-
الجزء ١٥: ١٠٩٥-١٤٥٣ بم — اللجوء الى السيفاستيقظ! ١٩٨٩ | تشرين الاول (اكتوبر) ٨
-
-
مستقبل الدين بالنظر الى ماضيه
الجزء ١٥: ١٠٩٥-١٤٥٣ بم — اللجوء الى السيف
«سوف يتشاجر الناس من اجل الدين، يكتبون من اجله، يحاربون من اجله، يموتون من اجله؛ ايّ شيء سوى العيش من اجله.» — تشارلز كالب كولتون، رجل دين انكليزي للقرن الـ ١٩
بوركت المسيحية في سنواتها الباكرة بمؤمنين عاشوا وفق دينهم. ودفاعا عن ايمانهم فإنهم بغيرة استعملوا بمهارة «سيف الروح الذي هو كلمة اللّٰه.» (افسس ٦:١٧) ولكن لاحقا، كما اوضحت الحوادث بين سنتي ١٠٩٥، ١٤٥٣، لجأ المسيحيون الاسميون، الذين لا يعيشون وفق المسيحية الحقيقية، الى استعمال انواع اخرى من السيوف.
وبحلول القرن السادس كانت الامبراطورية الرومانية الغربية ميتة. وكان قد جرى استبدالها بنظيرتها الشرقية، الامبراطورية البيزنطية مع القسطنطينية كعاصمة لها. ولكنّ كنائسهما الخاصة، اذ كانت تعاني اكثر العلاقات تقلقلا، سرعان ما رأت نفسها مهدَّدة بعدو مشترك، الحيِّز الاسلامي المتَّسع بسرعة.
ادركت الكنيسة الشرقية ذلك، على ابعد حد، عندما استولى المسلمون في القرن السابع على مصر واجزاء اخرى من الامبراطورية البيزنطية تقع في شمالي افريقيا.
وبعد اقل من قرن صُدمت الكنيسة الغربية لرؤية الاسلام يتقدَّم عبر اسبانيا الى فرنسا، واصلا الى نطاق نحو ١٠٠ ميل من باريس. واهتدى كثيرون من الكاثوليك الاسبان الى الاسلام، فيما تبنى آخرون الآداب الاسلامية واعتنقوا الثقافة الاسلامية. «واذ كدَّرتها خسائرها،» يقول كتاب الاسلام الباكر، «عملت الكنيسة بدون انقطاع بين ابنائها الاسبان لاثارة لهيب الانتقام.»
وبعد عدة قرون، بعدما استرد الكاثوليك الاسبان معظم ارضهم، «قاوموا رعاياهم المسلمين واضطهدوهم دون رحمة. وأرغموهم على انكار ايمانهم، طردوهم من البلد، واتخذوا خطوات شديدة لاستئصال كل اثر للثقافة الاسبانية-الاسلامية.»
بحد السيف
في سنة ١٠٩٥ ناشد البابا اوربان الثاني الكاثوليك الاوروبيين ان يشهروا السيف الحرفي. فكان يلزم نزع الاسلام من الاراضي المقدسة في الشرق الاوسط التي ادَّعى العالم المسيحي ان له حقوقا حصرية فيها.
وفكرة حرب «عادلة» لم تكن جديدة. مثلا، كانت قد جرت الدعوة اليها في قتال المسلمين في اسبانيا وصقلية. وقبل عشر سنوات على الاقل من مناشدة اوربان، يقول كارلفريد فروهليش من معهد پرنستون اللاهوتي، كان البابا غريغوريوس السابع قد «تخيَّل ميليشيا مسيحية لقتال كل اعداء اللّٰه وفكَّر آنذاك في ارسال جيش الى الشرق.»
وعَمَل اوربان كان جزئيا استجابة لاستغاثة الامبراطور البيزنطي الكسيوس. ولكن بما ان العلاقات بين الجزءين الشرقي والغربي من العالم المسيحي بدت في تحسن ربما اندفع البابا ايضا بالامكانية التي يقدمها ذلك لاعادة توحيد الكنيستين الشقيقتين المتنازعتين. وعلى ايّ حال، دعا الى عقد مجمع كليرمون، الذي اعلن ان اولئك الراغبين في الانهماك في هذه المهمة «المقدسة» سيُمنحون غفرانا كاملا (الصفح عن كل عقوبة للخطية). والاستجابة كانت ايجابية على نحو غير متوقع. و «Deus volt» («هذه ارادة اللّٰه») صارت صرخة جمع الشمل في الشرق والغرب.
وبدأت سلسلة من الحملات العسكرية استغرقت الجزء الاعظم من قرنين. (انظروا الاطار في الصفحة ٢٢.) وفي البداية ظن المسلمون ان المقتحمين هم بيزنطيون. ولكن بعد ادراك اصلهم الحقيقي دعوهم فرنجة، الشعب الجرماني الذي اخذت فرنسا اسمها منهم لاحقا. ولمواجهة تحدي هؤلاء «البرابرة» الاوروبيين عظمت المشاعر بين المسلمين من اجل الجهاد، الحرب المقدسة.
ويوضح الاستاذ البريطاني دزموند سْتُووارت: «لكل عالِم او تاجر غرس بزور الحضارة الاسلامية بالقدوة والمثال هنالك جندي كان الاسلام بالنسبة اليه دعوة الى القتال.» وبحلول النصف الثاني للقرن الـ ١٢ كان القائد المسلم نور الدين قد بنى قوة عسكرية فعَّالة بتوحيد المسلمين في شمالي سوريا وأعالي ما بين النهرين. وهكذا «كما شهر مسيحيو القرون الوسطى السلاح لترويج دين المسيح،» يتابع سْتُووارت، «شهر المسلمون السلاح لترويج دين النبي.»
وطبعا، ان ترويج مصالح الدين لم يكن دائما القوة المحرِّكة. وكتاب ولادة اوروبا يذكر انه بالنسبة الى اغلب الاوروبيين فإن الحروب الصليبية «قدمت فرصة لا تقاوَم لكسب الشهرة، او جمع الغنيمة، او نيل املاك جديدة، او حكم بلدان بكاملها — او مجرد الهرب من الملل بالمغامرة المجيدة.» ورأى التجار الايطاليون ايضا فرصة لتأسيس ثغور تجارية في بلاد شرقي البحر الابيض المتوسط. ولكن بصرف النظر عن الدافع كان الجميع كما يظهر على استعداد للموت في سبيل دينهم — سواء كان ذلك في حرب «عادلة» للعالم المسيحي او جهاد اسلامي.
السيف يجلب نتائج غير متوقَّعة
«مع ان الحروب الصليبية كانت موجَّهة ضد المسلمين في الشرق،» تقول دائرة معارف الدين، «فإن غيرة الصليبيين مورست ضد اليهود الذين عاشوا في البلاد التي تجنَّد منها الصليبيون، اي في اوروبا. وكان الحافز الشائع بين الصليبيين الانتقام لموت يسوع، وصار اليهود الضحايا الاوائل. ووقع اضطهاد اليهود في رُووَان في سنة ١٠٩٦، وتبعته بسرعة المذابح في وورمز، ماينتس، وكولون.» ولم يكن ذلك سوى سابقة للروح المعادية للساميّة في ايام المحرقة لالمانيا النازية.
وزادت الحروب الصليبية ايضا توتر الشرق-الغرب الذي كان ينمو منذ سنة ١٠٥٤ عندما حرم بطريرك الشرق ميخائيل كرولاريوس وكردينال الغرب هومبيرت احدهما الآخر على نحو متبادل. وعندما استبدل الصليبيون الكهنة اليونانيين بأساقفة لاتينيين في المدن التي استولوا عليها صار انشقاق الشرق-الغرب يمس عامة القوم.
وصار الانقسام بين الكنيستين كاملا خلال الحرب الصليبية الرابعة عندما قام البابا اينوسَنْت الثالث، استنادا الى كاهن كانتربري الانكليكاني السابق هربرت ودّامس، بِـ «لعبة مزدوجة.» فمن ناحية كان البابا غضبانا بخصوص نهب القسطنطينية. (انظروا الاطار في الصفحة ٢٢.) وكتب: «كيف يمكن التوقع من كنيسة اليونانيين ان تعود الى الاخلاص للكرسي الرسولي عندما ترى اللاتينيين يرسمون مثال الشر ويقومون بعمل ابليس بحيث صار اليونانيون، ولسبب وجيه، يبغضونهم اردأ من الكلاب.» ومن ناحية اخرى، انتهز فورا فرصة الوضع بتأسيس مملكة لاتينية هناك في ظل بطريرك غربي.
وبعد قرنين من القتال المستمر تقريبا كانت الامبراطورية البيزنطية ضعيفة جدا بحيث عجزت عن مقاومة هجمات الاتراك العثمانيين الذين استولوا اخيرا، في ٢٩ ايار ١٤٥٣، على القسطنطينية. ولم يشقّ الامبراطورية مجرد سيف اسلامي بل السيف الذي استعملته ايضا ببراعة الكنيسة في روما شقيقة الامبراطورية. والعالم المسيحي المقسَّم اعطى الاسلام اساسا مناسبا لدخول اوروبا.
سيفا السياسة والاضطهاد
قوَّت الحروب الصليبية مركز البابوية للزعامة الدينية والسياسية. و «اعطت البابوات يد السيطرة في الدبلوماسية الاوروبية،» يكتب المؤرخ جون ه. موندي. وقبل مرور وقت طويل «كانت الكنيسة اعظم حكومة في اوروبا . . .، [قادرة] على ممارسة سلطة سياسية اعظم من اية حكومة غربية اخرى.»
وهذا الارتقاء الى السلطة كان قد صار ممكنا عندما انهارت الامبراطورية الرومانية الغربية. فقد تُركت الكنيسة بصفتها السلطة المُوَحِّدة الوحيدة في الغرب ولذلك بدأت تقوم بدور سياسي في المجتمع اكثر فعالية مما تقوم به الكنيسة الشرقية، التي كانت لا تزال في ذلك الحين تحت سلطة حاكم دنيوي قوي، الامبراطور البيزنطي. وهذه الرِّفعة السياسية التي شغلتها الكنيسة الغربية زادت تصديق ادعائها الاولوية البابوية، فكرة رفضتها الكنيسة الشرقية. وفي حين اقرَّت الكنيسة الشرقية بأن البابا يستأهل الاكرام فإنها لم توافق على حيازته السلطة الاخيرة في العقيدة او السلطان القضائي.
واذ انقادت بالسلطة السياسية والاقتناع الديني المضلَّل تناولت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية السيف لاخماد المقاومة. وصار تصيُّد الهراطقة شغلها الشاغل. وأستاذا التاريخ ميروسلاڤ هروش وآنّا سكايبوڤا من جامعة كارلس في پراڠ، تشيكوسلوڤاكيا، يصفان كيف عملت محاكم التفتيش، المحاكم الخصوصية المصمَّمة للتعامل مع الهرطقة: «بخلاف الممارسة العامة، فإن اسماء المخبِرين . . . لم يكن لازما كشفها.» وفي سنة ١٢٥٢ اصدر البابا اينوسَنْت الرابع البيان الرسمي البابوي «Ad extirpanda» الذي سمح بالتعذيب. «ان الحرق على الخشبة، الطريقة العادية المستعملة لقتل الهراطقة بحلول القرن الـ ١٣، . . . كان له رمزه، دالا على انه بتنفيذ هذا النوع من العقاب لم تكن الكنيسة مذنبة بسفك الدم.»
وعاقب المفتشون عشرات الآلاف من الاشخاص. وآلاف آخرون أُحرقوا على الخشبة، مما قاد المؤرخ ول ديورانت الى التعليق: «مع كل التسامح المطلوب من المؤرخ والمسموح به للمسيحي، لا بد ان نصنِّف محاكم التفتيش . . . بصفتها بين اشد الوصمات قتاما على سجل الجنس البشري، كاشفة شراسة غير معروفة في اي وحش.»
ان حوادث محاكم التفتيش تذكِّر بكلمات بليز پاسكال، الفيلسوف والعالم الفرنسي للقرن الـ ١٧، الذي كتب: «الناس لا يفعلون ابدا الشر بشكل تام وببهجة كبيرة كما عندما يفعلونه عن اقتناع ديني.» وفي الحقيقة ان التلويح بسيف الاضطهاد ضد اشخاص من طائفة دينية مختلفة هو صفة للدين الباطل منذما ضرب قايين هابيل. — تكوين ٤:٨.
مقطَّعة بسيف الشقاق
ان الخلاف القومي والمراوغة السياسية ادَّيا في سنة ١٣٠٩ الى انتقال المقر البابوي من روما الى آڤينيون. وعلى الرغم من ردِّه الى روما في سنة ١٣٧٧، فان نزاعا اضافيا حدث بعد وقت قصير عند اختيار بابا جديد، اوربان السادس. ولكنّ الفريق عينه من الكرادلة الذين انتخبوه انتخبوا ايضا بابا منافسا، كليمنت السابع، الذي استقر في آڤينيون. وصارت الامور مشوَّشة اكثر ايضا في بداية القرن الـ ١٥ عندما حكم لفترة قصيرة من الوقت ثلاثة بابوات معا!
وأنهى هذا الوضعَ المعروف بالانشقاق الكبير، او الغربي، مجمعُ كونستانس. وقد نادى بمبدإ «المجمع المسكوني اكبر من البابا» conciliarism، النظرية بأن السلطة الكنسية الاخيرة تكمن في المجامع المسكونية وليس في البابوية. وهكذا استطاع المجمع في سنة ١٤١٧ ان ينتخب مارتن الخامس كبابا جديد. ومع انها اتَّحدت ثانية، فقد كانت الكنيسة قد أُضعفت على نحو خطير. ولكن رغم الندوب رفضت البابوية الاعتراف بأية حاجة الى الاصلاح. واستنادا الى جون ل. بوجمرا، من معهد القديس ڤلاديمير اللاهوتي الارثوذكسي، فإن هذا الفشل «وضع الاساس لاصلاح القرن السادس عشر.»
هل كانوا يعيشون وفق دينهم؟
علَّم مؤسس المسيحية أتباعه ان يتلمذوا ولكنه لم يقل لهم ان يستعملوا القوة الجسدية في ذلك. وفي الواقع، حذَّر خصوصا ان «كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون.» وعلى نحو مماثل، لم يعلِّم أتباعه ان يسيئوا جسديا الى ايّ امرئ مقاوِم. والمبدأ المسيحي الواجب حفظه هو: «عبد الرب لا يجب ان (يقاتل) بل يكون مترفقا بالجميع صالحا للتعليم صبورا على المشقات مؤدبا بالوداعة المقاومين.» — متى ٢٦:٥٢؛ ٢ تيموثاوس ٢:٢٤، ٢٥.
وباللجوء الى سيف الحرب الحرفي، اضافة الى سيفي السياسة والاضطهاد المجازيين، لم يكن العالم المسيحي على نحو واضح يتبع قيادة الشخص الذي ادَّعى انه مؤسسه. واذ امسى خربا بالشقاق كان مهدَّدا بالانهيار الشامل. لقد كانت الكاثوليكية الرومانية «دينا في أمسّ الحاجة الى الاصلاح.» ولكن هل كان الاصلاح سيأتي؟ اذا كان الامر كذلك، فمتى؟ وممن؟ ان مقالتنا التالية ستخبرنا المزيد.
[الاطار/الصورة في الصفحة ٢٢]
المحاربة المسيحية الحسنة؟
هل كانت الحروب الصليبية المحاربة الحسنة التي عُلِّم المسيحيون ان يحاربوها؟ — ٢ كورنثوس ١٠:٣، ٤؛ ١ تيموثاوس ١:١٨.
الحملة الصليبية الاولى (١٠٩٦-١٠٩٩) انتجت الاستيلاء ثانية على اورشليم وتأسيس الولايات اللاتينية الاربع في الشرق: مملكة اورشليم، امارة الرها، ولاية انطاكية، وامارة طرابلس. وثمة مرجع يستشهد به المؤرخ ه. ج. وَلْز يقول عن الاستيلاء على اورشليم: «كان الذبح رهيبا؛ وجرى دم المغلوبين في الطرقات، الى ان تلطَّخ الرجال بالدم وهم راكبون. وعند حلول الظلام، ‹اذ كانوا يشهقون من فرط الفرح،› اتى الصليبيون الى الضريح المقدس من دوسهم معصرة الخمر، ووضعوا ايديهم الملوثة بالدم معا في الصلاة.»
والحملة الصليبية الثانية (١١٤٧-١١٤٩) ابتدأت بسبب خسارة امارة الرها ووقوعها بين ايدي المسلمين السوريين في سنة ١١٤٤؛ وانتهت عندما صدَّ المسلمون بنجاح «كفَّار» العالم المسيحي.
والحملة الصليبية الثالثة (١١٨٩-١١٩٢)، التي بوشرت بعدما اخذ المسلمون اورشليم ثانية، كان لها كأحد قادتها ريتشارد الاول، «قلب الاسد،» من انكلترا. وسرعان ما «انحلَّت،» تقول دائرة معارف الدين، «بسبب الإنهاك، الشجار، والنقص في التعاون.»
والحملة الصليبية الرابعة (١٢٠٢-١٢٠٤) حُوِّلت بسبب النقص في الاموال من مصر الى القسطنطينية؛ وقد جرى الوعد بالدعم المادي مقابل المساعدة على تنصيب الكسيوس، بيزنطي منفي يدَّعي الحق في التاج. «ان نهب القسطنطينية [الناتج] من قِبل الصليبيين هو شيء لم ينسه او يغفره الشرق الارثوذكسي قط،» تقول دائرة معارف الدين، مضيفة: «اذا كان لا بد من ذكر تاريخ واحد للتأسيس الثابت للانشقاق فإن الاكثر ملاءمة — على الاقل من وجهة نظر نفسية — هو السنة ١٢٠٤.»
وحملة الاولاد الصليبية (١٢١٢) جلبت الموت لآلاف الاولاد الالمان والفرنسيين قبل ان يصلوا حتى الى وجهتهم.
والحملة الصليبية الخامسة (١٢١٧-١٢٢١)، الاخيرة تحت السيطرة البابوية، فشلت بسبب القيادة الفاسدة وتدخل الكهنة.
والحملة الصليبية السادسة (١٢٢٨-١٢٢٩) قادها الامبراطور فريدريك الثاني من ههنستوفن الذي كان البابا غريغوريوس التاسع قد حرمه سابقا.
والحملتان الصليبيتان السابعة والثامنة (١٢٤٨-١٢٥٤، ١٢٧٠-١٢٧٢) قادهما لويس التاسع الفرنسي ولكنهما انهارتا بعد موته في شمالي افريقيا.
[الصورة في الصفحة ٢١]
المدفن اليهودي في وورمز، المانيا — مذكِّر بالحملة الصليبية الاولى
-
-
الجزء ١٦: القرن الـ ٩-ال ١٦ بم — دين في أمسّ الحاجة الى الاصلاحاستيقظ! ١٩٨٩ | تشرين الاول (اكتوبر) ٨
-
-
«الهراطقة» يدعون الى الاصلاح
«ظهرت اول منابت الهرطقة [ضد الكاثوليكية الرومانية] في فرنسا وشمالي ايطاليا نحو السنة ١٠٠٠،» يقول اطلس كولنز لتاريخ العالم. وبعض الاوائل المدعوين هراطقة كانوا هراطقة فقط في عيني الكنيسة. ومن الصعب اليوم الحكم بدقة الى ايّ حد التصق الهراطقة الافراد بالمسيحية الباكرة. ومع ذلك، يظهر ان بعضهم على الاقل كانوا يحاولون ذلك.
في بداية القرن التاسع دان اڠوبار رئيس الاساقفة في ليون عبادة التماثيل والتضرع الى «القديسين.»a وبرنجار رئيس شمامسة تور في القرن الـ ١١ حُرِم لشكِّه في الاستحالة الجوهرية، الادعاء بأن الخبز والخمر المستعملين في القداس الكاثوليكي يتحولان الى الجسد والدم الفعليين للمسيح.b وبعد قرن رفض پيتر دي بروس وهنري اللوزاني معمودية الاطفال وعبادة الصليب.c ولفعلهما ذلك فقد هنري حريته؛ وفقد پيتر حياته.
«بحلول منتصف القرن الثاني عشر كانت مدن اوروبا الغربية ملآنة بشيع الهراطقة،» يروي المؤرخ وِل ديورانت. وأهم هذه الفِرق كان الولدنزيين. وقد كسبوا شهرة في آخر القرن الـ ١٢ في ظل التاجر الفرنسي پيير ڤالديه (پيتر ولدو). وبين امور اخرى خالفوا الكنيسة في عبادة مريم، الاعتراف للكهنة، القداديس للاموات، صكوك الغفران البابوية، العزوبة الكهنوتية، واستعمال الاسلحة الدنيوية.d وانتشرت الحركة بسرعة في كل فرنسا وشمالي ايطاليا، اضافة الى الفلاندر، المانيا، النمسا، وبوهيميا (تشيكوسلوڤاكيا).
وفي هذه الاثناء، في انكلترا، كان عالِم اوكسفورد جون ويكْلِف، الذي صار معروفا لاحقا بِـ «نجم صبح الاصلاح الانكليزي،» يدين ‹هيئة الكهنوت الممسكة بالسلطة› للقرن الـ ١٤. وبترجمة كامل الكتاب المقدس بالانكليزية جعله هو ورفقاؤه متوافرا عموما للمواطنين العاديين لاول مرة. وسُمي أتباع ويكْلِف اللولارد. وكرز اللولارد علنا، موزعين نشرات وأجزاء من الكتاب المقدس. ومثل هذا التصرف «الهرطوقي» لم يلائم الكنيسة.
انتشرت افكار ويكْلِف خارج البلاد. وفي بوهيميا استحوذت على انتباه جون هَس، رئيس جامعة پراڠ. وشكَّ هَس في شرعية البابوية وأنكر ان تكون الكنيسة قد تأسست على بطرس.e وبعد مناظرة بشأن بيع صكوك الغفران حوكم هَس بتهمة الهرطقة وأُحرق على الخشبة في سنة ١٤١٥. وبحسب التعليم الكاثوليكي فإن صكوك الغفران تدبير يمكن بواسطته الصفح جزئيا او كليا عن العقاب على الخطايا، وبالتالي تقصير او الغاء الفترة الزمنية التي يعاني خلالها الشخص عقابا وتطهيرا وقتيين في المطهر قبل دخول السماء.
واستمرت الدعوات الى الاصلاح. وتحسَّر جيرولامو ساڤونَرولا، كارز دومينيكي ايطالي، في القرن الـ ١٥: ‹البابوات والمطارنة يتكلمون على الكبرياء والطموح، وهم منغمسون فيهما حتى آذانهم. يكرزون بالعفة ويحتفظون بالحظايا. لا يفكرون إلا في العالم والامور العالمية؛ ولا يهتمون ابدا بالانفس.› وحتى الكرادلة الكاثوليك ادركوا المشكلة. وفي سنة ١٥٣٨، في مذكرة الى البابا بولس الثالث، لفتوا انتباهه الى الاساءات الابرشية، المالية، القضائية، والادبية. ولكنّ البابوية فشلت في صنع الاصلاحات اللازمة على نحو واضح، وهذا حرَّض على الاصلاح الپروتستانتي. والقادة الاوائل شملوا مارتن لوثر، هولدْرايخ زوينڠلي، وجون كالڤن.
لوثر و ‹بينڠو القرن الـ ١٦›
في ٣١ تشرين الاول ١٥١٧ اشعل لوثر العالم الديني عندما هاجم بيع صكوك الغفران بتسمير قائمة من ٩٥ نقطة احتجاج على باب الكنيسة في ويتينبرڠ.
وبيع صكوك الغفران نشأ خلال الحملات الصليبية عندما أُنعِم بها على المؤمنين الراغبين في المخاطرة بحياتهم في حرب «مقدسة.» وفي وقت لاحق مُنحت للناس الذين يقدمون دعما ماليا للكنيسة. وسرعان ما صارت صكوك الغفران طريقة ملائمة لجمع المال لبناء الكنائس، الاديرة، او المستشفيات. «ان ابرز الانصاب التذكارية للقرون الوسطى مُوِّلت بهذه الطريقة،» يقول استاذ التاريخ الديني رولان بينتون، مسمِّيا صكوك الغفران «بينڠو القرن السادس عشر.»
وبلسانه السليط الذي صار شهيرا به سأل لوثر: «اذا كانت للبابا سلطة اطلاق ايّ شخص من المطهر [على اساس صكوك الغفران]، فلماذا باسم المحبة لا يلغي المطهر باخراج الجميع؟» وعندما طُلب منه التبرع بالمال لمشروع بناء روماني ردّ على نحو مفحِم بأن البابا «يجدر به ان يبيع كاتدرائية القديس بطرس ويعطي المال للقوم الفقراء الذين يسلبهم باعة صكوك الغفران.»
وهاجم لوثر ايضا معاداة الساميّة عند الكاثوليك ناصحا: «يجب ان نستعمل نحو اليهود لا ناموس المحبة الذي للبابا بل الذي للمسيح.» وعن عبادة الذخائر قال ساخرا: «يدَّعي شخص انه يملك ريشة من جناح الملاك جبرائيل، وأسقف ماينْتس يملك لهيبا من عليقة موسى المشتعلة. وكيف يحدث ان ثمانية عشر رسولا هم مدفونون في المانيا في حين ان المسيح كان له اثنا عشر فقط؟»
واستجابت الكنيسة لهجمات لوثر بالحرم. والامبراطور الروماني المقدس شارل الخامس، اذ رضخ للضغط البابوي، وضع لوثر تحت الحظر. وخلق ذلك جدلا حتى ان المجلس النيابي لاوڠسبورڠ دُعي في سنة ١٥٣٠ الى مناقشة المسألة. وفشلت الجهود للتسوية، ولذلك صدر تصريح اساسي بالايمان العقائدي اللوثري. واذ دُعي إقرار اوڠسبورڠ كان بمثابة اعلان ولادة لاول كنيسة للپروتستانتية.f
زوينڠلي ولوثر يختلفان
شدَّد زوينڠلي على الكتاب المقدس بصفته المرجع النهائي والوحيد للكنيسة. ومع انه تشجع بمثال لوثر، فقد عارض تسميته لوثريا، قائلا انه قد تعلَّم تعليم المسيح من كلمة اللّٰه، لا من لوثر. وفي الواقع، اختلف هو ولوثر في عناصر معيَّنة لعشاء الرب وكذلك في العلاقة اللائقة للمسيحي بالسلطات المدنية.
التقى المصلِحان مرة واحدة فقط، في سنة ١٥٢٩، في ما يدعوه كتاب ازمة الاصلاح «نوعا من مؤتمر قمة ديني.» ويقول الكتاب: «لم يفترق الرجلان صديقين، ولكنّ . . . بيانا صدر في آخر المؤتمر، وقَّعه كل المشاركين، أخفى بمهارة مقدار الصدع.»
وكانت لزوينڠلي ايضا مشاكل مع أتباعه هو. وفي سنة ١٥٢٥ انفصل فريق، مخالفا اياه في قضية سلطة الدولة على الكنيسة، التي أكَّدها هو وأنكروها هم. واذ دُعوا مجدِّدي المعمودية Anabaptists اعتبروا معمودية الاطفال اجراء شكليا بلا فائدة، قائلين ان المعمودية هي فقط للمؤمنين الراشدين. وقاوموا ايضا استعمال الاسلحة الدنيوية حتى في الحروب المدعوة عادلة. وقُتل آلاف منهم بسبب معتقداتهم.
دور كالڤن في الاصلاح
يعتبر كثيرون من العلماء كالڤن اعظم المصلحين. فقد اصرَّ على رجوع الكنيسة الى المبادئ الاصلية للمسيحية. ولكنّ احد تعاليمه الرئيسية، المصير المقدَّر، هو مُذَكِّر بالتعاليم في اليونان القديمة، حيث قال الرواقيون ان زيوس يقرر كل الاشياء وان الناس يجب ان يُذعنوا لما لا بد منه. فالعقيدة من الواضح انها غير مسيحية.
وخلال ايام كالڤن صار الپروتستانت الفرنسيون معروفين بالهوڠونوت، وجرى اضطهادهم بقسوة. وفي فرنسا، ابتداء من ٢٤ آب ١٥٧٢، في مذبحة عيد القديس برثولماوس، ضربت القوات الكاثوليكية آلافا منهم، اولا في باريس وبعدئذ في كل البلد. ولكنّ الهوڠونوت ايضا شهروا السيف وكانوا مسؤولين عن قتل كثيرين خلال الحروب الدينية الدموية في الجزء الاخير من القرن الـ ١٦. وهكذا اختاروا ان يتجاهلوا الامر الذي اعطاه يسوع: «احبوا اعداءكم . . . وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم.» — متى ٥:٤٤.
وكان كالڤن قد رسم المثال، مستعملا اساليب لترويج اقتناعاته الدينية وصفها رجل الدين الپروتستانتي الراحل هاري امرسون فوزديك بأنها عديمة الشفقة وفظيعة. فتحت القانون الكنسي الذي ادخله كالڤن الى جنيف، أُعدم ٥٨ شخصا ونُفي ٧٦ في غضون اربع سنوات؛ وبحلول نهاية القرن الـ ١٦ كان ما يقدَّر بـ ١٥٠ قد أُحرقوا على الخشبة. وأحد هؤلاء كان ميخائيل سرڤيتوس، طبيب ولاهوتي اسباني رفض عقيدة الثالوث، صائرا بذلك «هرطوقي» الانسان العادي. والسلطات الكاثوليكية احرقت تمثالا له؛ وخطا الپروتستانت خطوة بارزة اضافية بحرقه على الخشبة.
وأخيرا، ‹واقع مخيف›
في حين وافقوا لوثر من حيث المبدأ فإن بعض المدَّعين انهم مصلحون احجموا. وكان احدهم العالم الهولندي ديزيديريوس ايرازموس. ففي سنة ١٥١٦ صار اول من ينشر «العهد الجديد» باليونانية الاصلية. «كان مُصلِحا،» تقول المطبوعة «مجلة أدِنْبره،» «الى ان صار الاصلاح واقعا مخيفا.»
ولكنّ آخرين اندفعوا مع الاصلاح، وفي المانيا واسكنديناڤيا انتشرت اللوثرية بسرعة. وفي سنة ١٥٣٤ انفصلت انكلترا عن السيطرة البابوية. وسرعان ما تبعتها اسكتلندا تحت قائد الاصلاح جون نوكس. وفي فرنسا وپولندا لاقت الپروتستانتية اعترافا شرعيا قبل نهاية القرن الـ ١٦.
نعم، كما عبَّر عن ذلك ڤولتير على نحو ملائم، «كل اساءة يجب ان يجري اصلاحها.» ولكنّ ڤولتير اضاف الكلمات المحدِّدة، «إلا اذا كان الاصلاح اخطر من الاساءة عينها.»
-