-
الكرازة في بيريايسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٢
اَلْكِرَازَةُ فِي بِيرْيَا
اَلِٱجْتِهَادُ لِلدُّخُولِ مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ
لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ
بَعْدَمَا أَمْضَى يَسُوعُ وَقْتًا فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ يُعَلِّمُ ٱلنَّاسَ وَيَشْفِيهِمْ، عَبَرَ نَهْرَ ٱلْأُرْدُنِّ لِيُبَشِّرَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ فِي نَوَاحِي بِيرْيَا، حَيْثُ يَنْوِي أَنْ يَقْضِيَ فَتْرَةً قَصِيرَةً قَبْلَ أَنْ يَعُودَ أَدْرَاجَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.
وَفِيمَا هُوَ فِي بِيرْيَا، يَسْأَلُهُ رَجُلٌ: «يَا رَبُّ، هَلِ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ قَلِيلُونَ؟». فَلَعَلَّهُ عَلَى عِلْمٍ بِٱلْمُجَادَلَاتِ ٱلدَّائِرَةِ بَيْنَ ٱلْقَادَةِ ٱلدِّينِيِّينَ هَلِ ٱلْخَلَاصُ لِكَثِيرِينَ أَمْ قَلَائِلَ. فَيُجِيبُ يَسُوعُ مُرَكِّزًا عَلَى مَا يَتَطَلَّبُهُ ٱلْخَلَاصُ، لَا عَدَدِ ٱلَّذِينَ سَيَخْلُصُونَ قَائِلًا: «اِجْتَهِدُوا بِقُوَّةٍ أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ». وَلِمَ ٱلْحَاجَةُ إِلَى ٱلِٱجْتِهَادِ وَٱلْكِفَاحِ؟ يُتَابِعُ: «إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ». — لوقا ١٣:٢٣، ٢٤.
وَتَوْضِيحًا لِأَهَمِّيَّةِ بَذْلِ جُهُودٍ حَثِيثَةٍ، يَذْكُرُ: «حِينَ يَكُونُ رَبُّ ٱلْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَقْفَلَ ٱلْبَابَ، وَتَبْتَدِئُونَ تَقِفُونَ خَارِجًا وَتَقْرَعُونَ ٱلْبَابَ، قَائِلِينَ: ‹يَا سَيِّدُ، ٱفْتَحْ لَنَا› . . . يَتَكَلَّمُ وَيَقُولُ لَكُمْ: ‹لَا أَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ. اِبْتَعِدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ عَامِلِي ٱلْإِثْمِ!›». — لوقا ١٣:٢٥-٢٧.
تُبَيِّنُ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتُ مَصِيرَ مَنْ يَصِلُ مُتَأَخِّرًا، رُبَّمَا فِي سَاعَةٍ تَحْلُو لَهُ، فَيَجِدُ ٱلْبَابَ مُوصَدًا. فَحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَأْتِيَ فِي وَقْتٍ أَبْكَرَ حَتَّى لَوْ لَمْ يُنَاسِبْهُ ذٰلِكَ. هٰذِهِ حَالُ كَثِيرِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ يَسُوعَ ٱلَّذِي أَتَى لِيُعَلِّمَهُمْ وَيُخَلِّصَهُمْ. فَهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا ٱلْعِبَادَةَ ٱلْحَقَّةَ ٱلْمَسْعَى ٱلْأَهَمَّ فِي حَيَاتِهِمْ، وَلَمْ يَقْبَلُوا تَدْبِيرَ ٱللّٰهِ لِلْخَلَاصِ. لِذَا ‹سَيَبْكُونَ وَيَصِرُّونَ بِأَسْنَانِهِمْ› عِنْدَمَا يُطْرَحُونَ خَارِجًا، فِي حِينِ أَنَّ أُنَاسًا «مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ، وَمِنَ ٱلشَّمَالِ وَٱلْجَنُوبِ»، أَيْ مِنْ جَمِيعِ ٱلْأُمَمِ، سَوْفَ «يَتَّكِئُونَ إِلَى ٱلْمَائِدَةِ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». — لوقا ١٣:٢٨، ٢٩.
يُوضِحُ يَسُوعُ: «آخِرُونَ [كَٱلْيَهُودِ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ وَغَيْرِ ٱلْيَهُودِ] يَصِيرُونَ أَوَّلِينَ، وَأَوَّلُونَ [أَيِ ٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ ٱلَّذِينَ يَتَفَاخَرُونَ بِتَحَدُّرِهِمْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ] يَصِيرُونَ آخِرِينَ». (لوقا ١٣:٣٠) وَهٰؤُلَاءِ ٱلْجَاحِدُونَ سَيُصْبِحُونَ «آخِرِينَ» بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَنْ يَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ إِطْلَاقًا.
إِذَّاكَ يَدْنُو مِنْهُ بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَيَنْصَحُونَهُ: «اُخْرُجْ وَٱذْهَبْ مِنْ هُنَا، لِأَنَّ هِيرُودُسَ [أَنْتِيبَاسَ] يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ». وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ٱلْمَلِكَ هِيرُودُسَ هُوَ مَنْ أَطْلَقَ هٰذِهِ ٱلْإِشَاعَةَ لِيَحْمِلَ يَسُوعَ عَلَى ٱلْهَرَبِ مِنَ ٱلْمِنْطَقَةِ. فَلَرُبَّمَا يَخْشَى هٰذَا ٱلْمَلِكُ أَنْ يَتَوَرَّطَ فِي قَتْلِ نَبِيٍّ آخَرَ، كَمَا فَعَلَ مَعَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ. إِلَّا أَنَّ يَسُوعَ يُجِيبُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «اِذْهَبُوا وَقُولُوا لِهٰذَا ٱلثَّعْلَبِ: ‹هَا أَنَا أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ وَأُجْرِي ٱلشِّفَاءَ ٱلْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أَنْتَهِي›». (لوقا ١٣:٣١، ٣٢) وَنَعْتُ هِيرُودُسَ ‹بِٱلثَّعْلَبِ› قَدْ يَكُونُ تَلْمِيحًا إِلَى مَكْرِهِ وَدَهَائِهِ. لٰكِنَّ يَسُوعَ لَنْ يَسْمَحَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَلَاعَبَ بِهِ أَوْ يَسْتَعْجِلَهُ فِي عَمَلِهِ. فَهُوَ سَيُتَمِّمُ ٱلتَّعْيِينَ ٱلَّذِي نَالَهُ مِنْ أَبِيهِ وَفْقًا لِلْبَرْنَامَجِ ٱلَّذِي وَضَعَهُ ٱللّٰهُ، وَلَيْسَ وَفْقًا لِإِرَادَةِ ٱلْبَشَرِ.
بَعْدَ ذٰلِكَ، يَنْطَلِقُ فِي رِحْلَتِهِ صَوْبَ أُورُشَلِيمَ لِأَنَّهُ «لَا يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجَ أُورُشَلِيمَ»، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ. (لوقا ١٣:٣٣) وَلٰكِنْ لِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّ مَا مِنْ نُبُوَّةٍ تُشِيرُ إِلَى ذٰلِكَ؟ لِأَنَّ أُورُشَلِيمَ هِيَ ٱلْعَاصِمَةُ، وَمَقَرُّ مَحْكَمَةِ ٱلسَّنْهَدْرِيمِ ٱلْعُلْيَا ٱلْمُؤَلَّفَةِ مِنْ ٧١ عُضْوًا. وَهِيَ ٱلْمَكَانُ حَيْثُ يُحَاكَمُ ٱلْمُتَّهَمُونَ بِأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ دَجَّالُونَ، وَفِيهَا أَيْضًا تُقَدَّمُ ٱلذَّبَائِحُ ٱلْحَيَوَانِيَّةُ. لِذَا يَعِي يَسُوعُ أَنَّ مِنْ غَيْرِ ٱلْوَارِدِ أَنْ يُقْتَلَ فِي مَكَانٍ آخَرَ.
لٰكِنَّهُ يَرْثِي ٱلْمَدِينَةَ قَائِلًا: «يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ ٱلْأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلَادَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! هَا هُوَ بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ». (لوقا ١٣:٣٤، ٣٥) فَلَا بُدَّ أَنْ تَتَحَمَّلَ ٱلْأُمَّةُ عَوَاقِبَ رَفْضِهَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ.
وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، يَدْعُوهُ أَحَدُ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ إِلَى بَيْتِهِ لِتَنَاوُلِ ٱلطَّعَامِ فِي ٱلسَّبْتِ. فَيُرَاقِبُهُ ٱلْمَدْعُوُّونَ عَنْ كَثَبٍ لِيَرَوْا هَلْ يَشْفِي رَجُلًا مَوْجُودًا هُنَاكَ يُعَانِي مِنْ دَاءِ ٱلِٱسْتِسْقَاءِ (تَرَاكُمٌ شَدِيدٌ لِلسَّوَائِلِ، عَادَةً فِي ٱلسَّاقَيْنِ وَٱلْقَدَمَيْنِ). فَيَسْأَلُ يَسُوعُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلْمُتَضَلِّعِينَ مِنَ ٱلشَّرِيعَةِ: «أَيَحِلُّ ٱلْإِبْرَاءُ فِي ٱلسَّبْتِ أَمْ لَا؟». — لوقا ١٤:٣.
وَإِذْ لَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، يَشْفِي ٱلرَّجُلَ ثُمَّ يَسْأَلُهُمْ: «مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ ٱبْنُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلَا يُخْرِجُهُ حَالًا فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟». (لوقا ١٤:٥) وَمِنْ جَدِيدٍ، تَنْعَقِدُ أَلْسِنَتُهُمْ أَمَامَ مَنْطِقِهِ ٱلسَّدِيدِ.
-
-
مَن يدعو اللّٰه الى مائدته؟يسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٣
مَنْ يَدْعُو ٱللّٰهُ إِلَى مَائِدَتِهِ؟
دَرْسٌ فِي ٱلتَّوَاضُعِ
اَلْمَدْعُوُّونَ يَخْتَلِقُونَ ٱلْأَعْذَارَ
لَا يَزَالُ يَسُوعُ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ بَعْدَمَا شَفَى رَجُلًا مِنْ دَاءِ ٱلِٱسْتِسْقَاءِ. فَيُلَاحِظُ أَنَّ بَعْضَ ٱلضُّيُوفِ يَخْتَارُونَ ٱلْأَمَاكِنَ ٱلْأَبْرَزَ عَلَى ٱلْمَائِدَةِ. فَيَنْتَهِزُ ٱلْفُرْصَةَ لِيُعَلِّمَ دَرْسًا فِي ٱلتَّوَاضُعِ.
يَقُولُ: «مَتَى دَعَاكَ أَحَدٌ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ، فَلَا تَتَّكِئْ فِي ٱلْمَكَانِ ٱلْأَبْرَزِ. فَلَعَلَّهُ كَانَ قَدْ دَعَى آنَذَاكَ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْكَ قَدْرًا، فَيَأْتِي ٱلَّذِي دَعَاكَ وَدَعَاهُ وَيَقُولُ لَكَ: ‹أَعْطِ ٱلْمَكَانَ لِهٰذَا ٱلرَّجُلِ›. فَحِينَئِذٍ تَنْهَضُ بِخِزْيٍ لِتَشْغَلَ ٱلْمَكَانَ ٱلْأَوْضَعَ». — لوقا ١٤:٨، ٩.
وَيُتَابِعُ: «بَلْ مَتَى دُعِيتَ، فَٱذْهَبْ وَٱتَّكِئْ فِي ٱلْمَكَانِ ٱلْأَوْضَعِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ٱلَّذِي دَعَاكَ، يَقُولُ لَكَ: ‹يَا صَدِيقُ، ٱرْتَفِعْ إِلَى أَعْلَى›. فَحِينَئِذٍ تَنَالُ كَرَامَةً أَمَامَ كُلِّ ٱلضُّيُوفِ مَعَكَ». وَلَيْسَ ذٰلِكَ مُجَرَّدَ إِعْرَابٍ عَنِ ٱللِّيَاقَةِ وَٱلتَّهْذِيبِ. يُوضِحُ يَسُوعُ: «كُلُّ مَنْ رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِعَ وَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِعَ». (لوقا ١٤:١٠، ١١) إِنَّهُ يَحُضُّ سَامِعِيهِ عَلَى ٱلتَّحَلِّي بِتَوَاضُعِ ٱلنَّفْسِ.
بَعْدَ ذٰلِكَ، يُعَلِّمُ مُضِيفَهُ ٱلْفَرِّيسِيَّ دَرْسًا آخَرَ: إِعْدَادَ وَلِيمَةٍ لَهَا قِيمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فِي نَظَرِ ٱللّٰهِ. يَذْكُرُ: «مَتَى صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً، فَلَا تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلَا إِخْوَتَكَ وَلَا أَنْسِبَاءَكَ وَلَا ٱلْجِيرَانَ ٱلْأَغْنِيَاءَ. فَلَعَلَّهُمْ يَدْعُونَكَ هُمْ أَيْضًا فِي ٱلْمُقَابِلِ، فَتَكُونَ لَكَ مُجَازَاةٌ. بَلْ مَتَى صَنَعْتَ وَلِيمَةً، فَٱدْعُ ٱلْفُقَرَاءَ وَٱلْكُسْحَ وَٱلْعُرْجَ وَٱلْعُمْيَ، فَتَكُونَ سَعِيدًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُجَازُونَكَ بِهِ». — لوقا ١٤:١٢-١٤.
مِنَ ٱلطَّبِيعِيِّ أَنْ يَدْعُوَ ٱلْمَرْءُ أَصْدِقَاءَهُ وَأَنْسِبَاءَهُ وَجِيرَانَهُ إِلَى وَجْبَةِ طَعَامٍ، وَيَسُوعُ لَا يُخَطِّئُ ذٰلِكَ. لٰكِنَّهُ يُبْرِزُ أَنَّ دَعْوَةَ ٱلْمَسَاكِينِ، كَٱلْفُقَرَاءِ وَٱلْكُسْحِ وَٱلْعُمْيِ، تَجْلُبُ بَرَكَاتٍ جَزِيلَةً. يُوضِحُ لِمُضِيفِهِ: «إِنَّكَ تُجَازَى فِي قِيَامَةِ ٱلْأَبْرَارِ». فَيُثَنِّي أَحَدُ ٱلْمَدْعُوِّينَ عَلَى ٱلْكَلَامِ قَائِلًا: «سَعِيدٌ هُوَ ٱلَّذِي يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». (لوقا ١٤:١٥) فَوَاضِحٌ أَنَّهُ يُدْرِكُ عَظَمَةَ هٰذَا ٱلِٱمْتِيَازِ. وَلٰكِنْ لَا يُشَاطِرُهُ ٱلْجَمِيعُ هٰذَا ٱلتَّقْدِيرَ، حَسْبَمَا يُوضِحُ يَسُوعُ تَالِيًا بِمَثَلٍ:
«إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا، وَدَعَا كَثِيرِينَ. وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ . . . لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: ‹تَعَالَوْا، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ٱلْآنَ مُعَدٌّ›. فَٱبْتَدَأُوا كُلُّهُمْ يَسْتَعْفُونَ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ. قَالَ لَهُ ٱلْأَوَّلُ: ‹اِشْتَرَيْتُ حَقْلًا وَعَلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَعْذِرَنِي›. وَقَالَ آخَرُ: ‹اِشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ فَدَادِينِ بَقَرٍ، وَأَنَا ذَاهِبٌ لِأَفْحَصَهَا، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَعْذِرَنِي›. وَقَالَ آخَرُ أَيْضًا: ‹قَدْ تَزَوَّجْتُ ٱمْرَأَةً، فَلِذٰلِكَ لَا أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ›». — لوقا ١٤:١٦-٢٠.
يَا لَهَا مِنْ أَعْذَارٍ وَاهِيَةٍ! فَفِي ٱلْعَادَةِ، يَتَفَحَّصُ ٱلْمَرْءُ ٱلْحَقْلَ وَٱلْمَاشِيَةَ قَبْلَ شِرَائِهَا، وَمُعَايَنَتُهَا بَعْدَ ذٰلِكَ لَيْسَتْ ضَرُورَةً مُلِحَّةً. كَذٰلِكَ ٱلرَّجُلُ ٱلثَّالِثُ فِي ٱلْمَثَلِ لَا يَسْتَعِدُّ لِلزَّوَاجِ، بَلْ مُتَزَوِّجٌ أَسَاسًا. فَلَا يُفْتَرَضُ أَنْ يُعِيقَهُ هٰذَا ٱلسَّبَبُ عَنْ تَلْبِيَةِ تِلْكَ ٱلدَّعْوَةِ ٱلْهَامَّةِ. لِذَا عِنْدَ سَمَاعِ هٰذِهِ ٱلْأَعْذَارِ، يَسْخَطُ ٱلسَّيِّدُ وَيَأْمُرُ عَبْدَهُ:
«اُخْرُجْ سَرِيعًا إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ ٱلرَّئِيسِيَّةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا ٱلْفُقَرَاءَ وَٱلْكُسْحَ وَٱلْعُمْيَ وَٱلْعُرْجَ». فَيُنَفِّذُ ٱلْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ، وَلٰكِنْ يَبْقَى مُتَّسَعٌ بَعْدُ. فَيَقُولُ لَهُ ٱلسَّيِّدُ: «اُخْرُجْ إِلَى ٱلطُّرُقِ وَٱلْأَمَاكِنِ ٱلْمُسَيَّجَةِ، وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يَذُوقَ عَشَائِي أَحَدٌ مِنْ أُولٰئِكَ ٱلرِّجَالِ ٱلْمَدْعُوِّينَ». — لوقا ١٤:٢١-٢٤.
يُوضِحُ هٰذَا ٱلْمَثَلُ بِٱلضَّبْطِ كَيْفَ فَوَّضَ يَهْوَهُ ٱللّٰهُ إِلَى يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ يَدْعُوَ أُنَاسًا لِدُخُولِ مَلَكُوتِ ٱلسَّمٰوَاتِ. وَأَوَّلُ ٱلْمَدْعُوِّينَ كَانُوا ٱلْيَهُودَ، وَلَا سِيَّمَا ٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ. غَيْرَ أَنَّهُمْ عُمُومًا رَفَضُوا ٱلدَّعْوَةَ ٱلَّتِي قَدَّمَهَا يَسُوعُ طِيلَةَ فَتْرَةِ خِدْمَتِهِ. لِذَا فَهِيَ لَنْ تَبْقَى حُكْرًا عَلَيْهِمْ. فَيَسُوعُ يُشِيرُ بِوُضُوحٍ أَنَّ دَعْوَةً ثَانِيَةً سَتُوَجَّهُ مُسْتَقْبَلًا إِلَى ٱلْمُتَّضِعِينَ مِنَ ٱلْأُمَّةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَإِلَى ٱلْمُتَهَوِّدِينَ. وَلَاحِقًا، سَتُقَدَّمُ دَعْوَةٌ ثَالِثَةٌ وَأَخِيرَةٌ لِأَشْخَاصٍ يَعْتَبِرُهُمُ ٱلْيَهُودُ غَيْرَ مَقْبُولِينَ فِي نَظَرِ ٱللّٰهِ. — اعمال ١٠:٢٨-٤٨.
فِعْلًا، يُؤَكِّدُ مَثَلُ يَسُوعَ صِحَّةَ مَا قَالَهُ أَحَدُ ٱلْمَدْعُوِّينَ مَعَهُ: «سَعِيدٌ هُوَ ٱلَّذِي يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
-
-
اتِّباع المسيح مسؤولية وتضحيةيسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٤
اِتِّبَاعُ ٱلْمَسِيحِ مَسْؤُولِيَّةٌ وَتَضْحِيَةٌ
مَاذَا يَتَطَلَّبُ ٱتِّبَاعُ ٱلْمَسِيحِ؟
عَلَّمَ يَسُوعُ دُرُوسًا قَيِّمَةً أَثْنَاءَ حُلُولِهِ ضَيْفًا فِي بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ. وَفِيمَا يَسْتَأْنِفُ رِحْلَتَهُ صَوْبَ أُورُشَلِيمَ، تُسَافِرُ مَعَهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ. فَهَلْ فِي نِيَّتِهِمْ أَنْ يُصْبِحُوا مِنْ أَتْبَاعِهِ ٱلْحَقِيقِيِّينَ مَهْمَا كَلَّفَ ٱلْأَمْرُ؟
فِي ٱلطَّرِيقِ، يَتَفَوَّهُ يَسُوعُ بِكَلِمَاتٍ رُبَّمَا تَصْدِمُ ٱلْبَعْضَ: «إِنْ أَتَى أَحَدٌ إِلَيَّ وَلَمْ يُبْغِضْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، بَلْ نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا». (لوقا ١٤:٢٦) فَمَا قَصْدُهُ؟
لَا يَعْنِي يَسُوعُ أَنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ يُقَرِّرُونَ ٱتِّبَاعَهُ أَنْ يُبْغِضُوا أَقْرِبَاءَهُمْ حَرْفِيًّا. بَلْ أَنْ يُحِبُّوهُ هُوَ أَوَّلًا وَهُمْ ثَانِيًا، بِعَكْسِ ٱلرَّجُلِ فِي مَثَلِ وَلِيمَةِ ٱلْعَشَاءِ ٱلَّذِي لَمْ يُلَبِّ ٱلدَّعْوَةَ ٱلْهَامَّةَ لِأَنَّهُ عَرِيسٌ جَدِيدٌ. (لوقا ١٤:٢٠) وَتَأْكِيدًا عَلَى هٰذَا ٱلْمَعْنَى، تُخْبِرُ ٱلْأَسْفَارُ ٱلْمُقَدَّسَةُ أَنَّ يَعْقُوبَ، أَحَدَ أَسْلَافِ ٱلْيَهُودِ، ‹أَبْغَضَ› لَيْئَةَ وَأَحَبَّ رَاحِيلَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَحَبَّهَا أَقَلَّ مِنْ أُخْتِهَا رَاحِيلَ. — تكوين ٢٩:٣١؛ الحاشية.
نَوَّهَ يَسُوعُ كَذٰلِكَ أَنَّ ٱلتِّلْمِيذَ ٱلْحَقِيقِيَّ يُبْغِضُ «نَفْسَهُ [أَيْ حَيَاتَهُ] أَيْضًا». وَهٰذَا يَعْنِي أَنْ يُحِبَّ يَسُوعَ أَكْثَرَ مِنْ حَيَاتِهِ، وَأَلَّا يُمَانِعَ ٱلتَّضْحِيَةَ بِهَا إِذَا ٱسْتَدْعَى ٱلْأَمْرُ. إِذًا ٱتِّبَاعُ ٱلْمَسِيحِ مَسْؤُولِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ. فَهُوَ لَيْسَ قَرَارًا وَلِيدَ سَاعَتِهِ يُؤْخَذُ دُونَ تَفْكِيرٍ وَرَوِيَّةٍ.
وَقَدْ يُعَانِي تِلْمِيذُ ٱلْمَسِيحِ ٱلِٱضْطِهَادَ وَٱلْمَشَقَّاتِ. يَقُولُ يَسُوعُ: «مَنْ لَا يَحْمِلْ خَشَبَةَ آلَامِهِ وَيَأْتِ وَرَائِي فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا». (لوقا ١٤:٢٧) فَعَلَى غِرَارِهِ هُوَ، عَلَى ٱلتِّلْمِيذِ ٱلْحَقِيقِيِّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِمُكَابَدَةِ ٱلْخِزْيِ وَٱلتَّعْيِيرِ، حَتَّى أَنْ يَمُوتَ عَلَى يَدِ أَعْدَائِهِ.
بِنَاءً عَلَى ذٰلِكَ، يَنْبَغِي لِلْجُمُوعِ ٱلْمُسَافِرِينَ مَعَ يَسُوعَ أَنْ يُحَلِّلُوا بِعِنَايَةٍ أَبْعَادَ ٱلْمَسْؤُولِيَّةِ ٱلْكَبِيرَةِ أَنْ يُمْسُوا مِنْ تَلَامِيذِهِ. وَهُوَ يُبْرِزُ هٰذِهِ ٱلنُّقْطَةَ بِمَثَلٍ قَائِلًا: «مَنْ مِنْكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا وَلَا يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَحْسُبُ ٱلنَّفَقَةَ، لِيَرَى هَلْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِي لِإِتْمَامِهِ؟ وَإِلَّا فَقَدْ يَضَعُ أَسَاسَهُ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُنْهِيَهُ». (لوقا ١٤:٢٨، ٢٩) إِذًا، يَجِبُ أَنْ يَعْقِدُوا ٱلْعَزْمَ عَلَى تَحَمُّلِ هٰذِهِ ٱلْمَسْؤُولِيَّةِ بِٱلْكَامِلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوهَا عَلَى عَاتِقِهِمْ. وَيُسَلِّطُ يَسُوعُ ٱلضَّوْءَ عَلَى ذٰلِكَ بِمَثَلٍ ثَانٍ، قَائِلًا:
«أَيُّ مَلِكٍ سَائِرٍ لِلِقَاءِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لَا يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَتَشَاوَرُ هَلْ يَقْدِرُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ ٱلْعَسْكَرِ أَنْ يُوَاجِهَ مَنْ يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا؟ وَإِلَّا فَمَا دَامَ ذَاكَ بَعِيدًا، يُرْسِلُ وَفْدًا مِنَ ٱلسُّفَرَاءِ وَيَلْتَمِسُ ٱلسَّلَامَ». ثُمَّ يَصِلُ إِلَى زُبْدَةِ ٱلْمَوْضُوعِ: «وَهٰكَذَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يَتْرُكُ كُلَّ مُمْتَلَكَاتِهِ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا». — لوقا ١٤:٣١-٣٣.
طَبْعًا، لَيْسَ هٰذَا ٱلْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَى ٱلْجُمُوعِ ٱلْمُرَافِقَةِ لَهُ فَحَسْبُ. فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَتَعَلَّمُ عَنْهُ وَيُرِيدُ أَنْ يُصْبِحَ مِنْ تَلَامِيذِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِلتَّضْحِيَةِ بِمُمْتَلَكَاتِهِ وَحَيَاتِهِ أَيْضًا. وَهٰذِهِ مَسْأَلَةٌ تَتَطَلَّبُ ٱلتَّفْكِيرَ وَٱلصَّلَاةَ.
بَعْدَ ذٰلِكَ، يَتَطَرَّقُ يَسُوعُ إِلَى مَوْضُوعٍ ذَكَرَهُ فِي ٱلْمَوْعِظَةِ عَلَى ٱلْجَبَلِ: أَنَّ تَلَامِيذَهُ «مِلْحُ ٱلْأَرْضِ». (متى ٥:١٣) فَبِمَا أَنَّ ٱلْمِلْحَ مَادَّةٌ حَافِظَةٌ، يَقْصِدُ عَلَى ٱلْأَرْجَحِ أَنَّ رِسَالَةَ تَلَامِيذِهِ تَحْفَظُ حَيَاةَ ٱلنَّاسِ، فَتُسَاعِدُهُمْ عَلَى تَجَنُّبِ ٱلْفَسَادِ ٱلرُّوحِيِّ وَٱلْأَخْلَاقِيِّ. وَإِذْ تُشَارِفُ خِدْمَتُهُ نِهَايَتَهَا يَقُولُ: «إِنَّ ٱلْمِلْحَ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا تَفِهَ ٱلْمِلْحُ، فَبِمَاذَا يُطَيَّبُ؟». (لوقا ١٤:٣٤) فَمُسْتَمِعُوهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَعْضَ ٱلْمِلْحِ ٱلْمُتَوَفِّرِ آنَذَاكَ يَتَلَوَّثُ بِٱلتُّرَابِ، فَيَفْقِدُ مُلُوحَتَهُ وَيُصْبِحُ بِلَا نَفْعٍ.
عَلَى هٰذَا ٱلْأَسَاسِ، يَنْبَغِي حَتَّى لِلَّذِينَ هُمْ تَلَامِيذُهُ مُنْذُ وَقْتٍ طَوِيلٍ أَنْ يَحْذَرُوا لِئَلَّا يَفْتُرَ عَزْمُهُمْ. وَإِلَّا يُمْسُونَ صِفْرًا عَلَى ٱلشِّمَالِ، بِلَا فَائِدَةٍ مِثْلَ ٱلْمِلْحِ ٱلَّذِي يَفْقِدُ مُلُوحَتَهُ. وَعِنْدَئِذٍ قَدْ يَغْدُونَ أُضْحُوكَةً لِلْعَالَمِ، وَٱلْأَسْوَأُ غَيْرَ مَقْبُولِينَ فِي نَظَرِ ٱللّٰهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَدْ يَجْلُبُونَ ٱلتَّعْيِيرَ عَلَى ٱسْمِهِ. وَلِتَجَنُّبِ هٰذِهِ ٱلْعَاقِبَةِ يَحُثُّ يَسُوعُ: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ». — لوقا ١٤:٣٥.
-
-
الفرح بخاطئ يتوبيسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٥
اَلْفَرَحُ بِخَاطِئٍ يَتُوبُ
مَثَلَا ٱلْخَرُوفِ ٱلضَّائِعِ وَٱلدِّرْهَمِ ٱلْمَفْقُودِ
فَرَحُ ٱلْمَلَائِكَةِ فِي ٱلسَّمَاءِ
شَدَّدَ يَسُوعُ مِرَارًا وَتَكْرَارًا خِلَالَ خِدْمَتِهِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ ٱلتَّوَاضُعِ. (لوقا ١٤:٨-١١) وَهُوَ يَتُوقُ إِلَى ٱلْعُثُورِ عَلَى رِجَالٍ وَنِسَاءٍ يَرْغَبُونَ فِي خِدْمَةِ ٱللّٰهِ بِتَوَاضُعٍ. وَلٰكِنْ حَتَّى ٱلْآنَ، لَا يَزَالُ عَدَدٌ مِنْهُمْ خُطَاةً أَرْدِيَاءَ ٱلسُّمْعَةِ.
وَأَشْخَاصٌ كَهٰؤُلَاءِ مُحْتَقَرُونَ فِي نَظَرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلْكَتَبَةِ ٱلَّذِينَ يَرَوْنَهُمْ يَنْجَذِبُونَ إِلَى يَسُوعَ وَرِسَالَتِهِ، فَيَتَذَمَّرُونَ: «هٰذَا يُرَحِّبُ بِٱلْخُطَاةِ وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ». (لوقا ١٥:٢) فَهُمْ يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ أَرْفَعُ شَأْنًا مِنْ غَيْرِهِمْ وَيَعْتَبِرُونَ عَامَّةَ ٱلنَّاسِ حُثَالَةً يَدُوسُونَهَا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ. وَمِنْ شِدَّةِ ٱزْدِرَائِهِمْ بِهِمْ، يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلتَّعْبِيرِ ٱلْعِبْرَانِيِّ عام هاآريص، أَيْ «شَعْبِ ٱلْأَرْضِ».
بِٱلتَّبَايُنِ، يُعَامِلُ يَسُوعُ ٱلْجَمِيعَ بِكَرَامَةٍ وَلُطْفٍ وَرَأْفَةٍ. لِذَا فَإِنَّ ٱلْعَدِيدَ مِنَ ٱلْمُتَّضِعِينَ، وَمِنْ بَيْنِهِمْ أَشْخَاصٌ مَعْرُوفُونَ بِأَنَّهُمْ خُطَاةٌ، يَتَشَوَّقُونَ إِلَى سَمَاعِهِ. وَلٰكِنْ كَيْفَ يَرُدُّ عَلَى ٱلِٱنْتِقَادِ ٱلْمُوَجَّهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يُسَاعِدُ أَفْرَادًا كَهٰؤُلَاءِ؟
يَرْوِي يَسُوعُ مَثَلًا مُؤَثِّرًا سَبَقَ وَأَعْطَى وَاحِدًا عَلَى نَسَقِهِ فِي كَفَرْنَاحُومَ. (متى ١٨:١٢-١٤) وَفِي هٰذَا ٱلْمَثَلِ، يَبْدُو ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَكَأَنَّهُمْ أَبْرَارٌ مُطْمَئِنُّونَ دَاخِلَ حَظِيرَةِ ٱللّٰهِ، فِي حِينِ أَنَّ ٱلْمُتَّضِعِينَ شَارِدُونَ وَفِي حَالَةِ ضَيَاعٍ. يُخْبِرُ:
«أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِدًا مِنْهَا، لَا يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبُ لِأَجْلِ ٱلضَّائِعِ حَتَّى يَجِدَهُ؟ وَعِنْدَمَا يَجِدُهُ يَضَعُهُ عَلَى كَتِفَيْهِ فَرِحًا. وَإِذْ يَصِلُ إِلَى بَيْتِهِ يَجْمَعُ أَصْدِقَاءَهُ وَجِيرَانَهُ، قَائِلًا لَهُمْ: ‹اِفْرَحُوا مَعِي، لِأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّائِعَ›». — لوقا ١٥:٤-٦.
وَكَيْفَ يُطَبِّقُ ٱلْمَثَلَ؟ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ». — لوقا ١٥:٧.
لَا بُدَّ أَنَّ إِشَارَتَهُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ تَطْعَنُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱلَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ أَنْفُسَهُمْ أَبْرَارًا. فَعِنْدَمَا ٱنْتَقَدَهُ بَعْضُهُمْ قَبْلَ بِضْعِ سَنَوَاتٍ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مَعَ جُبَاةِ ٱلضَّرَائِبِ وَٱلْخُطَاةِ، أَجَابَهُمْ: «مَا جِئْتُ لِأَدْعُوَ أَبْرَارًا، بَلْ خُطَاةً». (مرقس ٢:١٥-١٧) فَهٰؤُلَاءِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْبَارُّونَ بِإِفْرَاطٍ لَا يُدْرِكُونَ حَاجَتَهُمْ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ، وَبِٱلتَّالِي لَا يُشِيعُونَ فَرَحًا فِي ٱلسَّمَاءِ، بِخِلَافِ ٱلْخُطَاةِ ٱلَّذِينَ يَتُوبُونَ تَوْبَةً صَادِقَةً.
وَتَشْدِيدًا عَلَى ٱلْفَرَحِ ٱلْعَظِيمِ ٱلَّذِي يَعُمُّ ٱلسَّمَاءَ نَتِيجَةَ رَدِّ ٱلْخُطَاةِ ٱلضَّائِعِينَ، يُقَدِّمُ يَسُوعُ مَثَلًا ثَانِيًا مُسْتَمَدًّا مِنْ وَاقِعِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْمَنْزِلِيَّةِ. يَقُولُ: «أَيُّ ٱمْرَأَةٍ لَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، إِذَا أَضَاعَتْ دِرْهَمًا وَاحِدًا، لَا تُوقِدُ سِرَاجًا وَتَكْنُسُ بَيْتَهَا وَتَبْحَثُ بِٱعْتِنَاءٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ وَعِنْدَمَا تَجِدُهُ تَجْمَعُ صَدِيقَاتِهَا وَجَارَاتِهَا، قَائِلَةً: ‹اِفْرَحْنَ مَعِي، لِأَنِّي وَجَدْتُ ٱلدِّرْهَمَ ٱلَّذِي أَضَعْتُهُ›». — لوقا ١٥:٨، ٩.
وَلَا يَخْتَلِفُ هٰذَا ٱلْمَثَلُ فِي ٱنْطِبَاقِهِ عَنْ مَثَلِ ٱلْخَرُوفِ ٱلضَّائِعِ. يَذْكُرُ يَسُوعُ: «هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ بَيْنَ مَلَائِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ». — لوقا ١٥:١٠.
فِعْلًا، إِنَّ رَدَّ ٱلْخُطَاةِ ٱلضَّالِّينَ يَعْنِي ٱلْكَثِيرَ لِمَلَائِكَةِ ٱللّٰهِ. وَهٰذَا لَافِتٌ خُصُوصًا لِأَنَّ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ يَتُوبُونَ وَيَدْخُلُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ ٱلسَّمَاوِيَّ سَيَحْظَوْنَ بِمَرْكَزٍ أَعْلَى مِنَ ٱلْمَلَائِكَةِ أَنْفُسِهِمْ. (١ كورنثوس ٦:٢، ٣) لٰكِنَّ ٱلْمَلَائِكَةَ لَا يَشْعُرُونَ بِٱلْغَيْرَةِ. فَمَاذَا عَنَّا؟ كَيْفَ نَشْعُرُ حِينَ يَتُوبُ خَاطِئٌ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ وَيَرْجِعُ إِلَى ٱللّٰهِ؟
-
-
عودة الابن الضاليسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٦
عَوْدَةُ ٱلِٱبْنِ ٱلضَّالِّ
مَثَلُ ٱلِٱبْنِ ٱلضَّالِّ
أَعْطَى يَسُوعُ مَثَلَيِ ٱلْخَرُوفِ ٱلضَّائِعِ وَٱلدِّرْهَمِ ٱلْمَفْقُودِ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى ٱلْأَغْلَبِ فِي بِيرْيَا شَرْقَ نَهْرِ ٱلْأُرْدُنِّ. وَٱلْعِبْرَةُ ٱلَّتِي نَسْتَخْلِصُهَا مِنَ ٱلْمَثَلَيْنِ عَلَى ٱلسَّوَاءِ أَنْ نَفْرَحَ بِٱلْخُطَاةِ ٱلَّذِينَ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى ٱللّٰهِ. لٰكِنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلْكَتَبَةَ يَنْتَقِدُونَ يَسُوعَ لِأَنَّهُ يُرَحِّبُ بِمِثْلِ هٰؤُلَاءِ. فَهَلْ يَتَّعِظُونَ بِهٰذَيْنِ ٱلْمَثَلَيْنِ؟ وَهَلْ يَسْتَوْعِبُونَ كَيْفَ يَشْعُرُ أَبُونَا ٱلسَّمَاوِيُّ تِجَاهَ ٱلْخُطَاةِ ٱلتَّائِبِينَ؟ يَرْوِي يَسُوعُ ٱلْآنَ مَثَلًا يَمَسُّ ٱلْقَلْبَ وَيَضْرِبُ عَلَى ٱلْوَتَرِ ٱلْحَسَّاسِ عَيْنِهِ.
تَدُورُ أَحْدَاثُ ٱلْمَثَلِ حَوْلَ أَبٍ لَهُ ٱبْنَانِ، وَأَصْغَرُهُمَا هُوَ ٱلشَّخْصِيَّةُ ٱلْمِحْوَرِيَّةُ. وَمَا يَحْدُثُ مَعَهُ يُفْتَرَضُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلْكَتَبَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَامِعِي يَسُوعَ. وَلٰكِنْ لَا يَعْنِي ذٰلِكَ أَنَّ ٱلْأَبَ وَٱلِٱبْنَ ٱلْأَكْبَرَ يُؤَدِّيَانِ دَوْرًا هَامِشِيًّا. فَٱلْمَوَاقِفُ ٱلَّتِي يَتَّخِذَانِهَا تَحْمِلُ أَيْضًا فِي طَيَّاتِهَا دُرُوسًا مُهِمَّةً. فَلْنُبْقِ ٱلشَّخْصِيَّاتِ ٱلثَّلَاثَ فِي بَالِنَا فِيمَا نَتَأَمَّلُ فِي ٱلْمَثَلِ.
يَرْوِي يَسُوعُ: «إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ٱبْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لِأَبِيهِ: ‹يَا أَبِي، أَعْطِنِي نَصِيبِي مِنَ ٱلْأَمْلَاكِ›. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ»، أَيْ مُمْتَلَكَاتِهِ. (لوقا ١٥:١١، ١٢) جَدِيرٌ بِٱلْمُلَاحَظَةِ أَنَّ ٱلِٱبْنَ ٱلْأَصْغَرَ طَالَبَ بِحِصَّتِهِ فِي ٱلْمِيرَاثِ وَأَبُوهُ لَا يَزَالُ عَلَى قَيْدِ ٱلْحَيَاةِ. فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِذَاتِهِ وَيَصْرِفَ ٱلثَّرْوَةَ عَلَى كَيْفِهِ.
يُخْبِرُ يَسُوعُ: «بَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ كَثِيرَةً، جَمَعَ ٱلِٱبْنُ ٱلْأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَهُنَاكَ بَدَّدَ مَا يَمْلِكُ عَائِشًا حَيَاةً خَلِيعَةً». (لوقا ١٥:١٣) فَعِوَضَ أَنْ يَبْقَى فِي كَنَفِ بَيْتِهِ مَعَ أَبِيهِ ٱلَّذِي يُعْنَى بِعَائِلَتِهِ وَيُؤَمِّنُ لَهُمْ عِيشَةً كَرِيمَةً، غَادَرَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ. وَهُنَاكَ بَذَّرَ كُلَّ مِيرَاثِهِ مُتَمَرِّغًا فِي ٱلْمَلَذَّاتِ وَٱلْفُجُورِ. ثُمَّ وَقَعَ فِي ظَرْفٍ عَصِيبٍ، حَسْبَمَا يُتَابِعُ يَسُوعُ:
«لَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَتْ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ فِي ذٰلِكَ ٱلْبَلَدِ، فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ. حَتَّى إِنَّهُ ذَهَبَ وَٱلْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ مُوَاطِنِي ذٰلِكَ ٱلْبَلَدِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنْ قُرُونِ ٱلْخَرُّوبِ ٱلَّتِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهَا، فَلَا يُعْطِيهِ أَحَدٌ شَيْئًا». — لوقا ١٥:١٤-١٦.
لَقَدْ رَضِيَ هٰذَا ٱلِٱبْنُ أَنْ يَعْمَلَ رَاعِيَ خَنَازِيرَ مَعَ أَنَّهَا حَيَوَانَاتٌ نَجِسَةٌ بِحَسَبِ شَرِيعَةِ ٱللّٰهِ. وَتَضَوَّرَ جُوعًا لِدَرَجَةِ أَنَّ لُعَابَهُ كَانَ يَسِيلُ عَلَى طَعَامِ ٱلْخَنَازِيرِ ٱلَّتِي يَرْعَاهَا. وَلٰكِنْ فِي خِضَمِّ بُؤْسِهِ وَإِحْبَاطِهِ، «عَادَ إِلَى رُشْدِهِ». فَمَاذَا قَرَّرَ أَنْ يَفْعَلَ؟ اِفْتَكَرَ فِي نَفْسِهِ: «كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لِأَبِي يَكْثُرُ عِنْدَهُ ٱلْخُبْزُ، وَأَنَا أَهْلِكُ هُنَا مِنَ ٱلْجُوعِ! أَقُومُ وَأُسَافِرُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: ‹يَا أَبِي، قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَإِلَيْكَ. وَلَا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى ٱبْنَكَ. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ›». وَبِٱلْفِعْلِ، قَامَ وَذَهَبَ إِلَى أَبِيهِ. — لوقا ١٥:١٧-٢٠.
فَكَيْفَ تَصَرَّفَ وَالِدُهُ يَا تُرَى؟ هَلْ صَبَّ عَلَيْهِ جَامَ غَضَبِهِ وَعَنَّفَهُ عَلَى حَمَاقَتِهِ حِينَ تَرَكَ ٱلْبَيْتَ؟ هَلِ ٱسْتَقْبَلَهُ بِفُتُورٍ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِرُجُوعِهِ؟ مَاذَا تَفْعَلُ أَنْتَ لَوْ كُنْتَ مَحَلَّهُ وَٱلْوَلَدُ هُوَ ٱبْنُكَ أَوْ بِنْتُكَ؟
كَانَ ضَائِعًا فَوُجِدَ
يُخْبِرُنَا يَسُوعُ عَنْ مَشَاعِرِ ٱلْأَبِ وَرَدِّ فِعْلِهِ قَائِلًا: «إِذْ كَانَ [ٱلِٱبْنُ] لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا، أَبْصَرَهُ أَبُوهُ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ، وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ». (لوقا ١٥:٢٠) فَقَدْ فَتَحَ ٱلْأَبُ ذِرَاعَيْهِ لِٱبْنِهِ مَعَ أَنَّهُ رُبَّمَا سَمِعَ بِحَيَاتِهِ ٱلْخَلِيعَةِ. فَهَلْ يَسْتَشِفُّ ٱلْقَادَةُ ٱلْيَهُودُ، ٱلَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ يَهْوَهَ وَيَعْبُدُونَهُ، كَيْفَ يَشْعُرُ أَبُونَا ٱلسَّمَاوِيُّ حِيَالَ ٱلْخُطَاةِ ٱلتَّائِبِينَ؟ وَهَلْ يُدْرِكُونَ أَنَّ يَسُوعَ يَتَحَلَّى بِٱلْمَوْقِفِ نَفْسِهِ؟
يُرَجَّحُ أَنَّ ٱلْأَبَ رَأَى ٱلتَّوْبَةَ وَٱلنَّدَمَ فِي مَلَامِحِ ٱبْنِهِ ٱلْحَزِينَةِ. فَبَادَرَ إِلَى ٱسْتِقْبَالِهِ بِمَحَبَّةٍ سَهَّلَتْ عَلَيْهِ ٱلْإِقْرَارَ بِخَطَايَاهُ. يَرْوِي يَسُوعُ: «عِنْدَئِذٍ قَالَ لَهُ ٱلِٱبْنُ: ‹يَا أَبِي، قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَإِلَيْكَ. وَلَا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى ٱبْنَكَ›». — لوقا ١٥:٢١.
لٰكِنَّ ٱلْأَبَ أَمَرَ عَبِيدَهُ: «أَسْرِعُوا وَأَخْرِجُوا أَفْضَلَ حُلَّةٍ وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ وَنَعْلَيْنِ فِي قَدَمَيْهِ. وَأْتُوا بِٱلْعِجْلِ ٱلْمُسَمَّنِ وَٱذْبَحُوهُ، وَلْنَأْكُلْ وَنَسْتَمْتِعْ، لِأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَادَ إِلَى ٱلْحَيَاةِ، كَانَ ضَائِعًا فَوُجِدَ». ثُمَّ «ٱبْتَدَأُوا يَسْتَمْتِعُونَ». — لوقا ١٥:٢٢-٢٤.
فِي هٰذِهِ ٱلْأَثْنَاءِ، كَانَ ٱلِٱبْنُ ٱلْأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. يُخْبِرُ يَسُوعُ عَنْهُ: «لَمَّا جَاءَ وَٱقْتَرَبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ عَزْفَ آلَاتٍ وَرَقْصًا. فَدَعَا أَحَدَ ٱلْخَدَمِ وَٱسْتَعْلَمَهُ عَمَّا يَكُونُ هٰذَا. فَقَالَ لَهُ: ‹قَدْ أَتَى أَخُوكَ، فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لِأَنَّهُ ٱسْتَعَادَهُ فِي صِحَّةٍ جَيِّدَةٍ›. وَلٰكِنَّهُ سَخِطَ وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ وَأَخَذَ يَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ. فَأَجَابَ وَقَالَ لِأَبِيهِ: ‹هَا أَنَا أَخْدُمُكَ كَعَبْدٍ سِنِينَ كَثِيرَةً جِدًّا وَلَمْ أَتَعَدَّ وَصِيَّتَكَ قَطُّ، وَمَعَ ذٰلِكَ لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ جَدْيًا لِأَسْتَمْتِعَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلٰكِنْ مَا إِنْ جَاءَ ٱبْنُكَ هٰذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ [أَيْ بَدَّدَ مُمْتَلَكَاتِكَ] مَعَ ٱلْعَاهِرَاتِ، حَتَّى ذَبَحْتَ لَهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ›». — لوقا ١٥:٢٥-٣٠.
فَمَنْ عَلَى غِرَارِ ٱلِٱبْنِ ٱلْأَكْبَرِ يَعِيبُونَ رَحْمَةَ يَسُوعَ وَٱهْتِمَامَهُ بِعَامَّةِ ٱلنَّاسِ وَٱلْخُطَاةِ؟ أَلَيْسُوا ٱلْكَتَبَةَ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ؟! فَٱنْتِقَادُهُمْ يَسُوعَ عَلَى تَرْحِيبِهِ بِٱلْخُطَاةِ هُوَ مَا دَفَعَهُ إِلَى سَرْدِ هٰذَا ٱلْمَثَلِ. وَٱلدَّرْسُ ٱلْمُسْتَمَدُّ مِنْهُ مُوَجَّهٌ أَيْضًا إِلَى كُلِّ مَنْ يَنْتَقِدُ رَحْمَةَ ٱللّٰهِ.
يَخْتَتِمُ يَسُوعُ مَثَلَهُ بِمُنَاشَدَةِ ٱلْأَبِ ٱبْنَهُ ٱلْأَكْبَرَ: «يَا وَلَدِي، أَنْتَ مَعِي كُلَّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ. وَلٰكِنْ كَانَ يَجِبُ أَنْ نَسْتَمْتِعَ وَنَفْرَحَ، لِأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَادَ إِلَى ٱلْحَيَاةِ، وَكَانَ ضَائِعًا فَوُجِدَ». — لوقا ١٥:٣١، ٣٢.
يَتْرُكُ يَسُوعُ قَرَارَ ٱلِٱبْنِ ٱلْأَكْبَرِ مُعَلَّقًا. وَلٰكِنْ تَجْدُرُ ٱلْإِشَارَةُ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ يَسُوعَ وَقِيَامَتِهِ، «أَخَذَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ ٱلْإِيمَانَ». (اعمال ٦:٧) وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَيْنَهُمْ كَهَنَةً سَمِعُوا مِنْ فَمِهِ هٰذَا ٱلْمَثَلَ ٱلْمُحَرِّكَ لِلْمَشَاعِرِ. فَقَدْ كَانَ ٱلْبَابُ مَفْتُوحًا حَتَّى لِهٰؤُلَاءِ أَنْ يَعُودُوا إِلَى رُشْدِهِمْ، وَيَتُوبُوا، وَيَرْجِعُوا إِلَى ٱللّٰهِ.
وَهٰكَذَا يَتَعَلَّمُ تَلَامِيذُ يَسُوعَ أَجْمَعُونَ دُرُوسًا جَوْهَرِيَّةً مِنْ هٰذَا ٱلْمَثَلِ ٱلرَّائِعِ. أَوَّلًا، مِنَ ٱلْحِكْمَةِ أَنْ نَبْقَى فِي كَنَفِ شَعْبِ ٱللّٰهِ تَحْتَ جَنَاحِ أَبِينَا ٱلسَّمَاوِيِّ ٱلَّذِي يُحِبُّنَا وَيُعِيلُنَا، بَدَلَ أَنْ نَنْجَرَّ وَرَاءَ ٱلْمَلَذَّاتِ ٱلْمُغْرِيَةِ فِي «بَلَدٍ بَعِيدٍ».
ثَانِيًا، إِنْ حَدَثَ وَحِدْنَا عَنْ طَرِيقِ ٱللّٰهِ، يَنْبَغِي أَنْ نَرْجِعَ إِلَيْهِ بِتَوَاضُعٍ كَيْ نَحْظَى مُجَدَّدًا بِرِضَاهُ.
وَأَخِيرًا وَلَيْسَ آخِرًا، نَسْتَقِي عِبْرَةً مِنَ ٱلتَّبَايُنِ ٱلصَّارِخِ بَيْنَ غُفْرَانِ ٱلْأَبِ ٱلرَّحْبِ ٱلصَّدْرِ وَمَوْقِفِ ٱبْنِهِ ٱلْأَكْبَرِ ٱلْحَاقِدِ وَٱلْبَارِدِ ٱلْإِحْسَاسِ. فَعَلَيْنَا نَحْنُ خُدَّامَ ٱللّٰهِ أَنْ نُسَامِحَ وَنَأْخُذَ بِٱلْأَحْضَانِ أَيَّ أَخٍ ضَلَّ ثُمَّ تَابَ تَوْبَةً أَصِيلَةً وَرَجَعَ إِلَى ‹بَيْتِ أَبِيهِ›. وَلْنُهَلِّلْ لِأَنَّهُ «كَانَ مَيِّتًا فَعَادَ إِلَى ٱلْحَيَاةِ . . . كَانَ ضَائِعًا فَوُجِدَ».
-
-
العمل بحكمة يضمن المستقبليسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٧
اَلْعَمَلُ بِحِكْمَةٍ يَضْمَنُ ٱلْمُسْتَقْبَلَ
مَثَلُ ٱلْوَكِيلِ ٱلْأَثِيمِ
كَسْبُ «أَصْدِقَاءَ بِٱلْمَالِ ٱلْأَثِيمِ»
اِنْتَهَى يَسُوعُ مِنْ رِوَايَةِ مَثَلِ ٱلِٱبْنِ ٱلضَّالِّ عَلَى مَسْمَعِ جُبَاةِ ٱلضَّرَائِبِ وَٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ ٱللّٰهَ مُسْتَعِدٌّ لِمُسَامَحَةِ ٱلْخُطَاةِ ٱلتَّائِبِينَ. (لوقا ١٥:١-٧، ١١) وَٱلْآنَ يُوَجِّهُ ٱلْحَدِيثَ إِلَى تَلَامِيذِهِ. فَيُعْطِي مَثَلًا آخَرَ عَنْ رَجُلٍ غَنِيٍّ يَكْتَشِفُ أَنَّ مُدَبِّرَ بَيْتِهِ، أَيْ وَكِيلَهُ، لَا يُحْسِنُ ٱلتَّصَرُّفَ.
يُخْبِرُ يَسُوعُ أَنَّ ٱلْوَكِيلَ يُتَّهَمُ بِإِسَاءَةِ إِدَارَةِ ٱلْأَمْوَالِ ٱلْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهَا. لِذَا يُقَرِّرُ ٱلسَّيِّدُ تَسْرِيحَهُ مِنَ ٱلْعَمَلِ. فَيَحْتَارُ ٱلْوَكِيلُ فِي أَمْرِهِ وَيُفَكِّرُ: «مَاذَا أَفْعَلُ، وَسَيِّدِي يَنْزِعُ عَنِّي ٱلْوِكَالَةَ؟ فَأَنَا لَسْتُ قَوِيًّا كِفَايَةً لِأَنْقُبَ، وَأَخْجَلُ أَنْ أَتَسَوَّلَ». وَيَقُولُ مُتَحَسِّبًا لِمَا يَكْمُنُ أَمَامَهُ: «عَرَفْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى مَتَى خُلِعْتُ عَنِ ٱلْوِكَالَةِ يَقْبَلُونَنِي فِي بُيُوتِهِمْ». فَيَسْتَدْعِي فَوْرًا مَدْيُونِي رَبِّ عَمَلِهِ وَيَسْأَلُ كُلًّا مِنْهُمْ: «كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟». — لوقا ١٦:٣-٥.
فَيُجِيبُ ٱلْمَدْيُونُ ٱلْأَوَّلُ، ٱلَّذِي رُبَّمَا يَمْلِكُ بَسَاتِينَ زَيْتُونٍ شَاسِعَةً أَوْ يُتَاجِرُ بِٱلزَّيْتِ، أَنَّ دَيْنَهُ يَبْلُغُ «مِئَةَ بَثٍّ مِنْ زَيْتِ ٱلزَّيْتُونِ»، أَيْ مَا يُعَادِلُ ٢٠٠,٢ لِتْرٍ. فَيَقُولُ لَهُ ٱلْوَكِيلُ: «خُذْ صَكَّكَ وَٱجْلِسْ وَٱكْتُبْ سَرِيعًا خَمْسِينَ»، أَيْ ١٠٠,١ لِتْرٍ. — لوقا ١٦:٦.
ثُمَّ يَسْأَلُ آخَرَ: «وَأَنْتَ، كَمْ عَلَيْكَ؟». فَيُجِيبُ: «مِئَةُ كُرٍّ مِنَ ٱلْحِنْطَةِ»، أَيْ مَا يُعَادِلُ ٠٠٠,٢٢ لِتْرٍ جَافٍّ. فَيَقُولُ لَهُ ٱلْوَكِيلُ: «خُذْ صَكَّكَ وَٱكْتُبْ ثَمَانِينَ»، مُخَفِّضًا قِيمَةَ ٱلدَّيْنِ بِنِسْبَةِ ٢٠ فِي ٱلْمِئَةِ. — لوقا ١٦:٧.
لَقَدْ تَصَرَّفَ ٱلْوَكِيلُ هٰكَذَا لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ مَسْؤُولًا عَنْ شُؤُونِ سَيِّدِهِ ٱلْمَالِيَّةِ، وَلَدَيْهِ صَلَاحِيَّةٌ إِلَى حَدٍّ مَا أَنْ يَشْطُبَ جُزْءًا مِنَ ٱلْقُرُوضِ. وَهُوَ بِذٰلِكَ يَكْسِبُ أَصْدِقَاءَ قَدْ يَرُدُّونَ لَهُ ٱلْمَعْرُوفَ حِينَ يَخْسَرُ وَظِيفَتَهُ.
يَعْلَمُ ٱلسَّيِّدُ بِمَا حَصَلَ. وَمَعَ أَنَّهُ تَكَبَّدَ ٱلْخَسَائِرَ، يُعْجَبُ بِٱلْوَكِيلِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ؛ فَقَدْ «عَمِلَ بِحِكْمَةٍ» رَغْمَ أَنَّهُ «أَثِيمٌ». وَيُضِيفُ يَسُوعُ: «أَبْنَاءُ نِظَامِ ٱلْأَشْيَاءِ هٰذَا هُمْ مِنْ جِهَةِ جِيلِهِمْ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ». — لوقا ١٦:٨.
فَمَا قَصْدُهُ؟ طَبْعًا، إِنَّهُ لَا يَغُضُّ ٱلطَّرْفَ عَنْ أَسَالِيبِ ٱلْوَكِيلِ ٱلْمُلْتَوِيَةِ وَلَا يُشَجِّعُ عَلَى ٱلِٱحْتِيَالِ وَٱلْغِشِّ فِي ٱلتَّعَامُلَاتِ ٱلتِّجَارِيَّةِ. بَلْ يَحُثُّ تَلَامِيذَهُ: «اِصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِٱلْمَالِ ٱلْأَثِيمِ، حَتَّى مَتَى نَفِدَ هٰذَا يَقْبَلُونَكُمْ فِي ٱلْمَسَاكِنِ ٱلْأَبَدِيَّةِ». (لوقا ١٦:٩) إِذًا، يَنْبَغِي ٱلتَّحَلِّي بِبُعْدِ ٱلنَّظَرِ وَٱلْعَمَلُ بِحِكْمَةٍ. فَعَلَيْنَا نَحْنُ خُدَّامَ ٱللّٰهِ، «أَبْنَاءَ ٱلنُّورِ»، أَنْ نَكُونَ حُكَمَاءَ فِي ٱسْتِخْدَامِ مَوَارِدِنَا ٱلْمَادِّيَّةِ وَٱلْمُسْتَقْبَلُ ٱلْأَبَدِيُّ نُصْبُ أَعْيُنِنَا.
وَبِمَا أَنَّ لَا أَحَدَ سِوَى يَهْوَهَ ٱللّٰهِ وَٱبْنِهِ يَقْبَلُنَا فِي ٱلْمَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوِيِّ أَوِ ٱلْفِرْدَوْسِ ٱلْأَرْضِيِّ فِي ظِلِّ هٰذَا ٱلْمَلَكُوتِ، يَجِبُ أَنْ نَبْذُلَ قُصَارَى جُهْدِنَا لِنُقَوِّيَ أَوَاصِرَ ٱلصَّدَاقَةِ مَعَهُمَا، وَذٰلِكَ بِتَوْظِيفِ مُقْتَنَيَاتِنَا ٱلْمَادِّيَّةِ لِدَعْمِ مَصَالِحِ ٱلْمَلَكُوتِ. فَعِنْدَئِذٍ، نَضْمَنُ مُسْتَقْبَلَنَا ٱلْأَبَدِيَّ حِينَ يَنْفَدُ ٱلذَّهَبُ وَٱلْفِضَّةُ وَٱلثَّرَوَاتُ ٱلْأُخْرَى وَلَا يَعُودُ لَهَا أَيُّ نَفْعٍ.
وَيُخْبِرُ يَسُوعُ أَنَّ ٱلْأُمَنَاءَ فِي ٱلتَّصَرُّفِ بِأَمْوَالِهِمْ وَمُمْتَلَكَاتِهِمْ سَيُظْهِرُونَ أَمَانَتَهُمْ أَيْضًا فِي ٱلْمَسَائِلِ ٱلْأَهَمِّ. يَسْأَلُ: «إِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي ٱلْمَالِ ٱلْأَثِيمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى ٱلْمَالِ ٱلْحَقِّ [كَمَصَالِحِ ٱلْمَلَكُوتِ]؟». — لوقا ١٦:١١.
ثُمَّ يُظْهِرُ أَنَّ عَلَى تَلَامِيذِهِ فِعْلَ ٱلْكَثِيرِ كَيْ يُقْبَلُوا «فِي ٱلْمَسَاكِنِ ٱلْأَبَدِيَّةِ». فَٱلْمَرْءُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا حَقِيقِيًّا لِلّٰهِ وَفِي ٱلْوَقْتِ عَيْنِهِ عَبْدًا لِلْمَالِ ٱلْأَثِيمِ. يَخْتَتِمُ قَائِلًا: «لَا يَسْتَطِيعُ خَادِمُ بَيْتٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِرَبَّيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلْآخَرَ، أَوْ يَلْتَصِقَ بِٱلْوَاحِدِ وَيَحْتَقِرَ ٱلْآخَرَ. لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَكُونُوا عَبِيدًا لِلّٰهِ وَلِلْمَالِ». — لوقا ١٦:٩، ١٣.
-
-
انقلاب الادوار بين الغني ولعازريسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٨
اِنْقِلَابُ ٱلْأَدْوَارِ بَيْنَ ٱلْغَنِيِّ وَلِعَازَرَ
مَثَلُ ٱلْغَنِيِّ وَلِعَازَرَ
إِنَّ مَشُورَةَ يَسُوعَ ٱلْقَيِّمَةَ حَوْلَ ٱسْتِخْدَامِ ٱلْمُمْتَلَكَاتِ ٱلْمَادِّيَّةِ لَا تَخُصُّ تَلَامِيذَهُ فَقَطْ. فَبَيْنَ ٱلْحُضُورِ فَرِّيسِيُّونَ «مُحِبُّونَ لِلْمَالِ» أَجْدَرُ بِهِمْ أَنْ يَحْمِلُوا هٰذَا ٱلنُّصْحَ مَحْمَلَ ٱلْجِدِّ. لٰكِنَّهُمْ عِوَضَ ذٰلِكَ «يَضْحَكُونَ مُسْتَهْزِئِينَ» بِيَسُوعَ. — لوقا ١٥:٢؛ ١٦:١٣، ١٤.
غَيْرَ أَنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى رَبَاطَةِ جَأْشِهِ وَيَقُولُ: «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ أَمَامَ ٱلنَّاسِ، وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ، لِأَنَّ مَا هُوَ شَامِخٌ بَيْنَ ٱلنَّاسِ هُوَ رِجْسٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ». — لوقا ١٦:١٥.
فَلَطَالَمَا رَفَّعَ ٱلنَّاسُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَأَعْطَوْهُمْ مَجْدًا. لٰكِنَّ ٱلْأَحْوَالَ سَتَنْقَلِبُ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ. ‹فَٱلشَّامِخُونَ› ٱلَّذِينَ هُمْ أَغْنِيَاءُ مَادِّيًّا وَنَافِذُونَ سِيَاسِيًّا وَدِينِيًّا سَيُوضَعُونَ وَيُعَانُونَ ٱلذُّلَّ. أَمَّا عَامَّةُ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِينَ يَشْعُرُونَ بِحَاجَتِهِمِ ٱلرُّوحِيَّةِ فَيُرْفَعُونَ. وَيُظْهِرُ يَسُوعُ أَنَّ هٰذَا ٱلتَّغْيِيرَ ٱلْجَذْرِيَّ يَأْخُذُ مَجْرَاهُ، قَائِلًا:
«كَانَتِ ٱلشَّرِيعَةُ وَٱلْأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمُنْذُ ذٰلِكَ ٱلْحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَشَتَّى ٱلنَّاسِ يَسْعَوْنَ بِعَزْمٍ نَحْوَهُ. وَإِنَّهُ لَأَسْهَلُ أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلْأَرْضُ مِنْ أَنْ يَمْضِيَ جُزْءٌ مِنْ حَرْفٍ مِنَ ٱلشَّرِيعَةِ دُونَ إِتْمَامٍ». (لوقا ٣:١٨؛ ١٦:١٦، ١٧) وَلٰكِنْ أَيْنَ ٱلتَّغْيِيرُ فِي هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتِ؟
يَزْعَمُ ٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ ٱلْيَهُودُ بِتَعَالٍ أَنَّهُمْ يَحْفَظُونَ شَرِيعَةَ مُوسَى بِدِقَّةٍ. فَعِنْدَمَا رَدَّ يَسُوعُ بَصَرَ رَجُلٍ فِي أُورُشَلِيمَ، تَبَجَّحُوا قَائِلِينَ: ‹نَحْنُ تَلَامِيذُ مُوسَى. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ٱللّٰهَ كَلَّمَ مُوسَى›. (يوحنا ٩:١٣، ٢٨، ٢٩) إِلَّا أَنَّ أَحَدَ أَهْدَافِ شَرِيعَةِ مُوسَى أَنْ تَقُودَ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ إِلَى ٱلْمَسِيَّا، أَيْ يَسُوعَ. وَيُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدَّمَهُ إِلَى ٱلنَّاسِ عَلَى أَنَّهُ حَمَلُ ٱللّٰهِ. (يوحنا ١:٢٩-٣٤) وَمُذْ بَدَأَ يُوحَنَّا خِدْمَتَهُ وَٱلْيَهُودُ ٱلْمُتَوَاضِعُونَ، وَلَا سِيَّمَا ٱلْفُقَرَاءُ، يَسْمَعُونَ «بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». ‹فَٱلْبِشَارَةُ› عَنْهُ يُنَادَى بِهَا لِكُلِّ ٱلَّذِينَ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ رَعَايَاهُ وَيَنْعَمُوا بِٱلْبَرَكَاتِ فِي ظِلِّهِ.
وَهَلْ تَمَّمَتِ ٱلشَّرِيعَةُ ٱلْمُوسَوِيَّةُ ٱلْقَصْدَ مِنْهَا؟ طَبْعًا، فَقَدْ قَادَتِ ٱلنَّاسَ إِلَى ٱلْمَسِيَّا. وَعَمَّا قَرِيبٍ تَنْتَفِي ٱلْحَاجَةُ إِلَى ٱلْعَمَلِ بِهَا. عَلَى سَبِيلِ ٱلْمِثَالِ، سَمَحَتِ ٱلشَّرِيعَةُ بِٱلطَّلَاقِ لِأَسْبَابٍ شَتَّى، إِلَّا أَنَّ يَسُوعَ يَذْكُرُ ٱلْآنَ: «كُلُّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَتَزَوَّجَ أُخْرَى زَنَى، وَمَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً مِنْ زَوْجِهَا زَنَى». (لوقا ١٦:١٨) وَلَا بُدَّ أَنَّ تَصْرِيحَاتٍ كَهٰذِهِ تُثِيرُ سُخْطَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱلْمُتَشَدِّدِينَ.
وَإِبْرَازًا لِضَخَامَةِ ٱلتَّغْيِيرِ ٱلْحَاصِلِ، يُعْطِي يَسُوعُ مَثَلًا عَنْ رَجُلَيْنِ تَنْعَكِسُ أَحْوَالُهُمَا بِكُلِّ مَعْنَى ٱلْكَلِمَةِ. وَجَدِيرٌ بِٱلْإِشَارَةِ أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱلشَّامِخِينَ ٱلْمُحِبِّينَ لِلْمَالِ لَا يَزَالُونَ بَيْنَ ٱلْحُضُورِ.
يَرْوِي يَسُوعُ: «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ يَلْبَسُ ٱلْأُرْجُوَانَ وَٱلْكَتَّانَ، وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِبَذْخٍ كُلَّ يَوْمٍ. وَكَانَ مُتَسَوِّلٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ يُوضَعُ عِنْدَ بَابِهِ، وَهُوَ مَلْآنٌ قُرُوحًا وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِمَّا يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ ٱلْغَنِيِّ. بَلْ كَانَتِ ٱلْكِلَابُ أَيْضًا تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ». — لوقا ١٦:١٩-٢١.
بِمَا أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ مَهْوُوسُونَ بِٱلْمَالِ، أَفَلَيْسَ وَاضِحًا وُضُوحَ ٱلشَّمْسِ مَنْ يَقْصِدُ يَسُوعُ بِهٰذَا «ٱلْغَنِيِّ»؟! فَهُمْ يَتَبَهْرَجُونَ بِثِيَابٍ فَاخِرَةٍ بَاهِظَةِ ٱلثَّمَنِ. وَزِيَادَةً عَلَى ثَرَائِهِمِ ٱلْمَادِّيِّ، يَبْدُونَ أَغْنِيَاءَ بِٱلِٱمْتِيَازَاتِ ٱلرُّوحِيَّةِ. لِذَا فَإِنَّ تَشْبِيهَهُمْ بِرَجُلٍ لَابِسٍ أُرْجُوَانًا مَلَكِيًّا يَدُلُّ عَلَى جَاهِهِمْ وَبُرُوزِهِمْ، أَمَّا ٱلْكَتَّانُ ٱلْأَبْيَضُ فَعَلَى بِرِّهِمِ ٱلْمُفْرِطِ. — دانيال ٥:٧.
وَكَيْفَ يَنْظُرُ هٰؤُلَاءِ ٱلْقَادَةُ ٱلْأَثْرِيَاءُ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ إِلَى عَامَّةِ ٱلنَّاسِ ٱلْفُقَرَاءِ؟ نَظْرَةَ ٱزْدِرَاءٍ مُعْتَبِرِينَهُمْ عام هاآريص، أَيْ شَعْبَ ٱلْأَرْضِ، أُنَاسًا لَا يَعْرِفُونَ ٱلشَّرِيعَةَ وَلَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا. (يوحنا ٧:٤٩) وَهٰذَا يُجَسِّدُ حَالَةَ ‹ٱلْمُتَسَوِّلِ لِعَازَرَ› ٱلَّذِي يَتَمَنَّى أَنْ يَسُدَّ رَمَقَهُ بِٱلْفُتَاتِ ٱلسَّاقِطِ «مِنْ مَائِدَةِ ٱلْغَنِيِّ». وَهُوَ مُغَطًّى بِٱلْقُرُوحِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ يَنْظُرُونَ إِلَى ٱلْعَامَّةِ بِعَيْنِ ٱلِٱحْتِقَارِ، كَمَا لَوْ أَنَّهُمْ مَرْضَى رُوحِيًّا.
إِنَّ هٰذَا ٱلْوَضْعَ ٱلْمُزْرِيَ مُسْتَمِرٌّ مُنْذُ فَتْرَةٍ مِنَ ٱلْوَقْتِ. وَلٰكِنْ آنَ ٱلْأَوَانُ لِحُدُوثِ تَبَدُّلٍ جَوْهَرِيٍّ فِي حَالَةِ ٱلْمُشَبَّهِينَ بِٱلْغَنِيِّ وَلِعَازَرَ عَلَى ٱلسَّوَاءِ.
كَيْفَ تَتَغَيَّرُ ٱلْأَحْوَالُ
يُتَابِعُ يَسُوعُ وَاصِفًا كَيْفَ تَنْقَلِبُ ٱلْأَحْوَالُ: «ثُمَّ مَاتَ ٱلْمُتَسَوِّلُ فَحَمَلَتْهُ ٱلْمَلَائِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضًا فَدُفِنَ. وَفِي هَادِسَ [أَيِ ٱلْقَبْرِ] رَفَعَ عَيْنَيْهِ، وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ». — لوقا ١٦:٢٢، ٢٣.
يَعْرِفُ مُسْتَمِعُو يَسُوعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ٱلْقَبْرِ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٍ. وَتُظْهِرُ ٱلْأَسْفَارُ ٱلْمُقَدَّسَةُ بِوُضُوحٍ أَنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ فِي ٱلْقَبْرِ، أَيْ شِيُولَ أَوْ هَادِسَ، بِمَقْدُورِهِ أَنْ يَرَى أَوْ يَتَكَلَّمَ، وَلَا حَتَّى إِبْرَاهِيمَ. (جامعة ٩:٥، ١٠) إِذًا، كَيْفَ يَفْهَمُ ٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ قَصْدَ يَسُوعَ مِنَ ٱلْمَثَلِ؟ وَمَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُوضِحَ بِشَأْنِهِمْ هُمْ وَعَامَّةِ ٱلشَّعْبِ؟
أَشَارَ يَسُوعُ مُنْذُ هُنَيْهَةٍ إِلَى تَغْيِيرٍ يَحْدُثُ حِينَ قَالَ إِنَّ ‹ٱلشَّرِيعَةَ وَٱلْأَنْبِيَاءَ كَانُوا إِلَى يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ. وَلٰكِنْ مُنْذُ ذٰلِكَ ٱلْحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ›. إِذًا، مِنْ خِلَالِ كِرَازَةِ يُوحَنَّا وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، «يَمُوتُ» لِعَازَرُ وَٱلْغَنِيُّ بِمَعْنَى أَنَّ وَضْعَهُمَا ٱلسَّابِقَ يَنْتَهِي وَيُصْبِحَانِ فِي حَالَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ وُجْهَةِ نَظَرِ ٱللّٰهِ.
فَٱلْمُتَّضِعُونَ وَٱلْفُقَرَاءُ عَانَوُا ٱلْحِرْمَانَ ٱلرُّوحِيَّ فَتْرَةً طَوِيلَةً. لٰكِنَّهُمُ ٱلْآنَ يَنَالُونَ ٱلْمُسَاعَدَةَ، إِذْ يَتَجَاوَبُونَ مَعَ رِسَالَةِ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلَّتِي نَادَى بِهَا يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ أَوَّلًا وَمِنْ ثُمَّ يَسُوعُ. فَفِي ٱلسَّابِقِ، ٱضْطُرُّوا أَنْ يَكْتَفُوا بِٱلْفُتَاتِ ٱلَّذِي «يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ» ٱلْقَادَةِ ٱلدِّينِيِّينَ ٱلرُّوحِيَّةِ. أَمَّا حَالِيًّا فَيَتَغَذَّوْنَ بِٱلْحَقَائِقِ ٱلْقَيِّمَةِ مِنَ ٱلْأَسْفَارِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَخُصُوصًا ٱلَّتِي يُعَلِّمُهَا يَسُوعُ. لِذَا يُمْكِنُ ٱلْقَوْلُ إِنَّهُمْ يَنْعَمُونَ بِحُظْوَةٍ فِي نَظَرِ يَهْوَهَ ٱللّٰهِ.
مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، يَرْفُضُ صَفُّ ٱلْقَادَةِ ٱلدِّينِيِّينَ ٱلْأَغْنِيَاءِ ٱلنَّافِذِينَ رِسَالَةَ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلَّتِي أَعْلَنَهَا يُوحَنَّا وَيُبَشِّرُ بِهَا يَسُوعُ فِي طُولِ ٱلْبِلَادِ وَعَرْضِهَا. (متى ٣:١، ٢؛ ٤:١٧) حَتَّى إِنَّ هٰذِهِ ٱلرِّسَالَةَ تُغِيظُهُمْ، بَلْ تُعَذِّبُهُمْ، لِأَنَّهَا تُشِيرُ أَنَّ ٱللّٰهَ سَيُنْزِلُ بِهِمْ دَيْنُونَةً قَاسِيَةً. (متى ٣:٧-١٢) لِذَا يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يُخَفِّفُ يَسُوعُ وَتَلَامِيذُهُ مِنْ حِدَّةِ رِسَالَتِهِمْ. إِنَّهُمْ كَٱلْغَنِيِّ فِي ٱلْمَثَلِ ٱلَّذِي يَطْلُبُ: «يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ، ٱرْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَغْمِسَ طَرَفَ إِصْبَعِهِ فِي ٱلْمَاءِ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لِأَنِّي فِي كَرْبٍ فِي هٰذِهِ ٱلنَّارِ ٱلْمُتَّقِدَةِ». — لوقا ١٦:٢٤.
لٰكِنَّ هٰذَا مُحَالٌ؛ فَمُعْظَمُهُمْ لَنْ يَتَغَيَّرُوا. فَقَدْ سَبَقُوا وَأَبَوُا ‹ٱلسَّمَاعَ لِمُوسَى وَٱلْأَنْبِيَاءِ› ٱلَّذِينَ دَوَّنُوا كِتَابَاتٍ يُفْتَرَضُ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى قُبُولِ يَسُوعَ بِوَصْفِهِ ٱلْمَسِيَّا وَٱلْمَلِكَ ٱلْمُعَيَّنَ مِنَ ٱللّٰهِ. (لوقا ١٦:٢٩، ٣١؛ غلاطية ٣:٢٤) هٰذَا وَإِنَّهُمْ لَا يَتَوَاضَعُونَ وَيَقْتَنِعُونَ بِكَلَامِ ٱلتَّلَامِيذِ ٱلْمُتَّضِعِينَ ٱلَّذِينَ يَقْبَلُونَ يَسُوعَ وَيَنْعَمُونَ بِٱلرِّضَى ٱلْإِلٰهِيِّ. وَٱلتَّلَامِيذُ مِنْ جِهَتِهِمْ لَنْ يُسَايِرُوا عَلَى حِسَابِ ٱلْحَقِّ أَوْ يُخَفِّفُوهُ لِمُجَرَّدِ إِرْضَاءِ ٱلْقَادَةِ ٱلدِّينِيِّينَ أَوْ إِرَاحَتِهِمْ. وَفِي ٱلْمَثَلِ، يَصِفُ يَسُوعُ هٰذَا ٱلْوَاقِعَ بِٱلْكَلِمَاتِ ٱلَّتِي يَقُولُهَا ‹ٱلْأَبُ إِبْرَاهِيمُ› لِلْغَنِيِّ:
«يَا وَلَدِي، ٱذْكُرْ أَنَّكَ نِلْتَ خَيْرَاتِكَ كَامِلًا فِي حَيَاتِكَ، وَلِعَازَرُ نَالَ ٱلْأَذَى. وَلٰكِنَّهُ ٱلْآنَ يَتَعَزَّى هُنَا، أَمَّا أَنْتَ فَفِي كَرْبٍ. وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ، فَقَدْ أُثْبِتَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى إِنَّ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْتَازُوا مِنْ هُنَا إِلَيْكُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ، وَلَا ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يُمْكِنُ أَنْ يَعْبُرُوا إِلَيْنَا». — لوقا ١٦:٢٥، ٢٦.
فِعْلًا، هٰذَا ٱلتَّغْيِيرُ عَادِلٌ وَفِي مَحَلِّهِ. فَثَمَّةَ تَبَادُلٌ فِي ٱلْمَرَاكِزِ، إِنْ جَازَ ٱلتَّعْبِيرُ، بَيْنَ ٱلْقَادَةِ ٱلدِّينِيِّينَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ وَٱلْأَشْخَاصِ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ ٱلَّذِينَ يَقْبَلُونَ نِيرَ يَسُوعَ فَيَنْتَعِشُونَ وَيَشْبَعُونَ رُوحِيًّا. (متى ١١:٢٨-٣٠) وَتَتَّضِحُ مَعَالِمُ هٰذَا ٱلتَّغْيِيرِ أَكْثَرَ بَعْدَ بِضْعَةِ أَشْهُرٍ حِينَ يَحِلُّ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ مَحَلَّ عَهْدِ ٱلشَّرِيعَةِ. (ارميا ٣١:٣١-٣٣؛ كولوسي ٢:١٤؛ عبرانيين ٨:٧-١٣) وَعِنْدَمَا يَسْكُبُ ٱللّٰهُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يَوْمَ ٱلْخَمْسِينَ سَنَةَ ٣٣ بم، سَيَتَبَيَّنُ كَٱلشَّمْسِ فِي وَضَحِ ٱلنَّهَارِ أَنَّ مَنْ يَحْظَوْنَ بِرِضَاهُ هُمْ تَلَامِيذُ يَسُوعَ، لَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَحُلَفَاؤُهُمُ ٱلدِّينِيُّونَ.
-
-
في الطريق من بيريا الى اليهوديةيسوع: الطريق والحق والحياة
-
-
اَلْفَصْلُ ٨٩
فِي ٱلطَّرِيقِ مِنْ بِيرْيَا إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ
لوقا ١٧:١-١٠ يوحنا ١١:١-١٦
إِعْثَارُ ٱلْآخَرِينَ مَسْأَلَةٌ خَطِيرَةٌ
اَلْمُسَامَحَةُ وَٱلْإِيمَانُ
أَمْضَى يَسُوعُ فَتْرَةً مِنَ ٱلْوَقْتِ فِي مِنْطَقَةِ بِيرْيَا «عَبْرَ ٱلْأُرْدُنِّ». (يوحنا ١٠:٤٠) وَيَهُمُّ ٱلْآنَ بِٱلذَّهَابِ جَنُوبًا صَوْبَ أُورُشَلِيمَ.
لٰكِنَّهُ لَا يُسَافِرُ بِمُفْرَدِهِ، بَلْ مَعَهُ تَلَامِيذُهُ وَ «جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ» بَيْنَهُمْ جُبَاةُ ضَرَائِبَ وَخُطَاةٌ. (لوقا ١٤:٢٥؛ ١٥:١) وَهُنَاكَ أَيْضًا فَرِّيسِيُّونَ وَكَتَبَةٌ يَنْتَقِدُونَهُ فِي كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ، عِوَضَ أَنْ يَتَأَمَّلُوا فِي مَغْزَى أَمْثَالِهِ عَنِ ٱلْخَرُوفِ ٱلضَّائِعِ وَٱلِٱبْنِ ٱلضَّالِّ وَٱلْغَنِيِّ وَلِعَازَرَ. — لوقا ١٥:٢؛ ١٦:١٤.
وَفِي ٱلطَّرِيقِ، يُخَاطِبُ تَلَامِيذَهُ وَهُوَ يُفَكِّرُ رُبَّمَا فِي ٱنْتِقَادَاتِ مُقَاوِمِيهِ وَٱسْتِهْزَائِهِمْ. فَيَتَنَاوَلُ نِقَاطًا سَبَقَ وَعَلَّمَهَا فِي ٱلْجَلِيلِ.
يَقُولُ عَلَى سَبِيلِ ٱلْمِثَالِ: «لَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ ٱلْمَعَاثِرُ. وَلٰكِنْ، وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ! . . . اِنْتَبِهُوا لِأَنْفُسِكُمْ. إِذَا ٱرْتَكَبَ أَخُوكَ خَطِيَّةً فَٱنْتَهِرْهُ، وَإِذَا تَابَ فَٱغْفِرْ لَهُ. وَإِذَا أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَائِلًا: ‹أَنَا تَائِبٌ›، يَجِبُ أَنْ تَغْفِرَ لَهُ». (لوقا ١٧:١-٤) وَلَعَلَّ ٱلْعِبَارَةَ ٱلْأَخِيرَةَ تُذَكِّرُ بُطْرُسَ بِسُؤَالِهِ سَابِقًا عَنِ ٱلْغُفْرَانِ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ. — متى ١٨:٢١.
وَمَاذَا يُسَاعِدُ ٱلتَّلَامِيذَ عَلَى تَطْبِيقِ كَلَامِ يَسُوعَ؟ يَطْلُبُونَ قَائِلِينَ: «زِدْنَا إِيمَانًا». فَيُؤَكِّدُ لَهُمْ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ بِمِقْدَارِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِشَجَرَةِ ٱلتُّوتِ هٰذِهِ: ‹اِنْقَلِعِي مِنْ أَصْلِكِ وَٱنْغَرِسِي فِي ٱلْبَحْرِ!›، فَتُطِيعُكُمْ». (لوقا ١٧:٥، ٦) فِعْلًا، ذَرَّةُ إِيمَانٍ تَفْعَلُ ٱلْعَظَائِمَ.
ثُمَّ يُتَابِعُ مُشَدِّدًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ أَنْ يَنْظُرَ ٱلْمَرْءُ إِلَى نَفْسِهِ بِتَوَاضُعٍ وَٱتِّزَانٍ. فَيُخْبِرُ رُسُلَهُ: «مَنْ مِنْكُمْ لَهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى، يَقُولُ لَهُ مَتَى دَخَلَ مِنَ ٱلْحَقْلِ: ‹تَعَالَ فِي ٱلْحَالِ وَٱتَّكِئْ إِلَى ٱلْمَائِدَةِ›؟ أَلَا يَقُولُ لَهُ بِٱلْأَحْرَى: ‹أَعِدَّ لِي مَا أَتَعَشَّى، وَٱتَّزِرْ وَٱخْدُمْنِي حَتَّى إِذَا مَا فَرَغْتُ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ تَأْكُلُ أَنْتَ وَتَشْرَبُ›؟ أَيَشْعُرُ بِأَنَّ لِلْعَبْدِ فَضْلًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُوكِلَ إِلَيْهِ؟ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُوكِلَ إِلَيْكُمْ، فَقُولُوا: ‹نَحْنُ عَبِيدٌ لَا نَصْلُحُ لِشَيْءٍ. قَدْ فَعَلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ›». — لوقا ١٧:٧-١٠.
فَعَلَى كُلِّ عَابِدٍ لِلّٰهِ أَنْ يُدْرِكَ أَهَمِّيَّةَ وَضْعِ ٱلْمَصَالِحِ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلْمَقَامِ ٱلْأَوَّلِ. وَلْيُبْقِ فِي بَالِهِ أَيْضًا أَنَّ عِبَادَةَ ٱللّٰهِ كَوَاحِدٍ مِنْ خَدَمِ بَيْتِهِ لَٱمْتِيَازٌ رَفِيعٌ.
بُعَيْدَ ذٰلِكَ كَمَا يَبْدُو، يَصِلُ مَبْعُوثٌ مِنْ قِبَلِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا ٱللَّتَيْنِ تَعِيشَانِ مَعَ أَخِيهِمَا لِعَازَرَ فِي بَيْتَ عَنْيَا بِٱلْيَهُودِيَّةِ. فَيُخْبِرُ يَسُوعَ: «يَا رَبُّ، هَا إِنَّ ٱلَّذِي تُكِنُّ لَهُ مَوَدَّةً مَرِيضٌ». — يوحنا ١١:١-٣.
وَمَعَ أَنَّ ٱلْخَبَرَ يَخُصُّ صَدِيقَهُ ٱلْعَزِيزَ لِعَازَرَ، لَا يَدَعُ يَسُوعُ ٱلْحُزْنَ يَشُلُّهُ بَلْ يَذْكُرُ: «هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَا يَؤُولُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، بَلْ هُوَ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ». فَيَبْقَى حَيْثُ هُوَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ لِتَلَامِيذِهِ: «لِنَذْهَبْ ثَانِيَةً إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ». لٰكِنَّهُمْ يَعْتَرِضُونَ: «رَابِّي، قَبْلَ قَلِيلٍ كَانَ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ، أَفَتَذْهَبُ ثَانِيَةً إِلَى هُنَاكَ؟». — يوحنا ١١:٤، ٧، ٨.
فَيُجِيبُهُمْ: «أَلَيْسَ ٱلنَّهَارُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً؟ إِنْ مَشَى أَحَدٌ فِي ٱلنَّهَارِ لَا يَصْطَدِمُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَرَى نُورَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ. وَلٰكِنْ إِنْ مَشَى أَحَدٌ فِي ٱللَّيْلِ فَإِنَّهُ يَصْطَدِمُ، لِأَنَّ ٱلنُّورَ لَيْسَ فِيهِ». (يوحنا ١١:٩، ١٠) وَهُوَ يَعْنِي كَمَا يَظْهَرُ أَنَّ ٱلْوَقْتَ ٱلَّذِي خَصَّصَهُ ٱللّٰهُ لِخِدْمَتِهِ عَلَى ٱلْأَرْضِ لَمْ يَنْتَهِ بَعْدُ. وَإِلَى ذٰلِكَ ٱلْحِينِ، عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْمِرَ ٱلْوَقْتَ ٱلْقَصِيرَ ٱلْبَاقِيَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.
ثُمَّ يُضِيفُ: «لِعَازَرُ صَدِيقُنَا رَاقِدٌ، لٰكِنِّي ذَاهِبٌ لِأُوقِظَهُ مِنَ ٱلنَّوْمِ». فَيَظُنُّ ٱلتَّلَامِيذُ كَمَا يَتَّضِحُ أَنَّ لِعَازَرَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ ٱلرَّاحَةِ وَسَيَتَمَاثَلُ لِلشِّفَاءِ، فَيَقُولُونَ: «يَا رَبُّ، إِنْ كَانَ رَاقِدًا فَسَيَتَعَافَى». عِنْدَئِذٍ يُخْبِرُهُمْ بِصَرِيحِ ٱلْعِبَارَةِ: «لِعَازَرُ مَاتَ . . . وَلٰكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ». — يوحنا ١١:١١-١٥.
وَمَعَ أَنَّ تُومَا يُدْرِكُ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ يُقْتَلُ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ، يَرْغَبُ فِي ٱلْوُقُوفِ إِلَى جَانِبِهِ، فَيُحَمِّسُ رُفَقَاءَهُ ٱلتَّلَامِيذَ: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضًا، لِنَمُوتَ مَعَهُ». — يوحنا ١١:١٦.
-