-
قطف القمح في السبتاعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
سرعان ما يترك يسوع وتلاميذه اورشليم ليعودوا الى الجليل. انه الربيع، وفي الحقول هنالك سنابل قمح في السويقات.
-
-
ماذا يحلّ في السبت؟اعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
ماذا يحلّ في السبت؟
في سبت آخر يزور يسوع مجمعا قرب بحر الجليل. ويكون هناك رجل يده اليمنى يابسة. والكتبة والفريسيون يراقبون بدقة ليروا ما اذا كان يسوع سيشفيه. وأخيرا يسألون: «هل يحلّ الابراء في السبوت.»
يعتقد القادة الدينيون اليهود ان الشفاء يحلّ في السبت اذا كانت الحياة في خطر فقط. فهم يعلِّمون، على سبيل المثال، انه لا يحلّ في السبت ان يُجبر عظم او يُعصب التواء مفصل. ولذلك يسأل الكتبة والفريسيون يسوع محاولين ان يشتكوا عليه.
ولكنّ يسوع يعرف افكارهم. وفي الوقت نفسه يدرك انهم قد تبنّوا رأيا متطرفا غير مؤسس على الاسفار المقدسة في ما يتعلق بما يشكل انتهاكا لمطلب يوم السبت الذي يمنع العمل. وهكذا يُعدّ يسوع المسرح لمجابهة مثيرة بقوله للرجل الذي يده يابسة: «قم وقف في الوسط.»
والآن، اذ يلتفت الى الكتبة والفريسيين، يقول يسوع: «اي انسان منكم يكون له خروف واحد فان سقط هذا في السبت في حفرة أفما يُمسكه ويقيمه.» وبما ان الخروف يمثل استثمارا ماليا فلم يكونوا ليتركوه في الحفرة حتى اليوم التالي، ربما ليمرض ويسبب لهم خسارة. وبالاضافة الى ذلك، تقول الاسفار المقدسة: «الصدّيق يراعي نفس بهيمته.»
واذ يرسم تناظرا يتابع يسوع: «فالانسان كم هو افضل من الخروف. اذًا يحلّ فعل الخير في السبوت.» واذ يكون القادة الدينيون غير قادرين على دحض تفكير منطقي ورؤوف كهذا يبقون ساكتين.
بغضب وأيضا بحزن على حماقتهم المستعصية ينظر يسوع حوله. ثم يقول للرجل: «مُدَّ يدك.» فيمدّ يده وتشفى.
وعوضا عن ان يكونوا سعداء لان يد الرجل عادت صحيحة، يخرج الفريسيون ويتآمرون فورا مع حزب الهيرودسيين لكي يقتلوا يسوع. ومن الواضح ان هذا الحزب السياسي يشمل اعضاء من الصدوقيين الدينيين. وعادة يقاوم هذا الحزب السياسي والفريسيون واحدهم الآخر علنا، لكنهم يتَّحدون بقوة في مقاومتهم ليسوع. متى ١٢:٩-١٤؛ مرقس ٣:١-٦؛ لوقا ٦:٦-١١؛ امثال ١٢:١٠؛ خروج ٢٠:٨-١٠.
-
-
إتمام نبوة اشعياءاعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
إتمام نبوة اشعياء
بعد ان يعلم يسوع ان الفريسيين وأتباع حزب هيرودس يخططون لقتله ينصرف مع تلاميذه الى بحر الجليل. هنا تحتشد اليه جموع كثيرة من جميع انحاء فلسطين وحتى من خارج تخومها. فيشفي كثيرين، وتكون النتيجة ان جميع اولئك المصابين بأمراض خطيرة يندفعون اليه ليلمسوه.
ولان الجموع غفيرة جدا يقول يسوع لتلاميذه ان تلازمه سفينة دائما. فبالابتعاد عن الشاطئ يمكنه ان يمنع الجموع عن زحمه. ويمكنه ان يعلّمهم من السفينة او يسافر الى منطقة اخرى على موازاة الشاطئ لمساعدة الناس هناك.
يشير التلميذ متّى الى ان نشاط يسوع يتمم «ما قيل باشعياء النبي.» ثم يقتبس متّى النبوة التي يتممها يسوع:
«هوذا فتاي الذي اخترته. حبيبي الذي سرَّت به نفسي. اضع روحي عليه فيخبر الامم (بالعدل). لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع احد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف. وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يُخرج (العدل) الى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الامم.»
طبعا، ان يسوع هو الخادم الحبيب الذي يسرّ به اللّٰه. ويسوع يبيِّن ما هو العدل الحقيقي الذي تخفيه التقاليد الدينية الباطلة. فالفريسيون، بسبب تطبيقهم الجائر لشريعة اللّٰه، لا يأتون حتى لمساعدة شخص مريض في السبت! وبتبيان عدل اللّٰه، يحرر يسوع الناس من عبء التقاليد الجائرة، ولاجل ذلك يحاول القادة الدينيون ان يقتلوه.
وماذا يعني انه ‹لا يخاصم ولا يرفع صوته بحيث يُسمع في الشوارع›؟ عند شفاء الناس ‹يوصيهم يسوع بشدة ان لا يُظهروه.› فهو لا يريد ان يحصل على اعلان صاخب عن نفسه في الشوارع او ان تُنقل اخبار محرّفة باثارة من فم الى فم.
وايضا يحمل يسوع رسالته المعزية الى اشخاص هم مجازيا كقصبة مرضوضة وملتوية ومسحوقة تحت الاقدام. وهم كفتيلة مدخِّنة يوشك بصيص حياتها الاخير ان يهمد. فيسوع لا يقصف القصبة المرضوضة او يطفئ الفتيلة الخامدة المدخِّنة. لكنه، بحنان ومحبة، يقدم العون بطريقة بارعة للودعاء. حقا، ان يسوع هو الشخص الذي عليه يمكن ان يكون رجاء الامم! متى ١٢:١٥-٢١؛ مرقس ٣:٧-١٢؛ اشعياء ٤٢:١-٤.
-
-
اختيار رسلهاعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
اختيار رسله
كان قد مضى حوالي سنة ونصف منذ ان قدَّم يوحنا المعمدان يسوع كحمل اللّٰه وابتدأ يسوع خدمته الجهرية. في ذلك الوقت كان اندراوس، سمعان بطرس، يوحنا، وربما يعقوب (اخو يوحنا)، بالاضافة الى فيلبس ونثنائيل (يُدعى ايضا برثولماوس)، قد صاروا تلاميذه الاولين. وبعد مدة انضمَّ اليهم كثيرون آخرون في اتِّباع المسيح.
ان يسوع مستعد الآن لانتقاء رسله. وهؤلاء سيكونون عشراءه الاحماء الذين سيُعطَون تدريبا خصوصيا. ولكن قبل انتقائهم يذهب يسوع الى جبل ويقضي الليل كله في الصلاة، طالبا على الارجح الحكمة وبركة اللّٰه. وعندما يصير النهار يدعو تلاميذه ومن بينهم يختار ١٢. ولكن بما انهم يستمرون متعلمين من يسوع فهم لا يزالون يُدعون تلاميذ ايضا.
ان الستة الذين ينتقيهم يسوع، المذكورين آنفا، هم اولئك الذين صاروا تلاميذه الاولين. ومتّى، الذي دعاه يسوع من مكان جبايته، يجري انتقاؤه ايضا. والمختارون الخمسة الآخرون هم يهوذا (يُدعى ايضا تَدَّاوس)، يهوذا الاسخريوطي، سمعان القانوي، توما، ويعقوب بن حلفى. ويعقوب هذا يُدعى ايضا يعقوب الصغير ربما لكونه اما اقصر بالقامة الجسدية أو اصغر سنا من الرسول يعقوب الآخر.
الى الآن كان هؤلاء الـ ١٢ مع يسوع لبعض الوقت، وهو يعرفهم جيدا. وفي الواقع، ان عددا منهم هم اقرباؤه. فيعقوب وأخوه يوحنا هما بشكل واضح ابنا خالة يسوع. ومن المحتمل ان حلفى كان اخا يوسف، ابي يسوع بالتبنِّي. فابن حلفى، الرسول يعقوب، يكون ايضا ابن عم يسوع.
وطبعا، ليست لدى يسوع اية مشكلة في تذكر اسماء رسله. ولكن هل يمكنكم انتم ان تتذكروهم؟ حسنا، تذكروا فقط ان هنالك اثنين يُسمَّيان سمعان واثنين يُسمَّيان يعقوب واثنين يُسمَّيان يهوذا، وان سمعان له اخ هو اندراوس، ويعقوب له اخ هو يوحنا. هذا هو المفتاح لتتذكروا ثمانية رسل. والاربعة الآخرون يشملون جابي ضرائب (متّى)، واحدا شك في ما بعد (توما)، واحدا جرت دعوته من تحت شجرة (نثنائيل)، وصديقه فيلبس.
ان احد عشر رسولا هم من الجليل، مقاطعة موطن يسوع. نثنائيل هو من قانا. فيلبس وبطرس واندراوس هم في الاصل من بيت صيدا، وبطرس واندراوس انتقلا في ما بعد الى كفرناحوم، حيث سكن متّى على ما يظهر. يعقوب ويوحنا كانا في مهنة صيد السمك وسكنا ايضا على الارجح في كفرناحوم او قربها. ويبدو ان يهوذا الاسخريوطي، الذي خان يسوع في ما بعد، هو الرسول الوحيد من اليهودية. مرقس ٣:١٣-١٩؛ لوقا ٦:١٢-١٦.
-
-
اشهر موعظة أُعطيت على الاطلاقاعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
اشهر موعظة أُعطيت على الاطلاق
المشهد هو واحد من المشاهد الاكثر جدارة بأن تُذكر في تاريخ الكتاب المقدس: يسوع يجلس في منحدر جبل، ملقيا موعظته الشهيرة على الجبل. المكان هو قرب بحر الجليل، وربما في جوار كفرناحوم. بعد قضاء الليل كله في الصلاة، اختار يسوع الآن ١٢ من تلاميذه ليكونوا رسلا. ثم، معهم جميعا، ينزل الى هذا الموضع السهل من الجبل.
والآن، قد تفكرون، يجب ان يكون يسوع تعبا جدا ويرغب في شيء من النوم. ولكنّ جموعا كثيرة اتت، بعضهم من اليهودية واورشليم على بعد ٦٠ الى ٧٠ ميلا (١٠٠ الى ١١٠ كلم). وآخرون اتوا من ساحل صور وصيداء الواقعتين شمالا. لقد اتوا ليسمعوا يسوع ويشفوا من امراضهم. وكان هنالك ايضا اشخاص معذَّبون من الابالسة، الملائكة الاشرار للشيطان.
واذ ينزل يسوع يقترب اليه الاشخاص المرضى ليلمسوه فيشفيهم جميعا. وبعد ذلك يبدو ان يسوع يتسلق موضعا اعلى في الجبل. وهنا يجلس ويبدأ بتعليم الجموع المنتشرة في الموضع السهل امامه. تأملوا في ذلك! لا يوجد الآن حتى ولا شخص واحد بين الحاضرين جميعا يشكو من عجز خطير!
ويتشوق الشعب الى سماع المعلم القادر على انجاز هذه العجائب المذهلة. إلا ان يسوع يلقي موعظته بشكل رئيسي لفائدة تلاميذه المجتمعين على الارجح حوله وأقرب ما يمكن اليه. ولكن لنتمكن من الاستفادة نحن ايضا سجَّلها متى ولوقا كلاهما.
وطول رواية متى للموعظة هو حوالي اربعة اضعاف طول رواية لوقا. وفضلا عن ذلك، فان اجزاء مما يسجله متى يقدمها لوقا كأمور قالها يسوع في وقت آخر اثناء خدمته، كما يمكن ملاحظته بمقارنة متى ٦:٩-١٣ بلوقا ١١:١-٤، ومتى ٦:٢٥-٣٤ بلوقا ١٢:٢٢-٣١. ومع ذلك لا يجب ان يكون ذلك مدهشا. فمن الواضح ان يسوع علَّم الامور نفسها اكثر من مرة، وقد اختار لوقا ان يسجِّل بعض هذه التعاليم في مكان مختلف.
وما يجعل موعظة يسوع قيِّمة للغاية ليس فقط عمق محتوياتها الروحية وانما البساطة والوضوح الذي به يقدم هذه الحقائق. وهو يعتمد على الاختبارات العادية ويستعمل امورا مألوفة عند الشعب، جاعلا بالتالي افكاره مفهومة بسهولة من جميع الذين يطلبون حياة افضل في طريق اللّٰه.
من هم السعداء حقا؟
كل فرد يريد ان يكون سعيدا. واذ يدرك يسوع ذلك يبتدئ موعظته على الجبل واصفا اولئك الذين هم سعداء حقا. وكما يمكننا ان نتصور، يجذب ذلك فورا انتباه حضوره الكثير العدد. ورغم ذلك، لا بد ان تبدو كلماته الافتتاحية متناقضة لكثيرين.
يبتدئ يسوع موجها تعليقاته الى تلاميذه: «طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت اللّٰه. طوباكم ايها الجياع الآن لانكم تُشبعون. طوباكم ايها الباكون الآن لانكم ستضحكون. طوباكم اذا ابغضكم الناس . . . افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا. فهوذا اجركم عظيم في السماء.»
هذه رواية لوقا لمقدمة موعظة يسوع. ولكن حسب سجل متى يقول يسوع ايضا ان الودعاء والرحماء والانقياء القلب وصانعي السلام هم سعداء. وهؤلاء هم سعداء، يذكر يسوع، لانهم يرثون الارض، ويُرحمون، ويعاينون اللّٰه، وأبناء اللّٰه يُدعون.
ولكنَّ ما يعنيه يسوع بكون المرء سعيدا ليس مجرد كونه جذلا او مرحا، كما عندما يلهو. فالسعادة الحقيقية هي اعمق، حاملة فكرة القناعة، الشعور بالاكتفاء والانجاز في الحياة.
فاولئك الذين هم سعداء حقا، يُظهر يسوع، هم اناس يدركون حاجتهم الروحية، وتحزنهم حالتهم الخاطئة، ويأتون الى معرفة اللّٰه وخدمته. وحتى اذا جرى ابغاضهم او اضطهادهم من اجل صنع مشيئة اللّٰه يكونون سعداء اذ يعرفون انهم يسرّون اللّٰه وسينالون مكافأته للحياة الابدية.
ولكنّ كثيرين من سامعي يسوع، تماما كبعض الناس اليوم، يعتقدون ان الازدهار والتمتع بالملذات هو ما يجعل الشخص سعيدا. يعرف يسوع خلافا لذلك. واذ يلفت الانتباه الى تباين لا بد ان يدهش كثيرين من سامعيه يقول:
«ويل لكم ايها الاغنياء. لانكم قد نلتم عزاءكم. ويل لكم ايها الشباعى لانكم ستجوعون. ويل لكم ايها الضاحكون الآن لانكم ستحزنون وتبكون. ويل لكم اذا قال فيكم جميع الناس حسنا. لانه هكذا كان آباؤهم يفعلون بالانبياء الكذبة.»
فماذا يعني يسوع؟ ولماذا امتلاك الغنى والسعي وراء الملذّات بضحك والتمتع باستحسان الناس يجلب الويل؟ لانه عندما يمتلك الشخص هذه الاشياء ويتعلق بها تُستثنى من حياته خدمة اللّٰه، التي تجلب وحدها السعادة الحقيقية. وفي الوقت نفسه، لم يعنِ يسوع ان مجرد كون الشخص فقيرا وجائعا وحزينا يجعله سعيدا. ولكن، في الغالب، يمكن ان يتجاوب مثل هؤلاء الاشخاص المحرومين مع تعاليم يسوع، وبذلك يتباركون بالسعادة الحقيقية.
بعد ذلك يقول يسوع مخاطبا تلاميذه: «انتم ملح الارض.» انه طبعا لا يعني انهم حرفيا ملح. فالملح هو حافظ. وتوضع كومة كبيرة منه قرب المذبح في هيكل يهوه، والكهنة القائمون بالخدمة هناك استخدموه لتمليح التقدمات.
ان تلاميذ يسوع هم «ملح الارض» بمعنى أن لهم تأثيرا حافظا في الناس. وفي الواقع، ان الرسالة التي يحملونها ستحفظ حياة جميع الذين يتجاوبون معها! وهي ستجلب لحياة مثل هؤلاء الاشخاص صفات الاستمرار والولاء والامانة، مانعة ايّ فساد روحي وأدبي فيهم.
«انتم نور العالم،» يقول يسوع لتلاميذه. فالسراج لا يوضع تحت المكيال بل على المنارة، ولذلك يقول يسوع: «فليضئ نوركم هكذا قدام الناس.» ويفعل تلاميذ يسوع ذلك بشهادتهم العلنية، بالاضافة الى خدمتهم كأمثلة مضيئة للسلوك الذي ينسجم مع مبادئ الكتاب المقدس.
مقياس رفيع لأتباعه
يعتبر القادة الدينيون يسوع متعديا على ناموس اللّٰه حتى انهم مؤخرا تآمروا ليقتلوه. ولذلك اذ يتابع يسوع موعظته على الجبل يشرح: «لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس او الانبياء. ما جئت لانقض بل لاكمّل.»
يملك يسوع الاعتبار الاسمى لناموس اللّٰه ويشجع الآخرين على حيازة الاعتبار عينه ايضا. وفي الواقع، يقول: «فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يدعى اصغر في ملكوت السموات،» مما يعني ان شخصا كهذا لن يدخل الملكوت اطلاقًا.
وبعيدًا عن الاحتقار لناموس اللّٰه يدين يسوع حتى المواقف التي تساهم في نقض الشخص له. فبعد الاشارة الى ان الناموس يقول، «لا تقتل،» يضيف يسوع: «وأما انا فأقول لكم ان كل من يغضب على اخيه باطلا يكون مستوجب الحكم.»
وبما ان استمرار الغضب على عشير ما خطير جدا، وربما يقود ايضا الى القتل، يوضح يسوع الحد الذي يجب على المرء ان يصل اليه تحقيقا للسلام. يأمر: «فان قدمت قربانك الى المذبح وهناك تذكرت أن لاخيك شيئا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب اولاً اصطلح مع اخيك. وحينئذ تعال وقدم قربانك.»
واذ يلفت الانتباه الى الوصية السابعة من الوصايا العشر يتابع يسوع: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن.» ولكنّ يسوع يدين حتى الموقف الثابت من الزنا. «اقول لكم ان كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه.»
لا يتكلم يسوع هنا عن مجرد فكرة عابرة فاسدة ادبيا بل عن الاستمرار في النظر. فنظر مستمر كهذا يثير الرغبة الشهوانية التي، ان سنحت الفرصة، يمكن ان تبلغ الذروة في الزنا. وكيف يمكن للشخص ان يمنع حدوث ذلك؟ يوضح يسوع كيف يمكن ان تكون الاجراءات الصارمة ضرورية اذ يقول: «فان كانت عينك اليمنى تُعثرك فاقلعها وألقها عنك. . . . وان كانت يدك اليمنى تُعثرك فاقطعها وألقها عنك.»
غالبا ما يرغب الناس في ان يضحوا بعضو حرفي مريض بغية انقاذ حياتهم. ولكن، حسب قول يسوع، من الحيوي اكثر ايضا ان ‹يُلقوا› أي شيء، حتى ولو كان شيئا ثمينا كالعين او اليد، لكي يتجنبوا التفكير الفاسد والاعمال الفاسدة ادبيا. وإلا، يشرح يسوع، فان اشخاصا كهؤلاء سيلقون في جهنم (كومة نفايات مشتعلة قرب اورشليم)، التي ترمز الى الهلاك الابدي.
ويناقش يسوع ايضا كيفية التعامل مع الناس الذين يسببون الأذى والاساءة. ومشورته هي: «لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ايضا.» لا يعني يسوع ان الشخص لا يجب ان يدافع عن نفسه او عائلته اذا هوجم. فاللطمة لا يُقصد بها اذية الشخص الآخر جسديا، بل بالحري الاهانة. ولذلك فان ما يقوله يسوع هو انه اذا حاول احد ان يثير القتال او الجدال، إن باللطم الحرفي باليد المفتوحة او باللسع بكلمات مهينة، فمن الخطإ الانتقام.
وبعد لفت الانتباه الى ناموس اللّٰه لمحبة المرء قريبه يصرّح يسوع: ‹أما انا فأقول لكم أحبوا اعداءكم. وصلّوا لاجل الذين يضطهدونكم.› واذ يزوّد سببا قويا لذلك يضيف: «[وهكذا تكونون] ابناء ابيكم الذي في السموات. فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين.»
ويختتم يسوع هذا الجزء من موعظته بالنصح: «فكونوا انتم كاملين كما أن اباكم الذي في السموات هو كامل.» ولا يعني يسوع انه يمكن للناس ان يكونوا كاملين بالمعنى المطلق. وبالأحرى يمكنهم، تمثلاً باللّٰه، ان يوسعوا محبتهم لتشمل حتى اعداءهم. ورواية لوقا المناظرة تسجل كلمات يسوع: «فكونوا رحماء كما أن اباكم ايضا رحيم.»
الصلاة، والثقة باللّٰه
فيما يواصل يسوع موعظته يدين رياء الناس الذين يعرضون تقواهم المزعومة. «متى صنعت صدقة،» يقول، «فلا تصوِّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون.»
ويتابع يسوع، «ومتى صلّيت فلا تكن كالمرائين. فانهم يحبّون ان يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس.» ويأمر بالاحرى: «متى صليت فادخل الى مخدعك وأغلق بابك وصلِّ الى ابيك الذي في الخفاء.» ويسوع نفسه قدم صلوات علنية، ولذلك فهو لا يدينها. وما يشجبه هو الصلوات التي تقال للتأثير في السامعين وكسب تملّقات اعجابهم.
وينصح يسوع ايضا: «حينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالامم.» لا يعني يسوع ان التكرار بحد ذاته خطأ. فذات مرة استخدم تكرارا هو نفسه «الكلام بعينه» عندما صلى. ولكنّ ما يرفضه هو قول عبارات مستظهَرة ‹تكرارا،› بالطريقة التي يفعلها اولئك الذين يمسُّون السُّبحة بأصابعهم فيما يكررون صلواتهم حفظا.
ولمساعدة سامعيه على الصلاة يزوّد يسوع صلاة نموذجية تشمل سبعة التماسات. فالثلاثة الاولى تعترف بحق بسلطان اللّٰه ومقاصده. انها طلبات من اجل تقديس اسم اللّٰه، واتيان ملكوته، وفعل مشيئته. والاربعة المتبقية هي طلبات شخصية، اي من اجل الطعام اليومي، ومن اجل غفران الخطايا، وعدم التجربة فوق الاحتمال، والنجاة من الشرير.
واذ يتابع يسوع يتحدث عن فخ التشديد غير الملائم على الممتلكات المادية. ويحث: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الارض حيث يُفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون.» فليست كنوز كهذه فانية فحسب ولكنها لا تبني اي استحقاق عند اللّٰه.
لذلك يقول يسوع: «بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء.» ويكون ذلك بوضع خدمة اللّٰه اولا في حياتكم. ولا احد يمكنه سلب الاستحقاق المتجمع على هذا النحو عند اللّٰه او مكافأته العظيمة. ثم يضيف يسوع: «حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك ايضا.»
واذ يتحدث يسوع ايضا عن فخ المادية يعطي الايضاح: «سراج الجسد هو العين. فان كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيِّرا. وان كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلما.» فالعين التي تعمل كما ينبغي هي للجسد كسراج مضيء في مكان مظلم. ولكن لكي ترى على نحو صحيح يجب ان تكون العين بسيطة، اي يجب ان تركِّز على شيء واحد. والعين غير المركَّزة تؤدي الى تقدير خاطئ للامور والى وضع المساعي المادية امام خدمة اللّٰه بنتيجة صيرورة ‹الجسد كله› مظلما.
يبلغ يسوع ذروة هذه القضية بالايضاح القوي: «لا يقدر احد ان يخدم سيدين. لانه إما ان يُبغض الواحد ويحب الآخر او يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون ان تخدموا اللّٰه والمال.»
بعد اعطاء هذه المشورة يؤكد يسوع لسامعيه انه لا يلزمهم ان يقلقوا بشأن حاجاتهم المادية اذا وضعوا خدمة اللّٰه اولا. «انظروا الى طيور السماء،» يقول، «انها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع الى مخازن. وابوكم السماوي يقوتها.» ثم يسأل: «ألستم انتم بالحري أفضل منها.»
بعد ذلك يشير يسوع الى زنابق الحقل ويقول انه «ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فان كان،» يتابع، «عشب الحقل . . . يُلبسه اللّٰه هكذا أفليس بالحري جدا يُلبسكم انتم يا قليلي الايمان.» ولذلك يختتم يسوع: «لا تهتموا قائلين ماذا نأكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس. . . . لان اباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون الى هذه كلها. لكن اطلبوا اولا ملكوت اللّٰه وبره وهذه كلها تزاد لكم.»
الطريق الى الحياة
الطريق الى الحياة هو ذاك الذي للتقيّد بتعاليم يسوع. ولكن ليس من السهل فعل ذلك. والفريسيون، مثلا، يميلون الى ان يدينوا الآخرين بقسوة، وعلى الارجح يتمثَّل بهم كثيرون. وهكذا اذ يواصل يسوع موعظته على الجبل يعطي هذا التحذير: «لا تدينوا لكي لا تُدانوا. لانكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون.»
من الخطر ان نتبع قيادة الفريسيين الانتقاديين جدا. وبحسب رواية لوقا، يوضح يسوع هذا الخطر قائلا: «هل يقدر اعمى ان يقود اعمى. أما يسقط الاثنان في حفرة.»
وكون المرء انتقاديا للآخرين اكثر من اللازم، مكبِّرا اخطاءهم ومضايقا اياهم، هو اساءة خطيرة. ولذلك يسأل يسوع: «كيف تقول لاخيك دعني أُخرج القذى من عينك وها الخشبة في عينك. يا مرائي أَخرج اولا الخشبة من عينك. وحينئذ تُبصر جيدا ان تُخرج القذى من عين اخيك.»
لا يعني ذلك ان تلاميذ يسوع لا يجب ان يستعملوا التمييز في ما يتعلق بالناس الآخرين، لانه يقول: «لا تعطوا القدس للكلاب. ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير.» ان الحقائق من كلمة اللّٰه مقدسة. وهي كدرر مجازية. ولكن اذا كان بعض الافراد، الذين هم كالكلاب او الخنازير، لا يُظهرون ايّ تقدير لهذه الحقائق الثمينة يجب على تلاميذ يسوع ان يتركوا هؤلاء الناس ويفتشوا عن اولئك الذين يكونون اكثر تقبلا.
رغم ان يسوع ناقش الصلاة سابقا في موعظته على الجبل، يشدد الآن على الحاجة الى المواظبة عليها. «اسألوا تعطوا،» يحث. ولكي يوضح استعداد اللّٰه لاستجابة الصلوات يسأل يسوع: «اي انسان منكم اذا سأله ابنه خبزا يعطيه حجرا. . . . فان كنتم وانتم اشرار تعرفون ان تعطوا اولادكم عطايا جيدة فكم بالحري ابوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه.»
ثم يزوّد يسوع ما قد صار قاعدة شهيرة للسلوك تُدعى عموما القاعدة الذهبية. يقول: «فكل ما تريدون ان يفعل الناس بكم افعلوا هكذا انتم ايضا بهم.» والعيش بحسب هذه القاعدة يشمل تصرفا ايجابيا في فعل الخير للآخرين، معاملينهم كما تريدون ان تُعاملوا.
أمّا ان الطريق الى الحياة ليس سهلا فيظهره ارشاد يسوع: «ادخلوا من الباب الضيق. لانه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي الى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما اضيق الباب واكرب الطريق الذي يؤدي الى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه.»
ان خطر كون المرء على ضلال هو كبير، ولذلك يحذر يسوع: «احترزوا من الانبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة.» وتماما كما ان الاشجار الجيدة والاشجار الردية يمكن معرفتها من ثمارها، يذكر يسوع، فان الانبياء الكذبة يمكن معرفتهم من سلوكهم وتعاليمهم.
واذ يتابع يسوع يشرح انه ليس ما يقوله الشخص يجعله تلميذا له بل ما يفعله. فبعض الناس يدّعون ان يسوع هو ربهم، ولكن اذا كانوا لا يفعلون ارادة ابيه، يقول: «اصرّح لهم اني لم اعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الاثم.»
وأخيرا يعطي يسوع الخاتمة الجديرة بالذكر لموعظته. يقول: «كل من يسمع اقوالي هذه ويعمل بها اشبّهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر. فنزل المطر وجاءت الانهار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط. لانه كان مؤسسا على الصخر.»
ومن ناحية اخرى يعلن يسوع: «كل من يسمع اقوالي هذه ولا يعمل بها يُشبَّه برجل جاهل بنى بيته على الرمل. فنزل المطر وجاءت الانهار وهبَّت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط. وكان سقوطه عظيما.»
وعندما يُكمل يسوع موعظته تبهت الجموع من طريقة تعليمه، لانه يعلمهم كمن له سلطان وليس كقادتهم الدينيين.
-
-
الايمان العظيم لقائد مئةاعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
الايمان العظيم لقائد مئة
بالقاء يسوع موعظته على الجبل يصل تقريبا الى منتصف الطريق في خدمته الجهرية. ويعني ذلك انه تبقى لديه سنة وتسعة اشهر فقط او ما يقارب ذلك لاتمام عمله على الارض.
يدخل يسوع الآن مدينة كفرناحوم، ما يشبه القاعدة الاساسية لنشاطاته. وهنا يقترب منه شيوخ اليهود بطلب. لقد ارسلهم قائد في الجيش الروماني وهو اممي، رجل من عرق مختلف عن اليهود.
فالخادم المحبوب لقائد المئة يوشك ان يموت من داء خطير، وهو يريد ان يشفي يسوع خادمه. ويلتمس اليهود باجتهاد لاجل القائد: «انه مستحق ان يُفعل له هذا،» يقولون، «لانه يحبّ امّتنا وهو بنى لنا المجمع.»
دون تردد يذهب يسوع مع الرجال. ولكن اذ يقتربون يرسل قائد المئة اصدقاء ليقولوا: «يا سيد لا تتعب. لاني لست مستحقا ان تدخل تحت سقفي. لذلك لم احسب نفسي اهلا ان آتي اليك.»
يا له من تعبير متواضع لقائد معتاد ان يأمر الآخرين! ولكنه ربما يفكر ايضا في يسوع، مدركا ان العادة تمنع اليهودي عن ان تكون له علاقات اجتماعية بغير اليهود. وحتى بطرس قال: «انتم تعلمون كيف هو محرَّم على رجل يهودي ان يلتصق بأحد اجنبي او يأتي اليه.»
وربما لانه لا يريد ان يعاني يسوع نتائج مخالفته هذه العادة يجعل القائد اصدقاءه يطلبون منه: «قل كلمة فيبرأ غلامي. لاني انا ايضا انسان مرتب تحت سلطان. لي جند تحت يدي. وأقول لهذا اذهب فيذهب ولآخر ائت فيأتي ولعبدي افعل هذا فيفعل.»
عندما يسمع يسوع ذلك يتعجب. «الحق اقول لكم،» يقول، «لم اجد ولا في اسرائيل ايمانا بمقدار هذا.» وبعد ان يشفي خادم القائد يستخدم يسوع المناسبة ليروي كيف سيحظى ذوو الايمان غير اليهود بالبركات التي يرفضها اليهود العديمو الايمان.
«ان كثيرين،» يقول يسوع، «سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع ابرهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيُطرحون الى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الاسنان.»
و «بنو الملكوت» الذين «يُطرحون الى الظلمة الخارجية» هم اليهود الطبيعيون الذين لا يقبلون الفرصة الممنوحة لهم اولا ليكونوا حكاما مع المسيح. ويمثل ابرهيم واسحق ويعقوب ترتيب ملكوت اللّٰه. وهكذا يروي يسوع كيف سيجري الترحيب بالامم للاتّكاء كما لو انه على المائدة السماوية «في ملكوت السموات.» لوقا ٧:١-١٠؛ متى ٨:٥-١٣؛ اعمال ١٠:٢٨.
-
-
يسوع يزيل حزن ارملةاعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
يسوع يزيل حزن ارملة
بعد ابراء غلام قائد المئة بوقت قصير يمضي يسوع الى نايين، مدينة على بعد اكثر من ٢٠ ميلا (٣٢ كلم) الى الجنوب الغربي من كفرناحوم. فيرافقه تلاميذه وجمع كثير. والوقت هو نحو المساء على الارجح حين يقتربون من ضواحي نايين. هنا يلتقون موكب جنازة. فجثة شاب هي محمولة الى خارج المدينة للدفن.
ان حالة الامّ بصورة خاصة مأساوية، لأنها ارملة وهذا هو ولدها الوحيد. فعندما مات زوجها استطاعت ان تتعزى اذ كان لها ابنها. وصارت آمالها ورغباتها وطموحاتها متعلقة بمستقبله. أما الآن فلا احد هنالك تتعزى به. فحزنها عظيم فيما يرافقها سكان البلدة الى مكان الدفن.
عندما يرى يسوع المرأة يتأثر قلبيا من كآبتها الشديدة. وهكذا بحنان، ولكن بثبات يمنح الثقة، يقول لها: «لا تبكي.» فيلفت اسلوبه وعمله انتباه الجمع. ولذلك عندما يتقدم ويلمس النعش الذي تُحمل عليه الجثة يقف الحاملون. ولا بدّ ان الجميع يتساءلون عما سيفعل.
صحيح ان اولئك الذين يرافقون يسوع قد رأوه يشفي بطريقة عجائبية اشخاصا كثيرين من الامراض. ولكن يظهر انهم لم يروه قط يقيم احدا من الاموات. فهل يمكنه فعل امر كهذا؟ يأمر يسوع مخاطبا الجسد: «ايها الشاب لك اقول قم.» فيجلس الشاب! ويبتدئ يتكلم، فيدفعه يسوع الى امه.
عندما يرى الناس ان الشاب حي حقا يبدأون بالقول: «قد قام فينا نبي عظيم.» وآخرون يقولون: «افتقد اللّٰه شعبه.» وسرعان ما يخرج الخبر عن هذا العمل المدهش في كل اليهودية وفي جميع الكورة المحيطة.
لا يزال يوحنا المعمدان في السجن، وهو يريد ان يعلم المزيد عن الاعمال التي يقدر يسوع ان ينجزها. وتلاميذ يوحنا يخبرونه عن هذه العجائب. فما هو تجاوبه؟ لوقا ٧:١١-١٨.
-
-
هل كان يوحنا ينقصه الايمان؟اعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
هل كان يوحنا ينقصه الايمان؟
يوحنا المعمدان، الذي كان في السجن لنحو سنة الآن، يتسلَّم الخبر عن قيامة ابن الارملة في نايين. لكنّ يوحنا يريد ان يسمع مباشرة من يسوع عن مغزى هذا، ولذلك يرسل اثنين من تلاميذه ليستفسر: «انت هو الآتي ام ننتظر آخر.»
قد يبدو ذلك سؤالا غريبا، وخصوصا لان يوحنا رأى روح اللّٰه ينزل على يسوع وسمع صوت رضى اللّٰه عند تعميد يسوع قبل سنتين تقريبا. وسؤال يوحنا قد يجعل البعض يستنتجون ان ايمانه قد ضعف. ولكنّ الامر ليس كذلك. فيسوع لم يكن ليتكلم على نحو رفيع جدا عن يوحنا، الامر الذي يفعله في هذه المناسبة، لو ابتدأ يوحنا يشك. فلماذا يطرح يوحنا هذا السؤال؟
قد يريد يوحنا مجرد اثباتٍ من يسوع انه المسيّا. فسيكون ذلك مقويا جدا ليوحنا اذ تفتر همته في السجن. ولكن، كما يتضح، هنالك لسؤال يوحنا اكثر من ذلك. فهو على ما يظهر يريد ان يعرف ان كان هنالك شخص آخر آتٍ، كخلَف، سيكمل اتمام جميع الامور التي أُنبئ بأن المسيّا سينجزها.
بحسب نبوات الكتاب المقدس التي يُلمّ بها يوحنا سيكون الشخص الممسوح من اللّٰه ملكا، منقذا. ومع ذلك، لا يزال يوحنا سجينا حتى بعد معمودية يسوع بشهور عديدة. ولذلك فان يوحنا على ما يظهر يسأل يسوع: ‹هل انت حقا الشخص الذي سيؤسس ملكوت اللّٰه في سلطة ظاهرة، ام هنالك شخص مختلف، خلَف، يجب ان ننتظره لاتمام جميع النبوات الرائعة المتعلقة بمجد المسيّا؟›
وبدلا من القول لتلميذي يوحنا، ‹طبعا انا هو الشخص الذي كان سيأتي!› يقدم يسوع في تلك الساعة عينها عرضا رائعا بشفاء اناس كثيرين، مبرئا اياهم من جميع انواع الامراض والعلل. وبعدئذ يقول للتلميذين: «اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما. ان العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون.»
وبكلمات اخرى، ان سؤال يوحنا قد يدل على التوقع ان يسوع سيفعل اكثر مما يفعله وربما سيحرر يوحنا نفسه. ولكنّ يسوع يخبر يوحنا ان لا يتوقع اكثر من العجائب التي ينجزها يسوع.
عندما يُغادر تلميذا يوحنا يلتفت يسوع الى الجموع ويقول لهم ان يوحنا هو «رسول» يهوه المنبأ به في ملاخي ٣:١، عج، وهو ايضا النبي ايليا المنبأ به في ملاخي ٤:٥ و ٦. وبذلك يعظم يوحنا بصفته معادلا لايّ نبي عاش قبله، موضحا: «الحق اقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء اعظم من يوحنا المعمدان. ولكنّ الاصغر في ملكوت السموات اعظم منه. ومن ايام يوحنا المعمدان الى الآن ملكوت السموات (هو الهدف الذي يندفع نحوه الناس).»
يُظهر يسوع هنا ان يوحنا لن يكون في الملكوت السماوي، لان الاصغر هناك اعظم من يوحنا. فيوحنا هيَّأ الطريق ليسوع، ولكنه يموت قبل ان يختم المسيح العهد، او الاتفاق، مع تلاميذه ليكونوا حكاما معاونين معه في ملكوته. من اجل ذلك يقول يسوع ان يوحنا لن يكون في الملكوت السماوي. فيوحنا، عوضا عن ذلك، سيكون احد الرعايا الارضيين لملكوت اللّٰه. لوقا ٧:١٨-٣٠؛ متى ١١:٢-١٥.
-
-
المتكبرون والمتواضعوناعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
المتكبرون والمتواضعون
بعد ذكر فضائل يوحنا المعمدان يلفت يسوع الانتباه الى الناس المتكبرين المتقلبين الذين هم حوله. «هذا الجيل،» يصرّح، «يشبه اولادا جالسين في الاسواق يُنادون الى اصحابهم ويقولون زمَّرنا لكم فلم ترقصوا. نُحنا لكم فلم تلطموا.»
فماذا يعني يسوع؟ يوضح قائلا: «جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب. فيقولون فيه شيطان. جاء ابن الانسان يأكل ويشرب. فيقولون هوذا انسان أكول وشرّيب خمر. محب للعشارين والخطاة.»
من المستحيل ارضاء الناس. فلا شيء يسرهم. لقد عاش يوحنا حياة تقشف لانكار الذات كنذير، انسجاما مع اعلان الملاك انه «خمرا ومسكرا لا يشرب.» ومع ذلك يقول الناس ان به شيطانا. ومن ناحية اخرى، يعيش يسوع كالناس الآخرين، غير ممارس ايّ تقشف، فيُتَّهم بالافراط.
ما أصعب ارضاء الناس! انهم كرفقاء اللعب، الذين بعضهم يرفضون التجاوب بالرقص عندما يزمّر الاولاد الآخرون او بالحزن عندما ينوح رفقاؤهم. ولكنّ يسوع يقول: «الحكمة (تتبرَّر بأعمالها).» نعم، ان الدليل — الاعمال — يوضح ان الاتهامات ضد يوحنا ويسوع كليهما هي باطلة.
ويتابع يسوع خاصّا بالتوبيخ مدن كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم الثلاث، حيث انجز معظم قواته. فلو قام بتلك الاعمال في مدينتي صور وصيداء الفينيقيتين، يقول يسوع، لتابت هاتان المدينتان في المسوح والرماد. واذ يدين كفرناحوم، التي كانت كما يتضح مقره الرئيسي في فترة خدمته، يصرّح يسوع: «ان ارض سدوم تكون لها حالة اكثر احتمالا يوم الدين ممَّا لكِ.»
ثم يحمد يسوع علنا اباه السماوي. ويندفع الى فعل ذلك لان اللّٰه يُخفي حقائق روحية ثمينة عن الحكماء والفهماء ولكنه يعلن هذه الامور الرائعة للمتواضعين، للاطفال، اذا جاز التعبير.
وأخيرا، يقدم يسوع الدعوة الجذابة: «تعالوا اليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وانا اريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني. لاني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم. لان نيري هيِّن وحملي خفيف.»
وكيف يمنح يسوع الراحة؟ يفعل ذلك بتزويد الحرية من التقاليد المستعبِدة التي بها وضع القادة الدينيون عبءا على الناس، بما في ذلك، مثلا، فرائض حفظ السبت المقيِّدة. وأيضا يُظهر الطريق الى الراحة لاولئك الذين يشعرون بثقل السيطرة الساحق من قبل السلطات السياسية ولاولئك الذين يشعرون بثقل خطاياهم من خلال ضمير متألم. فيعلن لاولئك المتألمين كيف يمكن غفران خطاياهم وكيف يمكنهم ان يتمتعوا بعلاقة ثمينة مع اللّٰه.
ان النير الهيِّن الذي يقدمه يسوع هو ذاك الذي للانتذار الكامل للّٰه، متمكنين من خدمة ابينا السماوي الرؤوف والرحوم. والحمل الخفيف الذي يقدمه يسوع لاولئك الذين يأتون اليه هو ذاك الذي لاطاعة مطالب اللّٰه من اجل الحياة، التي هي وصاياه المسجلة في الكتاب المقدس. واطاعة هذه ليست ثقيلة ابدا. متى ١١:١٦-٣٠؛ لوقا ١:١٥؛ ٧:٣١-٣٥؛ ١ يوحنا ٥:٣.
-
-
درس في الرحمةاعظم انسان عاش على الاطلاق
-
-
درس في الرحمة
ربما كان يسوع لا يزال في نايين، حيث اقام مؤخرا ابن ارملة، او ربما كان يزور مدينة مجاورة. والفريسي الذي يُدعى سمعان يرغب في النظر عن كثب الى الشخص الذي ينجز اعمالا جديرة بالملاحظة كهذه. ولذلك يدعو يسوع الى تناول الطعام معه.
واذ ينظر يسوع الى المناسبة كفرصة لمساعدة اولئك الحاضرين يقبل الدعوة، تماما كما قبل دعوات ليأكل مع جباة الضرائب والخطاة. ومع ذلك، عندما يدخل بيت سمعان، لا يلقى يسوع الاهتمام الودّي الذي يُمنح عادة للضيوف.
فالارجل اللابسة نعالا تصير حارة ووسخة نتيجة السير في الطرقات المغبرة، وهو عمل ضيافة عادي ان تُغسل اقدام الضيوف بالماء البارد. ولكنّ قدمي يسوع لا تُغسلان عندما يصل. ولا ينال قبلة ترحيب، قاعدة من قواعد السلوك الشائعة. وطيب الضيافة العادي لا يزوَّد لاجل شعره.
وفي اثناء الطعام، فيما الضيوف متكئون على المائدة، تدخل الغرفة بهدوء امرأة غير مدعوة. فهي معروفة في المدينة بأنها تحيا حياة فاسدة ادبيا. وعلى الارجح سمعت بتعاليم يسوع، بما فيها دعوته ‹جميع الثقيلي الاحمال ان يأتوا اليه من اجل الراحة.› واذ تأثرت بعمق بما رأته وسمعته فتشت الآن عن يسوع.
تقف المرأة وراء يسوع عند المائدة وتركع عند قدميه. واذ تسقط دموعها على قدميه تمسحهما بشعرها. وتأخذ ايضا طيبا من قارورتها، وفيما تقبِّل قدميه بحنان تسكب الطيب عليهما. ويراقب سمعان بعدم رضى. «لو كان هذا نبيا،» يفكر، «لعلم مَن هذه الامرأة التي تلمسه وما هي. انها خاطئة.»
واذ يدرك يسوع تفكيره يقول: «يا سمعان عندي شيء اقوله لك.»
«قل يا معلم،» يجيب.
«كان لمداين مديونان،» يبدأ يسوع. «على الواحد خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون. واذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعا. فقل. ايهما يكون اكثر حبا له.»
«اظن،» يقول سمعان، ربما بمظهر اللامبالاة تجاه السؤال الذي يبدو غير متعلق بالامر، «الذي سامحه بالاكثر.»
«بالصواب حكمت،» يقول يسوع. وبعدئذ اذ يلتفت الى المرأة يقول لسمعان: «أتنظر هذه المرأة. اني دخلت بيتك وماء لاجل رجليَّ لم تُعطِ. وأما هي فقد غسلت رجليَّ بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. قبلة لم تقبّلني. وأما هي فمنذ دخلتُ لم تكفَّ عن تقبيل رجليَّ. بزيت لم تدهن رأسي. وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليَّ.»
اعطت المرأة بذلك دليلا على التوبة القلبية عن ماضيها الفاسد ادبيا. وهكذا يختتم يسوع، قائلا: «من اجل ذلك اقول لك قد غُفرت خطاياها الكثيرة لانها احبَّت كثيرا. والذي يُغفر له قليل يُحب قليلا.»
ان يسوع لا يعذر ولا يتغاضى بطريقة ما عن الفساد الادبي. وبالاحرى، يكشف هذا الحادث عن تفهمه الرؤوف للناس الذين يرتكبون الاخطاء في الحياة ولكنهم بعدئذ يُظهرون اسفهم عليها وهكذا يأتون الى المسيح من اجل الراحة. واذ يزوِّد المرأة راحة حقيقية يقول يسوع: «مغفورة لك خطاياك. . . . ايمانك قد خلَّصك. اذهبي بسلام.» لوقا ٧:٣٦-٥٠؛ متى ١١:٢٨-٣٠.
-