مكتبة برج المراقبة الإلكترونية
برج المراقبة
المكتبة الإلكترونية
العربية
  • الكتاب المقدس
  • المطبوعات
  • الاجتماعات
  • البحث عن التوابل،‏ الذهب،‏ المهتدين،‏ والمجد
    استيقظ!‏ ١٩٩٢ | آذار (‏مارس)‏ ٨
    • البحث عن التوابل،‏ الذهب،‏ المهتدين،‏ والمجد

      ‏«تييرا!‏ تييرا!‏»‏ (‏ارض!‏ ارض!‏)‏ حطَّمت صيحة التهلُّل هذه صمت نوبة الحراسة الليلية في ١٢ تشرين الاول ١٤٩٢.‏ فقد شاهد بحَّار على متن الـ‍ پينتا الصورة الظلِّية غير الواضحة لجزيرة.‏ والرحلة التي بدت بلا نهاية تكلَّلت اخيرا بالنجاح بالنسبة الى السفن سانتا ماريا،‏ پينتا،‏ ونينيا.‏

      عند مطلع الفجر،‏ عَبَر كولومبُس،‏ قبطاناه،‏ وموظَّفون آخرون الماء خائضين فيه الى الشاطئ.‏ وحمدوا اللّٰه واستولوا على الجزيرة باسم ملكَي اسپانيا،‏ فرديناند وإيزابيلا.‏

      لقد تحقق حلم كولومبُس.‏ والآن كان يتطلع بشوق الى اكتشاف الذهب (‏لم تمرَّ خزائم الانف الذهبية للسكان الاصليين دون ان تُلاحظ)‏ والعودة الى اسپانيا منتصرا.‏ فالطريق الغربية الى الهند كانت طريقه،‏ كما اعتقد،‏ وخيبة الثماني سنوات الماضية يمكن نسيانها.‏

      الحلم يتحقق

      عند نهاية القرن الـ‍ ١٥،‏ كان الطلب شديدا على سلعتَين في اوروپا:‏ الذهب والتوابل.‏ فالذهب كان لازما لشراء الامتعة الكمالية من المشرق،‏ والتوابل من الشرق جعلت الوجبات الرتيبة مستساغة خلال اشهر الشتاء الطويلة.‏ فأراد التجار الاوروپيون سبيلا مباشرا للوصول الى بلدان يمكن فيها الحصول على بضائع كهذه.‏

      كان التجار والملَّاحون الپرتغاليون مشغولين بترسيخ احتكار المتاجرة مع افريقيا،‏ وقد وجدوا اخيرا طريقا الى الشرق بواسطة افريقيا ورأس الرجاء الصالح.‏ في اثناء ذلك،‏ اتَّجهت افكار الملَّاح الايطالي كولومبُس الى الغرب.‏ واعتقد ان الطريق الاقصر الى الهند وتوابلها المشتهاة هو عبر الاطلسي.‏

      لثماني سنوات مرهِقة،‏ تنقَّل كولومبُس ذهابا وإيابا من بلاط ملكي الى آخر قبل حصوله اخيرا على دعم ملك وملكة اسپانيا.‏ وفي النهاية انتصر اقتناعه الراسخ على الملكَين الشكَّاكَين والبحَّارة الممانعين.‏ لقد كانت للشكَّاكين اسبابهم.‏ فلم يكن مشروع كولومبُس بلا عيوب،‏ وقد اصرَّ باجتراء ان يُعيَّن ‹اميرالا اعظم للمحيط› وحاكما دائما لكل الاراضي التي يمكن ان يكتشفها.‏

      لكنَّ الاعتراضات الاساسية تركَّزت في حساباته.‏ ففي ذلك الوقت لم يشكَّ معظم العلماء ان الارض كرويَّة.‏ والسؤال كان،‏ ايّ امتداد للمحيط يفصل بين اوروپا وآسيا؟‏ اعتبر كولومبُس ان تشيپانڠو،‏ او اليابان —‏ التي قرأ عنها في رواية رحلة ماركو پولو الى الصين —‏ تقع على بُعد نحو ٠٠٠‏,٥ ميل (‏٠٠٠‏,٨ كلم)‏ غربي لِشبونة،‏ الپرتغال.‏ وهكذا عيَّن موقع اليابان في ما هو الآن الكاريبي.‏a

      والى حد بعيد بسبب تقدير كولومبُس المتفائل كثيرا للمسافة التي تفصل بين اوروپا والشرق الاقصى،‏ رفضت اللجنتان الملكيَّتان في اسپانيا والپرتغال على السواء مغامرته بصفتها طائشة.‏ والاحتمال انه يمكن ان توجد قارة كبيرة بين اوروپا وآسيا لم يخطر لاحد كما يبدو.‏

      لكنَّ كولومبُس،‏ مدعوما من اصدقاء في البلاط الاسپاني،‏ ألحَّ،‏ وعملت الحوادث لمصلحته.‏ فملكة قَشْتالة إيزابيلا،‏ كاثوليكية متحمِّسة،‏ أُغريت بامكانية هداية الشرق الى الايمان الكاثوليكي.‏ وعندما سقطت غَرْناطة في ايدي الملكَين الكاثوليكيَّين في ربيع ١٤٩٢،‏ صارت الكاثوليكية ديانة كل اسپانيا.‏ وبدا الوقت ملائما للمجازفة بشيء من المال في مغامرة يمكن ان تدرَّ ارباحا كبيرة،‏ دينيا واقتصاديا على السواء.‏ فحصل كولومبُس على الموافقة الملكية والنقود التي احتاج اليها.‏

      الرحلة الى المجهول

      جرى بسرعة اعداد اسطول صغير من ثلاث سفن،‏ وبطاقم كلّي من نحو ٩٠ رجلا ترك كولومبُس اسپانيا في ٣ آب ١٤٩٢.‏b وبعد اعادة خَزْن في جزر كاناري،‏ اتَّجهت السفن في ٦ ايلول غربا في الطريق الى «الهند.‏»‏

      كانت الرحلة محنة بالنسبة الى كولومبُس.‏ فكانت الآمال تقوى ثم تخيب من جرّاء الرياح المؤاتية والمعاكسة.‏ وعلى الرغم من مشاهدة الطيور البحرية الواعدة بالخير،‏ ابى الافق الغربي إلا ان يبقى خاليا.‏ وكان على كولومبُس باستمرار ان يشدِّد عزم بحَّارته بالوعود بأرض وثروة.‏ وحين كانوا قد ابحروا،‏ وفقا لـ‍ «الحسابات الشخصية» لكولومبُس،‏ نحو ٠٠٠‏,٢ ميل (‏٢٠٠‏,٣ كلم)‏ في الاطلسي،‏ اعطى قائدَ السفينة الرقم ٧٥٢‏,١ ميلا (‏٨١٩‏,٢ كلم)‏.‏ ثم كتب في سجل السفينة:‏ «لم اكشف هذا الرقم [١٢١‏,٢ ميلا] (‏٤١٣‏,٣ كلم)‏ للرجال لانهم كانوا سيرتعبون،‏ اذ يجدون انفسهم بعيدين جدا عن الوطن.‏» (‏سجل السفينة لكريستوفر كولومبُس،‏ ترجمة روبرت ه‍.‏ فَزُن)‏ وفي مناسبات كثيرة لم يكن إلا تصميمه الذي لا ينثني ما منع السفن من العودة.‏

      واذ كانت الايام تجري ببطء،‏ صار البحَّارة متضجِّرين اكثر فأكثر.‏ «لم يرضِ قراري الرجال،‏ لانهم استمروا في التذمُّر والتشكّي،‏» كتب كولومبُس.‏ «وعلى الرغم من دمدماتهم تمسَّكت بالغرب.‏» وفي ١٠ تشرين الاول،‏ بعد اكثر من شهر في البحر،‏ كانت التشكيات تزداد على متن السفن الثلاث كلّها.‏ ولم يهدِّئ البحَّارة إلا وعد كولومبُس بالعودة في الطريق الذي اتوا فيه إنْ لم يجر الوصول الى برّ في خلال ثلاثة ايام.‏ ولكن،‏ في اليوم التالي،‏ عندما انتشلوا الى متن السفينة غصنا اخضر لا تزال الازهار عليه،‏ عاودتهم الثقة بأميرالهم.‏ وعندما طلع الفجر في اليوم التالي (‏١٢ تشرين الاول)‏،‏ ابتهج الملَّاحون الذين سئموا البحر برؤية جزيرة مدارية ناضرة.‏ فرحلتهم التي كانت فاتحة عهد جديد بلغت هدفها!‏

      اكتشاف وخيبة

      كانت جزر بَهاما بهيجة.‏ والسكان الاصليون العراة،‏ كتب كولومبُس،‏ كانوا «اناسا اصحَّاء البنية،‏ بقَوام رشيق ووجوه جميلة جدا.‏» ولكن بعد اسبوعين من التلذُّذ بالفاكهة المدارية وتبادل البضائع مع السكان الوديِّين،‏ انتقل كولومبُس الى مكان آخر.‏ فكان يبحث عن الذهب،‏ البَرّ الرئيسي لآسيا،‏ المهتدين،‏ والتوابل.‏

      بعد ايام قليلة،‏ بلغ كولومبُس كوبا.‏ «لم ارَ قط شيئا جميلا الى هذا الحد،‏» علَّق عندما نزل من السفينة الى الجزيرة.‏ وفي وقت ابكر كان قد كتب في سجل سفينته:‏ «انا الآن متأكد انَّ كوبا هي الاسم الهندي لتشيپانڠو [اليابان].‏» وهكذا،‏ ارسل ممثلَين ليتَّصلا بالخان (‏الحاكم)‏.‏ فلم يجد الاسپانيان لا ذهبا ولا يابانيين،‏ على الرغم من انهما عادا بتقارير عن عادة غريبة بين السكان الاصليين،‏ تلك التي لتدخين التبغ.‏ لم تجرِ اعاقة كولومبُس.‏ «دون شك هنالك كمية كبيرة من الذهب في هذا البلد،‏» طَمْأن نفسه.‏

      استمر التجوال الطويل،‏ وهذه المرة نحو الشرق.‏ فاكتشف جزيرة جبلية كبيرة قرب كوبا دعاها لا إيسلا إسپانيولا (‏هِسْپانيولا)‏.‏ وأخيرا وجد الاسپانيون كمية كبيرة من الذهب.‏ لكن بعد ايام قليلة،‏ حلَّت الكارثة.‏ فسفينته القيادية سانتا ماريا ارتطمت بالارض على شاطئ رملي ولم يكن ممكنا جعلها تعوم من جديد.‏ ساعد السكان الاصليون طوعًا الطاقم على انقاذ كل شيء ممكن.‏ «انهم يحبون جيرانهم كأنفسهم،‏ ولديهم ارقّ وأعذب الاصوات في العالم وهم يبتسمون دائما،‏» قال كولومبُس.‏

      قرر كولومبُس ان يؤسس مستوطنة صغيرة في هِسْپانيولا.‏ وفي وقت ابكر،‏ كان قد ابدى ملاحظة مشؤومة في سجلِّه:‏ «ان هؤلاء الناس غير حاذقين الى حد بعيد في استخدام الاسلحة.‏ .‏ .‏ .‏ وب‍ ٥٠ رجلا يمكنكم إخضاع الجميع وحملهم على فعل ما تريدون.‏» وتصوَّر ايضا استعمارا دينيا:‏ «لديَّ امل عظيم بربنا انَّ جلالتكما ستهديانهم جميعا الى المسيحية وسيصيرون جميعا ملْكا لكما.‏» وما ان جرى تنظيم المستوطنة في مكان دعاه لا ڤييا دي لا ناڤيداد (‏بلدة الميلاد)‏،‏ حتى قرر كولومبُس انه يجب ان يعود مع الباقين من رجاله بسرعة الى اسپانيا بأخبار اكتشافهم العظيم.‏

      الفردوس المفقود

      كان البلاط الاسپاني مبتهجا عندما بلغهم اخيرا خبر اكتشاف كولومبُس.‏ فلقي فيضا من مظاهر الاكرام وجرى حثُّه على تنظيم حملة ثانية بأسرع وقت ممكن.‏ وفي اثناء ذلك،‏ تحرَّك الدبلوماسيون الاسپان بسرعة ليحصلوا من البابا الاسپاني،‏ ألكسندر السادس،‏ على الحق في استعمار كل الاراضي التي اكتشفها كولومبُس.‏

      كانت الحملة الثانية،‏ في سنة ١٤٩٣،‏ حملة طموحة.‏ فحمل اسطول حربي يتألف من ١٧ سفينة اكثر من ٢٠٠‏,١ مستعمر،‏ بمن فيهم كهنة،‏ مزارعون،‏ وجنود —‏ لكن لا نساء.‏ وكان القصد استعمار الاراضي الجديدة،‏ هداية السكان الاصليين الى الكاثوليكية،‏ وبالتأكيد،‏ كان سيجري الترحيب كثيرا بأيّ ذهب او توابل يمكن ان تكتشف.‏ وعزم كولومبُس ايضا على الاستمرار في بحثه عن الممر البحري الى الهند.‏

      على الرغم من انه جرى اكتشاف المزيد من الجزر،‏ بما في ذلك پورتوريكو وجامايكا،‏ ازداد التثبط.‏ ولا ناڤيداد،‏ المستعمرة الاولى في هِسْپانيولا،‏ كان قد هلك معظم سكانها بسبب العداء المرّ بين الاسپانيين انفسهم،‏ ثم افناهم تقريبا سكان الجزيرة الذين ثار سخطهم الشديد بسبب طمع المستعمرين وفسادهم الادبي.‏ فاختار كولومبُس موقعا افضل لاجل مستعمرة كبيرة جديدة وبعد ذلك تابع بحثه عن الطريق الى الهند.‏

      بعد ان فشل في الٕابحار حول كوبا،‏ قرر انه لا بد انها البَرّ الرئيسي لآسيا —‏ ربما الملايو.‏ وكما يُذكر في فتح الفردوس،‏ فإن كولومبُس «قرر انه يجب ان يعلن الطاقم بكامله تحت قَسَم ان الساحل الذي كانوا يُبحرون بمحاذاته .‏ .‏ .‏ لم يكن مطلقا ذاك الذي لجزيرة لكنَّه في الواقع ‹البَرّ الرئيسي لبداية الهند.‏›» وعند العودة الى هِسْپانيولا،‏ وجد كولومبُس انَّ المستعمرين الجدد لم يحسنوا السلوك اكثر من السابقين،‏ اذ اغتصبوا النساء واستعبدوا الصبيان.‏ وكولومبُس نفسه ضاعف حقد السكان الاصليين بجمع ٥٠٠‏,١ منهم،‏ جرى ارسال ٥٠٠ منهم بالسفينة الى اسپانيا كعبيد؛‏ فماتوا جميعا خلال سنوات قليلة.‏

      ورحلتان أُخريان الى الهند الغربية لم تساهما في تحسين نصيب كولومبُس.‏ فالذهب،‏ التوابل،‏ والممر الى الهند كلها فاتته.‏ ولكنَّ الكنيسة الكاثوليكية حصلت على مهتديها،‏ بطريقة او بأُخرى.‏ لقد كانت قدرات كولومبُس الادارية ادنى بكثير من مواهبه كملَّاح،‏ والصحة الضعيفة جعلته استبداديا وحتى قاسيا تجاه الذين اثاروا استياءه.‏ فاضطرّ الملكان الاسپانيان الى استبداله بحاكم اكثر اقتدارا.‏ لقد اخضع المحيطات لكنَّه تعثَّر عندما ذهب الى الشاطئ.‏

      وبعد انتهاء رحلته الرابعة بقليل،‏ مات بعمر الـ‍ ٥٤،‏ رجلا غنيًّا لكن قاسيا،‏ لا يزال مصرًّا على انه اكتشف الطريق البحرية الى آسيا.‏ وكان سيُترك للاجيال القادمة امرُ مَنْحه المجد الدائم الذي تاق اليه كثيرا طيلة حياته.‏

      لكنَّ الطرق التي رسم مخطَّطها مهَّدت السبيل لاكتشاف واستعمار قارة اميركا الشمالية بكاملها.‏ لقد تغيَّر العالم على نحو مثير.‏ فهل كان ذلك سيكون الى الاحسن؟‏

      ‏[الحاشيتان]‏

      a كان هذا الغلط نتيجة خطأين فادحين في التقدير.‏ لقد اعتقد ان المساحة الواسعة من الارض الآسيوية تمتد شرقا اكثر بكثير مما هي عليه.‏ وقلَّل ايضا دون ان يدري محيط دائرة الارض نحو ٢٥ في المئة.‏

      b لقد حُسب انه كان لـ‍ سانتا ماريا طاقم من ٤٠،‏ پينتا ٢٦،‏ ونينيا ٢٤.‏

      ‏[الخريطة/‏الصورة في الصفحة ٦]‏

      ‏(‏اطلب النص في شكله المنسَّق في المطبوعة)‏

      رحلة كولومبُس الاستكشافية

      اسپانيا

      افريقيا

      المحيط الاطلسي

      الولايات المتحدة

      جزر بَهاما

      كوبا

      هِسْپانيولا

  • اصطدام حضارتين
    استيقظ!‏ ١٩٩٢ | آذار (‏مارس)‏ ٨
    • اصطدام حضارتين

      منذ نحو خمسمئة سنة،‏ في بلدة صغيرة في المنطقة المركزية لقَشْتالة،‏ تشاجر الدبلوماسيون الاسپان مع نظرائهم الپرتغاليين.‏ وفي ٧ حزيران ١٤٩٤،‏ جرت تسوية خلافاتهم،‏ ووُقِّعت معاهدة رسمية —‏ معاهدة تورديسيلياس.‏ واليوم،‏ يتكلَّم مئات الملايين في النصف الغربي من الكرة الارضية الاسپانية او الپرتغالية نتيجة لهذه الاتفاقية.‏

      اعادت المعاهدة تأكيد المراسيم البابوية للسنة السابقة مقسِّمةً العالم غير المكتشَف بين الامَّتين الايبيريَّتين.‏ وجرى رسم خط شمالي-‏جنوبي «٣٧٠ فرسخا غربي جزر الرأس الاخضر.‏» فكان بإمكان اسپانيا ان تستعمر وتبشِّر البلدانَ التي اكتُشفت غربي ذلك الخط (‏اميركا الشمالية والجنوبية،‏ باستثناء البرازيل)‏ والپرتغال كلَّ بلد شرقيّه (‏البرازيل،‏ افريقيا وآسيا)‏.‏

      واذ كانتا متسلِّحتَين بالبَرَكة البابوية،‏ باشرت اسپانيا والپرتغال —‏ مع دول اوروپية اخرى في اثرهما —‏ السيطرة على البحر ثم على العالم.‏ وبعد خمسين سنة من توقيع المعاهدة،‏ كانت قد تقررت الطرق البحرية عبر المحيطات،‏ اتصلت القارات الرئيسية احداها بالاخرى،‏ وبدأت الامبراطوريات الاستعمارية المترامية الاطراف بالظهور.‏ —‏ انظروا الاطار،‏ الصفحة ٩.‏

      والنتائج غير المباشرة لهذا الانفجار في الاكتشاف كانت هائلة.‏ فحدثت تغييرات جذرية في النظامَين التجاري والزراعي،‏ والفِرَق العرقية والدينية للعالم تغيَّرت ايضا.‏ لكنَّ الذهب كان الامر الذي حرَّك الحوادث.‏

      اتجاهات التجارة

      كان كولومبُس محقًّا.‏ فالذهب كان هناك،‏ على الرغم من انه شخصيا وجد القليل جدا.‏ وقبل مرور وقت طويل،‏ بدأت السفن الشراعية الضخمة تنقل الى اسپانيا كميات هائلة من الذهب والفضة الاميركيَّين المسروقَين.‏ ولكنَّ الثروة كانت سريعة الزوال.‏ وتدفُّق الكميات الكبيرة من المعادن الثمينة جلب في اعقابه تضخُّما ماليا مصحوبا بكارثة،‏ وفائض الاموال المقترضة بفائدة منخفضة عطَّل الصناعة الاسپانية.‏ ومن جهة اخرى،‏ عزَّزت السبائك الذهبية من الاميركتين نمو الاقتصاد الدولي.‏ فالمال كان متوافرا لشراء البضائع الاجنبية،‏ التي نقلتها السفن من والى زوايا العالم الاربع.‏

      بحلول نهاية القرن الـ‍ ١٧،‏ كان بإمكان المرء ان يجد فضة الپيرو في مانيلا،‏ حرير الصين في مدينة مكسيكو،‏ الذهب الافريقي في لِشبونة،‏ وفرو اميركا الشمالية في لندن.‏ وما ان مهَّدت الامتعة الكمالية الطريق،‏ حتى ابتدأت السِّلع الرئيسية مثل السكر،‏ الشاي،‏ القهوة،‏ والقطن تتدفق عبر المحيطَين الاطلسي والهندي بكميات اكبر على الدوام.‏ وبدأت العادات في الاكل تتغيَّر.‏

      غلال جديدة وأنواع طعام جديدة

      الشوكولاتة السويسرية،‏ البطاطا الايرلندية،‏ والپيتزا الايطالية مدينةٌ كلها للمزارعين الإنكاويين والازتكيين.‏ فالشوكولاتة،‏ البطاطا،‏ والبنادورة كانت مجرد ثلاثة من المنتوجات الجديدة التي ستصل الى اوروپا.‏ وكثيرا ما لزم الوقت للأفاويه،‏ الفواكه،‏ والخضر الجديدة لتصير شعبية،‏ على الرغم من ان كولومبُس ورجاله اهتموا منذ البداية اهتماما شديدا بالاناناس والبطاطا الحلوة.‏ —‏ انظروا الإطار،‏ الصفحة ٨.‏

      صارت بعض الغلال من الشرق،‏ مثل القطن وقصب السكَّر،‏ غلالا شعبية في العالم الجديد،‏ في حين صارت بطاطا اميركا الجنوبية في آخر الامر مصدرا مهما للغذاء بالنسبة الى كثير من الأُسر الاوروپية.‏ وتبادل الغلال هذا لم يعطِ فقط المزيد من التنويع في انواع الطعام الدولية؛‏ فقد جلب تحسينا اساسيا في التغذية،‏ مما ساهم في النمو الهائل لعدد سكان العالم في القرنَين الـ‍ ١٩ والـ‍ ٢٠.‏ ولكن كان هنالك جانب مظلم اكثر للثورة الزراعية.‏

      العنصرية والقمع

      كان بإمكان الغلال الجديدة المنتَجة للبيع،‏ كالقطن،‏ السكَّر،‏ والتبغ،‏ ان تجعل المستعمرين اغنياء،‏ شريطة ان يكون لديهم ما يكفي من العمَّال ذوي الاجر الزهيد ليعملوا املاكهم.‏ والمصدر الواضح للقوة البشرية كان السكان الاصليين.‏

      اعتبر المستعمرون الاوروپيون عموما ان السكان الاصليين ليسوا اكثر من حيوانات لديها موهبة الكلام،‏ رأي تحاملي كان يُستعمل لتبرير استعبادهم الفعلي.‏ وعلى الرغم من ان مرسوما بابويا لسنة ١٥٣٧ قرَّر ان «الهنود» هم حقا «رجال حقيقيون مُنحوا نفسا،‏» لم يفعل ذلك شيئا لايقاف الاستغلال.‏ وكما تشير وثيقة حديثة للڤاتيكان،‏ «ابتدأ التمييز العنصري مع اكتشاف اميركا.‏»‏

      ان المعاملة القاسية،‏ بالاضافة الى انتشار «الامراض الاوروپية،‏» اهلكت القسم الاكبر من السكان.‏ وفي مدة مئة سنة،‏ انخفض عددهم نحو ٩٠ في المئة وفقا لبعض التقديرات.‏ وفي الكاريبي كاد السكان الاصليون يبيدون.‏ وعندما لم يَعُد من الممكن تسخير الشعب المحلي،‏ تطلَّع اصحاب الاراضي الى مكان آخر من اجل عمَّال اقوياء وأصحّاء.‏ فعرض الپرتغاليون،‏ الذين كانوا متركِّزين جيدا في افريقيا،‏ حلًّا شريرا:‏ تجارة العبيد.‏

      ومرة اخرى فرض التحامل العنصري والجشع ضريبة رهيبة من المعاناة.‏ وبحلول نهاية القرن الـ‍ ١٩،‏ كانت قوافل من سفن العبيد (‏بصورة رئيسية بريطانية،‏ هولندية،‏ فرنسية،‏ وپرتغالية)‏ قد شحنت على الارجح اكثر من ١٥ مليون عبد افريقي الى الاميركتين!‏

      مع ما يحمل من تأثيرات اضافية عنصرية،‏ ليس مفاجئا ان اكتشاف الاوروپيين لاميركا يغيظ الى حد بعيد كثيرين من سكان اميركا الاصليين.‏ قال هندي من اميركا الشمالية:‏ «لم يكتشف كولومبُس الهنود.‏ فنحن اكتشفناه.‏» وعلى نحو مماثل،‏ يحتجُّ هنود الماپوتشي من تشيلي انه ‹لم يكن هنالك اكتشاف حقيقي او تبشير اصيل لكن بالاحرى اجتياح لمقاطعة اجدادهم.‏› وكما تدل هذه الملاحظة ضمنا،‏ لم يكن الدين غير ملوم.‏

      الاستعمار الديني

      جرى الاستعمار الديني للعالم الجديد بتعاون لصيق مع الاستعمار السياسي.‏a فحالما كانت تُفتح منطقة،‏ كان يجري إجبار السكان الاصليين على الصيرورة كاثوليكيين.‏ وكما يشرح الكاهن والمؤرخ الكاثوليكي أُمبرْتو بْرونْكس:‏ «في بادئ الامر عمَّدوا دون تعليم شفهي،‏ عمليا بالقوة.‏ .‏ .‏ .‏ جرى تحويل الهياكل الوثنية الى كنائس او اديرة مسيحية؛‏ والتماثيل استُبدلت بالصلبان.‏» وعلى نحو لا يثير الدهشة،‏ انتجت «هداية» اعتباطية كهذه مزيجا غريبا من الكاثوليكية والعبادة التقليدية استمر حتى هذا اليوم.‏

      بعد الفتح و«الهدايات،‏» فُرضت اطاعة الكنيسة وممثليها على نحو صارم،‏ وخصوصا في المكسيك وپيرو،‏ حيث جرى تأسيس محكمة التفتيش.‏ فاحتج بعض رجال الكنيسة المخلصين على الاساليب غير المسيحية.‏ والراهب الدومينيكي پيدرو دي كوردوبا،‏ شاهد عيان لاستعمار جزيرة هِسْپانيولا،‏ تحسَّر:‏ «مع شعب صالح،‏ طائع،‏ ووديع كهذا،‏ لو دخل مبشِّرون فقط بينهم دون قوةِ وعنفِ هؤلاء المسيحيين الشُّنُع،‏ أعتقد انه كان يمكن تأسيس كنيسة جيدة كالكنيسة الاولى.‏»‏

      مختلف ولكن غير جديد الى حد بعيد

      يرى البعض انَّ اكتشاف،‏ استعمار،‏ وهداية اميركا هو «صدام بين حضارتين.‏» وآخرون يعتبرون ذلك «استغلالا،‏» في حين يحكم قليلون بغير تحفُّظ بأنه «اغتصاب.‏» وكيفما حُكم في ذلك،‏ فقد كان دون شك بداية عصر جديد،‏ عصر من النمو الاقتصادي والتطور التقني،‏ وإن كان على حساب حقوق الانسان.‏

      والملَّاح الايطالي اميريڠو ڤسْپوتشي هو الذي صاغ في سنة ١٥٠٥ العبارة «العالم الجديد» ليصف القارة الجديدة.‏ ودون شك،‏ كان الكثير من الاوجه جديدا،‏ لكنَّ المشاكل الرئيسية للعالم القديم كانت ايضا منتشرة في الجديد.‏ والمحاولات غير المجدية لكثيرين جدا من الفاتحين الاسپان لايجاد الإلدورادو الاسطوري،‏ مكان الذهب والوفرة،‏ تكشف ان المطامح البشرية لم يجرِ ارضاؤها باكتشاف قارة جديدة.‏ فهل سيجري ارضاؤها في يوم من الايام؟‏

      ‏[الحاشية]‏

      a انَّ الرغبة في تبشير العالم الجديد استُخدمت ايضا لجعل القوة العسكرية شرعية.‏ وقد ادَّعى فرانسيسكو دي ريتوريا،‏ لاهوتي اسپاني بارز اليوم،‏ انه بما انَّ البابا فوَّض الى الاسپانيين امر الكرازة بالانجيل في العالم الجديد،‏ فإنهم كانوا مبرَّرين في القتال ضد الهنود للمدافعة عن هذا الحق وتثبيته.‏

      ‏[الاطار في الصفحة ٩]‏

      كولومبُس،‏ رائد عصر الاكتشاف

      شهدت الـ‍ ٥٠ سنة التي تلت اكتشاف كولومبُس لاميركا اعادة تعديل لخريطة العالم.‏ فالبحَّارة الاسپان،‏ الپرتغاليون،‏ الايطاليون،‏ الفرنسيون،‏ الهولنديون،‏ والانكليز،‏ اذ كانوا يبحثون عن طرق جديدة الى الشرق،‏ اكتشفوا محيطات جديدة وقارات جديدة.‏ وبحلول سنة ١٥٤٢ بقيت قارتا اوستراليا وآنتاركتيكا فقط غير مكتشَفتَين.‏

      اميركا الجنوبية اولا كولومبُس وبسرعة بعد ذلك رسم أُخِيذا،‏ ڤسْپوتشي،‏ وكُوْوِليو مخطَّطا للخط الساحلي لاميركا الوسطى والجنوبية (‏١٤٩٨-‏١٥٠١)‏.‏

      اميركا الشمالية اكتشف كابوت نيوفاوندلند في سنة ١٤٩٧،‏ وكان ڤِرَّاتسانو اول من سار بمحاذاة الساحل الشرقي لاميركا الشمالية في سنة ١٥٢٤.‏

      الإبحار حول العالم قام به للمرة الاولى ماجلَّان وإلكانو،‏ اللذان اكتشفا ايضا الفيليپين بعد رحلة غير عادية عبر المحيط الهادئ الواسع (‏١٥١٩-‏١٥٢٢)‏.‏

      الطريق البحرية الى الهند بطريق رأس الرجاء الصالح بعد الدوران حول الطرف الجنوبي لافريقيا،‏ وصل ڤاسكو دا ڠاما الى الهند في سنة ١٤٩٨.‏

      الشرق الاقصى بلغ البحَّارة الپرتغاليون إندونيسيا بحلول سنة ١٥٠٩،‏ الصين بحلول سنة ١٥١٤،‏ واليابان في سنة ١٥٤٢.‏

      ‏[الاطار/‏الصورة في الصفحة ٨]‏

      النباتات التي غيَّرت ألوان طعام العالم

      احدث اكتشاف اميركا تغييرا جذريا في عادات الاكل في العالم.‏ فكان هنالك تبادل سريع للغلال بين العالم القديم والعالم الجديد،‏ والكثير من النباتات التي زرعها الإنكاويون والازتكيون هو الآن بين غلال الطعام الاكثر اهمية في العالم.‏

      البطاطا.‏ عندما وصل الاسپانيون الى الپيرو،‏ كانت البطاطا اساس الاقتصاد الٕانكاوي.‏ وازدهرت البطاطا ايضا في النصف الشمالي للكرة الارضية،‏ وخلال قرنين صارت الطعام الرئيسي لكثير من البلدان الاوروپية.‏ حتى انَّ بعض المؤرخين ينسبون الى هذه الدَّرنة النباتية المتواضعة لكن المغذِّية التزايد السريع في عدد السكان الذي رافق الثورة الصناعية الاوروپية.‏

      البطاطا الحلوة.‏ صادف كولومبُس البطاطا الحلوة في رحلته الاولى.‏ ووصفها انها الى حد ما مثل «جَزَر كبير» ذي «مذاق خاص بالكستنة.‏» والآن،‏ فان البطاطا الحلوة هي طعام رئيسي لملايين الاشخاص في قسم كبير من الارض.‏

      الذرة.‏ كانت زراعة الذرة مهمة جدا بالنسبة الى الازتكيين بحيث اعتبروها رمزا الى الحياة.‏ والآن تأتي الذرة في المرتبة الثانية مباشرة بعد القمح في مساحات الارض المزروعة في العالم.‏

      البنادورة.‏ غرس الازتكيون والمايا على السواء الـ‍ سِيتوماتل (‏دُعيت في ما بعد توماتْلْ‏)‏‏.‏ وبحلول القرن الـ‍ ١٦،‏ زُرعت البنادورة في اسپانيا وايطاليا،‏ حيث صارت الڠازپاتشُوْ،‏ الپاستا،‏ والپيتزا الاصناف المفضَّلة من الطعام.‏ ولكنَّ اوروپيين كثيرين لم يقتنعوا بمزاياها حتى القرن الـ‍ ١٩.‏

      الشوكولاتة.‏ كانت الشوكولاتة المشروب المفضَّل للحاكم الازتكي مونتيزوما الثاني.‏ وفي الوقت الذي وصل فيه كورتيز الى المكسيك،‏ كان يجري تقييم حبوب الكاكاو،‏ التي منها كانت تُستخرج الشوكولاتة،‏ الى حد بعيد بحيث استُعملت كنقود.‏ وفي القرن الـ‍ ١٩،‏ عندما أُضيف السكر والحليب لتحسين المذاق،‏ صارت الشوكولاتة المادة الاكثر مبيعا عالميا،‏ كشراب وكوجبة خفيفة في شكل جامد على السواء.‏

      ‏[الصورة]‏

      وصول كولومبُس الى جزر بَهاما،‏ سنة ١٤٩٢

      ‏[مصدر الصورة]‏

      Courtesy of the Museo Naval,‎ Madrid,‎ )Spain(,‎ and with the kind permission of Don Manuel González López

      ‏[الصورة في الصفحة ٧]‏

      Copy of the Treaty of Tordesillas.‎

      ‏[مصدر الصورة]‏

      Courtesy of Archivo General de Indias,‎ Seville,‎ Spain

      ‏[الصورة في الصفحة ١٠]‏

      ضحايا مكسيكيون لمحكمة التفتيش الكاثوليكية

      Mural entitled “Mexico Through the Centuries,‎” original work by Diego Rivera.‎

      ‏[مصدر الصورة]‏

      National Palace,‎ Mexico City,‎ Federal District,‎ Mexico

  • العالم الجديد الحقيقي ينتظر الاكتشاف
    استيقظ!‏ ١٩٩٢ | آذار (‏مارس)‏ ٨
    • العالم الجديد الحقيقي ينتظر الاكتشاف

      ‏«الاسم امر غير اكيد،‏ لا يمكنكم ان تعتمدوا عليه!‏» هذه الملاحظة الواقعية اثبتت انها صحيحة في حالة كولومبُس.‏

      وانسجاما مع معنى اسمه الاول،‏ كريستوفر،‏ قام كولومبُس بمحاولة ليكون بطريقة ما «حاملا للمسيح».‏ وعلى اية حال،‏ فقد ارسله الملكان الاسپانيان في «خدمة اللّٰه وتوسيع الايمان الكاثوليكي.‏» ولكن بعد تعليم بعض السكان الاصليين الذين لا يفهمون ان يرسموا اشارة الصليب ويرتِّلوا السلام المريمي،‏ ركَّز على مكافآ‌ت ملموسة اكثر:‏ العثور على الذهب والطريق المحيِّرة الى الهند.‏

      جادل بعض الكاثوليكيين بأنه يجب ان يُجعل كولومبُس،‏ مع ذلك،‏ «قديسا» بسبب دوره البالغ الاهمية في توسيع تخوم العالم المسيحي.‏ لكنَّ «الهدايات» الجماعية التي تلت اكتشافاته لم تفعل شيئا لجعل يسوع المسيح الحقيقي معروفا عند شعب العالم الجديد.‏ فالمسيحية الحقيقية جرى نشرها دائما بطرائق سلمية،‏ لا بالسيف.‏ واستعمال القوة لنشر الانجيل هو مناقضة فاضحة لما علَّمه يسوع.‏ —‏ قارنوا متى ١٠:‏١٤؛‏ ٢٦:‏٥٢‏.‏

      حظي كولومبُس (‏بالاسپانية،‏ كولون‏)‏ الى حد ما بنجاح اضافي في التشبُّه باسم عائلته،‏ الذي يعني «المستعمِر.‏» فهو الذي انشأ اول مستعمرتَين اوروپيتين في العالم الجديد.‏ وعلى الرغم من انَّ هاتين صارتا عديمتي الاهمية،‏ فقد جرى تأسيس اخرى سريعا.‏ وجرت قُدُما مواصلة استعمار الاميركتين،‏ لكنَّه لم يكن على الاطلاق استعمارا مفرحا،‏ وخصوصا بالنسبة الى المستعمَرين.‏

      والراهب الدومينيكي بارتولومي دي لاس كاساس،‏ الذي شهد الاستعمار الاوَّلي لجزر الهند الغربية،‏ احتجَّ لدى فيليپ الثاني،‏ ملك اسپانيا،‏ على ‹الصورة الزائفة للعدل التي يجري إخضاع تلك الشعوب البريئة لها،‏ مهلكين ومشتِّتين اياهم دون سبب او مبرِّر صائب سوى الجشع والطموح اللذَين يدفعان اولئك الذين يقترفون اعمالا شريرة كهذه.‏›‏

      وعلى الرغم من انه جرى لاحقا تصحيح اساءات المعاملة الاردإ،‏ استمرت الدوافع الانانية والاساليب القاسية في املاء السياسة.‏ وعلى نحو غير مدهش،‏ صار حكم كهذا بغيضا.‏ وبحلول القرن الـ‍ ٢٠،‏ كانت معظم بلدان الاميركتين قد طرحت نير الاستعمار.‏

      ان هداية قارتين الى دين العالم المسيحي واقامة حكم عادل على عدد هائل من القبائل والالسنة مهمة صعبة بشكل لا يمكن انكاره.‏ وسيكون غير عادل لَوْم كولومبُس على كل الفشل في المشروع الضخم الذي بدأه دون ان يدري عندما عَبَر المحيط واستهلَّ ما يدعوه البعض «صدام عالمَين.‏»‏

      وكما يشير كِرْپاتريك سِيْل في كتابه فتح الفردوس،‏ «كانت هنالك حقا في وقت من الاوقات فرصة،‏ امكانية للشعب الاوروپي ان يعثر على ملاذ جديد في بلد جديد،‏ في ما ادركوا بغموض انه ارض الفردوس.‏» لكنَّ اكتشاف عالم جديد هو شيء؛‏ وخلق عالم جديد هو شيء آخر.‏ وتلك لم تكن المرة الاولى التي فشلت فيها محاولات لبناء عالم جديد.‏

      رحلة اخرى غير اعتيادية

      قبل ان يُبحر كولومبُس بألفي سنة،‏ شرع نحو مئتي ألف شخص في رحلة اخرى غير اعتيادية.‏ وبدلا من عبور محيط،‏ سافروا ربما عبر صحراء.‏ وكانوا يتَّجهون ايضا نحو الغرب،‏ نحو موطنهم،‏ اسرائيل،‏ الذي لم تَرَه الاكثرية قط.‏ وكان هدفهم تأسيس عالم جديد،‏ لهم ولاولادهم.‏

      وهجرتهم الجماعية من الاسر البابلي تمَّمت نبوة.‏ فقبل مئتي سنة،‏ كان النبي اشعياء قد انبأ بعودتهم الى الموطن:‏ «هأنذا [الرب المتسلِّط يهوه] خالق سموات جديدة وارضا جديدة فلا تُذكر الاولى ولا تخطر على بال.‏» —‏ اشعياء ٦٥:‏١٣،‏ ١٧‏.‏

      كانت ‹السموات الجديدة والارض الجديدة› عبارتَين رمزيَّتين تصويريَّتين تشيران الى ادارة جديدة ومجتمع جديد من الاشخاص.‏ وكان هذان لازمَين لأن العالم الجديد الحقيقي يتطلب اكثر بكثير من مقاطعة جديدة لاستعمارها؛‏ انه يقتضي روحا جديدة غير انانية بين الذين يحكمون والذين يُحكَمون.‏

      كانت لدى عدد قليل من اليهود الذين رجعوا من بابل روح كهذه.‏ وعلى الرغم من بعض النجاح الاولي،‏ فبعد رجوعهم بنحو مئة سنة،‏ وصف النبي العبراني ملاخي بحزن كيف صارت الانانية والجشع القوَّتَين المسيطرتَين في الارض.‏ (‏ملاخي ٢:‏١٤،‏ ١٧؛‏ ٣:‏٥‏)‏ لقد جرى تبديد فرصة فريدة لليهود لبناء عالم جديد.‏

      عالم جديد لا يزال في انتظارنا

      وعلى الرغم من ذلك،‏ فان الفشل في بناء عالم جديد في الماضي لا يعني ان السعي لا امل فيه.‏ ففي سفر الرؤيا،‏ يصف الرسول يوحنا،‏ مكرِّرا كلمات اشعياء،‏ المشهد المثير التالي:‏ «رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة لأن السماء الاولى والارض الاولى مضتا .‏ .‏ .‏ وسيمسح اللّٰه كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأن الامور الاولى قد مضت.‏» —‏ رؤيا ٢١:‏١،‏ ٤‏.‏

      تؤكد لنا هذه الكلمات ان اللّٰه نفسه مصمِّم ان تكون له حكومة جديدة على كل الارض ومجتمع جديد من الناس يتجاوب مع حكمه.‏ والفوائد لن تحصى.‏ فسيكون عالما جديدا اصيلا.‏

      ان عالما جديدا من صنع اللّٰه قد يبدو بعيد الاحتمال.‏ لكنَّ اقتناع كولومبُس بأن قارات تقع غربا بدا على نحو مماثل شيئا لا يُصدَّق بالنسبة الى كثيرين من معاصريه.‏ ووَصْف عالم اللّٰه الجديد الموعود به قد يبدو ايضا غير محتَمَل الى ابعد حد،‏ ومع ذلك كم عالِما للقرن الـ‍ ١٥ كان بامكانهم ان يتخيَّلوا ان ثلث مساحة الارض كان مجهولا بالنسبة الى العِلم؟‏

      ان الجهل العلمي في زمن كولومبُس جعل اكتشاف العالم الجديد يبدو بعيد الاحتمال كثيرا.‏ وجهل مقاصد اللّٰه وقدرته يمكن على نحو مماثل ان يدمِّر الثقة بسمائه الجديدة وأرضه الجديدة الموعود بهما.‏ لكنَّ اللّٰه الكلي القدرة يتابع وصفه عن ذلك اذ يقول:‏ «ها انا اصنع كل شيء جديدا.‏ .‏ .‏ .‏ اكتب فإن هذه الاقوال صادقة وأمينة.‏» —‏ رؤيا ٢١:‏٥‏.‏

      دون شك،‏ يتوق كل الجنس البشري الى عالم جديد من نوع ما.‏ والكاتب المكسيكي كارلوس فُوِنْتِس لاحظ ذات مرة:‏ «اليوطوپِيَا هي شيء من الماضي ومن المستقبل.‏ فمن ناحية،‏ انها ذكرى عالم افضل كان مرةً ولم يعد موجودا.‏ ومن ناحية اخرى،‏ انها الرجاء بأن هذا العالم الافضل،‏ الاكثر برًّا وسِلمًا،‏ سيأتي يوما ما.‏» وتلاميذ الكتاب المقدس واثقون بأن عالما افضل —‏ لا يوطوپِيَا وهمية —‏ سيأتي حقا لأن اللّٰه وعد به ولأن اللّٰه يمكنه ان يحقِّقه.‏ —‏ متى ١٩:‏٢٦‏.‏

      عالم جديد في الافق

      عندما كان كولومبُس يحاول ان يقنع طاقمه بأنهم يقتربون من اليابسة،‏ كان يلزم اكثر من الايمان.‏ كان يلزمه دليل ملموس.‏ فالنبات الناضر العائم في البحر،‏ الاعداد المتزايدة للطيور البرية،‏ وأخيرا غصن مزهِر يطفو برفق فوق الماء اعاد ثقة البحَّارة بأميرالهم.‏

      واليوم هنالك ايضا براهين منظورة على اننا نقترب من عالم جديد.‏ فواقع ان بقاء الجنس البشري على قيد الحياة معرَّض للخطر للمرة الاولى في التاريخ يذكِّرنا بأن صبر اللّٰه على الحكم البشري لا بد انه يقترب بسرعة من نهايته.‏ فقد وعد منذ وقت طويل ان «يهلك الذين كانوا يهلكون الارض.‏» (‏رؤيا ١١:‏١٨‏)‏ وقد انتج الجشع والانانية عددا كبيرا جدا من المشاكل العالمية المستعصية الحل،‏ المشاكل التي وصفها الكتاب المقدس مسبقا على نحو جلي بأنها تطوُّرات تشير الى تدخُّل اللّٰه الوشيك.‏a

      عندما وَطِئ كولومبُس اوَّلا جزيرة كوبا منذ خمسمئة سنة،‏ يُقال انه هتف:‏ «اودُّ ان اعيش هنا الى الابد!‏» واولئك الذين يدخلون عالم اللّٰه الجديد سيشعرون بالامر عينه تماما.‏ وهذه المرة ستجري تلبية رغبة كهذه.‏

      ‏[الحاشية]‏

      a من اجل تحليل للبرهان المؤسس على الاسفار المقدسة انَّ عالم اللّٰه الجديد يقترب بسرعة،‏ راجعوا كتاب يمكنكم ان تحيوا الى الابد في الفردوس على الارض،‏ الفصل ١٨‏،‏ اصدار جمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس في نيويورك.‏

      ‏[الصورة في الصفحة ١٣]‏

      اكتشاف عالم جديد هو شيء؛‏ وخلق عالم جديد هو شيء آخر

المطبوعات باللغة العربية (‏١٩٧٩-‏٢٠٢٥)‏
الخروج
الدخول
  • العربية
  • مشاركة
  • التفضيلات
  • Copyright © 2025 Watch Tower Bible and Tract Society of Pennsylvania
  • شروط الاستخدام
  • سياسة الخصوصية
  • إعدادات الخصوصية
  • JW.ORG
  • الدخول
مشاركة