أَثْنَاءَ سَفَرِ يَسُوعَ عَبْرَ بِيرْيَا مُتَّجِهًا إِلَى أُورُشَلِيمَ،‏ يَرْكُضُ صَوْبَهُ شَابٌّ غَنِيٌّ مِنَ ‹ٱلرُّؤَسَاءِ›،‏ رُبَّمَا رَئِيسُ مَجْمَعٍ أَوْ عُضْوٌ فِي ٱلسَّنْهَدْرِيمِ.‏ فَيَرْكَعُ أَمَامَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَسْتَفْهِمُ مِنْهُ:‏ «أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ،‏ مَاذَا أَعْمَلُ لِأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ؟‏».‏ —‏ لوقا ٨:‏٤١؛‏ ١٨:‏١٨؛‏ ٢٤:‏٢٠‏.‏

فَيُجِيبُهُ:‏ «لِمَ تَدْعُونِي صَالِحًا؟‏ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلَّا وَاحِدٌ،‏ وَهُوَ ٱللّٰهُ».‏ (‏لوقا ١٨:‏١٩‏)‏ يُرَجَّحُ أَنَّ ٱلشَّابَّ يَسْتَخْدِمُ كَلِمَةَ «صَالِحٍ» كَلَقَبٍ شَكْلِيٍّ،‏ مِثْلَمَا يُحِبُّ ٱلرَّبَّانِيُّونَ أَنْ يُلَقَّبُوا.‏ وَمَعَ أَنَّ يَسُوعَ مُعَلِّمٌ صَالِحٌ،‏ يَحْرِصُ أَنْ يُفْهِمَهُ أَنَّ هٰذَا ٱللَّقَبَ لِلّٰهِ فَقَطْ.‏

وَلٰكِنْ رَدًّا عَلَى سُؤَالِهِ،‏ يَنْصَحُهُ قَائِلًا:‏ «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ،‏ فَدَاوِمْ عَلَى حِفْظِ ٱلْوَصَايَا».‏ وَحِينَ يَسْأَلُهُ ٱلشَّابُّ:‏ «أَيِّ وَصَايَا؟‏»،‏ يَقْتَبِسُ يَسُوعُ خَمْسًا مِنَ ٱلْوَصَايَا ٱلْعَشْرِ ٱلْمُتَعَلِّقَةِ بِٱلْقَتْلِ،‏ ٱلزِّنَى،‏ ٱلسَّرِقَةِ،‏ شَهَادَةِ ٱلزُّورِ،‏ وَإِكْرَامِ ٱلْوَالِدِينَ.‏ ثُمَّ يُضِيفُ وَصِيَّةً أَهَمَّ:‏ «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ».‏ —‏ متى ١٩:‏​١٧-‏١٩‏.‏

فَيُجِيبُ ٱلشَّابُّ:‏ «حَفِظْتُ هٰذِهِ كُلَّهَا،‏ فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟‏».‏ (‏متى ١٩:‏٢٠‏)‏ فَلَرُبَّمَا يَشْعُرُ أَنَّ عَلَيْهِ تَحْقِيقَ عَمَلٍ نَبِيلٍ وَعَظِيمٍ يُؤَهِّلُهُ لِلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ.‏ فَيَلْمُسُ يَسُوعُ صِدْقَهُ وَحُسْنَ نِيَّتِهِ ‹وَيَشْعُرُ بِمَحَبَّةٍ نَحْوَهُ›.‏ (‏مرقس ١٠:‏٢١‏)‏ وَلٰكِنْ ثَمَّةَ عَقَبَةٌ عَلَى هٰذَا ٱلشَّابِّ أَنْ يَتَخَطَّاهَا.‏

فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِثَرْوَتِهِ.‏ يَقُولُ لَهُ يَسُوعُ:‏ «يَنْقُصُكَ أَمْرٌ وَاحِدٌ:‏ اِذْهَبْ،‏ بِعْ مَا عِنْدَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ،‏ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ،‏ وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي».‏ فَبِإِمْكَانِهِ أَنْ يُوَزِّعَ أَمْوَالَهُ عَلَى ٱلْفُقَرَاءِ صَدَقَةً وَيُصْبِحَ وَاحِدًا مِنْ تَلَامِيذِ يَسُوعَ.‏ لٰكِنَّهُ يَنْهَضُ وَيَمْضِي حَزِينًا.‏ فَيُشْفِقُ عَلَيْهِ يَسُوعُ عَلَى ٱلْأَرْجَحِ لِأَنَّ تَشَبُّثَهُ ‹بِأَمْلَاكِهِ ٱلْكَثِيرَةِ› يُعْمِيهِ عَنْ إِيجَادِ ٱلْكَنْزِ ٱلْحَقِيقِيِّ.‏ (‏مرقس ١٠:‏​٢١،‏ ٢٢‏)‏ وَيُعَلِّقُ قَائِلًا:‏ «مَا أَصْعَبَ دُخُولَ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ عَلَى ذَوِي ٱلْمَالِ!‏».‏ —‏ لوقا ١٨:‏٢٤‏.‏

يَقِفُ ٱلتَّلَامِيذُ مَذْهُولِينَ أَمَامَ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتِ وَمَا يَقُولُهُ يَسُوعُ تَالِيًا:‏ «إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ فِي ثَقْبِ إِبْرَةِ ٱلْخِيَاطَةِ أَسْهَلُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».‏ فَيَسْأَلُونَهُ حَائِرِينَ:‏ «وَمَنْ عَسَاهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟‏».‏ فَهَلِ ٱلْخَلَاصُ أَصْعَبُ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ ٱلْبَشَرُ؟‏ يَنْظُرُ يَسُوعُ إِلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً وَيُجِيبُ:‏ «اَلْمُسْتَحِيلُ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ».‏ —‏ لوقا ١٨:‏​٢٥-‏٢٧‏.‏

حِينَئِذٍ،‏ يُعَبِّرُ بُطْرُسُ أَنَّهُ وَٱلتَّلَامِيذَ ٱتَّخَذُوا قَرَارًا مُغَايِرًا لِلرَّئِيسِ ٱلْغَنِيِّ.‏ فَيَقُولُ:‏ «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ،‏ فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟‏».‏ فَيَعِدُ يَسُوعُ أَنَّهُمْ سَيُكَافَأُونَ عَلَى خِيَارِهِمِ ٱلسَّدِيدِ قَائِلًا:‏ «عِنْدَمَا يَجْلِسُ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ عَلَى عَرْشِهِ ٱلْمَجِيدِ فِي ٱلتَّجْدِيدِ،‏ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا،‏ يَا مَنْ تَبِعْتُمُونِي،‏ عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ عَرْشًا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ».‏ —‏ متى ١٩:‏​٢٧،‏ ٢٨‏.‏

وَاضِحٌ أَنَّهُ يَتَحَدَّثُ عَنِ ٱلْمُسْتَقْبَلِ حِينَ تَتَجَدَّدُ ٱلْأَحْوَالُ عَلَى ٱلْأَرْضِ فَتَعُودُ إِلَى سَابِقِ عَهْدِهَا فِي جَنَّةِ عَدْنٍ.‏ وَآنَذَاكَ سَيُكَافَأُ بُطْرُسُ وَٱلتَّلَامِيذُ ٱلْآخَرُونَ إِذْ يَمْلِكُونَ مَعَ يَسُوعَ عَلَى ٱلْفِرْدَوْسِ ٱلْأَرْضِيِّ،‏ وَهِيَ مُكَافَأَةٌ تَسْتَأْهِلُ كُلَّ ٱلتَّضْحِيَاتِ.‏

وَلٰكِنْ ثَمَّةَ بَرَكَاتٌ يَنْعَمُونَ بِهَا حَتَّى فِي ٱلْوَقْتِ ٱلرَّاهِنِ.‏ يُخْبِرُ يَسُوعُ:‏ «مَا مِنْ أَحَدٍ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ زَوْجَةً أَوْ إِخْوَةً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ أَوْلَادًا لِأَجْلِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ إِلَّا وَيَنَالُ أَضْعَافًا فِي هٰذَا ٱلزَّمَانِ،‏ وَفِي نِظَامِ ٱلْأَشْيَاءِ ٱلْآتِي حَيَاةً أَبَدِيَّةً».‏ —‏ لوقا ١٨:‏​٢٩،‏ ٣٠‏.‏

فَأَيْنَمَا يَذْهَبُ ٱلتَّلَامِيذُ،‏ يَتَمَتَّعُونَ بِعَلَاقَةِ أُخُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ مَعَ رُفَقَائِهِمِ ٱلْعُبَّادِ أَلْصَقَ وَأَعَزَّ مِنَ ٱلرِّبَاطِ ٱلَّذِي يَجْمَعُهُمْ بِأَفْرَادِ عَائِلَاتِهِمْ.‏ وَلٰكِنْ لِلْأَسَفِ،‏ يَبْدُو أَنَّ ٱلرَّئِيسَ ٱلشَّابَّ ٱلْغَنِيَّ سَيُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ هٰذِهِ ٱلْبَرَكَةَ وَكَذٰلِكَ مُكَافَأَةَ ٱلْحَيَاةِ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ ٱلسَّمَاوِيِّ.‏

ثُمَّ يُتَابِعُ يَسُوعُ:‏ «وَلٰكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَصِيرُونَ آخِرِينَ،‏ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ».‏ (‏متى ١٩:‏٣٠‏)‏ فَمَا قَصْدُهُ؟‏

إِنَّ ٱلرَّئِيسَ ٱلْغَنِيَّ هُوَ بَيْنَ ‹ٱلْأَوَّلِينَ› بِٱعْتِبَارِهِ أَحَدَ قَادَةِ ٱلْيَهُودِ.‏ وَبِحِفْظِهِ وَصَايَا ٱللّٰهِ،‏ أَظْهَرَ أَنَّ لَدَيْهِ إِمْكَانَاتٍ كَبِيرَةً وَمُسْتَقْبَلًا وَاعِدًا.‏ لٰكِنَّهُ أَعْطَى ٱلْأَوْلَوِيَّةَ فِي حَيَاتِهِ لِلْغِنَى وَٱلْمُمْتَلَكَاتِ.‏ بِٱلْمُقَابِلِ،‏ فَإِنَّ شَعْبَ ٱلْأَرْضِ،‏ أَيْ عَامَّةَ ٱلنَّاسِ،‏ يَرَوْنَ فِي تَعَالِيمِ يَسُوعَ ٱلْحَقَّ وَٱلطَّرِيقَ إِلَى ٱلْحَيَاةِ.‏ فَقَدْ كَانُوا «آخِرِينَ»،‏ إِنْ جَازَ ٱلتَّعْبِيرُ،‏ لٰكِنَّهُمْ يُصْبِحُونَ «أَوَّلِينَ».‏ فَهُمْ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى ٱلْجُلُوسِ عَلَى عُرُوشٍ فِي ٱلسَّمَاءِ مَعَ يَسُوعَ وَٱلْحُكْمِ عَلَى ٱلْأَرْضِ ٱلْفِرْدَوْسِيَّةِ.‏

‏«كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَصِيرُونَ آخِرِينَ،‏ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ».‏ (‏متى ١٩:‏٣٠‏)‏ بَعْدَمَا يَقُولُ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلْعِبَارَةَ لِمُسْتَمِعِيهِ فِي بِيرْيَا،‏ يُعَاوِدُ ٱلتَّشْدِيدَ عَلَيْهَا بِمَثَلٍ عَنْ عُمَّالٍ يَشْتَغِلُونَ فِي كَرْمٍ.‏

يَرْوِي:‏ «مَلَكُوتُ ٱلسَّمٰوَاتِ يُشْبِهُ إِنْسَانًا صَاحِبَ أَرْضٍ [أَوْ رَبَّ بَيْتٍ] خَرَجَ فِي ٱلصَّبَاحِ ٱلْبَاكِرِ لِيَسْتَأْجِرَ عُمَّالًا لِكَرْمِهِ.‏ فَٱتَّفَقَ مَعَ ٱلْعُمَّالِ عَلَى دِينَارٍ فِي ٱلْيَوْمِ،‏ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ.‏ ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ،‏ فَرَأَى آخَرِينَ وَاقِفِينَ فِي سَاحَةِ ٱلسُّوقِ عَاطِلِينَ عَنِ ٱلْعَمَلِ،‏ فَقَالَ لَهُمْ:‏ ‹اِذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى ٱلْكَرْمِ،‏ وَسَأُعْطِيكُمْ مَا هُوَ عَدْلٌ›.‏ فَمَضَوْا.‏ وَخَرَجَ أَيْضًا نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ،‏ ثُمَّ نَحْوَ ٱلتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذٰلِكَ.‏ وَأَخِيرًا،‏ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ وَاقِفِينَ،‏ فَقَالَ لَهُمْ:‏ ‹مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ هُنَا كُلَّ ٱلنَّهَارِ عَاطِلِينَ عَنِ ٱلْعَمَلِ؟‏›.‏ قَالُوا لَهُ:‏ ‹لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ›.‏ قَالَ لَهُمْ:‏ ‹اِذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى ٱلْكَرْمِ›».‏ —‏ متى ٢٠:‏​١-‏٧‏.‏

يُرَجَّحُ أَنَّ فِكْرَ ٱلسَّامِعِينَ يَذْهَبُ إِلَى يَهْوَهَ ٱللّٰهِ حِينَ يَأْتِي يَسُوعُ عَلَى ذِكْرِ مَلَكُوتِ ٱلسَّمٰوَاتِ وَرَبِّ ٱلْبَيْتِ.‏ فَٱلْأَسْفَارُ ٱلْمُقَدَّسَةُ تُشِيرُ إِلَى يَهْوَهَ بِوَصْفِهِ صَاحِبَ كَرْمٍ،‏ وَهٰذَا ٱلْكَرْمُ مَثَّلَ أُمَّةَ إِسْرَائِيلَ.‏ (‏مزمور ٨٠:‏​٨،‏ ٩؛‏ اشعيا ٥:‏​٣،‏ ٤‏)‏ وَٱلَّذِينَ هُمْ تَحْتَ عَهْدِ ٱلشَّرِيعَةِ شُبِّهُوا بِعُمَّالٍ فِي ٱلْكَرْمِ.‏ غَيْرَ أَنَّ يَسُوعَ بِمَثَلِهِ هٰذَا لَا يَسْتَرْجِعُ ٱلْمَاضِيَ،‏ بَلْ يَصِفُ وَضْعًا سَائِدًا فِي أَيَّامِهِ.‏

فَٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ،‏ وَمِنْ بَيْنِهِمِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلَّذِينَ حَاوَلُوا مُؤَخَّرًا أَنْ يُجَرِّبُوهُ فِي مَوْضُوعِ ٱلطَّلَاقِ،‏ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ بِخِدْمَةِ ٱللّٰهِ.‏ إِنَّهُمْ مِثْلُ ٱلْعُمَّالِ بِدَوَامٍ كَامِلٍ ٱلَّذِينَ يَتَوَقَّعُونَ ٱلْحُصُولَ عَلَى يَوْمِيَّتِهِمْ بِكَامِلِهَا ٱلْبَالِغَةِ دِينَارًا وَاحِدًا.‏

وَهٰذِهِ ٱلْفِئَةُ،‏ ٱلَّتِي تَشْمُلُ ٱلْكَهَنَةَ وَغَيْرَهُمْ،‏ تَرَى أَنَّ عَامَّةَ ٱلْيَهُودِ يَخْدُمُونَ ٱللّٰهَ بِدَرَجَةٍ أَقَلَّ،‏ وَكَأَنَّهُمْ عُمَّالٌ بِدَوَامٍ جُزْئِيٍّ فِي كَرْمِهِ.‏ وَفِي مَثَلِ يَسُوعَ،‏ فَإِنَّ هٰؤُلَاءِ ٱلْعُمَّالَ هُمُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُؤْجِرُوا «نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ» (‏٩ صَبَاحًا)‏،‏ أَوْ لَاحِقًا عِنْدَ ٱلسَّادِسَةِ،‏ وَٱلتَّاسِعَةِ،‏ وَأَخِيرًا ٱلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (‏٥ مَسَاءً)‏ مِنْ ذَاكَ ٱلْيَوْمِ.‏

وَمَنْ هُمُ «ٱلْآخِرُونَ»،‏ عُمَّالُ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ؟‏ إِنَّهُمُ ٱلرِّجَالُ وَٱلنِّسَاءُ ٱلَّذِينَ يَتْبَعُونَ يَسُوعَ.‏ فَهُمْ فِي نَظَرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ‹مَلْعُونُونَ›.‏ (‏يوحنا ٧:‏٤٩‏)‏ وَقَدْ قَضَوْا مُعْظَمَ حَيَاتِهِمْ يَشْتَغِلُونَ بِصَيْدِ ٱلسَّمَكِ أَوْ بِمِهَنٍ عَادِيَّةٍ أُخْرَى.‏ لٰكِنَّ «سَيِّدَ ٱلْكَرْمِ»،‏ ٱللّٰهَ،‏ أَرْسَلَ يَسُوعَ فِي خَرِيفِ سَنَةِ ٢٩ ب‌م لِيَدْعُوَ هٰؤُلَاءِ ٱلْمُتَّضِعِينَ إِلَى ٱلْعَمَلِ لَدَيْهِ كَتَلَامِيذَ لِلْمَسِيحِ.‏

يُنْهِي يَسُوعُ ٱلْمَثَلَ بِوَصْفِ مَا يَحْدُثُ عِنْدَ نِهَايَةِ ٱلْيَوْمِ:‏ «لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ،‏ قَالَ سَيِّدُ ٱلْكَرْمِ لِلْقَيِّمِ عَلَى شُؤُونِهِ:‏ ‹اُدْعُ ٱلْعُمَّالَ وَٱدْفَعْ لَهُمْ أُجْرَتَهُمْ،‏ مُبْتَدِئًا مِنَ ٱلْآخِرِينَ إِلَى ٱلْأَوَّلِينَ›.‏ فَلَمَّا جَاءَ أَصْحَابُ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ،‏ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ دِينَارًا.‏ لِذٰلِكَ لَمَّا جَاءَ ٱلْأَوَّلُونَ،‏ ٱسْتَنْتَجُوا أَنَّهُمْ سَيَأْخُذُونَ أَكْثَرَ،‏ لٰكِنَّهُمْ أَخَذُوا هُمْ أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ دِينَارًا.‏ وَلَمَّا أَخَذُوهُ،‏ رَاحُوا يَتَذَمَّرُونَ عَلَى رَبِّ ٱلْبَيْتِ،‏ قَائِلِينَ:‏ ‹هٰؤُلَاءِ ٱلْآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً،‏ وَأَنْتَ جَعَلْتَهُمْ مُسَاوِينَ لَنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ تَحَمَّلْنَا عِبْءَ ٱلنَّهَارِ وَٱلْحَرَّ ٱللَّاذِعَ!‏›.‏ فَأَجَابَ وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ:‏ ‹يَا صَاحِبُ،‏ مَا أَسَأْتُ إِلَيْكَ.‏ أَلَمْ تَتَّفِقْ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟‏ خُذْ مَا هُوَ لَكَ وَٱذْهَبْ.‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هٰذَا ٱلْأَخِيرَ مِثْلَكَ.‏ أَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا هُوَ لِي؟‏ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لِأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟‏›.‏ هٰكَذَا يَكُونُ ٱلْآخِرُونَ أَوَّلِينَ،‏ وَٱلْأَوَّلُونَ آخِرِينَ».‏ —‏ متى ٢٠:‏​٨-‏١٦‏.‏

لَعَلَّ ٱلتَّلَامِيذَ لَا يَفْهَمُونَ هٰذَا ٱلْمَقْطَعَ فِي مَثَلِ يَسُوعَ.‏ فَكَيْفَ سَيَغْدُو ٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ ٱلْيَهُودُ «آخِرِينَ»،‏ هُمُ ٱلَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ أَنْفُسَهُمْ «أَوَّلِينَ»؟‏ وَكَيْفَ يَصِيرُ تَلَامِيذُ يَسُوعَ «أَوَّلِينَ»؟‏

إِنَّ ٱلتَّلَامِيذَ ٱلَّذِينَ يَعْتَبِرُهُمُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ «آخِرِينَ» لَدَيْهِمِ ٱلْفُرْصَةُ أَنْ يُمْسُوا «أَوَّلِينَ»،‏ أَيْ أَنْ يَنَالُوا أُجْرَةً كَامِلَةً.‏ فَبِمَوْتِ يَسُوعَ سَتُرْفَضُ أُورُشَلِيمُ ٱلْأَرْضِيَّةُ،‏ وَسُرْعَانَ مَا يَخْتَارُ ٱللّٰهُ أُمَّةً جَدِيدَةً هِيَ «إِسْرَائِيلُ ٱللّٰهِ».‏ (‏غلاطية ٦:‏١٦؛‏ متى ٢٣:‏٣٨‏)‏ وَقَدْ أَشَارَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ إِلَى أَعْضَاءِ هٰذِهِ ٱلْأُمَّةِ حِينَ تَكَلَّمَ عَنْ مَعْمُودِيَّةٍ لَاحِقَةٍ بِرُوحٍ قُدُسٍ.‏ وَٱلَّذِينَ كَانُوا «آخِرِينَ» هُمْ أَوَّلُ مَنْ سَيَعْتَمِدُونَ هٰذِهِ ٱلْمَعْمُودِيَّةَ وَيَنَالُونَ ٱمْتِيَازَ أَنْ يَكُونُوا شُهُودًا لِيَسُوعَ «إِلَى أَقْصَى ٱلْأَرْضِ».‏ (‏اعمال ١:‏​٥،‏ ٨؛‏ متى ٣:‏١١‏)‏ فَهَلِ ٱسْتَوْعَبَ ٱلتَّلَامِيذُ كَامِلًا هٰذَا ٱلِٱنْقِلَابَ ٱلْجَذْرِيَّ فِي ٱلْأَدْوَارِ؟‏ فِي كُلِّ ٱلْأَحْوَالِ،‏ مِنَ ٱلْوَاضِحِ أَنَّهُمْ سَيُوَاجِهُونَ ٱسْتِيَاءً شَدِيدًا مِنْ قِبَلِ ٱلْقَادَةِ ٱلدِّينِيِّينَ ٱلَّذِينَ يُصْبِحُونَ «آخِرِينَ».‏

يُنْهِي يَسُوعُ وَتَلَامِيذُهُ رِحْلَتَهُمْ فِي بِيرْيَا جَنُوبًا،‏ فَيَجْتَازُونَ نَهْرَ ٱلْأُرْدُنِّ قُرْبَ أَرِيحَا لِلذَّهَابِ إِلَى أُورُشَلِيمَ.‏ وَثَمَّةَ مَنْ يُسَافِرُونَ مَعَهُمْ لِلِٱحْتِفَالِ بِفِصْحِ سَنَةِ ٣٣ ب‌م.‏

خِلَالَ ٱلرِّحْلَةِ،‏ يَتَقَدَّمُ يَسُوعُ ٱلتَّلَامِيذَ عَاقِدًا ٱلْعَزْمَ عَلَى ٱلْوُصُولِ إِلَى أُورُشَلِيمَ عَلَى ٱلْمَوْعِدِ لِلِٱحْتِفَالِ بِٱلْفِصْحِ.‏ لٰكِنَّ ٱلتَّلَامِيذَ خَائِفُونَ.‏ فَعِنْدَمَا مَاتَ لِعَازَرُ وَكَانَ يَسُوعُ بِصَدَدِ ٱلذَّهَابِ مِنْ بِيرْيَا إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ،‏ حَثَّهُمْ تُومَا قَائِلًا:‏ «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضًا،‏ لِنَمُوتَ مَعَهُ».‏ (‏يوحنا ١١:‏​١٦،‏ ٤٧-‏٥٣‏)‏ مِنَ ٱلْوَاضِحِ إِذًا أَنَّ زِيَارَةَ أُورُشَلِيمَ مَحْفُوفَةٌ بِٱلْمَخَاطِرِ،‏ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ ٱلذُّعْرُ عَلَيْهِمْ.‏

وَكَيْ يُهَيِّئَ يَسُوعُ ٱلرُّسُلَ لِلْأَحْدَاثِ ٱلْمُقْبِلَةِ،‏ يَأْخُذُهُمْ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَيُخْبِرُهُمْ:‏ «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ،‏ وَٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ سَيُسَلَّمُ إِلَى كِبَارِ ٱلْكَهَنَةِ وَإِلَى ٱلْكَتَبَةِ،‏ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ،‏ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ ٱلْأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيُعَلِّقُوهُ عَلَى خَشَبَةٍ،‏ وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يُقَامُ».‏ —‏ متى ٢٠:‏​١٨،‏ ١٩‏.‏

إِنَّهَا ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّالِثَةُ ٱلَّتِي يَتَحَدَّثُ فِيهَا مَعَ تَلَامِيذِهِ عَنْ مَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ.‏ (‏متى ١٦:‏٢١؛‏ ١٧:‏​٢٢،‏ ٢٣‏)‏ لٰكِنَّهُ يَكْشِفُ لَهُمْ هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ أَنَّهُ سَيُعَلَّقُ عَلَى خَشَبَةٍ.‏ فَيُصْغُونَ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يَفْهَمُوا مَعْنَى كَلَامِهِ،‏ رُبَّمَا لِأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ تُرَدَّ مَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَيَتَطَلَّعُونَ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُمْ فِيهَا مِنْ رِفْعَةٍ وَمَجْدٍ مَعَ ٱلْمَسِيحِ.‏

وَفِي ٱلطَّرِيقِ،‏ تَقْتَرِبُ إِلَى يَسُوعَ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا،‏ وَهِيَ سَالُومَةُ عَلَى ٱلْأَغْلَبِ.‏ لَقَدْ أَطْلَقَ يَسُوعُ عَلَى هٰذَيْنِ ٱلرَّسُولَيْنِ ٱللَّقَبَ «ٱبْنَيِ ٱلرَّعْدِ»،‏ حَتْمًا بِسَبَبِ طِبَاعِهِمَا ٱلْحَادَّةِ.‏ (‏مرقس ٣:‏١٧؛‏ لوقا ٩:‏٥٤‏)‏ وَهُمَا يَطْمَحَانِ مُنْذُ فَتْرَةٍ إِلَى نَيْلِ مَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ.‏ وَأُمُّهُمَا عَلَى دِرَايَةٍ بِذٰلِكَ.‏ لِذَا تَجْثُو أَمَامَ يَسُوعَ وَتَسْأَلُهُ مَعْرُوفًا مِنْ أَجْلِهِمَا.‏ فَيَقُولُ لَهَا:‏ «مَاذَا تُرِيدِينَ؟‏».‏ فَتَطْلُبُ:‏ «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ٱبْنَايَ هٰذَانِ،‏ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَٱلْآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ،‏ فِي مَلَكُوتِكَ».‏ —‏ متى ٢٠:‏​٢٠،‏ ٢١‏.‏

وَاضِحٌ جِدًّا أَنَّ سَالُومَةَ تَتَحَدَّثُ بِلِسَانِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا.‏ فَيُخَاطِبُهُمَا يَسُوعُ مُشِيرًا إِلَى كَلَامِهِ آنِفًا عَنْ مُعَانَاتِهِ ٱلْعَارَ وَٱلذُّلَّ:‏ «إِنَّكُمَا لَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ.‏ أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا ٱلْكَأْسَ ٱلَّتِي سَأَشْرَبُهَا؟‏».‏ فَيُجِيبَانِ:‏ «نَسْتَطِيعُ».‏ (‏متى ٢٠:‏٢٢‏)‏ وَلٰكِنْ أَغْلَبُ ٱلظَّنِّ أَنَّهُمَا لَا يَفْهَمَانِ تَمَامًا تَبِعَاتِ هٰذَا ٱلْجَوَابِ.‏

إِلَّا أَنَّ يَسُوعَ يَقُولُ لَهُمَا:‏ «كَأْسِي سَتَشْرَبَانِهَا،‏ أَمَّا ٱلْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي،‏ فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ،‏ إِنَّمَا هُوَ لِلَّذِينَ هُيِّئَ لَهُمْ مِنْ أَبِي».‏ —‏ متى ٢٠:‏٢٣‏.‏

وَحِينَ يَعْلَمُ ٱلرُّسُلُ ٱلْعَشَرَةُ ٱلْآخَرُونَ بِطَلَبِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا،‏ يَغْتَاظُونَ مِنْهُمَا.‏ فَلَعَلَّ هٰذَيْنِ ٱلرَّسُولَيْنِ عَبَّرَا صَرَاحَةً عَنْ طُمُوحِهِمَا خِلَالَ مُشَادَّةِ ٱلرُّسُلِ سَابِقًا حَوْلَ مَنِ ٱلْأَعْظَمُ.‏ (‏لوقا ٩:‏​٤٦-‏٤٨‏)‏ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ،‏ يَكْشِفُ طَلَبُهُمَا ٱلْأَخِيرُ أَنَّ ٱلرُّسُلَ ٱلِـ‍ ١٢ لَمْ يُطَبِّقُوا نَصِيحَةَ يَسُوعَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا كَٱلْأَصْغَرِ.‏ فَٱلرَّغْبَةُ فِي ٱلْبُرُوزِ لَا تَزَالُ تَتَمَلَّكُهُمْ.‏

لِذَا يُقَرِّرُ يَسُوعُ أَنْ يُعَالِجَ ٱلْخِلَافَ ٱلَّذِي نَشَأَ وَمَا يُسَبِّبُهُ مِنِ ٱمْتِعَاضٍ وَنُفُورٍ بَيْنَ ٱلرُّسُلِ.‏ فَيَدْعُوهُمْ جَمِيعًا وَيَنْصَحُهُمْ بِمَحَبَّةٍ قَائِلًا:‏ «أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّ مَنْ يُعَدُّونَ حُكَّامَ ٱلْأُمَمِ يَسُودُونَ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ.‏ فَلَيْسَ ٱلْأَمْرُ كَذٰلِكَ فِي مَا بَيْنَكُمْ،‏ بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا بَيْنَكُمْ فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا،‏ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ ٱلْأَوَّلَ بَيْنَكُمْ فَلْيَكُنْ عَبْدًا لِلْجَمِيعِ».‏ —‏ مرقس ١٠:‏​٤٢-‏٤٤‏.‏

ثُمَّ يَلْفِتُ ٱنْتِبَاهَهُمْ إِلَى مِثَالٍ جَدِيرٍ بِٱلِٱقْتِدَاءِ،‏ مِثَالِهِ هُوَ.‏ فَيُوضِحُ:‏ «اِبْنُ ٱلْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ،‏ بَلْ لِيَخْدُمَ وَلِيَبْذُلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».‏ (‏متى ٢٠:‏٢٨‏)‏ فَيَسُوعُ مُنْهَمِكٌ فِي خِدْمَةِ ٱلنَّاسِ مُنْذُ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ تَقْرِيبًا.‏ وَسَيَصِلُ بِهِ ٱلْأَمْرُ إِلَى حَدِّ ٱلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِهِمْ.‏ وَعَلَى ٱلتَّلَامِيذِ أَنْ يَتَبَنَّوْا مَوْقِفَهُ هٰذَا:‏ أَنْ يَخْدِمُوا لَا أَنْ يُخْدَمُوا؛‏ أَنْ يَتَصَرَّفُوا كَٱلْأَصْغَرِ لَا كَٱلْأَعْظَمِ.‏

يَصِلُ يَسُوعُ وَمُرَافِقُوهُ إِلَى أَرِيحَا ٱلَّتِي تَبْعُدُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ تَقْرِيبًا عَنْ أُورُشَلِيمَ.‏ وَجَدِيرٌ بِٱلْإِشَارَةِ أَنَّ هُنَاكَ مَدِينَتَيْنِ تَحْمِلَانِ ٱلِٱسْمَ أَرِيحَا،‏ حَيْثُ يَفْصِلُ كِيلُومِتْرٌ وَنِصْفٌ تَقْرِيبًا بَيْنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْقَدِيمَةِ وَٱلْمَدِينَةِ ٱلرُّومَانِيَّةِ ٱلْأَحْدَثِ عَهْدًا.‏ وَبَيْنَمَا يَسُوعُ وَٱلْجُمُوعُ فِي طَرِيقِهِمْ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى ٱلْأُخْرَى،‏ يَسْمَعُ مُتَسَوِّلَانِ أَعْمَيَانِ ٱلْجَلَبَةَ.‏ وَٱسْمُ أَحَدِهِمَا بَرْتِيمَاوُسُ.‏

وَمَا إِنْ يَعْرِفَانِ أَنَّ يَسُوعَ مَارٌّ بِٱلطَّرِيقِ حَتَّى يَصِيحَا:‏ «اِرْحَمْنَا يَا رَبُّ،‏ يَا ٱبْنَ دَاوُدَ».‏ (‏متى ٢٠:‏٣٠‏)‏ فَيَنْتَهِرُهُمَا ٱلْجَمْعُ كَيْ يَلْزَمَا ٱلصَّمْتَ،‏ لٰكِنَّهُمَا يَرُوحَانِ يَصْرُخَانِ بِصَوْتٍ أَعْلَى.‏ وَحِينَ يَسْمَعُ يَسُوعُ ٱلدَّوْشَةَ،‏ يَتَوَقَّفُ وَيَطْلُبُ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَهُ ٱسْتِدْعَاءَ مَنْ يَصْرُخُ.‏ فَيَذْهَبُونَ لِإِحْضَارِ ٱلْمُتَسَوِّلَيْنِ وَيَقُولُونَ لِأَحَدِهِمَا:‏ «تَشَجَّعْ،‏ قُمْ،‏ إِنَّهُ يَدْعُوكَ».‏ (‏مرقس ١٠:‏٤٩‏)‏ فَيُلْقِي رِدَاءَهُ مُتَحَمِّسًا وَيَنْهَضُ وَيَتَّجِهُ نَحْوَ يَسُوعَ.‏

فَيَسْأَلُ يَسُوعُ ٱلْمُتَسَوِّلَيْنِ:‏ «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟‏».‏ فَيَتَرَجَّيَانِهِ:‏ «يَا رَبُّ،‏ أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا».‏ (‏متى ٢٠:‏​٣٢،‏ ٣٣‏)‏ وَمَدْفُوعًا بِٱلشَّفَقَةِ،‏ يَلْمُسُ أَعْيُنَهُمَا وَيَقُولُ لِأَحَدِهِمَا:‏ «اِذْهَبْ،‏ إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ».‏ (‏مرقس ١٠:‏٥٢‏)‏ فَيَسْتَرِدُّ ٱلِٱثْنَانِ بَصَرَهُمْا،‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ كِلَيْهِمَا يُمَجِّدَانِ ٱللّٰهَ،‏ ثُمَّ يَبْدَآنِ بِٱتِّبَاعِ يَسُوعَ.‏ وَعِنْدَمَا يَرَى ٱلنَّاسُ هٰذِهَ ٱلْعَجِيبَةَ،‏ يُسَبِّحُونَ ٱللّٰهَ هُمْ أَيْضًا.‏

وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ بِأَرِيحَا،‏ تَلْتَفُّ حَوْلَهُ جُمُوعٌ غَفِيرَةٌ لِيَرَوُا ٱلَّذِي شَفَى ٱلْأَعْمَيَيْنِ.‏ فَيَزْحَمُونَهُ مِنْ كُلِّ ٱلْجِهَاتِ،‏ حَتَّى إِنَّ ٱلْبَعْضَ لَا يَتَسَنَّى لَهُمْ أَنْ يَلْمَحُوهُ.‏ وَأَحَدُهُمْ هُوَ زَكَّا ٱلَّذِي يُعَدُّ مِنْ كِبَارِ جُبَاةِ ٱلضَّرَائِبِ فِي أَرِيحَا وَنَوَاحِيهَا.‏ فَلِأَنَّهُ قَصِيرُ ٱلْقَامَةِ،‏ يَرْكُضُ وَيَتَسَلَّقُ شَجَرَةَ جُمَّيْزٍ عَلَى ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي سَيَسْلُكُهُ يَسُوعُ كَيْ يُلْقِيَ نَظْرَةً شَامِلَةً عَلَى مَا يَحْدُثُ.‏ وَعِنْدَمَا يَقْتَرِبُ يَسُوعُ وَيَرَاهُ أَعْلَى ٱلشَّجَرَةِ،‏ يُخَاطِبُهُ قَائِلًا:‏ «يَا زَكَّا،‏ أَسْرِعْ وَٱنْزِلْ،‏ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ أَمْكُثَ ٱلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ».‏ (‏لوقا ١٩:‏٥‏)‏ فَيَنْزِلُ وَيَهْرَعُ إِلَى بَيْتِهِ ٱسْتِعْدَادًا لِٱسْتِقْبَالِ ضَيْفِهِ ٱلْمُمَيَّزِ.‏

لٰكِنَّ ذٰلِكَ لَا يُعْجِبُ ٱلنَّاسَ،‏ فَيُدَمْدِمُونَ فِي مَا بَيْنَهُمْ أَنَّ مِنْ غَيْرِ ٱللَّائِقِ أَنْ يَحِلَّ يَسُوعُ ضَيْفًا عَلَى شَخْصٍ يَعْتَبِرُونَهُ خَاطِئًا.‏ فَزَكَّا ٱغْتَنَى بِٱلْغِشِّ وَٱلِٱحْتِيَالِ مِنْ عَمَلِهِ فِي جِبَايَةِ ٱلضَّرَائِبِ.‏

لِذَا عِنْدَمَا يَدْخُلُ يَسُوعُ بَيْتَهُ،‏ يَتَذَمَّرُونَ قَائِلِينَ:‏ «دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ».‏ غَيْرَ أَنَّ يَسُوعَ يَلْمُسُ فِي زَكَّا بَوَادِرَ ٱلتَّوْبَةِ،‏ وَأَمَلُهُ لَا يَخِيبُ.‏ فَزَكَّا يَقِفُ وَيُصَرِّحُ:‏ «هَا أَنَا،‏ يَا رَبُّ،‏ أُعْطِي نِصْفَ مُمْتَلَكَاتِي لِلْفُقَرَاءِ،‏ وَمَهْمَا ٱبْتَزَزْتُ مِنْ أَحَدٍ بِتُهْمَةِ زُورٍ،‏ أَرُدَّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ».‏ —‏ لوقا ١٩:‏​٧،‏ ٨‏.‏

فَيَا لَهُ مِنْ تَعْبِيرٍ رَائِعٍ عَنْ أَصَالَةِ تَوْبَتِهِ!‏ فَلَعَلَّهُ يَنْوِي أَنْ يُرَاجِعَ سِجِلَّاتِهِ ٱلضَّرِيبِيَّةَ وَيَحْسُبَ كَمِ ٱبْتَزَّ مِنَ ٱلنَّاسِ،‏ ثُمَّ يَرُدَّ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ.‏ وَهٰذَا يَفُوقُ مَا تَتَطَلَّبُهُ شَرِيعَةُ ٱللّٰهِ.‏ (‏خروج ٢٢:‏١؛‏ لاويين ٦:‏​٢-‏٥‏)‏ كَمَا يَعِدُ أَنْ يَهَبَ نِصْفَ مُمْتَلَكَاتِهِ لِلْفُقَرَاءِ.‏

يُسَرُّ يَسُوعُ بِهٰذَا ٱلْبُرْهَانِ عَلَى تَوْبَةِ زَكَّا،‏ فَيَقُولُ:‏ «اَلْيَوْمَ صَارَ خَلَاصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ،‏ لِأَنَّهُ هُوَ أَيْضًا ٱبْنٌ لِإِبْرَاهِيمَ.‏ فَٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ جَاءَ لِيَطْلُبَ ٱلضَّائِعَ وَيُخَلِّصَهُ».‏ —‏ لوقا ١٩:‏​٩،‏ ١٠‏.‏

لَقَدْ سَلَّطَ يَسُوعُ ٱلضَّوْءَ مُنْذُ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ عَلَى مَنْ ‹يَضِيعُونَ› وَيَشْرُدُونَ عَنِ ٱلْحَقِّ فِي مَثَلِ ٱلِٱبْنِ ٱلضَّالِّ.‏ (‏لوقا ١٥:‏​١١-‏٢٤‏)‏ وَزَكَّا ٱلْآنَ مِثَالٌ حَيٌّ لِشَخْصٍ كَانَ ضَائِعًا لٰكِنَّهُ وُجِدَ.‏ وَمَهْمَا ٱنْتَقَدَ ٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ وَأَعْوَانُهُمُ ٱهْتِمَامَ يَسُوعَ بِأَمْثَالِ زَكَّا،‏ فَهٰذَا لَا يَثْنِيهِ عَنِ ٱلْبَحْثِ عَنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ ٱلضَّائِعِينَ وَرَدِّهِمْ.‏

رُبَّمَا لَا يَزَالُ يَسُوعُ مَعَ تَلَامِيذِهِ فِي بَيْتِ زَكَّا قَبْلَ أَنْ يُوَاصِلَ رِحْلَتَهُ بِٱتِّجَاهِ أُورُشَلِيمَ.‏ وَيَبْدُو أَنَّ ٱلتَّلَامِيذَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ «مَمْلَكَةَ ٱللّٰهِ» بِرِئَاسَةِ يَسُوعَ سَتَتَأَسَّسُ عَمَّا قَرِيبٍ.‏ (‏لوقا ١٩:‏١١‏)‏ فَهُمْ يُسِيئُونَ فَهْمَ هٰذَا ٱلْمَوْضُوعِ،‏ مِثْلَمَا يَعْجَزُونَ عَنْ فَهْمِ فِكْرَةِ مَوْتِهِ.‏ لِذَا يُخْبِرُهُمْ مَثَلًا يُوضِحُ أَنَّ ٱلْمَلَكُوتَ لَنْ يَأْتِيَ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ ٱلْمَنْظُورِ.‏

يَرْوِي:‏ «إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلنَّسَبِ سَافَرَ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ لِيُحْرِزَ سُلْطَةً مَلَكِيَّةً لِنَفْسِهِ وَيَعُودَ».‏ (‏لوقا ١٩:‏١٢‏)‏ لَا شَكَّ أَنَّ رِحْلَةً كَهٰذِهِ تَسْتَغْرِقُ وَقْتًا طَوِيلًا.‏ وَيَسُوعُ هُوَ ‹ٱلْإِنْسَانُ ٱلشَّرِيفُ ٱلنَّسَبِ› ٱلَّذِي يُسَافِرُ إِلَى «أَرْضٍ بَعِيدَةٍ»،‏ أَيْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ،‏ حَيْثُ سَيُقَلِّدُهُ أَبُوهُ سُلْطَةً مَلَكِيَّةً.‏

يُكْمِلُ ٱلْمَثَلُ أَنَّ ‹ٱلْإِنْسَانَ ٱلشَّرِيفَ ٱلنَّسَبِ› يَدْعُو قَبْلَ مُغَادَرَتِهِ عَشَرَةً مِنْ عَبِيدِهِ وَيُعْطِي كُلًّا مِنْهُمْ مَنًا مِنَ ٱلْفِضَّةِ وَيُوصِيهِمْ:‏ «تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ».‏ (‏لوقا ١٩:‏١٣‏)‏ وَٱلْأَمْنَاءُ ٱلْفِضِّيَّةُ قِطَعٌ نَقْدِيَّةٌ قَيِّمَةٌ.‏ فَٱلْمَنَا ٱلْوَاحِدُ يُعَادِلُ أَجْرَ ٱلْمُزَارِعِ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.‏

يُدْرِكُ ٱلتَّلَامِيذُ عَلَى ٱلْأَرْجَحِ أَنَّهُمْ مِثْلُ هٰؤُلَاءِ ٱلْعَبِيدِ ٱلْعَشَرَةِ.‏ فَقَدْ سَبَقَ يَسُوعُ وَشَبَّهَهُمْ بِعُمَّالِ ٱلْحَصَادِ.‏ (‏متى ٩:‏​٣٥-‏٣٨‏)‏ لٰكِنَّهُ حَتْمًا لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُمْ حَصَادًا مِنَ ٱلْحُبُوبِ،‏ بَلْ مَزِيدًا مِنَ ٱلتَّلَامِيذِ ٱلَّذِينَ سَيَدْخُلُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ.‏ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَثْمِرُوا كُلَّ إِمْكَانَاتِهِمْ وَمَوَارِدِهِمْ فِي تَجْمِيعِ عَدَدٍ أَكْبَرَ مِنْ وَرَثَةِ ٱلْمَلَكُوتِ.‏

يَذْكُرُ ٱلْمَثَلُ أَيْضًا أَنَّ ٱلْمُوَاطِنِينَ «كَانُوا يُبْغِضُونَ [ٱلْإِنْسَانَ ٱلشَّرِيفَ ٱلنَّسَبِ]،‏ فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ وَفْدًا مِنَ ٱلسُّفَرَاءِ يَقُولُونَ:‏ ‹لَا نُرِيدُ أَنْ يَمْلِكَ هٰذَا عَلَيْنَا›».‏ (‏لوقا ١٩:‏١٤‏)‏ لَا يَخْفَى عَلَى ٱلتَّلَامِيذِ أَنَّ ٱلْيَهُودَ يَرْفُضُونَ يَسُوعَ،‏ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ.‏ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَصُعُودِهِ إِلَى ٱلسَّمَاءِ،‏ يُجَاهِرُ مُعْظَمُ ٱلْيَهُودِ بِهٰذِهِ ٱلْعَدَاوَةِ عَبْرَ ٱضْطِهَادِ تَلَامِيذِهِ.‏ فَمِنَ ٱلْجَلِيِّ أَنَّ هٰؤُلَاءِ ٱلْمُقَاوِمِينَ لَا يُرِيدُونَهُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ.‏ —‏ يوحنا ١٩:‏​١٥،‏ ١٦؛‏ اعمال ٤:‏​١٣-‏١٨؛‏ ٥:‏٤٠‏.‏

وَكَيْفَ يُوَظِّفُ ٱلْعَبِيدُ ٱلْعَشَرَةُ أَمْنَاءَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَسَلَّمَ ‹ٱلْإِنْسَانُ ٱلشَّرِيفُ ٱلنَّسَبِ سُلْطَةً مَلَكِيَّةً› وَيَعُودَ؟‏ يَرْوِي يَسُوعُ:‏ «لَمَّا رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَحْرَزَ ٱلسُّلْطَةَ ٱلْمَلَكِيَّةَ،‏ أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ هٰؤُلَاءِ ٱلْعَبِيدُ ٱلَّذِينَ أَعْطَاهُمُ ٱلْفِضَّةَ،‏ لِيَتَحَقَّقَ مِمَّا رَبِحُوا بِٱلتِّجَارَةِ.‏ فَحَضَرَ ٱلْأَوَّلُ قَائِلًا:‏ ‹يَا رَبُّ،‏ مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ›.‏ فَقَالَ لَهُ:‏ ‹أَحْسَنْتَ أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ!‏ لِأَنَّكَ كُنْتَ أَمِينًا فِي أَمْرٍ صَغِيرٍ جِدًّا،‏ فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَةٌ عَلَى عَشْرِ مُدُنٍ›.‏ وَجَاءَ ٱلثَّانِي قَائِلًا:‏ ‹مَنَاكَ،‏ يَا رَبُّ،‏ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ›.‏ فَقَالَ لِهٰذَا أَيْضًا:‏ ‹وَأَنْتَ كُنْ عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ›».‏ —‏ لوقا ١٩:‏​١٥-‏١٩‏.‏

فَإِذَا أَحْسَنَ ٱلتَّلَامِيذُ،‏ عَلَى غِرَارِ ٱلْعَبْدَيْنِ،‏ ٱسْتِخْدَامَ مَا لَدَيْهِمْ لِجَمْعِ ٱلْمَزِيدِ مِنْ وَرَثَةِ ٱلْمَلَكُوتِ،‏ فَمَا مِنْ شِكٍّ أَنَّ يَسُوعَ سَيُسَرُّ بِعَمَلِهِمْ وَيُكَافِئُهُمْ عَلَى ٱجْتِهَادِهِمْ.‏ طَبْعًا،‏ تَتَفَاوَتُ ظُرُوفُ تَلَامِيذِ يَسُوعَ وَمَقْدِرَاتُهُمْ وَٱلْفُرَصُ ٱلْمُتَاحَةُ أَمَامَهُمْ.‏ لٰكِنَّ يَسُوعَ ٱلَّذِي يَتَسَلَّمُ «سُلْطَةً مَلَكِيَّةً» سَيُلَاحِظُ جُهُودَهُمْ وَوَلَاءَهُمْ فِي عَمَلِ ٱلتَّلْمَذَةِ وَيُغْدِقُ عَلَيْهِمِ ٱلْبَرَكَاتِ.‏ —‏ متى ٢٨:‏​١٩،‏ ٢٠‏.‏

وَفِي خِتَامِ ٱلْمَثَلِ،‏ يَعْرِضُ يَسُوعُ حَالَةً مُغَايِرَةً فَيُخْبِرُ:‏ «جَاءَ آخَرُ قَائِلًا:‏ ‹يَا رَبُّ،‏ هُوَذَا مَنَاكَ ٱلَّذِي أَبْقَيْتُهُ مَوْضُوعًا جَانِبًا فِي مِنْدِيلٍ.‏ فَإِنِّي خِفْتُ مِنْكَ،‏ لِأَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ،‏ تَأْخُذُ مَا لَمْ تُودِعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ›.‏ فَقَالَ لَهُ:‏ ‹مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ.‏ عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ قَاسٍ،‏ آخُذُ مَا لَمْ أُودِعْ وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ؟‏ إِذًا لِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي فِي مَصْرِفٍ؟‏ فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَرِدُّهَا مَعَ فَائِدَةٍ›.‏ عِنْدَئِذٍ قَالَ لِلْوَاقِفِينَ هُنَاكَ:‏ ‹خُذُوا ٱلْمَنَا مِنْهُ وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ ٱلْعَشَرَةُ ٱلْأَمْنَاءُ›».‏ —‏ لوقا ١٩:‏​٢٠-‏٢٤‏.‏

لَقَدْ تَكَبَّدَ هٰذَا ٱلْعَبْدُ ٱلْخَسَارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى زِيَادَةِ ٱلثَّرْوَةِ فِي مَمْلَكَةِ سَيِّدِهِ.‏ وَفِي هٰذَا تَحْذِيرٌ لِلرُّسُلِ.‏ فَبِمَا أَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ حُكْمَ يَسُوعَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ،‏ يُفْتَرَضُ أَنْ يَسْتَخْلِصُوا ٱلرِّسَالَةَ ٱلتَّالِيَةَ:‏ إِنْ لَمْ يَجْتَهِدُوا فَلَنْ يَدْخُلُوا ٱلْمَلَكُوتَ.‏

لِذَا لَا بُدَّ أَنَّ كَلَامَ يَسُوعَ هٰذَا يُحَفِّزُ ٱلتَّلَامِيذَ ٱلْأَوْلِيَاءَ عَلَى تَكْثِيفِ جُهُودِهِمْ.‏ يَذْكُرُ لَهُمْ خِتَامًا:‏ «أَقُولُ لَكُمْ:‏ كُلُّ مَنْ عِنْدَهُ يُعْطَى ٱلْمَزِيدَ.‏ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ،‏ فَحَتَّى مَا هُوَ عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».‏ وَيَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّ أَعْدَاءَهُ ٱلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ ‹يَمْلِكَ عَلَيْهِمْ› سَيَهْلِكُونَ.‏ وَبَعْدَ ٱلِٱنْتِهَاءِ مِنَ ٱلْمَثَلِ،‏ يَسْتَأْنِفُ رِحْلَتَهُ صُعُودًا إِلَى أُورُشَلِيمَ.‏ —‏ لوقا ١٩:‏​٢٦-‏٢٨‏.‏