ٩ تختصر ببراعة تعاملات يهوه مع الاسرائيليين. وهي تُظهر ان يهوه «اله غفور وحنّان ورحيم طويل الروح وكثير الرحمة». وتُظهر الصلاة ايضا ان يهوه يعمل بانسجام مع مقياس عدله الكامل. وحتى عندما يكون عنده سبب وجيه ليُظهر قدرته وينفِّذ الاحكام، لا يتردَّد في تلطيف العدل بالمحبة. وفعله ذلك بطريقة متزنة ورائعة يتطلب الحكمة. فمن الواضح ان تعاملات الخالق مع امة اسرائيل يجب ان تقرِّبنا اليه وتدفعنا الى الاهتمام بفعل مشيئته.
بانتهاء هذا الجزء من الكتاب المقدس (العهد القديم)، تكون يهوذا، مع هيكلها في اورشليم، قد رُدَّت ولكن تحت حكم وثني. فكيف سيتم عهد اللّٰه مع داود عن «نسل» يحكم «الى الابد»؟ (مزمور ٨٩:٣، ٤؛ ١٣٢:١١، ١٢) كان اليهود لا يزالون يتطلعون الى ظهور «المسيح الرئيس» الذي سيحرِّر شعب اللّٰه ويؤسس مملكة ثيوقراطية (اي حاكمها اللّٰه) على الارض. (دانيال ٩:٢٤، ٢٥) ولكن هل كان هذا قصد يهوه؟ اذا كان الجواب لا، فكيف سيجلب المسيَّا الموعود به الانقاذ؟ وكيف يؤثر ذلك فينا اليوم؟ سيتناول الفصل التالي هذه المسائل الحيوية.
[الحواشي]
a طُبعت اسماء اسفار الكتاب المقدس بأحرف سوداء ثخينة كمساعد على تحديد محتوياتها.
b هذه الاسفار هي: ١ صموئيل، ٢ صموئيل، ١ ملوك، ٢ ملوك، ١ أخبار الايام، و ٢ أخبار الايام.
c وكتب ايضا نشيد الانشاد، وهو قصيدة حب تركز على ولاء شابة لراعٍ متواضع.
d يحتوي عدد من اسفار الكتاب المقدس على رسائل نبوية ملهمة كهذه. وهي تشمل اشعياء، ارميا، مراثي ارميا، حزقيال، يوئيل، ميخا، حبقوق، و صفنيا. أما اسفار عوبديا، يونان، و ناحوم فتركز على الامم المحيطة التي كانت تعاملاتها تؤثر في شعب اللّٰه.
e هذه الاسفار التاريخية والنبوية تشمل عزرا، نحميا، استير، حجَّي، زكريا، و ملاخي.
[الاطار في الصفحتين ١٢٦ و١٢٧]
العجائب — هل يمكن ان تؤمنوا بها؟
«يستحيل ان نستعمل المصباح الكهربائي والاجهزة اللاسلكية ونستفيد من الاكتشافات العصرية في حقل الطب والجراحة، ونؤمن في الوقت نفسه بعالَم الارواح والعجائب في العهد الجديد». هذه الكلمات التي تفوَّه بها اللاهوتي الالماني رودولف بولتْمان تعكس رأي اناس كثيرين اليوم في العجائب. فهل هذا هو رأيكم في العجائب المسجلة في الكتاب المقدس، كعجيبة شقّ اللّٰه البحر الاحمر؟
يعرِّف قاموس أوكسفورد الوجيز (بالانكليزية) الكلمة الانكليزية التي تقابل «عجيبة» بأنها «حادثة خارقة تُنسب الى قوة فوق الطبيعة». وهذه الحادثة الخارقة تشمل تعطيلا للنظام الطبيعي، الامر الذي يجعل كثيرين يميلون الى عدم الايمان بالعجائب. لكنَّ ما يبدو انه خرق لقانون من قوانين الطبيعة يمكن ان يفسَّر بسهولة على ضوء قوانين اخرى للطبيعة.
لإيضاح ذلك، اخبرت العالِم الجديد (بالانكليزية) ان فيزيائيَّين في جامعة طوكيو وضعا بشكل افقي انبوبا يحتوي على بعض الماء ضمن حقل مغنطيسي قوي للغاية. فاندفع الماء نحو طرفَي الانبوب، تاركا الجزء الاوسط جافا. هذه الظاهرة، المكتشَفة سنة ١٩٩٤، تنجح لأن الماء مغاير للمغنطيسية diamagnetic (اي ان هنالك تنافرا بين المغنطيس والماء) بشكل ضعيف. والظاهرة المبرهَنة، التي يتحرك فيها الماء من حيث يكون الحقل المغنطيسي عاليا جدا الى حيث يكون ادنى، دعيت «تأثير موسى». ذكرت العالِم الجديد: «إزاحة الماء امر سهل — اذا كان عندكم مغنطيس كبير الى الحد الكافي. وإذا كان عندكم واحد كهذا، فكل شيء تقريبا ممكن».
طبعا، لا يمكن لأحد ان يجزم اية عملية استخدمها اللّٰه عندما شقّ البحر الاحمر امام الاسرائيليين. لكنَّ الخالق يعرف كل قوانين الطبيعة بأدق تفاصيلها. وباستطاعته ان يتحكم بسهولة في بعض جوانب قانون ما باستخدام قانون آخر من القوانين التي وضعها هو. وقد تبدو النتيجة في نظر البشر عجائبية، وخصوصا اذا كانوا لا يفهمون كاملا القوانين المشمولة بالامر.
وعن العجائب في الكتاب المقدس يقول أكيرا يامادا، وهو پروفسور متقاعد من جامعة كيوتو في اليابان: «مع انه يصحّ القول ان [العجيبة] لا يمكن ان تُفهم في الوقت الحاضر من منظار العلم الذي يتناولها (او من الوضع الراهن للعلم)، فمن الخطإ الاستنتاج انها لم تحدث لمجرد الاعتماد على الفيزياء الحديثة المتقدمة او علم الأحياء الحديث المتقدم. فبعد عشر سنوات، سيصير العلم الحديث شيئا من الماضي. وكلما زادت سرعة تقدُّم العلم كبُر احتمال صيرورة علماء اليوم عرضة للتنكيت، كالقول مثلا: ‹قبل عشر سنوات، كان العلماء يعتقدون جدّيا كذا وكذا› ». — الآلهة في عصر العلم (باليابانية).
ويهوه، بصفته الخالق القادر على التنسيق بين كل قوانين الطبيعة، يمكنه ان يستخدم قوته ليصنع العجائب.
[الاطار في الصفحتين ١٣٢ و ١٣٣]
اله غيور — بأيّ معنى؟
«الرب اسمه غيور. اله غيور هو». يمكن ان نقرأ هذا التعليق في الخروج ٣٤:١٤، ولكن ايّ مغزى يحمله؟
ان الكلمة العبرانية المنقولة الى «غيور» يمكن ان تعني «يتطلب التعبُّد المطلق، لا يرضى بأية منافسة». ويغار يهوه على اسمه وعبادته غيرة ايجابية تفيد مخلوقاته. (حزقيال ٣٩:٢٥) فغيرته لإتمام ما يمثّله اسمه تعني انه سيحقِّق قصده نحو الجنس البشري.
تأملوا مثلا في حكمه على الشعب الساكن في ارض كنعان. يذكر احد العلماء هذا الوصف الذي يصدم: «كانت عبادة بعل، عَشْتورة، والآلهة الكنعانية الاخرى عبارة عن طقوس من العربدة المفرطة الى ابعد حد؛ وكانت هياكلهم مراكز للرذيلة. . . . وقد مارس الكنعانيون عبادتهم بالانغماس في الفساد الادبي، . . . ثم بتقديم ابكارهم ذبيحة لهذه الآلهة نفسها». وقد اكتشف علماء الآثار جِرارًا تحتوي على بقايا اولاد قُدِّموا ذبائح. ومع ان اللّٰه لاحظ اثم الكنعانيين في ايام ابراهيم، فقد تصبَّر عليهم طوال ٤٠٠ سنة، مانحا اياهم متسعا من الوقت ليتغيَّروا. — تكوين ١٥:١٦.
هل كان الكنعانيون يعون فداحة اثمهم؟ لقد كانت عندهم مَلَكة الضمير البشرية، التي يعتبرها الفقهاء اساسا عالميا للاخلاق والعدل. (رومية ٢:١٢-١٥) ومع ذلك استمر الكنعانيون في تقديم اولادهم ذبائح مقيتة وفي ارتكاب ممارسات جنسية منحطة.
فقرَّر يهوه، بعدله المتزن، ان يطهّر الارض. ولم تكن هذه ابادة جماعية. فهنالك كنعانيون بقوا احياء، سواء كانوا افرادا كراحاب او جماعات كالجبعونيين، اذ قبلوا طوعا مقاييس اللّٰه الادبية السامية. (يشوع ٦:٢٥؛ ٩:٣-١٥) وصارت راحاب حلقة وصل في سلسلة النسب الملكية التي انتهت الى المسيَّا، وكان للمتحدِّرين من الجبعونيين امتياز الخدمة في هيكل يهوه. — يشوع ٩:٢٧؛ عزرا ٨:٢٠؛ متى ١:١، ٥-١٦.
وهكذا عندما يتوخى المرء الدقة وينظر الى الموضوع من كل جوانبه على اساس المنطق، يسهل عليه ان يرى في يهوه الها عادلا وجديرا بالإعجاب، الها غيورا بطريقة حسنة تفيد مخلوقاته الامينة.
-
-
معلّم عظيم يوضِح لنا المزيد عن الخالقهل يوجد خالق يهتم بامركم؟
-
-
الفصل التاسع
معلّم عظيم يوضِح لنا المزيد عن الخالق
كان الشعب في فلسطين في القرن الاول «ينتظر». ينتظر مَن؟ «المسيح» او «المسيَّا» الذي تنبأ عنه انبياء اللّٰه قبل قرون. وكان الشعب على ثقة بأن الكتاب المقدس كُتب بتوجيه من اللّٰه ويحتوي على لمحات الى امور مستقبلية. وقد اشارت احداها، في سفر دانيال، الى مجيء المسيح في وقت باكر من القرن الذي يعيشون فيه. — لوقا ٣:١٥؛ دانيال ٩:٢٤-٢٦.
ولكن كان يلزم ان يحذروا من قيام اشخاص يجعلون انفسهم المسيَّا. (متى ٢٤:٥) ويذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس بعضا منهم: ثوداس، الذي قاد أتباعه الى نهر الاردن وادّعى ان مياهه ستنفلق؛ رجل من مصر قاد اناسا الى جبل الزيتون، مؤكدا ان سور اورشليم سينهار بأمر منه؛ ودجّال في زمن الوالي فستوس وعد بالراحة من المشاكل. — قارنوا اعمال ٥:٣٦؛ ٢١:٣٨.
وبالتباين مع هؤلاء الأتباع المخدوعين، فإن مجموعة صارت تُعرف باسم «مسيحيين» رأت في يسوع الناصري معلّما عظيما واعتبرته المسيَّا الحقيقي. (اعمال ١١:٢٦؛ مرقس ١٠:٤٧) ولم يكن يسوع مسيّا دجّالا؛ فقد كانت اوراق اعتماده صحيحة، كما تُسهِب في تأكيده الاسفار التاريخية الاربعة المدعوّة «الاناجيل».a مثلا، كان اليهود يعرفون ان المسيَّا سيولَد في بيت لحم، وأنه سيكون من سلالة داود، وأنه سيصنع عجائب. ويسوع تمَّمها كلها، كما يشهد على ذلك حتى المقاومون. نعم، وفى يسوع بمؤهلات مسيَّا الكتاب المقدس. — متى ٢:٣-٦؛ ٢٢:٤١-٤٥؛ يوحنا ٧:٣١، ٤٢.
ان الجموع التي التقت يسوع ورأت اعماله الخارقة، وسمعت كلمات الحكمة الفريدة التي نطق بها، وأدركت بُعد نظره، اقتنعت بأنه هو المسيَّا. وخلال خدمته (٢٩-٣٣ بم)، اخذت تتزايد البراهين التي تدعم كونه المسيَّا. وفي الواقع، تبيَّن انه اكثر من المسيَّا. فقد استنتج تلميذ مطلّع على الوقائع ان «يسوع هو المسيح ابن اللّٰه».b — يوحنا ٢٠:٣١.
ونظرا الى هذه العلاقة الحميمة بين اللّٰه ويسوع، كان بإمكانه ان يوضح ويكشف صفات خالقنا. (لوقا ١٠:٢٢؛ يوحنا ١:١٨) وشهد يسوع ان علاقته الحميمة بأبيه بدأت في السماء، حيث كان يعمل عند اللّٰه في جلب كل الاشياء الاخرى، الحية والجامدة، الى الوجود. — يوحنا ٣:١٣؛ ٦:٣٨؛ ٨:٢٣، ٤٢؛ ١٣:٣؛ كولوسي ١:١٥، ١٦.
ويخبر الكتاب المقدس ان الابن نُقل من الحيِّز الروحي وصار «في شبه الناس». (فيلبي ٢:٥-٨) هذا الامر ليس عاديا، ولكن هل هو ممكن؟ يؤكد العلماء ان عنصرا طبيعيا، كاليورانيوم، يمكن ان يتحوَّل الى آخر؛ حتى انهم يحسبون النتائج حين تتحوَّل الكتلة الى طاقة (طا=كسر٢ ). فلماذا نشك حين يقول الكتاب المقدس ان مخلوقا روحانيا تحوَّل لكي يعيش كبشر؟!
لإيضاح الامر بطريقة اخرى، فكّروا في ما يفعله بعض الاطباء عند الإخصاب في الانبوب. فالحياة التي تبدأ في «انبوبة اختبار» تُنقل الى رحم امرأة، وبعد ذلك يولد الطفل. وفي حالة يسوع، يؤكد لنا الكتاب المقدس ان حياته نُقلت بواسطة «قوة العلي» الى رحم عذراء تدعى مريم كانت من سلالة داود. وهذا ما مكّن يسوع من ان يكون الوارث الدائم للملكوت المسيَّاني الذي وُعد به داود. — لوقا ١:٢٦-٣٨؛ ٣:٢٣-٣٨؛ متى ١:٢٣.
وعلى اساس علاقته الحميمة بالخالق وشبهه له، قال يسوع: «الذي رآني فقد رأى الآب». (يوحنا ١٤:٩) وقال ايضا: «ليس احد يعرف . . . مَن هو الآب إلا الابن ومَن اراد الابن ان يعلِن له». (لوقا ١٠:٢٢) لذلك كلما تعلّمنا عما علّمه يسوع وفعله على الارض، تجلّت لنا شخصية الخالق بأكثر وضوح. فلنتأمل في هذه المسألة، متناولين تجارب رجال ونساء تعاملوا مع يسوع.
امرأة سامرية
«ألعل هذا هو المسيح». هذا ما سألته امرأة سامرية بعد تحدُّثها الى يسوع لبعض الوقت. (يوحنا ٤:٢٩) حتى انها حثّت الآخرين من مدينة سوخار المجاورة على مقابلة يسوع. فماذا دفعها الى الاعتراف بيسوع بصفته المسيَّا؟
التقت هذه المرأة يسوع فيما كان يستريح من السير طوال الصباح في الطرقات المغبَّرة في تلال السامرة. ومع ان يسوع كان تعبا، تحدَّث اليها. ولما لاحظ اهتمامها الروحي الشديد، اخبرها بالحقائق العميقة التي ترتكز على ضرورة ‹السجود للآب بالروح والحق›. وفي النهاية كشف انه هو المسيح، وهذا امر لم يكن قد صرَّح به علنا من قبل. — يوحنا ٤:٣-٢٦.
حمل اللقاء بين المرأة السامرية ويسوع معاني عميقة لها. فقد كانت نشاطاتها الدينية السابقة تركّز على العبادة في جبل جِرِزِّيم وتعتمد فقط على الاسفار الخمسة الاولى من الكتاب المقدس. وكان اليهود يتجنَّبون السامريين الذين كان كثيرون منهم متحدِّرين من مصاهرة اسباط اسرائيل العشرة شعوبا اخرى. ولكن كم كان يسوع مختلفا! فقد كان راغبا في تعليم هذه السامرية، مع ان تفويضه كان الذهاب الى «خراف بيت اسرائيل الضالة». (متى ١٥:٢٤) هنا عكس يسوع رغبة يهوه في قبول الاشخاص المخلصين من جميع الامم. (١ ملوك ٨:٤١-٤٣) نعم، يترفّع يهوه ويسوع كلاهما عن العداوة الدينية التعصُّبية التي تتفشى بالعالم اليوم. ومعرفتنا ذلك ينبغي ان تقرِّبنا الى الخالق وإلى ابنه.
وهنالك عبرة اخرى نستمدها من رغبة يسوع في تعليم هذه المرأة. فقد كانت تعيش مع رجل ليس زوجها. (يوحنا ٤:١٦-١٩) لكنَّ يسوع لم يدع ذلك يمنعه من التحدُّث اليها. يمكنكم ان تتخيَّلوا كم قدَّرت دون شك معاملته لها بكرامة. ولم تكن تجربتها فريدة. فعندما انتقد بعض القادة اليهود (الفريسيون) على يسوع تناوله العشاء مع خطاة تائبين، قال: «لا يحتاج الاصحّاء الى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلّموا ما هو. اني اريد رحمة لا ذبيحة. لأني لم آتِ لأدعو ابرارا بل خطاة الى التوبة». (متى ٩:١٠-١٣) لقد مدَّ يسوع يد المساعدة الى اشخاص يرزحون تحت ثقل خطاياهم — انتهاكاتهم لشرائع اللّٰه او مقاييسه. فكم يبتهج قلبنا حين نعرف ان اللّٰه وابنه يساعدان الذين يعانون المشاكل الناجمة عن مسلكهم الماضي! — متى ١١:٢٨-٣٠.c
ولا ننسَ ان يسوع، في هذه المناسبة في السامرة، كان يتحدَّث بلطف وتفهُّم الى امرأة. وما العجيب في ذلك؟ في ذلك الوقت كان الرجال اليهود يُعلَّمون ضرورة تجنُّب التحدُّث الى النساء في الشارع، حتى الى زوجاتهم. ولم يكن الربَّانيون اليهود يعتبرون النساء قادرات على استيعاب الارشاد الروحي العميق، بل قالوا عنهن انهن «خفيفات العقل». قال البعض: «ان حرق كلمات الشريعة خير من تلاوتها على النساء». وقد ترعرع تلاميذ يسوع في جوّ كهذا؛ لذلك عندما عادوا، بدأوا «يتعجبون انه يتكلم مع امرأة». (يوحنا ٤:٢٧) لكنَّ هذه الرواية — هي والكثير غيرها — تُظهر ان يسوع كان في صورة ابيه الذي خلق الذكر والانثى وأولاهما كليهما الحق في الكرامة. — تكوين ٢:١٨.
وبعد ذلك اقنعت المرأة السامرية سكان مدينتها بالاستماع الى يسوع. وفحص كثيرون الوقائع وآمنوا قائلين: «نعلم ان هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم». (يوحنا ٤:٣٩-٤٢) وبما اننا جزء من «عالم» الجنس البشري هذا، يلعب يسوع دورا حيويا بالنسبة الى مستقبلنا نحن ايضا.
وجهة نظر صياد سمك
لنلقِ الآن نظرة على يسوع من خلال عيون اثنين من عشرائه الاحماء: اولا بطرس ثم يوحنا. كان هذان الصيادان العاديان بين أتباعه الاولين. (متى ٤:١٣-٢٢؛ يوحنا ١:٣٥-٤٢) واعتبرهما الفريسيون ‹انسانَين عديمَي العلم وعاميَّين›، من شعب الارض (عَم ها أَرِص) الذين كان يُنظر اليهم نظرة احتقار لأنهم لم يتعلموا كالربَّانيين. (اعمال ٤:١٣؛ يوحنا ٧:٤٩) وكثيرون من هذا الشعب، الذين كانوا ‹متعَبين وثقيلي الاحمال› من نير المتمسكين بالتقاليد الدينية، كانوا يتوقون الى الاستنارة الروحية. وعلّق الپروفسور شارل ڠينْيوبير من السُّوربون على ذلك بالقول ان «قلوبهم كانت كلها ليهوِه [يهوَه]». ولم يدر يسوع ظهره لهؤلاء المتواضعين لكسب ودّ اصحاب المال والنفوذ، بل كشف لهم عن الآب من خلال تعاليمه وتعاملاته. — متى ١١:٢٥-٢٨.
ولمس بطرس تعاطف يسوع بطريقة مباشرة. فبُعيد انضمامه الى يسوع في الخدمة، أُصيبت حماة بطرس بحمى. وعندما اتى يسوع الى بيت بطرس وأمسك بيدها، تركتها الحمى! لا نعلم بالتحديد العملية التي انتجت هذا الشفاء، كما ان الاطباء اليوم لا يستطيعون ان يشرحوا كاملا كيف تحدث عملية الشفاء من بعض الامراض، لكنَّ الحمى تركت هذه المرأة. والاهم من معرفة الطريقة التي استخدمها يسوع في الشفاء هو الادراك ان شفاء يسوع للمرضى دليل على انه يتحنن عليهم. فهو يرغب من صميم قلبه في مساعدة الناس، وهذا ما يرغب فيه ابوه ايضا. (مرقس ١:٢٩-٣١، ٤٠-٤٣؛ ٦:٣٤) وكان بإمكان بطرس ان يرى، من خلال تجربته مع يسوع، ان الخالق ينظر الى كل واحد كشخص جدير بالعناية والاهتمام. — ١ بطرس ٥:٧.
وفي وقت لاحق، كان يسوع في دار النساء في هيكل اورشليم. ولاحظ الناس يلقون تبرُّعاتهم في صناديق الخزانة. وكان الاغنياء يلقون فلوسا كثيرة. لكنَّ يسوع ركّز انتباهه على ارملة فقيرة ألقت فلسين قيمتهما ضئيلة جدا. فقال يسوع لبطرس ويوحنا والآخرين: «الحق اقول لكم ان هذه الارملة الفقيرة قد ألقت اكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة. لأن الجميع من فضلتهم ألقوا. وأما هذه فمن اعوازها ألقت كل ما عندها». — مرقس ١٢:٤١-٤٤.
ترون من ذلك ان يسوع كان يبحث عن الصفات الجيدة في الناس، وكان يقدِّر جهود كل شخص. وماذا كان تأثير ذلك في بطرس والرسل الآخرين في رأيكم؟ تعرَّف بطرس بصفات يهوه من مثال يسوع، لذلك اقتبس لاحقا من احد المزامير هذه الكلمات: «لأن عيني الرب على الابرار وأذنيه الى طلبتهم». (١ بطرس ٣:١٢؛ مزمور ٣٤:١٥، ١٦) أفلا تنجذبون الى خالق وابنه يريدان ان يجدا الصفات الجيدة فيكم ويصغيا الى تضرعاتكم؟
بعد نحو سنتين من معاشرة يسوع، كان بطرس متأكدا ان يسوع هو المسيَّا. ففي احدى المرات سأل يسوع تلاميذه: «مَن يقول الناس اني انا»، وتلقى اجوبة مختلفة. ثم سألهم: «وأنتم مَن تقولون اني انا». فأجاب بطرس بثقة: «انت المسيح». وقد تستغربون ما فعله يسوع بعد ذلك. فقد «انتهرهم كي لا يقولوا لأحد» عن ذلك. (مرقس ٨:٢٧-٣٠؛ ٩:٣٠؛ متى ١٢:١٦) فلماذا قال هذا؟ كان يسوع حاضرا في وسطهم، لذلك لم يرد ان يتوصل الناس الى استنتاجات عنه على اساس ما يسمعونه من اقاويل. وهذا منطقي، أليس كذلك؟ (يوحنا ١٠:٢٤-٢٦) الفكرة هنا هي ان خالقنا ايضا يريد منا ان نعرف عنه من خلال تحرِّينا عن ادلة متينة. فهو يتوقع ان تكون اقتناعاتنا مؤسسة على وقائع. — اعمال ١٧:٢٧.
وكما تخيَّلتم على الارجح، لم يعترف بيسوع بعض ابناء بلده، رغم وجود ادلة وافرة على دعم الخالق له. ولم يكن هذا المسيَّا الصادق والمتواضع يروق كثيرين ممَّن كان مركزهم الاجتماعي او اهدافهم السياسية شغلهم الشاغل. وعندما كانت خدمة يسوع تشرف على نهايتها، قال: «يا اورشليم يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسَلين اليها كم مرة اردتُ ان اجمع اولادك . . . ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترك لكم خرابا». (متى ٢٣:٣٧، ٣٨) وشكّل هذا التغيير في وضع تلك الامة خطوة كبيرة في تحقيق قصد اللّٰه لمباركة جميع الامم.
وبُعيد ذلك سمع بطرس وثلاثة رسل آخرون يسوعَ يتفوَّه بنبوة مفصلة عن «انقضاء الدهر».d وكان لِما انبأ يسوع به اتمام اولي خلال الهجوم الروماني على اورشليم وتدميرها في السنوات ٦٦-٧٠ بم. ويؤكد التاريخ ان ما تنبأ به يسوع حدث فعلا. وشهد بطرس امورا كثيرة انبأ بها يسوع، وينعكس ذلك في ١ و ٢ بطرس، وهما سفران كتبهما بطرس. — ١ بطرس ١:١٣؛ ٤:٧؛ ٥:٧، ٨؛ ٢ بطرس ٣:١-٣، ١١، ١٢.
كان يسوع، خلال خدمته، يُعرب بصبر عن اللطف نحو اليهود حوله. لكنه لم يتردَّد في ادانة الشر. وقد ساعد ذلك بطرس، كما ينبغي ان يساعدنا نحن ايضا، على معرفة خالقنا بشكل اكمل. فعندما رأى بطرس امورا اخرى تتمِّم نبوة يسوع، كتب انه ينبغي للمسيحيين ان يطلبوا «سرعة مجيء يوم الرب». وقال بطرس ايضا: «لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء ان يهلك اناس بل ان يُقبل الجميع الى التوبة». ثم ذكر بطرس كلمات تشجيع عن ‹سموات جديدة وأرض جديدة يسكن فيها البر›. (٢ بطرس ٣:٣-١٣) فهل نقدِّر، كما قدَّر بطرس، صفات اللّٰه المنعكسة في يسوع، وهل نثق بمواعيده بشأن المستقبل؟
لماذا مات يسوع؟
في الليلة الاخيرة مع الرسل، اشترك يسوع في وجبة خصوصية معهم. وفي وجبات كهذه، كان المضيف اليهودي يُظهر ضيافته بغسل ارجل الضيوف الذين ربما ساروا في طرقات مغبَّرة لابسين صنادل. لكنَّ احدا لم يعرض على يسوع فعل ذلك. فقام بتواضع وأخذ منشفة ومغسلا، وابتدأ يغسل ارجل الرسل. وعندما حان دور بطرس، خجل من قبول هذه الخدمة من يسوع. قال بطرس: «لن تغسل رِجليَّ ابدا». فأجاب يسوع: «إن كنت لا اغسلك فليس لك معي نصيب». وكان يسوع يعرف انه سيموت قريبا، لذلك اضاف: «إن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت ارجلكم فأنتم يجب عليكم ان يغسل بعضكم ارجل بعض. لأني اعطيتكم مثالا حتى كما صنعت انا بكم تصنعون انتم ايضا». — يوحنا ١٣:٥-١٧.
وبعد عقود حثَّ بطرس المسيحيين على التمثُّل بيسوع، ليس بالقيام برتبة غسل ارجل طقسية، بل بخدمة الآخرين بتواضع دون ان ‹يسودوا› عليهم. وأدرك بطرس ايضا ان مثال يسوع يثبت ان «اللّٰه يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة». فما اروع هذا الدرس عن الخالق! (١ بطرس ٥:١-٥؛ مزمور ١٨:٣٥، عج) لكنَّ بطرس تعلّم المزيد.
فبعد تلك الوجبة الاخيرة، قاد يهوذا الاسخريوطي، وهو واحد من الرسل لكنه صار سارقا، فرقة مسلّحة لاعتقال يسوع. وفيما كانوا يقبضون عليه، تدخَّل بطرس. فقد استلّ سيفه وجرح شخصا منهم. فقوَّم يسوع بطرس وقال: «ردَّ سيفك الى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون». ثم لمس يسوع الرجل، فيما كان بطرس ينظر، وشفاه. (متى ٢٦:٤٧-٥٢؛ لوقا ٢٢:٤٩-٥١) فمن الواضح ان يسوع كان يعيش وفق ما علّمه حين ذكر: «احبوا اعداءكم»، وذلك تمثّلا بأبيه الذي «يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين». — متى ٥:٤٤، ٤٥.
وخلال تلك الليلة العصيبة، استمعت المحكمة اليهودية العليا على عجلة الى قضية يسوع. واتُّهم زورا بالتجديف، وأُخذ الى الوالي الروماني، ثم سُلِّم ظلما ليُعدَم. واستهزأ به اليهود والرومان. وعومل معاملة وحشية وفي النهاية عُلِّق. ان الكثير من المعاملة السيئة تمَّم نبوات كُتبت قبل قرون. وحتى الجند الذين كانوا يراقبون يسوع على خشبة الآلام اعترفوا قائلين: «حقا كان هذا ابن اللّٰه». — متى ٢٦:٥٧–٢٧:٥٤؛ يوحنا ١٨:١٢–١٩:٣٧.
لا بد ان هذه التطوُّرات دفعت بطرس وغيره الى السؤال: ‹لماذا كان يلزم ان يموت المسيح؟›. لكنهم لم يفهموا إلا لاحقا. فهذه الحوادث تمَّمت النبوة في اشعياء الاصحاح ٥٣ التي اظهرت ان المسيح لن يزوِّد فرصة التحرُّر لليهود فحسب بل لكل الجنس البشري ايضا. كتب بطرس: «حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذي بجَلدته شُفيتم». (١ بطرس ٢:٢١-٢٥) لقد لمس بطرس حقيقة ما ذكره يسوع سابقا: «ابن الانسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين». (متى ٢٠:٢٨) نعم، كان على يسوع ان يضحّي بحقه في الحياة كإنسان كامل لكي يشتري من جديد الجنس البشري من الحالة الخاطئة الموروثة عن آدم. وهذا احد تعاليم الكتاب المقدس الرئيسية: الفدية.
وعلامَ تشتمل الفدية؟ فكروا في الامر بهذه الطريقة: لنفترض انكم تملكون جهاز كمپيوتر، لكنَّ احد ملفاته files الالكترونية أُفسد بسبب خطإ (او ڤيروس) كان شخص قد زرعه في برنامج سليم. يفسِّر ذلك تأثير ما فعله آدم حين تمرَّد على اللّٰه بمحض ارادته، او اخطأ. لنتابع المثل. مهما يكن عدد النسخ التي تصنعونها عن هذا الملف الالكتروني الفاسد، فكلها ستحتوي على الخطإ. لكنَّ هذا لا يعني انه يلزم محو كل شيء. فبواسطة برنامج خاص، بإمكانكم اكتشاف وإزالة الخطإ المعطِّل من ملفاتكم وجهازكم. وبشكل مماثل، اخذ الجنس البشري «ڤيروسًا»، هو الخطية، من آدم وحواء، ونحتاج الى مساعدة خارجية لإزالته. (رومية ٥:١٢) ووفقا للكتاب المقدس، زوَّد اللّٰه هذا التطهير بواسطة موت يسوع. انه لَتدبير حبي يمكننا ان نستفيد منه. — ١ كورنثوس ١٥:٢٢.
والتقدير لما فعله يسوع دفع بطرس الى عدم عيش «الزمان الباقي في الجسد لشهوات الناس بل لإرادة اللّٰه». وكان ذلك يعني، بالنسبة الى بطرس وإلينا ايضا، تجنُّب العادات الفاسدة وأنماط الحياة اللاأخلاقية. وقد يحاول الآخرون تسبيب المشاكل للشخص الذي يجاهد لفعل «ارادة اللّٰه». لكنه سيجد ان حياته تصير اغنى وذات معنى اكبر. (١ بطرس ٤:١-٣، ٧-١٠، ١٥، ١٦) هذا ما حصل لبطرس، ويمكن ان يحصل لنا نحن حين ‹نستودع انفسنا، او حياتنا، لخالق امين في عمل الخير›. — ١ بطرس ٤:١٩.
تلميذ قدَّر المحبة
كان الرسول يوحنا تلميذا آخر عاشر يسوع معاشرة لصيقة، لذلك يمكنه ان يساعدنا على معرفة الخالق بشكل اكمل. كتب يوحنا انجيلا وثلاث رسائل (١، ٢، و ٣ يوحنا). وفي احدى رسائله، اوضح لنا هذا الامر: «نعلم ان ابن اللّٰه قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف [الخالق] الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الاله الحق والحياة الابدية». — ١ يوحنا ٥:٢٠.
ان معرفة يوحنا ‹للخالق الحق› شملت استخدام «بصيرة». فماذا تبيَّن ليوحنا عن صفات الخالق؟ كتب: «اللّٰه محبة ومَن يثبت في المحبة يثبت في اللّٰه». وماذا جعل يوحنا يذكر ذلك وله ملء الثقة؟ «في هذا هي المحبة ليس اننا نحن احببنا اللّٰه بل انه هو احبنا وأرسل ابنه» ليقدِّم لأجلنا ذبيحة فدائية. (١ يوحنا ٤:١٠، ١٦) فكما تأثر بطرس، تأثر يوحنا ايضا بمحبة اللّٰه المعرَب عنها بإرسال ابنه ليموت لأجلنا.
وبما ان يوحنا كان مقرَّبا جدا الى يسوع، كان بإمكانه ان يعرف مشاعره. وثمة حادثة في بيت عنيا، قرب اورشليم، تركت انطباعا عميقا في يوحنا. كان يسوع قد تلقى خبرا مفاده ان صديقه لعازر مريض جدا. فقصد يسوع بيت عنيا. وعندما وصل هو والرسل الى هناك، كان لعازر قد مات قبل اربعة ايام على الاقل. كان يوحنا يعرف ان الخالق، ينبوع الحياة البشرية، يدعم يسوع. فهل كان بإمكان يسوع ان يقيم لعازر؟ (لوقا ٧:١١-١٧؛ ٨:٤١، ٤٢، ٤٩-٥٦) قال يسوع لمرثا اخت لعازر: «سيقوم اخوك». — يوحنا ١١:١-٢٣.
ثم رأى يوحنا مريم، اخت لعازر الاخرى، تأتي للقاء يسوع. فماذا كان رد فعل يسوع؟ «انزعج بالروح واضطرب». لكي يصف يوحنا رد فعل يسوع، استخدم كلمة يونانية (تُرجمت الى «انزعج» بالعربية) تحمل معنى التعبير عن الانفعالات العميقة الناجمة عن تعصُّر القلب حزنا. وكان بإمكان يوحنا ان يرى يسوع ‹يضطرب›، او تجيش نفسه من الحزن الشديد. لم يكن يسوع باردا او غير مبالٍ. فقد «بكى». (يوحنا ١١:٣٠-٣٧) فمن الواضح ان يسوع كان يكنّ مشاعر عميقة ورقيقة، وهذا ما ساعد يوحنا على ادراك مشاعر الخالق، وينبغي ان يساعدنا نحن ايضا.
وعرف يوحنا ان مشاعر يسوع ترتبط بأعمال ايجابية، لأنه سمع يسوع يصرخ: «لعازر هلم خارجا». وهذا ما حدث. فقد عاد لعازر الى الحياة وخرج من القبر. ويا للفرح الذي غمر دون شك اختيه والمتفرِّجين الآخرين! وآمن كثيرون بيسوع. ولم يكن بإمكان اعدائه ان ينكروا إقامته لعازر، ولكن عندما انتشر الخبر، ‹تشاوروا ليقتلوا لعازر› ويسوع ايضا. — يوحنا ١١:٤٣؛ ١٢:٩-١١.
يصف الكتاب المقدس يسوع بأنه «رسم جوهر» الخالق. (عبرانيين ١:٣) وهكذا زوَّدت خدمته دليلا وافرا على رغبته ورغبة ابيه الشديدتَين في إبطال ويلات المرض والموت. ولا يتوقف ذلك عند القيامات القليلة المسجلة في الكتاب المقدس. فقد كان يوحنا حاضرا عندما سمع يسوع يقول: ‹تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور [«التذكارية»، عج] صوته فيخرجون›. (يوحنا ٥:٢٨، ٢٩) لاحظوا انه بدلا من استعمال الكلمة المألوفة التي تقابل «قبر»، استخدم يوحنا كلمة تُنقل الى ‹قبور تذكارية›. ولماذا؟
يتعلق الامر بذاكرة اللّٰه. فخالق الكون الرحب قادر طبعا ان يتذكر كل التفاصيل عن كل شخص من احبائنا الموتى، بما في ذلك ميزاته الفطرية والمكتسبة. (قارنوا اشعياء ٤٠:٢٦.) والامر يتعدى كونه قادرا على التذكر. فهو وابنه على السواء يريدان التذكر. قال ايوب الامين عن اللّٰه في ما يتعلق برجاء القيامة الرائع: «إن مات رجل أفيحيا. . . . تدعو [يا يهوه] فأنا اجيبك. تشتاق الى عمل يدك». (ايوب ١٤:١٤، ١٥؛ مرقس ١:٤٠-٤٢) فما اروع خالقنا؛ انه فعلا يستحق عبادتنا!
يسوع المقام — مفتاح الى حياة ذات معنى
كان يوحنا، التلميذ الحبيب، يراقب يسوع عن قرب حتى موته. والاكثر من ذلك، سجّل يوحنا اعظم قيامة حصلت على الاطلاق، حادثة وضعت اساسا متينا لتمتُّعنا بحياة مديدة وذات معنى.
تسبَّب اعداء يسوع بإعدامه، اذ سُمِّر على خشبة كأيّ مجرم. وهزأ به المتفرِّجون — بمَن فيهم القادة الدينيون — وهو يتألم طوال ساعات. ومع ان يسوع كان يتعذب على الخشبة، رأى امه وقال لها عن يوحنا: «يا امرأة هوذا ابنك». لا بد ان مريم كانت عندئذ ارملة، ولم يكن اولادها الآخرون قد صاروا تلاميذ بعد.e لذلك ائتمن يسوع تلميذه يوحنا على الاعتناء بأمه التي تقدَّمت بها السن. يعكس ذلك ايضا تفكير الخالق الذي شجّع على الاعتناء بالارامل واليتامى. — يوحنا ٧:٥؛ ١٩:١٢-٣٠؛ مرقس ١٥:١٦-٣٩؛ يعقوب ١:٢٧.
ولكن عندما مات يسوع، كيف كان سيتمكن من اتمام دوره ‹كنسل تتبارك فيه جميع امم الارض›؟ (تكوين ٢٢:١٨) ان يسوع، بموته بعد ظهر ذلك اليوم من شهر نيسان سنة ٣٣ بم، ضحى بحياته كأساس للفدية. ولا بد ان اباه المرهف الاحساس تألم عندما رأى العذاب الذي عاناه ابنه البريء. ولكن بهذه الطريقة، تَوفَّر ثمن الفدية الضروري لتحرير الجنس البشري من عبودية الخطية والموت. (يوحنا ٣:١٦؛ ١ يوحنا ١:٧) وقد مهَّد ذلك الطريق لنتيجة حاسمة.
بما ان يسوع المسيح يلعب دورا رئيسيا في تحقيق مقاصد اللّٰه، كان لا بد ان يعود الى الحياة. وهذا ما حدث، وكان يوحنا شاهدا على ذلك. ففي وقت باكر من اليوم الثالث بعد موت يسوع ودفنه، ذهب بعض التلاميذ الى القبر. فكان فارغا. وبقوا متحيِّرين من ذلك الى ان ظهر يسوع لأشخاص مختلفين. فقد اخبرت مريم المجدلية «انها رأت الرب»، لكنَّ التلاميذ لم يصدِّقوا شهادتها. وبعد ذلك اجتمع التلاميذ في غرفة مغلقة وظهر يسوع ثانية، حتى انه تحدَّث اليهم. وبعد ايام، صار اكثر من ٥٠٠ رجل وامرأة شهود عيان على ان يسوع حيّ فعلا. وكان بإمكان المتشككين في ذلك الوقت ان يقابلوا هؤلاء الشهودَ العدْلَ ويتحققوا من شهادتهم. وكان المسيحيون متأكدين ان يسوع أُقيم، وأنه حيّ ككائن روحاني مثلما هو الخالق. وكانت الادلة على ذلك وافرة وموثوقا بها حتى ان كثيرين واجهوا الموت ولم ينكروا قيامة يسوع. — يوحنا ٢٠:١-٢٩؛ لوقا ٢٤:٤٦-٤٨؛ ١ كورنثوس ١٥:٣-٨.f
وعانى الرسول يوحنا ايضا الاضطهاد من اجل الشهادة بقيامة يسوع. (رؤيا ١:٩) ولكن عندما كان في منفاه الجزائي، تلقى مكافأة غير عادية. فقد اعطاه يسوع سلسلة من الرؤى تعرِّفنا بالخالق بشكل اكثر وضوحا وتكشف عما سيجلبه المستقبل. وستجدون ذلك في سفر الرؤيا، الذي يستعمل رموزا كثيرة. ويُصوَّر يسوع المسيح هنا كملك منتصر سيكمل قريبا غلبته على اعدائه. ويشمل هؤلاء الاعداء الموت (عدو لنا جميعا) والمخلوق الروحاني الفاسد الذي يدعى الشيطان. — رؤيا ٦:١، ٢؛ ١٢:٧-٩؛ ١٩:١٩–٢٠:٣، ١٣، ١٤.
ونحو نهاية رسالته الرؤيوية، نال يوحنا رؤيا عن زمن تصير فيه الارض فردوسا. ووصف صوتٌ الاحوال التي ستسود آنذاك: «اللّٰه نفسه يكون مع [الناس] الها لهم. وسيمسح اللّٰه كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأن الامور الاولى قد مضت». (رؤيا ٢١:٣، ٤) وتحقيقا لقصد اللّٰه، سيتمّ وعد اللّٰه لإبراهيم. — تكوين ١٢:٣؛ ١٨:١٨.
عندئذ ستكون الحياة ‹حياة حقيقية›، مثلما كانت عندما خُلق آدم. (١ تيموثاوس ٦:١٩، عج) ولن يتلمّس الجنس البشري ثانية طريقه ليجد خالقه وليفهم علاقته به. ولكن قد تسألون: ‹متى سيحدث ذلك؟ ولماذا يسمح خالقنا المهتم بوجود الشر والالم حتى هذا الوقت؟›. لنتأمل في هذين السؤالين في الفصل التالي.
-