-
الصراع القديم مع المرضاستيقظ! ٢٠٠٤ | ايار (مايو) ٢٢
-
-
الصراع القديم مع المرض
كانت جوان، التي تعيش في نيويورك، مصابة بالسل. ولم يكن مرضها من النوع الشائع، بل هو سلّ تعرَّض لتغيُّرات في بنيته الوراثية بحيث صار يقاوم معظم العقاقير ويقتل نصف ضحاياه. لم تكن جوان منتظمة في تلقي العلاج، وبسببها انتقل السل الى اناس آخرين. لذا قالت طبيبتها بغضب: ‹يجب ان يُحجز عليها›.
السل مرض مميت قديم جدا. وملايين الاشخاص اصيبوا به وماتوا منه. وقد عُثر على آثار المرض في مومياءات قديمة في مصر وپيرو. واليوم، تَظهر من جديد انواع من بكتيريا السل تتسبب بموت نحو مليونَي شخص كل سنة.
كان كارليتوس، الذي يعيش في افريقيا، مستلقيا على سرير صغير في كوخ وقطرات العرق تغطي جبينه. لقد أضعفت الملاريا جسمه حتى انه لم يعد يقوى على البكاء. لم يكن والداه القلقان يملكان المال لشراء الدواء؛ ولم تكن هنالك عيادة قريبة يأخذان صغيرهما اليها ليلقى الرعاية الطبية المناسبة. فاستمرت الحمى تشتد دون ان تخمد، ومات في غضون ٤٨ ساعة.
تقتل الملاريا كل سنة نحو مليون ولد مثل كارليتوس. وفي قرى افريقيا الشرقية، يلسع البعوض الحامل للملاريا اولادا كثيرين بين ٥٠ و ٨٠ مرة في الشهر. وبدأ البعوض ينتشر الى مناطق جديدة، ولم تعد العقاقير المضادة للملاريا فعالة مثلما كانت قبلا. وفي كل سنة، يصاب ما يقدَّر بـ ٣٠٠ مليون شخص بالملاريا الحادة.
قصد كينيث (٣٠ سنة)، الذي يعيش في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، طبيبه سنة ١٩٨٠ وهو يتشكى من اسهال وتعب شديد. ولم تمضِ سنة حتى مات. فعلى الرغم من تلقّيه الرعاية الطبية على يد اختصاصيين، هزل جسمه كثيرا وفي النهاية مات من ذات الرئة.
بعد سنتين، وعلى مسافة ٠٠٠,١٦ كيلومتر من سان فرانسيسكو، بدأت شابة في شمالي تنزانيا تعاني اعراضا مماثلة. وبعد اسابيع قليلة لم تعد تقوى على السير، وما لبثت ان ماتت. فأطلق القرويون على المرض الغريب اسم «مرض جوليانا» لأنه يبدو ان العدوى انتقلت اليها وإلى قرويات اخريات من رجل كان يبيع قماشا عليه الاسم «جوليانا».
كان كينيث والمرأة التنزانية كلاهما يحملان نفس المرض: الأيدز. وقد ظهر هذا المرض المُعدي الجديد ليقضّ مضجع البشرية في مطلع ثمانينات القرن الماضي، حين بدا ان الطب نجح في السيطرة على اخطر الميكروبات. وفي غضون عشرين سنة اصبح عدد الوفيات الناجمة عن الأيدز يناهز عدد الوفيات التي تَسبَّب بها وباء اجتاح اوروپا وآسيا في القرن الرابع عشر، وباء لن تنساه اوروپا ابدا.
الطاعون الاسود
بدأ تفشّي الوباء المسمى «الطاعون الاسود» سنة ١٣٤٧، عندما قدمت سفينة من شبه جزيرة القرم ورست عند ساحل مدينة مَسِّينا في جزيرة صقلية. بالاضافة الى حمولتها العادية، حملت السفينة معها مرض الطاعون.a وسرعان ما انتشر الطاعون في ارجاء ايطاليا.
في السنة التالية وصف أنيولو دي تورا، من مدينة سيينا الايطالية، الاهوال الحاصلة في مسقط رأسه: ‹بدأ الموت يحصد الضحايا في سيينا في شهر ايار (مايو). كان المرض فتاكا وفظيعا. فقد كان يقضي على الضحايا في وقت قصير جدا، والمئات يموتون على مدار الساعة›. وأضاف: ‹دفنتُ اولادي الخمسة بيديَّ، شأني في ذلك شأن كثيرين ايضا. لم يبكِ احد على فقيده أيًّا كان، لأن الجميع تقريبا توقعوا ان يموتوا. ومن كثرة ما مات اناس ظن الجميع انها نهاية العالم›.
يقول بعض المؤرخين انه في غضون اربع سنوات، انتشر الطاعون في ارجاء اوروپا وأهلك ثلث السكان، اي ما يتراوح بين ٢٠ و ٣٠ مليون نسمة. حتى جزيرة ايسلندا البعيدة لم تنجُ منه، اذ قضى المرض على عدد كبير من سكانها. أما بالنسبة الى الشرق الاقصى، فقد انخفض عدد سكان الصين من ١٢٣ مليونا في مستهل القرن الثالث عشر الى ٦٥ مليونا خلال القرن الرابع عشر، والسبب كما يَظهر هو الطاعون والمجاعة التي رافقته.
لم يسبق ان ادى وباء او حرب او مجاعة الى موت الناس على هذا النطاق الواسع. ذكر كتاب الانسان والميكروبات (بالانكليزية): «لم يسبق ان شهد التاريخ البشري مثيلا لهذه الكارثة. فقد مات ما يتراوح بين ربع ونصف سكان اوروپا وإفريقيا الشمالية وبعض انحاء آسيا».
لقد نجت القارة الاميركية من اهوال الطاعون، وذلك بفضل انعزالها عن بقية العالم. ولكن سرعان ما انتهت عزلتها بفضل السفن التي تجوب المحيطات. وفي القرن السادس عشر، اجتاح العالَمَ الجديد وباء اخطر من الطاعون نفسه.
الجدري يجتاح الاميركتين
عندما وصل كولومبس الى جزر الهند الغربية سنة ١٤٩٢، وصف السكانَ الاصليين بأنهم ‹ذوو مظهر حسن وملامح جميلة، وطولهم متوسط وعضلاتهم مفتولة›. ولكن رغم الصحة الجيدة البادية عليهم، لم تكن عندهم مناعة ضد امراض العالَم القديم.
ففي سنة ١٥١٨ تفشى الجدري في جزيرة هِسپانيولا. وبما ان الاميركيين الاصليين لم يتعرضوا قبلا لهذا المرض، كان وقع الكارثة كبيرا عليهم. فقد قدَّر احد شهود العيان انه لم ينجُ في الجزيرة سوى ألف شخص. وسرعان ما انتشر الوباء الى المكسيك وپيرو، مخلّفا وراءه هناك ايضا ضحايا كثيرين.
وعندما وصل المهاجرون الانكليز في القرن التالي الى منطقة ماساتشوستس في اميركا الشمالية، وجدوا ان الجدري اخلى الارض من سكانها تقريبا. كتب زعيم المهاجرين جون وينثروپ: «لقد اوشك الجدري ان يبيد السكان الاصليين».
وتبعت الجدري اوبئة اخرى. فقد ذكر احد المراجع انه بعد قرن من وصول كولومبس، قضت الامراض التي حملها الاجانب معهم على ٩٠ في المئة من سكان العالَم الجديد. وتقلّص عدد سكان المكسيك من ٣٠ مليونا الى ٣ ملايين، وعدد سكان پيرو من ٨ ملايين الى مليون واحد. طبعا، لم يكن الاميركيون الاصليون وحدهم مَن قضوا بسبب الجدري. فبحسب كتاب بلوى الجدري وخطره: ماضيا ومستقبلا (بالانكليزية)، «اودى الجدري على مر التاريخ البشري بحياة مئات ملايين الاشخاص، وقد تجاوز عدد ضحاياه قتلى الطاعون . . . وكل حروب القرن العشرين مجتمعةً».
الحرب لم تُربح بعد
لا احد اليوم يعتبر الطاعون والجدري وباءَين فظيعَين يفتكان بالبشرية. فخلال القرن العشرين، كسب الانسان معارك كثيرة ضد الامراض المُعدية، وخصوصا في البلدان الصناعية. فقد اكتشف الاطباء اسباب معظم هذه الامراض، كما وجدوا وسائل لمكافحتها. (انظر الاطار في الاسفل.) وبدت اللقاحات والمضادات الحيوية كأدوية سحرية قادرة على القضاء حتى على الامراض المستعصية جدا.
لكنَّ الدكتور ريتشارد كراوزي، المدير السابق للمعهد القومي للأرجية والامراض المعدية في الولايات المتحدة، يعتبر الاوبئة امرا لا مفر منه. فالسل والملاريا لم يُستأصلا حتى الآن. وليس انتشار وباء الأيدز الحديث سوى دليل محزن على ان الاوبئة لا تزال تهدد سكان المعمورة حتى يومنا هذا. ذكر كتاب الانسان والميكروبات: «لا تزال الامراض المُعدية السبب الرئيسي للوفيات في العالم، وستبقى كذلك زمنا طويلا بعد».
وعلى الرغم من التقدم الكبير في مكافحة الامراض، يخشى بعض الاطباء ان تكون الانتصارات التي حُقِّقت في العقود القليلة الماضية وقتية فقط. فقد حذّر طبيب الامراض الوبائية روبرت شوپ: «لم يتلاشَ خطر الامراض المُعدية، بل انه يزداد». وستوضح المقالة التالية السبب.
[الحاشية]
a اتخذ الطاعون اشكالا مختلفة، منها الطاعون الدبلي والطاعون الرئوي. وقد انتشر الطاعون الدبلي بواسطة البراغيث التي تحملها الجرذان، أما الطاعون الرئوي فانتشر بواسطة رذاذ عطاس او سعال المصابين به.
[النبذة في الصفحة ٥]
في غضون عشرين سنة اصبح عدد الوفيات الناجمة عن الأيدز يناهز عدد الوفيات التي تَسبَّب بها الوباء الذي اجتاح اوروپا وآسيا في القرن الرابع عشر
الاطار/الصور في الصفحة ٦]
المعرفة في وجه الخرافة
في القرن الرابع عشر، حين هدَّد الطاعون الاسود منزل البابا في آڤينيون، قال له طبيبه ان السبب الاساسي للوباء هو اقتران ثلاثة كواكب (زحل والمشتري والمريخ) في برج الدلو.
وبعد اربعة قرون تقريبا، اوى جورج واشنطن الى فراشه وهو يشكو من التهاب في حلقه. فعالجه ثلاثة اطباء بارزين عن طريق سحب لترَي دم تقريبا من اوردته. لكنَّ المريض مات في غضون ساعات قليلة. لقد بقي سحب الدم من وريد المريض (عملية تسمى «الفصد») عادة طبية متبعة طوال ٥٠٠,٢ سنة، من زمن أبقراط حتى منتصف القرن التاسع عشر.
على الرغم من الخرافات والعادات التي اخَّرت تقدُّم الطب، بذل اطباء متفانون كل ما في وسعهم لاكتشاف مسبِّبات الامراض المُعدية وعلاجات لها. وإليك ادناه بعضا من انجازاتهم الباهرة.
▪ الجدري. في سنة ١٧٩٨، نجح ادوارد جَنَر في تطوير لقاح للجدري. وقد أثبتت اللقاحات خلال القرن العشرين فعاليتها في مكافحة امراض اخرى كشلل الاطفال والحمى الصفراء والحصبة والحُمَيراء (الحصبة الالمانية).
▪ السل. في سنة ١٨٨٢، اكتشف روبرت كوخ بكتيريا السل وطوَّر فحصا يكشف هذا المرض. وبعد نحو ٦٠ سنة اكتُشف السترپتومِيسين streptomycin، وهو مضاد حيوي فعال لمعالجة السل. كما تبيّنت فعالية هذا العقّار في معالجة الطاعون الدبلي.
▪ الملاريا. ابتُدئ من القرن السابع عشر استعمال مادة الكينين (المأخوذة من لحاء شجرة الكينا) لإنقاذ حياة ملايين المصابين بالملاريا. وفي سنة ١٨٩٧، اظهر رونالد روس ان بعوض الاجمية هو الذي يحمل المرض. فاتُّخذت لاحقا اجراءات للقضاء على هذا البعوض بهدف خفض الوفيات في البلدان المدارية.
[الصور]
دائرة البروج (في الاعلى) وعملية الفصد
[مصدر الصورة]
”Both: Biblioteca Histórica “Marqués de Valdecilla
[الصورتان في الصفحة ٣]
اليوم، تَظهر من جديد انواع من بكتيريا السل تتسبب بموت نحو مليوني شخص كل سنة
[مصدر الصورة]
X ray: New Jersey Medical School–National Tuberculosis Center; man: Photo: WHO/Thierry Falise
[الصورة في الصفحة ٤]
نقش الماني يعود تاريخه الى سنة ١٥٠٠ تقريبا، ويُرى فيه طبيب يضع قناعا ليحمي نفسه من الطاعون الاسود. ويحتوي المنقار على عطر
[مصدر الصورة]
Godo-Foto
[الصورة في الصفحة ٤]
البكتيريا التي سببت الطاعون الدبلي
[مصدر الصورة]
Gary Gaugler/Visuals Unlimited ©
-
-
الانتصارات والهزائم في الحرب ضد المرضاستيقظ! ٢٠٠٤ | ايار (مايو) ٢٢
-
-
الانتصارات والهزائم في الحرب ضد المرض
في ٥ آب (اغسطس) ١٩٤٢، علم الدكتور ألكسندر فليمينڠ ان احد مرضاه، وهو صديق له، يُحتضر. فقد كان المريض، البالغ من العمر ٥٢ سنة، مصابا بالتهاب السَّحايا النخاعية. ورغم كل الجهود التي بذلها فليمينڠ، دخل صديقه في الغيبوبة.
قبل ذلك بـ ١٥ سنة، اكتشف فليمينڠ بالصدفة مادة مميزة انتجها عفن اخضر ضارب الى الزرقة، فأطلق عليها اسم «بنسلين». لقد لاحظ ان لهذه المادة القدرة على قتل البكتيريا، ولكنه لم يتمكن من استخلاص بنسلين نقيّ، كما ان تجاربه لهذه المادة اقتصرت على فعاليتها كمطهّر. لكنَّ هاوارد فلوري وفريق ابحاثه في جامعة أوكسفورد قرروا في سنة ١٩٣٨ انتاج كمية من هذا العقّار تكفي لإجراء التجارب على البشر. فاتصل فليمينڠ بفلوري، وعرض فلوري ان يرسل اليه كل كمية البنسلين المتوفرة لديه. وهكذا سنحت لفليمينڠ فرصة اخيرة لينقذ صديقه.
حقن فليمينڠ البنسلين في عضل صديقه، فلم تظهر اية نتيجة، لذا حقن الدواء في عمود صديقه الفقري مباشرةً. ونجح البنسلين في القضاء على الميكروبات، وبعد اسبوع تقريبا، غادر مريض فليمينڠ المستشفى بتمام الصحة. وهكذا ابتدأ عصر المضادات الحيوية، وتحقق انتصار جديد للانسان في حربه ضد المرض.
عصر المضادات الحيوية
عندما ظهرت المضادات الحيوية، بدا للناس انها تحقِّق العجائب. فقد صار بالامكان معالجة الامراض التي تسببها البكتيريا او الفطريات او الكائنات المجهرية الاخرى. وبفضل العقاقير الجديدة، انخفضت بشدة الوفيات من التهاب السَّحايا وذات الرئة والحمى القرمزية. وصار ممكنا في ايام قليلة معالجة الامراض التي يصاب بها المرء خلال إقامته في المستشفى، بعدما كانت تودي بحياته.
بعد زمن فليمينڠ، قام الباحثون بتطوير عشرات المضادات الحيوية الاخرى، ولا يزال البحث عن مضادات حيوية جديدة مستمرا. وخلال السنوات الـ ٦٠ الماضية، صارت المضادات الحيوية سلاحا لا غنى عنه لمحاربة الامراض. ولو كان جورج واشنطن حيًّا اليوم، لَاستخدم الاطباء دون شك مضادا حيويا لمعالجة التهاب حلقه، ولربما شُفي في غضون اسبوع تقريبا. لقد ساهمت المضادات الحيوية في حمايتنا من الامراض الواحد تلو الآخر. ولكن تبيَّن ان للمضادات الحيوية بعض السلبيات.
فالعلاج بالمضادات الحيوية لا ينفع في حالة الامراض التي تسبّبها الڤيروسات، مثل الأيدز والانفلونزا. كما ان البعض لديهم حساسية لمضادات حيوية معينة. وهناك مضادات حيوية واسعة الفعالية يمكن ان تقتل الكائنات المجهرية المفيدة في اجسامنا. ولعل اكبر مشكلة مع المضادات الحيوية هي استعمالها اكثر من اللازم او اقل من اللازم.
تُستعمل المضادات الحيوية اقل من اللازم حين لا يكمل المرضى العلاج الموصوف، ربما لأنهم يشعرون بالتحسن او لأن فترة العلاج طويلة جدا. وهكذا قد لا يقتل المضاد الحيوي كل البكتيريا المهاجِمة، مما يتيح للسلالات المقاوِمة ان تتكاثر. وهذا ما حدث مرارا عند معالجة السل.
وكان الاطباء والمزارعون على السواء مسؤولين عن استعمال هذه الادوية الجديدة اكثر من اللازم. يوضح كتاب الانسان والميكروبات: «غالبا ما توصف المضادات الحيوية دون لزوم في الولايات المتحدة، ويكثر استعمالها دون تمييز في بلدان اخرى كثيرة. فالمواشي تُطعَم كميات كبيرة منها، لا لمعالجة الامراض بل لتسريع نموها. وهذا من الاسباب الرئيسية لازدياد مقاومة الميكروبات». والنتيجة، كما يحذّر الكتاب، هي «ان المضادات الحيوية الجديدة التي لدينا قد تصير عديمة النفع».
ولكن بصرف النظر عن هذه المخاوف من مقاومة المضادات الحيوية، يمكن القول ان النصف الثاني للقرن العشرين شهد عدة انتصارات طبية. فقد بدا ان الابحاث الطبية قادرة على ايجاد الدواء لكل مرض تقريبا. واللقاحات عززت ايضا الامل بمكافحة الامراض.
الطب يحرز انتصارات
ورد في تقرير الصحة العالمية لسنة ١٩٩٩ (بالانكليزية): «التمنيع (التحصين) هو اكبر النجاحات التي تحققت في مجال الصحة العامة على مر التاريخ». فقد أُنقذت حياة ملايين الاشخاص بفضل حملات التلقيح الواسعة في كل انحاء العالم. وقد نجح برنامج تمنيع عالمي في القضاء على الجدري، ذاك المرض المميت الذي اودى بحياة اشخاص يزيد عددهم على عدد ضحايا حروب القرن العشرين مجتمعةً؛ وتوشك حملة مماثلة ان تقضي على شلل الاطفال. (انظر الاطار «الانتصار على الجدري وشلل الاطفال».) ويلقَّح حاليا اولاد كثيرون لحمايتهم من امراض شائعة تهدّد حياتهم.
كما انخفض انتشار امراض اخرى دون اتخاذ اجراءات شاملة مماثلة. فالامراض المنقولة بالماء، كالكوليرا، نادرا ما تتفشى حيث تتوفر المياه النقية وتدابير حفظ الصحة العامة. وبما انه تسهل في بلدان كثيرة الاستفادة من خدمات الاطباء والمستشفيات، فهذا يعني انه يمكن تشخيص معظم الامراض ومعالجتها قبل ان تتسبب بموت المريض. كما ان تحسين النظام الغذائي والظروف المعيشية، بالاضافة الى فرض قوانين بشأن معالجة الاطعمة وخزنها، ساهم في تعزيز الصحة العامة.
وبعدما اكتشف العلماء اسباب الامراض المُعدية، صار بإمكان السلطات الصحية اتخاذ خطوات عملية لوقف انتشار الوباء على الفور. وإليك هذا المثل. في سنة ١٩٠٧ تفشى الطاعون الدبلي في سان فرانسيسكو، لكنَّ اناسا قليلين ماتوا منه لأن المدينة اطلقت على الفور حملة لإبادة الجرذان التي تحمل البراغيث الناقلة للمرض. أما في سنة ١٨٩٦، فقد ابتدأ تفشّي نفس المرض في الهند، ومات عشرة ملايين شخص في السنوات الـ ١٢ التالية لأن السبب الرئيسي لم يكن قد اكتُشف بعد.
هزائم في محاربة المرض
من الواضح ان الطب ربح معارك كبيرة. لكنَّ بعض هذه الانتصارات على الامراض المنتشرة اقتصر على بلدان العالم الغنية. فالامراض التي يمكن معالجتها لا تزال تقتل ملايين الاشخاص، والسبب هو النقص في التمويل لا اكثر. وفي البلدان النامية، لا يزال كثيرون يفتقرون الى تدابير حفظ الصحة العامة والرعاية الطبية والمياه النقية. وما يزيد من صعوبة تأمين هذه الحاجات الاساسية في البلدان النامية هو كثرة النزوح من الريف الى المدن الكبرى. وبسبب عوامل كهذه، يتحمل فقراء العالم ما تدعوه منظمة الصحة العالمية «قسطا لا تكافؤ فيه من عبء المرض» مقارنة بغيرهم.
والانانية التي تعمي البصيرة هي السبب الرئيسي لهذا التفاوت. ذكر كتاب الانسان والميكروبات: «هناك مَن يرون ان بعض اسوإ الامراض القاتلة في العالم بعيدة عن بلادهم. . . . فبعضها يكاد ينحصر في المناطق المدارية وشبه المدارية الفقيرة». وبما ان الدول المتطورة الغنية وشركات الادوية لا تستفيد مباشرة، فهي تتردد في تخصيص الاموال لمعالجة هذه الامراض.
كما ان تصرفات البشر غير المسؤولة تساهم في انتشار الامراض. ولا شيء يوضح هذه الحقيقة المُرّة افضل من ڤيروس الأيدز الذي ينتقل من انسان الى آخر عن طريق سوائل الجسم. ففي سنوات قليلة، اكتسح هذا الوباء ارجاء المعمورة. (انظر الاطار «الأيدز: بلوى العصر».) قال طبيب الامراض الوبائية جو ماكورميك: «البشر هم المسؤولون عن وقوعهم في هذه المصيبة. وليس هذا انتقادا لأخلاقيات الناس، بل هو مجرد إخبار بحقيقة ما يجري».
ولكن كيف نشر البشر عن غير قصد ڤيروس الأيدز؟ يعدد كتاب الوبأ الوشيك (بالانكليزية) العوامل التالية: التغيرات الاجتماعية (وخصوصا تعدُّد الشركاء في الجنس) التي ادت الى تفشّي الامراض المنتقلة جنسيا وسهَّلت على الڤيروس إحكام قبضته والانتقال من حامله الى اشخاص كثيرين؛ شيوع استعمال الحقن الملوثة في البلدان النامية لأغراض طبية او لتعاطي المخدِّرات؛ وأيضا تجارة الدم التي يبلغ حجمها بليون دولار والتي تجعل ڤيروس الأيدز ينتقل من متبرّع واحد الى عشرات المرضى.
وكما ذكرنا قبلا، ادى استعمال المضادات الحيوية اكثر من اللازم او اقل من اللازم الى ظهور ميكروبات مقاوِمة. وهذه المشكلة خطيرة، وهي تزداد سوءا. لقد كان من السهل جدا القضاء على البكتيريا العنقودية staphylococcus التي تسبّب غالبا تلوّث الجروح باستخدام مشتقات البنسلين. لكنَّ معظم هذه المضادات الحيوية غير فعّال حاليا. لذا يضطر الاطباء الى استعمال مضادات حيوية جديدة ومكلفة جدا، ولكنّ المستشفيات في البلدان النامية نادرا ما تتمكن من شرائها. حتى المضادات الحيوية الاحدث قد لا تتمكن من مكافحة بعض الميكروبات، وهذا ما يزيد شيوع وفتك الامراض التي يصاب بها المرء خلال إقامته في المستشفى. ويصف الدكتور ريتشارد كراوزي، المدير السابق للمعهد القومي للأرجية والامراض المعدية في الولايات المتحدة، الوضع الراهن بأنه «زمن تفشّي الميكروبات المقاوِمة».
«هل نحن اليوم في وضع افضل؟»
مع بداية القرن الحادي والعشرين، لا يزال خطر الامراض محدقا. فانتشار الأيدز المتواصل، وظهور جراثيم مقاوِمة للعقاقير، وعودة امراض قاتلة قديمة كالسل والملاريا، كلها دليل على ان الحرب على المرض لم تُكسَب بعد.
«هل نحن اليوم في وضع افضل مما كنا عليه قبل قرن؟». هذا السؤال طرحه جوشوا ليدربرڠ الحائز جائزة نوبل. وفي الاجابة قال: «نحن اسوأ حالا في معظم النواحي. فقد استخففنا بالميكروبات ونحن نحصد العواقب». ولكن هل يمكن التغلب على النكسات الحالية عن طريق الجهود الطبية وتعاون كل دول العالم؟ هل ستُستأصل في النهاية الامراض المُعدية الرئيسية كما استُؤصل الجدري؟ ستجيب مقالتنا التالية عن هذين السؤالين.
[الاطار/الصورة في الصفحة ٨]
الانتصار على الجدري وشلل الاطفال
في اواخر تشرين الاول (اكتوبر) سنة ١٩٧٧، وجدت منظمة الصحة العالمية آخر شخص مصاب بالجدري انتقل اليه المرض طبيعيا. كان هذا الشخص يُدعى علي ماو معلين، ويعمل طباخا في مستشفى في الصومال. لم يكن المرض قد اشتدّ عليه، ولم تمضِ اسابيع قليلة حتى تعافى. كما تمَّ تلقيح كل الاشخاص الذين يحتكّون به.
وبقي الاطباء ينتظرون بقلق طوال سنتَين. وعُرضت مكافأة بقيمة ٠٠٠,١ دولار اميركي لمَن يُبلغ عن «حالة جدري» مؤكَّدة اخرى. لم تكن الجائزة من نصيب احد، إذ لم يُبلغ عن حالات فعلية. وهكذا اعلنت منظمة الصحة العالمية رسميا في ٨ ايار (مايو) ١٩٨٠ ان «العالم وكل شعوبه قد تحرروا من خطر الجدري». هذا مع العلم انه قبل عشر سنوات فقط، كان الجدري يتسبب بمصرع نحو مليونَي شخص في السنة. وهكذا، ولأول مرة في التاريخ، تم القضاء على مرض مُعدٍ خطير.a
ويبدو ان الحرب ضد شلل الاطفال ستؤول الى نتيجة مماثلة. ففي سنة ١٩٥٥، صنع جوناس سولك لقاحا فعالا لهذا المرض، وبدأت حملة تمنيع ضد شلل الاطفال في الولايات المتحدة وبلدان اخرى. وبعد ذلك صُنع لقاح يُعطى بالفم. وفي سنة ١٩٨٨، اطلقت منظمة الصحة العالمية حملة عالمية للقضاء على شلل الاطفال.
تذكر الطبيبة ڠرو هارلم برونتلان، التي كانت آنذاك المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية: «عندما بدأنا الحملة للقضاء على شلل الاطفال سنة ١٩٨٨، كان هذا المرض يشل اكثر من ٠٠٠,١ طفل كل يوم». وتمضي قائلة: «في سنة ٢٠٠١، كان العدد اقل بكثير من ٠٠٠,١ حالة طوال السنة». حاليا، يقتصر وجود شلل الاطفال على اقل من عشرة بلدان، ولا يلزم سوى تمويل اضافي لمساعدة هذه البلدان على التخلص نهائيا من هذا المرض.
[الحاشية]
a الجدري هو افضل مثال للامراض التي يمكن محاربتها بواسطة حملة تلقيح عالمية. والسبب هو ان ڤيروس الجدري يعتمد على مضيف بشري ليعيش، بخلاف الامراض التي تنتشر بواسطة كائنات تنقل الجراثيم وتصعب السيطرة عليها، كالجرذان والحشرات.
[الصورة]
صبي اثيوپي يتلقى لقاح شلل الاطفال عن طريق الفم
[مصدر الصورة]
WHO/P. Virot ©
[الاطار/الصورة في الصفحة ١٠]
الأيدز: بلوى العصر
شكّل الأيدز من بداياته خطرا عالميّ النطاق. فبعد نحو ٢٠ سنة من اكتشافه، زاد عدد المصابين به على ٦٠ مليونا. وتحذّر السلطات الصحية من ان وباء الأيدز لا يزال في «اطواره الاولى». فأعداد المصابين «ترتفع بشكل لم يكن متوقعا من قبل»، وهو يسبب ازمات كبيرة في المناطق ذات الانتشار الاوسع للمرض.
يوضح تقرير صادر عن الامم المتحدة: «الاغلبية العظمى من المصابين بالأيدز او حاملي ڤيروس الأيدز حول العالم هم في ريعان حياتهم المهنية». ولهذا السبب يُعتقد ان عدة بلدان في جنوبي افريقيا ستفقد ما يتراوح بين ١٠ و ٢٠ في المئة من قوتها العاملة بحلول عام ٢٠٠٥. كما يذكر التقرير: «متوسط العمر المتوقع الحالي في افريقيا السوداء [جنوبي الصحراء الكبرى] هو ٤٧ سنة. ولولا الأيدز، لَبلغ متوسط العمر ٦٢ سنة».
حتى الآن فشلت الجهود المبذولة للعثور على لقاح للأيدز، و ٤ في المئة فقط من الـ ٦ ملايين شخص المصابين به في البلدان النامية يحصلون على ادوية للأيدز. حاليا لا يوجد علاج يشفي المرضى منه، ويخشى الاطباء ان يَظهر المرض في آخر الامر لدى معظم حاملي الڤيروس.
[الصورة]
لمفاويات تائية مصابة بڤيروس الأيدز
[مصدر الصورة]
Godo-Foto
[الصورة في الصفحة ٧]
عامل في مختبر يفحص سلالة ڤيروس تصعب محاربته
[مصدر الصورة]
CDC/Anthony Sanchez
-
-
عالم خالٍ من الامراضاستيقظ! ٢٠٠٤ | ايار (مايو) ٢٢
-
-
عالم خالٍ من الامراض
«على جميع الدول ان تتعاون، بروح الفائدة المتبادلة والمعروف، لتضمن تأمين الرعاية الصحية الاولية لكل الناس. وتمتع سكان دولة واحدة بالصحة يؤثر ويفيد مباشرةً كل دولة اخرى». — اعلان آلما آتا، ١٢ ايلول (سبتمبر) ١٩٧٨ (بالانكليزية).
قبل ٢٥ سنة، كان يبدو للبعض ان توفير الرعاية الصحية الاولية لكل انسان على وجه الارض هدف يمكن تحقيقه. لذلك فإن المندوبين الى المؤتمر الدولي للرعاية الصحية الاولية، المجتمعين في مدينة آلما آتا (في دولة قازاخستان اليوم)، اصدروا قرارا بتمنيع كل البشر ضد الامراض المُعدية الرئيسية بحلول عام ٢٠٠٠. كما املوا ان تتوفر التدابير الاساسية لحفظ الصحة العامة والمياه النقية لكل فرد على الارض بحلول تلك السنة. وقد وقّعت جميع الدول الاعضاء في منظمة الصحة العالمية هذا الاعلان.
كان هذا الهدف نبيلا بالفعل، لكنَّ التطورات اللاحقة اتت مخيِّبة للآمال. فالرعاية الصحية الاولية غير متوفرة اليوم لكل انسان، ولا تزال الامراض المُعدية تهدِّد صحة بلايين الاشخاص على الارض. وغالبا ما تصيب الامراض القاتلة الاولاد والراشدين في ريعان شبابهم.
حتى الامراض الخطرة الثلاثة، الأيدز والسل والملاريا، لا تدفع الدول الى ‹التعاون بروح الفائدة المتبادلة›. فقد تأسس مؤخرا «الصندوق العالمي لمكافحة الأيدز والسل والملاريا»، وطلب من الحكومات ١٣ بليون دولار للمساهمة في مكافحة هذه الاوبئة. ولكن بحلول صيف سنة ٢٠٠٢، لم يقدَّم سوى بليونَي دولار تقريبا، فيما قُدِّر الانفاق العسكري في تلك السنة بـ ٧٠٠ بليون دولار. ففي هذا العالم المنقسم، تكاد لا توجد اسباب تدفع كل دول العالم الى الاتحاد من اجل الخير العام.
حتى لو كانت السلطات الصحية صادقة في جهودها لمكافحة الامراض المُعدية، فإنها تجد نفسها مكبَّلة اليدين. فقد لا توفّر الحكومات التمويل اللازم، والميكروبات صارت مقاوِمة لعقاقير كثيرة، والناس يصرّون على اتّباع نمط حياة محفوف بالمخاطر. كما ان مشاكل الفقر والحرب والمجاعة الشائعة في بعض المناطق تمهد السبيل امام الجراثيم لتغزو ملايين البشر.
-