مكتبة برج المراقبة الإلكترونية
برج المراقبة
المكتبة الإلكترونية
العربية
  • الكتاب المقدس
  • المطبوعات
  • الاجتماعات
  • رومانيا
    الكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٦
    • الستار الحديدي يطوِّق رومانيا

      في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏ ١٩٤٦،‏ اي قبل عام من زيارة ألفرايت روتيمان،‏ تسلّم الشيوعيون زمام السلطة في رومانيا.‏ وخلال السنوات القليلة التالية،‏ ازال حزبهم كل آثار المقاومة وسرّع عملية إخضاع البلاد للسيطرة السوفياتية،‏ بحيث تبعت المؤسسات الثقافية والسياسية النهج السوفياتي.‏

      استغل الاخوة كاملا الهدوء الذي يسبق العاصفة وطبعوا مئات الآلاف من المجلات والكراريس وغيرها من المطبوعات،‏ ووزّعوها على ٢٠ مخزنا في كل أرجاء البلاد.‏ وكثّف كثيرون نشاطهم وانخرط آخرون في عمل الفتح،‏ مثل ميهاي نيستور وڤاسيلي سابادَش.‏

      عُيِّن ميهاي في وسط وشمال غرب ترانسيلڤانيا حيث واصل عمل الفتح حتى بعد فرض الحظر الشيوعي.‏ ففي تلك الفترة،‏ لاحقه المقاومون مدة طويلة بنيَّة القبض عليه.‏ ولكن كيف تجنَّب الوقوع في قبضتهم؟‏ يروي:‏ «صنعت حقيبة تشبه تلك التي يستعملها باعة النوافذ ولبست ثياب العمل وحملت معي عدّة وبعض اطارات النوافذ.‏ ورحت اسير في ساحات القرى والبلدات في مقاطعتي.‏ وحين كنت ألمح الشرطة او اي شخص يثير الشكوك،‏ كنت أنادي بأعلى صوتي ان لديّ نوافذ للبيع.‏ واستعمل اخوة آخرون اساليب متعددة لتضليل المقاومين.‏ ومع ان عملنا جلب لنا فرحا كبيرا،‏ فقد شكّل خطرا علينا وعلى العائلات التي استقبلتنا في بيوتها.‏ لكنَّ فرحنا كان يزداد برؤية تلاميذ الكتاب المقدس يتقدمون وينضمون الى صفوف الناشرين المتزايدة».‏

      وواصل ڤاسيلي سابادَش ايضا خدمة الفتح رغم اضطراره في كثير من الاحيان الى التنقل بين عدة مناطق.‏ وقد لعب دورا بارزا في معرفة اماكن الاخوة الذين شتّتتهم «السيكيوريتات»،‏ القوى التي شكّلت الجزء الاهم في الشبكة الامنية الكبيرة التابعة للنظام الشيوعي الجديد.‏ كما انه ساهم مساهمة فعالة في تقديم العون لهؤلاء الاخوة.‏ قال ڤاسيلي:‏ «كان عليّ ان أتّصف بالحذر وأبتكر اساليب جديدة لكيلا يلقوا القبض عليّ.‏ مثلا،‏ حين اردت التوجه الى ناحية اخرى من البلاد،‏ كنت ابحث دوما عن حجة مقنعة تبرِّر سفري.‏ فقد ادّعيت مرة ان الطبيب وصف لي علاجا في احد المنتجعات الصحية.‏

      ‏«وإذ أبعدت الشبهات عني،‏ استطعت ايجاد سبل اكثر تنظيما للاتصال بين الاخوة بحيث يتلقّون بانتظام الطعام الروحي.‏ وكان شعاري كلمات اشعيا ٦:‏٨ التي تقول ‹هأنذا أرسلني› ومتى ٦:‏٣٣ التي تحثّنا ان ‹نداوم اولا على طلب الملكوت›.‏ وقد منحتني هاتان الآيتان فرحا وقوة مكّناني من مواصلة عملي».‏ وبالفعل،‏ كان ڤاسيلي سيحتاج الى هاتين الصفتين.‏ فرغم حذره الشديد،‏ ألقت الشرطة القبض عليه اخيرا على غرار كثيرين من الاخوة.‏

      هجمات عنيفة على هيئة اللّٰه

      بحلول سنة ١٩٤٨،‏ ازدادت صعوبة الاتصال بالمركز الرئيسي العالمي.‏ فلجأ الاخوة في كثير من الاحيان الى استعمال البطاقات البريدية لكتابة رسائل تحتوي على ألغاز.‏ مثلا،‏ في ايار (‏مايو)‏ ١٩٤٩،‏ بعث مارتن ماجروشي رسالة كتبها پيتره رانكا الذي كان يعمل في مكتب بخارست.‏ وقد جاء فيها:‏ «جميع افراد العائلة بخير.‏ لكنَّ عاصفة هوجاء هبّت في المنطقة واشتد البرد كثيرا،‏ فلم نتمكن من العمل في الحقل».‏ وكتب اخ آخر في وقت لاحق ان «العائلة لا تستطيع ان تتلقى الحلويات» وأن «كثيرين يعانون من المرض».‏ وعنى بذلك انه لا مجال لإرسال الطعام الروحي الى رومانيا،‏ وأن كثيرين من الاخوة وُضعوا في السجن.‏

      وفي ٨ آب (‏اغسطس)‏ ١٩٤٩،‏ صدر قرار عن وزارة العدل يقضي بإقفال مكتب بخارست والاماكن السكنية ومصادرة كل التجهيزات،‏ بما فيها الممتلكات الشخصية.‏ وفي السنوات اللاحقة،‏ أُلقي القبض على مئات الاخوة وصدر في حقّهم العديد من الاحكام.‏ في ظل الحكم الفاشي،‏ كان شهود يهوه يُتَّهمون بأنهم شيوعيون،‏ ولكن حين استلم النظام الشيوعي السلطة،‏ اتُّهموا بأنهم «امبرياليون» و «مروِّجون للدعاية الاميركية».‏

      اندسّ الجواسيس والمخبرون في كل مكان.‏ يخبر الكتاب السنوي لعام ١٩٥٣ ان الاجراءات التي اتّخذها الشيوعيون كانت «جدّ صارمة حتى ان كل مَن كان يتلقى في رومانيا رسالة من الغرب يوضَع اسمه على اللائحة السوداء ويخضع لمراقبة مشدَّدة».‏ ويضيف التقرير:‏ «الرعب السائد هنا يفوق كل التصورات.‏ حتى افراد العائلة نفسها فقدوا ثقتهم واحدهم بالآخر.‏ لقد ذهبت حريتنا أدراج الرياح».‏

      في مستهلّ سنة ١٩٥٠،‏ قُبض على پامفيل ويِلينا ألبو وپيتره رانكا ومارتن ماجروشي وكثيرين غيرهم،‏ واتُّهموا زورا بأنهم جواسيس للغرب.‏ وخضع البعض للتعذيب لعلّهم يفشون معلومات سرية ويعترفون بأنهم «جواسيس».‏ لكنَّ الامر الوحيد الذي اعترفوا به هو انهم يعبدون يهوه ويروِّجون مصالح ملكوته.‏ وبعد العذاب المرير الذي عانوه،‏ زُجّ ببعض الاخوة في السجن وأُرسل البعض الآخر الى معسكرات الاشغال الشاقة.‏ ولكن كيف كان تأثير موجة الاضطهاد هذه على عملنا؟‏ في تلك السنة عينها،‏ اي سنة ١٩٥٠،‏ شهدت رومانيا زيادة في عدد الناشرين بلغت ٨ في المئة!‏ فيا لهذه الزيادة من دليل دامغ على قوة روح اللّٰه!‏

      أُرسل الاخ ماجروشي الذي كان في اواخر ستيناته الى سجن ڠيرلا في ترانسيلڤانيا حيث مات في اواخر سنة ١٩٥١.‏ ذكر احد التقارير:‏ «لقد عانى الأمرَّين في سبيل الحق،‏ وخصوصا منذ اعتقاله في كانون الثاني (‏يناير)‏ ١٩٥٠.‏ اما الآن فقد انتهت آلامه هذه».‏ نعم،‏ احتمل الاخ مارتن طوال ٢٠ سنة تقريبا الهجمات الوحشية التي شنّها رجال الدين والفاشيون والشيوعيون.‏ ومثاله في الامانة يذكّرنا بكلمات الرسول بولس:‏ «جاهدت الجهاد الحسن،‏ أنهيت الشوط،‏ حفظت الايمان».‏ (‏٢ تيموثاوس ٤:‏٧‏)‏ ومع ان زوجته ماريا لم تُسجن،‏ فقد رسمت هي ايضا مثالا رائعا للاحتمال في وجه المحن.‏ وصفها احد الاخوة بأنها «اخت ذكية كرّست نفسها كاملا لعمل الرب».‏ وبعد اعتقال مارتن،‏ اعتنى بها اقرباؤها،‏ بمن فيهم ابنتها المتبناة مَريوارا التي امضت فترة في السجن ثم أُطلق سراحها في خريف سنة ١٩٥٥.‏

      ‏«شهود يهوه شعب جدير بالثناء»‏

      اصدرت الحكومة سنة ١٩٥٥ عفوا عاما شمل معظم الاخوة.‏ لكنَّ هذه الحرية لم تعمّر طويلا.‏ فبين السنة ١٩٥٧ و ١٩٦٤،‏ جرت ملاحقة شهود يهوه ثانية واعتُقل كثيرون منهم،‏ حتى ان البعض حُكم عليهم بالسجن المؤبَّد.‏ لكنَّ هؤلاء الاخوة السجناء لم يستسلموا لليأس بل شجّعوا بعضهم بعضا على البقاء ثابتين،‏ الامر الذي جعلهم يُعرَفون بمبادئهم وأمانتهم.‏ يتذكر احد السجناء السياسيين:‏ «شهود يهوه شعب جدير بالثناء،‏ فهم لا يستسلمون تحت الضغط وينكرون دينهم».‏ وأضاف ان الشهود الذين اعتُقلوا معه اعتُبروا «السجناء الاكثر حظوة».‏

      صدر عفو آخر سنة ١٩٦٤،‏ لكنه كان ايضا قصير الامد لأن الاعتقالات الجَماعية ازدادت بين السنتين ١٩٦٨ و ١٩٧٤.‏ كتب احد الاخوة:‏ «اننا نتعرّض للتعذيب والاهانات لأننا ننشر البشارة.‏ نناشدكم ان تذكروا دوما في صلواتكم اخوتنا المسجونين.‏ نحن نعلم ان كل هذا امتحان علينا ان نحتمله،‏ وسنمضي قدُما بكل شجاعة في عمل الكرازة بالبشارة الذي أنبأت به متى ٢٤:‏١٤‏.‏ لكننا مرة ثانية نرجوكم من كل قلوبنا الّا تنسونا ابدا!‏».‏ وكما سنرى لاحقا،‏ استجاب يهوه الصلوات المخلصة التي قدَّمها اولياؤه بدموع،‏ وقوّاهم بطرائق متنوعة.‏

      الشيطان يزرع بذور الشك

      لا يكتفي ابليس بمحاربة خدام اللّٰه من الخارج بل يهاجمهم من الداخل ايضا.‏ مثلا،‏ بعد ان خرج من السجن سنة ١٩٥٥ بعض الاخوة الذين كانوا قبل اعتقالهم يشغلون مراكز اشراف في الجماعة،‏ لم ينالوا مجددا امتيازاتهم السابقة.‏ فاغتاظوا وراحوا يزرعون بذور الخلافات بين الاخوة.‏ فيا له من امر محزن ان يسقط هؤلاء الاخوة في فخ الكبرياء بعد ان وقفوا بثبات الى جانب الحق عندما كانوا في السجن!‏ حتى ان واحدا على الاقل من الاخوة البارزين وصل به الامر الى حدّ التعاون مع السيكيوريتات خوفا من العقاب.‏ فألحق اذى كبيرا بالاخوة الامناء وبعمل الكرازة.‏ —‏ متى ٢٤:‏١٠‏.‏

      واجه شعب اللّٰه ايضا مشكلة الاختلاف في وجهات النظر حول مسائل تعود الى الضمير.‏ مثلا،‏ عند اعتقال الاخوة،‏ غالبا ما سُمح لهم ان يختاروا بين السجن والعمل في مناجم الملح.‏ لكنَّ بعض الاخوة اعتبروا ان الذين انتقوا الخيار الثاني يسايرون على مبادئ الكتاب المقدس.‏ واعتقد آخرون انه لا يليق بالاخوات ان يستعملن مستحضرات التجميل،‏ ولا يجوز ان يذهب المسيحيون الى السينما او المسرح،‏ او حتى ان يقتنوا جهاز راديو.‏

      لكنَّ الوجه الايجابي هو ان الاخوة عموما لم تغب عن بالهم قط القضية الاكثر اهمية:‏ ضرورة المحافظة على ولائهم للّٰه.‏ وقد ظهر ذلك بشكل جليّ في تقرير سنة الخدمة ١٩٥٨ الذي اظهر ان ٢٨٨‏,٥ ناشرا اشتركوا في خدمة الحقل بزيادة عن السنة الفائتة تخطّت الالف شخص.‏ كما حضر الذِّكرى ٥٤٩‏,٨ واعتمد ٣٩٥ شخصا.‏

      بدأ امتحان آخر سنة ١٩٦٢ بعد ان اوضحت برج المراقبة ان ‹السلطات الفائقة› المذكورة في روما ١٣:‏١ هي السلطات الحكومية البشرية وليس يهوه اللّٰه ويسوع المسيح كما كان الاخوة يظنون سابقا.‏ ولكن بما ان كثيرين في رومانيا عانوا الأمرَّين على يد الحكام المستبدين،‏ صعُب عليهم تقبُّل المفهوم الجديد.‏ حتى ان البعض ظنّوا حقا ان هذه الفكرة هي خدعة ماكرة من تلفيق النظام الشيوعي،‏ وأن الهدف منها جعلهم يقدِّمون للدولة خضوعهم التام،‏ وذلك بعكس المبدإ في متى ٢٢:‏٢١‏.‏

      تحدث احد الاخوة مع رفيق شاهد كان قد سافر الى برلين وروما وغيرهما من المدن.‏ يتذكر:‏ «اكَّد لي هذا الاخ ان المفهوم الجديد ليس خدعة من ابتكار الشيوعيين،‏ بل جزء من الطعام الروحي الذي يزوِّدنا به صف العبد.‏ رغم ذلك بقيت متردِّدا في تقبُّل الفكرة.‏ فسألت ناظر كورتنا ماذا يجب ان نفعل الآن».‏

      فأجاب:‏ «ما علينا إلّا ان نواصل العمل بدأب —‏ هذا ما يجب ان نفعله».‏

      ‏«كانت هذه النصيحة في محلها.‏ وأنا سعيد لأنني لا ازال ‹أواصل العمل بدأب›».‏

      رغم العقبات الكبيرة في الاتصال،‏ بذل الاخوة في المركز الرئيسي العالمي والفرع المشرف على العمل في رومانيا كل ما في وسعهم لإطلاع الاخوة دائما على الحقائق التي تتضح لهم ومساعدتهم على العمل معا كعائلة روحية موحَّدة.‏ ولتحقيق هذا الهدف،‏ كتب الاخوة رسائل وأعدّوا مقالات ملائمة نُشرت في خدمتنا للملكوت.‏

      ولكن كيف كان الطعام الروحي يصل الى شعب يهوه؟‏ كان لدى كل عضو في لجنة البلد وسيلة سرية للاتصال بالنظار الجائلين وشيوخ الجماعات.‏ وهذه الاتصالات كانت تتم من خلال سعاة مؤتمَنين حملوا ايضا الرسائل والتقارير من وإلى المكتب في سويسرا.‏ وهكذا استطاع الاخوة ان ينالوا على الاقل بعض الطعام الروحي والتوجيهات الثيوقراطية.‏

      وعمل الاخوة والاخوات الاولياء بكل اجتهاد على تعزيز روح الانسجام في جماعاتهم وفرقهم.‏ وكان احدهم الاخ يوسيف جوكان الذي طالما ردّد الكلمات التالية:‏ «لا أمل لنا بالنجاة من هرمجدون ما لم نستمر في تناول الطعام الروحي بانتظام ونبقَ على اتصال وثيق ‹بالأم›».‏ وكان بذلك يشير الى البقاء على اتصال بالجزء الارضي من هيئة يهوه.‏ حقا،‏ كان هؤلاء الاخوة عونا كبيرا لشعب اللّٰه وحصنا منيعا في وجه كل مَن حاول تمزيق وحدتهم.‏

      تكتيك العدو

      سعى الشيوعيون الى إضعاف ايمان خدام يهوه او إرغامهم على الخضوع.‏ ولتحقيق هدفهم هذا،‏ لجأوا الى طرائق عديدة مثل الجواسيس،‏ الاخوة الخونة،‏ التعذيب،‏ الدعاية الكاذبة،‏ والتهديد بالموت.‏ وكان هؤلاء الجواسيس والمخبرون من بين الجيران وزملاء العمل والمرتدين وأعضاء العائلة،‏ بالاضافة الى عملاء السيكيوريتات.‏ وقد تسلل هؤلاء العملاء الى الجماعات بالاعراب عن اهتمام بالحق وتعلُّم التعابير الثيوقراطية.‏ فألحق هؤلاء ‹الاخوة الدجالون› اذى بالغا بالاخوة وكانوا السبب وراء العديد من الاعتقالات.‏ وأحد هؤلاء هو شاڤو ڠابور الذي تولى مركز مسؤولية في الجماعة،‏ لكنَّ أمره افتُضح سنة ١٩٦٩.‏ —‏ غلاطية ٢:‏٤‏.‏

      وعمد عملاء الدولة ايضا الى التجسس على الافراد والعائلات بدسّ اجهزة تنصُّت في بيوتهم.‏ يقول تيموتاي لازَر:‏ «فيما كنت مسجونا بسبب حيادي المسيحي،‏ استدعت السيكيوريتات تكرارا والديّ وأخي الاصغر الى مركزهم الرئيسي حيث استُجوبوا ست ساعات تقريبا.‏ وفي احدى هذه المرات،‏ زرعت السيكيوريتات بيتنا بجهازَي تنصُّت.‏ في تلك الامسية،‏ لاحظ اخي الذي يعمل في مجال الكهرباء ان العداد الكهربائي يدور بسرعة غير اعتيادية.‏ وعندما تفحص المكان وجد الجهازَين.‏ فصوّرهما ثم انتزعهما من مكانهما.‏ وفي الغد،‏ أتى عملاء السيكيوريتات وسألوا عن ‹لُعبتَيهم›،‏ وكانوا يقصدون بذلك الجهازين اللذين زرعوهما في بيتنا».‏

      غالبا ما اتت الدعاية الكاذبة على شكل مقالات أُعدّت في بلدان شيوعية اخرى وأُعيد نشرها من جديد في رومانيا.‏ مثلا،‏ ثمة مقالة تحمل العنوان «البدعة اليهوهية ومواصفاتها الرجعية» كانت مقتبَسة من صحيفة روسية.‏ وقد اتهمت شهود يهوه بأنهم يتمتعون «بمواصفاتِ منظمة سياسية نموذجية» هدفها «القيام بنشاطات تخريبية في البلدان الاشتراكية».‏ كما حثّت القراء ان يشوا بكل مَن يروِّج تعاليم الشهود.‏ لكنّ هذه الدعاية السياسية كانت في نظر الاشخاص العميقي التفكير اعترافا ضمنيا بفشل المقاومين،‏ لأنها كشفت للجميع ان شهود يهوه ما زالوا افرادا ناشطين لا يلزمون الصمت ابدا.‏

      عندما كان عملاء السيكيوريتات يلقون القبض على احد الاخوة او الاخوات،‏ كانوا يعاملونه بوحشية كبيرة متّبعين اساليب متقنة للتعذيب.‏ فبغية إرغام الضحايا على التكلم،‏ لجأوا الى استعمال مواد كيميائية تؤثر على العقل والجهاز العصبي.‏ يروي سامويلا بَرَيان الذي وقع ضحية هذا التعذيب:‏ «بعد ان باشروا تحقيقهم معي،‏ أجبروني على تناول عقاقير تؤذي اكثر من الضرب.‏ وسرعان ما لاحظت انني لست على ما يُرام.‏ فلم اعد استطيع السير بشكل قويم او صعود السلالم.‏ ثم أُصبت بأرق مزمن ولم اعد قادرا على التركيز وصرت اتلعثم في الكلام.‏

      ‏«تدهورت حالتي الصحية اكثر فأكثر.‏ وبعد شهر تقريبا،‏ فقدت حاسة الذوق وأُصيب جهازي الهضمي بأذى بالغ وصرت اشعر بأن كل مفاصلي مخلَّعة.‏ ويا للألم المبرِّح الذي احسست به!‏ كما ان قدميَّ صارتا تتصببان عرقا حتى ان حذائي بلي خلال شهرين واضطررت الى رميه.‏ وأثناء الاستجواب،‏ كان المحقِّق يصرخ في وجهي قائلا:‏ ‹لماذا تستمر في الكذب؟‏ ألا ترى ما آلت اليه حالك؟‏›.‏ اردت ان انفجر غضبا لكنني بذلت كل ما في وسعي لأحافظ على رباطة جأشي».‏ مع الوقت،‏ تعافى الاخ بَرَيان كاملا من المشاكل الصحية التي عانى منها خلال محنته هذه.‏

      ولجأت السيكيوريتات ايضا الى التعذيب العقلي.‏ يتذكر ألِكسا بويتشوك:‏ «أصعب ليلة مرّت علي حين أيقظوني من النوم وأخذوني الى صالة حيث استطعت سماع صوت اخ يتعرّض للضرب.‏ ثم سمعت بكاء احدى الاخوات وبعد ذلك صوت امي.‏ كنت افضّل الضرب على احتمال هذا النوع من التعذيب».‏

      أخبرت الشرطة الإخوة انها ستعفي عنهم اذا أفشوا اسماء الشهود الآخرين بالاضافة الى زمان ومكان الاجتماعات.‏ كما حثّت الزوجات على التخلّي عن ازواجهن المسجونين لكي يحظى اولادهن بمستقبل افضل.‏

      وبما ان الدولة كانت قد استولت على املاك العديد من الاخوة،‏ اضطروا الى العمل في مزارع تعاونية تشرف عليها الدولة.‏ لم يكن العمل هناك سيئا جدا،‏ ولكن وجب على الرجال ان يحضروا الاجتماعات السياسية التي كانت تُعقَد تكرارا.‏ والرجال الذين لم يحضروها تعرّضوا للسخرية ودُفع لهم اجر زهيد جدا.‏ ولا شك ان هذا الوضع كان صعبا جدا على شهود يهوه الذين لا يشتركون في الاجتماعات والنشاطات السياسية.‏

      وبالاضافة الى ذلك،‏ كان عملاء الحكومة يقتحمون بيوت الشهود ويستولون على الممتلكات الشخصية،‏ وخصوصا الاشياء التي يمكن بيعها.‏ وفي منتصف الشتاء،‏ غالبا ما حطّموا المواقد التي شكّلت المصدر الوحيد للتدفئة في البيوت.‏ ولِم كل هذه الوحشية؟‏ لأن المواقد،‏ كما ادّعوا،‏ هي مخابئ آمنة للمطبوعات.‏ رغم كل ذلك،‏ لا شيء كان سيسكت الاخوة.‏ فحتى الذين احتملوا الاساءات والحرمان في السجون ومعسكرات العمل الالزامي،‏ كما سنرى الآن،‏ واظبوا على الشهادة ليهوه وتشجيع واحدهم الآخر.‏

      تسبيح يهوه في المعسكرات والسجون

      بالاضافة الى السجون،‏ كان هنالك في رومانيا ثلاثة معسكرات كبيرة للعمل الالزامي:‏ الاول في دلتا الدانوب،‏ الثاني في جزيرة براييلا الكبرى،‏ والثالث في القناة التي تصل الدانوب بالبحر الاسود.‏ ومنذ بداية الحكم الشيوعي،‏ غالبا ما وجد الشهود انفسهم مسجونين الى جانب مضطهِديهم السابقين الذين اعتُقلوا بسبب علاقتهم بالنظام المنحلّ.‏ وذات مرة،‏ وجد ناظر دائرة نفسه برفقة ٢٠ كاهنا!‏ ولا حاجة الى القول ان هؤلاء المعتقَلين أثاروا الكثير من المحادثات الشيّقة التي دارت خلف جدران ذلك السجن.‏

      على سبيل المثال،‏ دارت ذات مرة في احد السجون محادثة مطوَّلة بين احد الاخوة وبروفسور في اللاهوت كان في السابق يمتحن المرشحين للانضمام الى الكهنوت.‏ وسرعان ما اكتشف الاخ ان البروفسور يكاد لا يعرف شيئا عن الكتاب المقدس.‏ وكان بين المسجونين هناك احد القواد في جيش النظام السابق.‏

      فسأل القائد البروفسور:‏ «كيف يُعقَل ان يعرف مجرد ‹حرفيين بسطاء› الكتاب المقدس اكثر مما تعرفه انت؟‏».‏

      فأجاب البروفسور:‏ «نحن لا نتعلم في معاهد اللاهوت الكتاب المقدس بل التقاليد الكنسية وأمورا مشابهة».‏

      لم يَرُق الجواب للقائد فقال له:‏ «لقد وثقنا بما لديكم من معرفة،‏ لكنني أرى الآن اننا وبكل أسف في ضلال تام».‏

      ومع الوقت،‏ نال عدد من السجناء المعرفة الدقيقة للحق ونذروا حياتهم ليهوه.‏ وكان بينهم رجل أُدين بتهمة السرقة وحُكم عليه بالسجن ٧٥ سنة.‏ وقد قام هذا الرجل بتغييرات جذرية في شخصيته لفتت انتباه المسؤولين في السجن.‏ فأوكلوا اليه عملا جديدا لا يُعطى عادة لشخص سُجن بسبب السرقة.‏ فكان يقصد البلدة وحده ويبتاع الاغراض اللازمة للسجن.‏

      كانت الحياة في السجن صعبة جدا والطعام قليلا للغاية.‏ حتى ان السجناء كانوا يطلبون ألّا تُقشَّر حصتهم من البطاطا ليكون لديهم شيء اضافي يأكلونه.‏ كما انهم راحوا يأكلون الشمندر والعشب وأوراق الاشجار وغيرها من النباتات لكي يسدّوا رمقهم.‏ ومع الوقت مات البعض منهم بسبب سوء التغذية،‏ وعانوا جميعا من الزُّحار.‏

      خلال الصيف،‏ كان الاخوة في دلتا الدانوب يجرفون التراب وينقلونه الى موقع يُبنى فيه احد السدود.‏ وفي الشتاء،‏ كانوا يقطّعون القصب فيما يقفون على الجليد.‏ كما كانوا ينامون في عبّارات حديدية قديمة حيث احتملوا البرد والقذارة والقمل،‏ بالاضافة الى الحراس العديمي الرحمة الذين لم يحرّكوا ساكنا حتى عند موت احد السجناء.‏ ولكن رغم كل الظروف العصيبة التي مرّ بها الاخوة،‏ فقد شجّعوا وساعدوا واحدهم الآخر على البقاء اقوياء روحيا.‏ لنتأمل في اختبار ديونيسييه ڤَرتشو.‏

      قبيل إطلاق سراح ديونيسييه،‏ سأله احد الضباط:‏ «ڤَرتشو،‏ هل نجح السجن في تغيير ايمانك؟‏».‏

      فأجاب ديونيسييه:‏ «عفوا يا حضرة الضابط،‏ هل يُعقل ان تستبدل بدلتك ذات النوعية الجيدة بأخرى اقل جودة؟‏».‏

      ‏«كلا»،‏ قال الضابط.‏

      تابع ديونيسييه:‏ «خلال سجني لم يقدّم لي احد شيئا افضل.‏ فلماذا اغيّر ايماني؟‏».‏

      عندئذ صافح الضابط ديونيسييه،‏ قائلا:‏ «انت حرّ يا ڤَرتشو.‏ حافِظ على ايمانك».‏

      لم يكن ديونيسييه والاخوة والاخوات الآخرون اشخاصا خارقين للطبيعة.‏ فقد استمدّوا شجاعتهم وقوّتهم الروحية من ايمانهم بيهوه،‏ هذا الايمان الذي حافظوا عليه بطرائق مذهلة.‏ —‏ امثال ٣:‏٥،‏ ٦؛‏ فيلبي ٤:‏١٣‏.‏

      الدرس من الذاكرة

      يتذكر اندراش مولنوش:‏ «كان الوقت الذي امضيته في السجن فترة من التدريب الثيوقراطي».‏ ولماذا قال ذلك؟‏ لأنه ادرك اهمية الاجتماع مع اخوته كل اسبوع لدرس كلمة اللّٰه.‏ يقول اندراش:‏ «غالبا ما استقينا معلوماتنا من الذاكرة وليس من صفحة مطبوعة.‏ فقد كان الاخوة يتذكرون مقالات برج المراقبة التي سبق ان درسوها قبل سجنهم.‏ حتى ان بعض الاخوة تمكَّنوا من تذكُّر محتويات مجلة بأكملها،‏ بما فيها اسئلة مقالات الدرس!‏».‏ والسبب في بعض الحالات هو ان البعض منهم كانوا قبل اعتقالهم ينسخون بخط يدهم هذا الطعام الروحي.‏ —‏ انظر الاطار «أساليب النَّسخ» في الصفحتين ١٣٢-‏١٣٣.‏

      عند التخطيط لعقد اجتماع مسيحي،‏ كان الاخوة المسؤولون يعلنون عن الموضوع الذي سيجري تناوله،‏ وكل سجين يحاول تذكُّر كل المعلومات التي يعرفها عن هذا الموضوع،‏ من الآيات الى النقاط التي تعلّمها من المساعِدات على درس الكتاب المقدس.‏ وفي آخر الامر،‏ يجتمع الجميع لمناقشة المواد.‏ وبعد افتتاح الاجتماع بكلمة صلاة،‏ كانوا يختارون شخصا يدير المناقشة بطرح اسئلة ملائمة.‏ وبعد ان يقدِّم الجميع تعليقاتهم،‏ يذكر المدير افكاره ثم ينتقل الى النقطة التالية.‏

      في بعض السجون،‏ كانت المناقشة الجماعية ممنوعة.‏ لكنّ ابداع الاخوة لم يكن له حدود.‏ يتذكر احدهم:‏ «كنا نُخرِج نافذة الحمام من مكانها ونطلي الزجاج بمزيج من الصابون الرطب والكلس الذي كنا نقشّره عن الجدران.‏ وعندما يجفّ،‏ كنا نستعمله كلوح لكتابة درس ذلك اليوم.‏ فكان احد الاخوة يملي بصوت منخفض الكلمات على اخ آخر يكتبها هو بدوره على اللوح.‏

      ‏«وُضعنا في عدة زنزانات اصبحت كل واحدة منها فريقا لدرس الكتاب المقدس.‏ فكان كل درس يتناقله الافراد ضمن الزنزانة.‏ وبما ان اللوح لا يمكن نقله الى الزنزانات الاخرى،‏ كان الاخوة هناك يتلقّون المعلومات بواسطة نظام مورس للرموز الصوتية.‏ كيف؟‏ كان احدنا ينقر بصوت منخفض مواد المقالة على الحائط او على انابيب التدفئة.‏ وفي الوقت نفسه،‏ كان الاخوة في الزنزانات الاخرى يضعون كؤوسهم على الحائط او على الانابيب ثم يقرّبون آذانهم من هذه الكؤوس التي تنقل الصوت اليهم.‏ بالطبع،‏ وجب على الذين لا يعرفون نظام مورس ان يتعلّموه».‏

      في بعض السجون،‏ تمكّن الاخوة من الحصول على طعام روحي جديد من خارج السجن بواسطة اخوات لسن اقل ابداعا وذكاء.‏ مثلا،‏ اثناء صنع الخبز،‏ كانت الاخوات يخبئن المطبوعات داخل العجين.‏ وقد اعتبر الاخوة هذا الطعام الخبز النازل من السماء.‏ حتى ان الاخوات استطعن إدخال اجزاء من الكتاب المقدس الى السجون بطيّ الصفحات حتى تصير صغيرة جدا ووضعها في كرات بلاستيكية صغيرة ثم تغليف هذه الكرات بالشوكولاتة الذائبة وبودرة الكاكاو.‏

      ولكن من سلبيات هذا التدبير ان الاخوة اضطروا الى قراءة المواد في الحمام،‏ المكان الوحيد الذي قضوا فيه دقائق قليلة دون مراقبة الحراس.‏ وعند انتهاء الاخ من القراءة،‏ كان يخبئ الصفحات خلف كرسي الحمام.‏ وقد عرف بالمخبإ ايضا السجناء غير الشهود،‏ فكان كثيرون منهم يتمتعون بهذه القراءة الهادئة.‏

      النساء والاولاد يحافظون على أمانتهم

      على غرار كثيرين من الشهود،‏ تعرّضت الشقيقتان ڤيوريكا وأَوريكا فيليپ لاضطهاد سبَّبه لهما اعضاء عائلتهما.‏ وكان لهاتين الاختين سبعة اخوة وأخت واحدة.‏ تروي ڤيوريكا:‏ «رغبَتْ أَوريكا في خدمة يهوه،‏ فتركت الجامعة في كلوج-‏ناپوكا سنة ١٩٧٣ واعتمدت بعيد ذلك.‏ فأثار اخلاصها وغيرتها اهتمامي بالحق وبدأت أتفحص كلمة اللّٰه.‏ وعندما عرفت ان اللّٰه يعدنا بحياة ابدية على ارض فردوسية،‏ قلت في نفسي:‏ ‹وهل هنالك شيء افضل من هذا الوعد؟‏!‏›.‏ وفيما رحت أتقدّم في درسي للكتاب المقدس،‏ بدأت اطبِّق المبادئ المتعلقة بالحياد المسيحي ورفضت الانضمام الى الحزب الشيوعي».‏

      تتابع ڤيوريكا:‏ «سنة ١٩٧٥،‏ نذرت حياتي ليهوه.‏ وكنت قد انتقلت من مسقط رأسي الى مدينة سيڠيت مارماتييه،‏ حيث سكنت مع زوجين من أنسبائي وعملت كمدرِّسة.‏ وبما انني قرَّرت ان أبقى على الحياد في المسائل السياسية،‏ أعلمتني إدارة المدرسة انني سأُصرَف من عملي في نهاية العام الدراسي.‏ وعندما علم افراد عائلتي بالامر،‏ راحوا يضطهدوننا انا وأختي لكي أعدِل عن رأيي وأحافظ على وظيفتي».‏

      حتى الاولاد في المدارس تعرّضوا للتهويل،‏ وأحيانا من قِبَل السيكيوريتات.‏ فبالاضافة الى الكلام المهين والعذاب الجسدي الذي عانوا منه،‏ طُرد كثيرون من مدارسهم واضطروا الى الالتحاق بمدارس اخرى وحُرم البعض الآخر كليا من متابعة تعليمهم.‏ حتى ان عملاء السيكيوريتات حاولوا إقناع الاولاد بالتجسس لحسابهم!‏

      تتذكر دانييلا مَلوتزان التي تخدم الآن كفاتحة:‏ «غالبا ما تعرَّضت للإهانات امام رفقاء صفّي لأنني رفضت الانضمام الى اتحاد الشبيبة الشيوعية الذي كان أداة لتلقين الشبّان المبادئ السياسية الخاصة بالحزب.‏ وعندما صرت في الصف التاسع،‏ عانيت محنا كثيرة سبَّبها لي عملاء السيكيوريتات بالاضافة الى الاساتذة وغيرهم من الموظفين في المدرسة الذين عملوا كمخبرين.‏ ومن سنة ١٩٨٠ الى ١٩٨٢،‏ كنت أُستجوب في مكتب المدير يوم الأربعاء مرة كل اسبوعين تقريبا.‏ وبالمناسبة،‏ لم يُسمَح للمدير قط بحضور هذه الجلسات.‏ وكان المحقِّق كولونيلا في السيكيوريتات اشتهر بين الاخوة في مقاطعة بيستريتا-‏ناسود بكرهه الشديد لنا وحَمِيّته في ملاحقتنا.‏ حتى انه أتى اليّ ذات مرة حاملا رسائل تثبت تورّط اخوة مسؤولين في اعمال مخالفة للقانون.‏ وكان هدفه زعزعة ثقتي بهم وتقويض ايماني،‏ بالاضافة الى إقناعي انا التلميذة الصغيرة بالتجسس لحساب السيكيوريتات.‏ لكنه فشل فشلا ذريعا في مسعاه هذا.‏

      ‏«رغم ذلك،‏ حصلت معي ايضا اختبارات مفرحة.‏ مثلا،‏ أراد استاذ التاريخ الذي كان عضوا في الحزب معرفة سبب استجوابي تكرارا.‏ فألغى في احدى المرات درس التاريخ وراح يطرح عليّ طوال ساعتين امام الصف بأكمله العديد من الاسئلة حول معتقداتي الدينية.‏ وقد تأثر بأجوبتي وشعر انه من الظلم ان أتعرض لهذه المعاملة القاسية.‏ وصار بعد هذه المحادثة يحترم آراءنا ويقبل مطبوعاتنا ايضا.‏

      ‏«لكنَّ إدارة المدرسة واصلت مقاومتها لي،‏ حتى انهم أرغموني على ترك المدرسة بعد إنهاء الصف العاشر.‏ رغم ذلك،‏ وجدت وظيفة على الفور ولم أندم قط على بقائي وليّة ليهوه.‏ وأنا أشكره من صميم قلبي لأنني تربيت في كنف والدَين مسيحيين حافظا على امانتهما رغم الإساءات التي تعرَّضا لها تحت الحكم الشيوعي.‏ ولا يزال مثالهما الرائع حيًّا في مخيّلتي».‏

      الشبّان يُمتحَنون

      شنّت السيكيوريتات حملة ضد شهود يهوه استهدفت بشكل خاص الشبّان الذين حافظوا على حيادهم المسيحي.‏ فكانوا يقبضون عليهم ويلقونهم في السجن ثم يطلقون سراحهم ليعودوا بعد ذلك ويعتقلوهم من جديد.‏ والهدف من هذه العملية المتكررة هو تحطيم معنوياتهم.‏ وأحد هؤلاء الاخوة هو يوجيف سابو الذي حُكم عليه فور معموديته بالسجن مدة اربع سنوات.‏

      وبعد ان أمضى سنتين في السجن،‏ أُطلق سراحه سنة ١٩٧٦.‏ وبعيد ذلك،‏ التقى الاخت التي صارت لاحقا زوجته.‏ يروي يوجيف:‏ «عقدنا خطوبتنا وحدّدنا موعد الزفاف.‏ لكنني تلقيت بعد ذلك استدعاء جديدا من محكمة كلوج العسكرية.‏ فكان عليّ المثول امام المحكمة في يوم زفافنا بالضبط!‏ مع ذلك لم نتراجع عن قرارنا انا وخطيبتي بل تزوّجنا وذهبت فورا الى المحكمة.‏ ومع انه لم يمضِ على زفافي سوى دقائق معدودة،‏ حكمت عليّ المحكمة بثلاث سنوات اخرى في السجن.‏ ويا للألم العميق الذي طعن قلبي خلال سنوات الفراق هذه!‏».‏

      يتذكر شاهد شاب آخر يُدعى تيموتاي لازَر:‏ «سنة ١٩٧٧ أُطلق سراحنا انا وأخي الاصغر.‏ وكان أخونا الاكبر الذي خرج من السجن قبل سنة قد أتى الى البيت ليحتفل معنا بهذه المناسبة.‏ لكنه وقع في الفخ.‏ فقد كان عملاء السيكيوريتات بانتظاره.‏ في وقت سابق،‏ كنا قد أُرغمنا على الانفصال عن بعضنا بعضا طوال سنتين وسبعة اشهر و ١٥ يوما،‏ وها قد حُرمنا مجددا من اخينا اذ أُرسل مرة اخرى الى السجن بسبب حياده المسيحي.‏ فشعرنا انا وأخي الاصغر بأن قلبنا ينفطر حزنا».‏

      الاحتفال بالذِّكرى

      في الامسيات التي كانت تُعقد فيها الذِّكرى،‏ كثّف المقاومون جهودهم لتعقُّب شهود يهوه.‏ فاقتحموا البيوت وفرضوا الغرامات وألقوا القبض على البعض ايضا.‏ فارتأى الاخوة على سبيل الاحتياط ان يحتفلوا بموت يسوع في فرق صغيرة،‏ وأحيانا كل عائلة على حدة.‏

      يخبر تيودور پامفيليي:‏ «ذات مرة في امسية الذِّكرى،‏ كان رئيس شرطة المنطقة يشرب الخمر مع اصدقائه حتى وقت متأخر من الليل.‏ وعندما اراد ان يذهب لاقتحام بيوت الاخوة،‏ طلب من احد الاشخاص ان يُقِلّه في سيارته،‏ غير ان السيارة تعطلت.‏ ولكن في آخر الامر،‏ دار المحرك وانطلق الرجلان الى بيتنا حيث كان فريق صغير يحتفل بالذِّكرى.‏ ولكن بما اننا غطّينا كاملا جميع النوافذ،‏ فقد خيَّم الظلام على المكان.‏ فظنّا ان لا احد في البيت وانطلقا مجددا الى بيت آخر.‏ ولكن حين وصلا الى وجهتهما،‏ كان الاحتفال بالذِّكرى قد انتهى والجميع غادروا الى بيوتهم.‏

      ‏«في تلك الاثناء،‏ أنهينا نحن ايضا برنامجنا وغادر الاخوة بسرعة.‏ وعندما وصل الشرطيان واقتحما المكان،‏ لم يكن هناك احد سوانا انا وشقيقي.‏ فوقفا في وسط الغرفة وصاحا بأعلى صوتهما:‏ ‹ماذا يجري هنا؟‏›.‏

      ‏«أجبته:‏ ‹لا شيء،‏ كنا نتحدث انا وشقيقي›.‏

      ‏«فقال احدهما:‏ ‹نحن نعلم ان اجتماعا عُقد هنا.‏ فأين الباقون؟‏›.‏ ثم نظر الى شقيقي وأضاف:‏ ‹وأنت ماذا تفعل هنا؟‏›.‏

      ‏«فأشار اليّ وأجاب:‏ ‹أتيت لرؤيته›.‏ فشعر الشرطيان بالخيبة واندفعا بغضب الى الخارج.‏ وفي اليوم التالي،‏ عرفنا ان رجال الشرطة لم يتمكّنوا من اعتقال احد رغم الجهود الحثيثة التي بذلوها».‏

      المركز الرئيسي العالمي يناشد السلطات الرومانية

      ان المعاملة القاسية التي تعرّض لها شهود يهوه دفعت المركز الرئيسي ان يكتب في آذار (‏مارس)‏ ١٩٧٠ رسالة من اربع صفحات الى السفير الروماني في الولايات المتحدة.‏ كما ارسل في حزيران (‏يونيو)‏ ١٩٧١ رسالة من ست صفحات الى الرئيس الروماني نيقولاي شاوشسكو.‏ وقد ذكر الاخوة في رسالتهم الى السفير ان «محبتنا المسيحية لإخوتنا في رومانيا وقلقنا عليهم دفعانا الى الكتابة اليكم».‏ وبعد ذكر اسماء سبعة اخوة سُجنوا بسبب ايمانهم،‏ تابعت الرسالة:‏ «علمنا ان بعض الاشخاص المذكورين سابقا عوملوا بوحشية في السجن.‏ .‏ .‏ .‏ شهود يهوه ليسوا مجرمين.‏ فهم لا يشتركون في اي نشاط سياسي او تخريبي في كل انحاء العالم.‏ وجميع نشاطاتهم تقتصر على عبادتهم الدينية».‏ وخُتمت الرسالة بمناشدة الحكومة ان «تريح شهود يهوه من العذاب الذي يعانونه».‏

      كما جاء في الرسالة الموجَّهة الى الرئيس شاوشسكو ان «شهود يهوه في رومانيا لا يتمتعون بالحرية الدينية التي ينصّ عليها الدستور الروماني»،‏ بل يتعرضون للاعتقال والمعاملة القاسية حين يخبرون الناس عن معتقداتهم ويجتمعون لدرس الكتاب المقدس.‏ كما أشارت الرسالة الى عفو عام صدر مؤخرا وحُرِّر بموجبه كثيرون من الاخوة.‏ وذكرت:‏ «كنا نرجو ان تُفتَح صفحة جديدة ايضا في ما يتعلق .‏ .‏ .‏ بشهود يهوه.‏ ولكن من المؤسف ان آمالنا ذهبت أدراج الرياح.‏ فكل الاخبار التي نتلقاها اليوم من كل انحاء رومانيا تكشف ان القصة المأساوية نفسها تتكرر يوما بعد يوم:‏ لا تزال الدولة تضطهد شهود يهوه.‏ فبيوتهم تُفتَّش،‏ مطبوعاتهم تُصادَر،‏ الرجال والنساء يُعتقَلون ويُستجوَبون،‏ والبعض يُحكَم عليهم بالسجن سنوات طويلة وآخرون يلقون معاملة وحشية.‏ وكل ذلك لأنهم يقرأون ويبشرون بكلمة يهوه اللّٰه.‏ ان هذه الاعمال تشوّه سمعة الدولة التي تقوم بها،‏ ونحن قلقون جدا حيال وضع شهود يهوه في رومانيا».‏

      وأُرفق بالرسالة كتابان هما:‏ الحق الذي يقود الى الحياة الابدية باللغة الرومانية و الحياة الابدية في حرية ابناء اللّٰه باللغة الالمانية.‏

      بعد سنة ١٩٧٥،‏ بدأت أوضاع شهود يهوه تتحسّن قليلا لأن رومانيا وقَّعت في تلك السنة اتفاقية مؤتمر هلسنكي حول الامن والتعاون في اوروبا.‏ وقد ضمِن هذا المؤتمر حقوق الانسان والحريات الاساسية،‏ بما فيها حرية الدين.‏ وبعد ذلك،‏ لم تعد السلطات تعتقل سوى الذين يرفضون الخدمة العسكرية.‏

      وفي سنة ١٩٨٦،‏ صدر قانون جديد حُظر بموجبه على الجميع،‏ بمن فيهم الرسميون،‏ ان يدخلوا منزلا خاصا دون موافقة صاحب البيت إلا في بعض الحالات التي يجيزها القانون.‏ وبناء على ذلك،‏ صار بإمكان الاخوة اخيرا ان يعقدوا بسلام في البيوت الخاصة كل الاجتماعات المسيحية،‏ بما فيها الذِّكرى.‏

      الطباعة في السرّ

      خلال الحظر،‏ كان الطعام الروحي يُهرَّب الى رومانيا على شكل مواد مطبوعة او ستانسِل او غير ذلك ثم يعاد إنتاجه محليا.‏ وفي بعض الاحيان،‏ كانت هذه المواد تُترجَم الى الرومانية والهنغارية قبل ان تصلنا.‏ ولكن في اغلب الاوقات،‏ لزم ترجمتها محليا من الالمانية او الانكليزية او الايطالية او الفرنسية.‏ وقد تألّف سعاة البريد من السيّاح الاجانب،‏ التلاميذ الذين يطلبون العلم في رومانيا،‏ والرومانيين العائدين من السفر.‏

      بذلت السيكيوريتات كل ما في وسعها لكي تعترض سبيل السعاة وتكتشف اين يجري انتاج المطبوعات في رومانيا.‏ لكنّ الاخوة،‏ الذين اتّصفوا بالحذر الشديد،‏ كانوا يستخدمون عدة بيوت خاصة مزوَّدة بعازل للصوت في عدد من البلدات والمدن.‏ فقد بنوا داخل هذه البيوت غرفا سرية وضعوا فيها معدات النَّسخ.‏ وبعض هذه الغرف أُخفي خلف المواقد التي تكون عادة ملتصقة بالجدار.‏ لكنّ الاخوة صنعوا مواقد متحركة لكي يتمكنوا من ازاحتها والعبور الى المخابئ السرية.‏

      شاندور پورويدي هو احد الذين عملوا في مطبعة سرية في تيرغو موريش حيث جرى انتاج الآية اليومية،‏ خدمتنا للملكوت،‏ برج المراقبة،‏ و استيقظ!‏.‏ يتذكر:‏ «عملنا احيانا ٤٠ ساعة في نهايات الاسابيع.‏ فكنا نتناوب على النوم ساعة ثم نقوم الى عملنا.‏ وكانت رائحة المواد الكيميائية تفوح من ثيابنا وبشرتنا.‏ حتى ان ابني البالغ من العمر ثلاث سنوات قال لي ذات مرة حين وصلت الى البيت:‏ ‹بابا،‏ رائحتك مثل الآية اليومية!‏›».‏

      ساهم ايضا الاخ ترايان كيرا الذي كان متزوجا ولديه اولاد في نسخ ونقل المطبوعات في مقاطعة كلوج.‏ فأُعطي آلة نسخ يدوية قديمة جدا أُطلق عليها اسم «الطاحونة».‏ وكانت هذه «الطاحونة» تفي بالغرض رغم انها لم تنتج مطبوعات ذات نوعية جيدة.‏ لذلك طلب ترايان من اخ ميكانيكي ان يحاول إصلاحها.‏ وبعد ان تفحصها،‏ دلّت تعابير وجهه المتجهمة انه لا يمكن إصلاحها.‏ ولكن بعد لحظات اشرق وجهه وقال بحماس:‏ «بإمكاني ان اصنع لكم آلة جديدة!‏».‏ وبالفعل،‏ تمّم الاخ ما وعد به وأكثر ايضا.‏ فقد اقام مشغلا ومخرطة في الطابق السفلي في بيت احدى الاخوات.‏ وبدل الآلة الواحدة،‏ صنع هذا الاخ اكثر من عشر آلات!‏ وأُرسلت هذه «الطواحين» الجديدة الى مختلف انحاء البلاد وساهمت في إنتاج مطبوعات ذات نوعية جيدة.‏

      في ثمانينات القرن العشرين،‏ تعلّم عدد من الاخوة كيف يشغّلون آلات نسخ أوفست متطورة.‏ وكان أولهم الاخ نيقولاي بِنتارو الذي تعلّم كيف يشغِّلها وعلّم بدوره باقي الاخوة.‏ وعلى غرار معظم العائلات،‏ كان جميع افراد عائلة بِنتارو يشتركون في انتاج المطبوعات،‏ اذ يؤدي كل منهم مهمّة معيّنة.‏ وبالطبع،‏ كان التحدي الكبير هو المحافظة على سرية هذا العمل،‏ وخصوصا خلال الفترة حين راح عملاء السيكيوريتات يتجسسون على الناس ويداهمون البيوت.‏ لذلك كانت السرعة مطلبا اساسيا.‏ فراح الاخوة يعملون ساعات طويلة في نهاية الاسبوع بكاملها لطبع المواد وإرسالها الى الاخوة.‏ ولماذا في نهايات الاسابيع؟‏ لأنهم كانوا يقومون بأعمالهم الدنيوية في بحر الاسبوع.‏

      بالاضافة الى ذلك،‏ كان على الاخوة ان يتّصفوا بالحذر عند شراء الورق.‏ فحتى لو طلب الزبون مجرد رزمة ورق واحدة،‏ وهي عبارة عن ٥٠٠ ورقة تقريبا،‏ كان عليه ان يشرح السبب.‏ لكنَّ المطابع كانت تستهلك احيانا ٠٠٠‏,٤٠ ورقة في الشهر!‏ لذلك لزم ان يتوخّى الاخوة الحذر الشديد عند التعامل مع موظفي المتاجر.‏ وبما ان حواجز التفتيش كانت كثيرة آنذاك،‏ فقد وجب عليهم ايضا ان ينتبهوا كثيرا عند نقل المطبوعات.‏

      تحدّيات الترجمة

      اهتمّ عدد صغير من الاخوة والاخوات العائشين في اماكن مختلفة من رومانيا بترجمة المطبوعات الى اللغات المحلية،‏ مثل الاوكرانية التي تنطق بها اقلية إثنية في شمال البلاد.‏ وكان بعض هؤلاء المترجمين اساتذة لغة تعرّفوا بالحق،‏ والبعض الآخر اشخاصا بذلوا مجهودا شخصيا وتعلّموا لغة اجنبية ربما بمساعدة مقرَّر لغوي.‏

      في البداية،‏ كان المترجمون يكتبون النصوص على دفاتر ويأخذونها الى مدينة بيستريتا في الشمال حيث يقوم آخرون بتصحيحها.‏ وكان المترجمون والمصحِّحون يلتقون مرة او مرتين في السنة لحلّ المسائل المتعلقة بعملهم.‏ وحين كانت الشرطة تكتشف امر هؤلاء الاخوة والاخوات،‏ كان من الطبيعي ان تفتشهم،‏ تستجوبهم،‏ تضربهم،‏ وتعتقلهم.‏ والذين يُعتقَلون كانوا يوضَعون في السجن ساعات او اياما قليلة ثم يُطلَق سراحهم ولكن لكي يُعتقَلوا من جديد.‏ والهدف من هذه العملية المتكررة هو إخافة الاخوة.‏ كما وُضع البعض الآخر تحت الاقامة الجبرية او اضطروا ان يمثلوا يوميا امام الشرطة.‏ وقد جرى اعتقال عدد لا بأس به مثل دوميترو ودوينا تشيپَنارو وپيتره رانكا.‏

      كان دوميترو تشيپَنارو أستاذا في التاريخ واللغة الرومانية،‏ اما زوجته دوينا فكانت طبيبة.‏ بعد عدة محاولات،‏ اعتقلتهما السيكيوريتات وأرسلتهما الى سجنين منفصلين مدة سبع سنوات ونصف أمضت دوينا خمسا منها في سجن انفرادي.‏ وقد ذُكر اسمها هي وزوجها في الرسالة المشار اليها سابقا التي بعثها المركز الرئيسي الى السفير الروماني في الولايات المتحدة.‏ وخلال فترة سجنها،‏ كتبت دوينا ٥٠٠ رسالة تشجيعية الى زوجها وإلى عدد من الاخوات المسجونات.‏

      بعد سنة من اعتقال دوميترو ودوينا،‏ اعتُقلت سابينا تشيپَنارو والدة دوميترو،‏ وأمضت في السجن ست سنوات إلّا شهرين.‏ والفرد الوحيد في العائلة الذي بقي حرًّا رغم ان السيكيوريتات وضعته تحت المراقبة المشدَّدة هو زوج سابينا الذي كان هو ايضا شاهدا ليهوه.‏ وقد خاطر بحياته وزار بانتظام السجناء الثلاثة في عائلته.‏

      سنة ١٩٣٨،‏ عُيِّن الاخ پيتره رانكا امين سر مكتب شهود يهوه في رومانيا.‏ وقد جعله تعيينه هذا،‏ إضافة الى عمله كمترجم،‏ في رأس قائمة المطلوبين من السيكيوريتات.‏ فأمسكوا به سنة ١٩٤٨ وسجنوه عدة مرات،‏ ثم حاكموه سنة ١٩٥٠ الى جانب الاخوين مارتن ماجروشي وپامفيل ألبو.‏ وكانت التهمة الموجَّهة اليه انه عضو في عصابة تجسُّس انكلواميركية.‏ فاضطر ان يحتمل ١٧ سنة في سجون تُعَدّ من اسوإ سجون البلاد،‏ وهي سجون أيود وڠيرلا وجيلاڤا،‏ بالاضافة الى ٣ سنوات تحت الاقامة الجبرية في مقاطعة ڠالاتي.‏ ولكن رغم كل ذلك،‏ بذل هذا الاخ الامين نفسه كاملا في خدمة يهوه حتى نهاية مسلكه الارضي في ١١ آب (‏اغسطس)‏ ١٩٩١.‏

      ان هذه الجهود الحبية التي بذلها هؤلاء الاخوة الامناء تذكّرنا بالكلمات التالية:‏ «اللّٰه ليس فيه إثم حتى ينسى عملكم والمحبة التي أظهرتموها نحو اسمه في انكم خدمتم القديسين ولا تزالون تخدمونهم».‏ —‏ عبرانيين ٦:‏١٠‏.‏

      محافل في الهواء الطلق

      خلال الثمانينات،‏ بدأ الاخوة يجتمعون في فرق اكبر ضمّت احيانا آلاف الاشخاص،‏ وذلك حين تسنح لهم الفرص في مناسبات كالاعراس والمآ‌تم.‏ ففي الاعراس،‏ كان الاخوة ينصبون خيمة كبيرة في موقع ملائم في الريف ويزيّنونها من الداخل بقطع من السجاد الجميل حيكت عليها صور وآيات من الكتاب المقدس.‏ كما أُعدَّت الطاولات والكراسي من اجل «المدعوين» الكُثر،‏ وعُلِّقت خلف المنبر صورة مكبَّرة لشعار برج المراقبة بالاضافة الى الآية السنوية.‏ وغالبا ما اهتمّ الناشرون المحليون بتوفير الطعام وفقا لإمكانياتهم.‏ وهكذا تمتع الجميع بمأدبة مزدوجة:‏ مادية وروحية.‏

      كان البرنامج يبدأ بخطاب الزواج او الدفن تليه محاضرات حول مواضيع متنوعة من الكتاب المقدس.‏ وبما ان الظروف كانت تحول احيانا دون وصول الخطباء في الوقت المحدّد،‏ كان اخوة اكفاء آخرون مستعدين دائما لملء الفراغ.‏ وفي اغلب الاحيان كانوا يستعينون بالكتاب المقدس وحده اذ لم تكن لديهم نسخ من المواد المعدَّة مسبقا.‏

      خلال فصل الصيف،‏ كان سكان المدن يتوافدون على الارياف من اجل الاستجمام.‏ وقد حذا شهود يهوه حذوهم،‏ لكنهم اغتنموا هذه الفرص لعقد محافل صغيرة في التلال والغابات.‏ حتى انهم كانوا يمثّلون مسرحيات من الكتاب المقدس باللباس التاريخي القديم.‏

      وأحد الاماكن المفضّلة لقضاء العطل هو البحر الاسود الذي شكّل ايضا موقعا مثاليا للمعمودية.‏ ولكن كيف كان الاخوة يغطّسون الجدد في الماء دون ان يلفتوا الانظار؟‏ احدى الطرق هي التظاهر «باللَّعب» في الماء.‏ فقد كان المرشحون وبعض الناشرين المعتمدين يشكّلون حلقة في الماء ويرمون الكرة واحدهم الى الآخر.‏ وكان الخطيب يقف في الوسط ويلقي الخطاب ثم يُغطَّس المرشحون بحذر شديد.‏

      قاعة مربّي النحل

      سنة ١٩٨٠،‏ ابتكر الاخوة في بلدة نِڠرشتي أُواش الواقعة في شمال غرب رومانيا وسيلة رائعة لنيل موافقة السلطات على بناء قاعة ملكوت.‏ ففي تلك الاثناء،‏ كانت الدولة تشجّع على تربية النحل.‏ لذلك خطرت في بال فريق من الاخوة الذين امتلكوا خلايا نحل فكرة تأسيس اتحاد محلي لمربّي النحل،‏ الامر الذي يعطيهم سببا شرعيا لبناء مكان يجتمعون فيه.‏

      بعد استشارة شيوخ الدائرة،‏ تسجّل الاخوة لدى «اتحاد مربّي النحل في رومانيا» ثم قصدوا دار البلدية لكي يقدّموا طلبا لبناء مكان يجتمعون فيه.‏ وعلى الفور،‏ وافقت السلطات على تشييد مبنى خشبي طوله ٣٤ مترا وعرضه ١٤ مترا.‏ وقد أكمل بفرح مربّو النحل هؤلاء ومساعدوهم الكُثُر مشروعهم هذا خلال ثلاثة اشهر.‏ حتى انهم حظوا بتنويه خاص من المسؤولين في البلدة.‏

      وبما ان عددا كبيرا من الشهود كانوا سيحضرون التدشين الذي تضمّن برنامجا يستغرق عدة ساعات،‏ سعى الاخوة الى الحصول على موافقة لاستعمال القاعة من اجل الاحتفال بموسم حصاد الحبوب.‏ وقد وافقت السلطات على طلبهم.‏ فاجتمع اكثر من ٠٠٠‏,٣ شاهد من كل انحاء البلاد.‏ وذهل الرسميون في البلدة لأن هذا العدد الكبير من الناس أتوا للمساعدة في الحصاد و «الاحتفال» بعد ذلك.‏

      طبعا،‏ كان هذا الاحتفال عبارة عن محفل غني بالمعلومات الروحية المفيدة.‏ ونظرا الى الهدف الرسمي من المبنى،‏ تضمن البرنامج اشارات كثيرة الى النحل انما بمعنى روحي.‏ مثلا،‏ أشار الخطباء الى اجتهاد هذه الحشرة،‏ مهاراتها الملاحية والتنظيمية،‏ شجاعتها التي تصل الى حدّ التضحية بنفسها من اجل حماية قفيرها،‏ وغيرها من المزايا العديدة التي تتمتع بها.‏

      وبعد التدشين،‏ استمر الاخوة في استخدام هذا المكان،‏ الذي دُعي «قاعة النحل»،‏ خلال السنوات الباقية من الحظر وبعد ثلاث سنوات من رفعه.‏

      نظار الاقاليم يعزّزون الوحدة

      طوال عقود،‏ بذل الشيوعيون كل ما في وسعهم لزرع بذور الشك والانشقاقات بين شعب اللّٰه وعرقلة الاتصالات في ما بينهم.‏ وكما ذُكر سابقا،‏ نجحت مساعيهم الى حدّ ما.‏ وفي الواقع،‏ استمرت بعض الانقسامات حتى الثمانينات.‏ لكنّ زيارات نظار الاقاليم بالاضافة الى التغييرات في المناخ السياسي العام ساعدت على حل المشكلة.‏

      ابتداء من أواسط السبعينات،‏ زار رومانيا في عدد من المناسبات الاخ ڠِريت لوش،‏ الذي كان آنذاك عضوا في لجنة فرع النمسا وهو الآن عضو في الهيئة الحاكمة.‏ وفي سنة ١٩٨٨،‏ أتى الى رومانيا مرتين ممثلان للهيئة الحاكمة هما الاخوَان ثيودور جارس ومِلتون هنشل.‏ وكان برفقتهما الاخ لوش والمترجم الاخ جون بْرِنكا الذي كان آنذاك عضوا في عائلة بيت ايل في الولايات المتحدة.‏ وبعد هذه الزيارات البناءة،‏ عاد الى الحظيرة بثقة كبيرة آلاف الاخوة الذين سبق ان ابتعدوا عن جماعة شعب يهوه.‏

      في تلك الفترة،‏ كانت التطورات السياسية المتفاقمة تهدّد استقرار اوروبا الشيوعية وتزعزع أساساتها.‏ وبلغت الاحداث أوجها حين انهارت معظم انظمة الحكم هذه في أواخر الثمانينات.‏ وفي رومانيا،‏ بلغت هذه التطورات ذروتها سنة ١٩٨٩ حين ثار الشعب على النظام الشيوعي،‏ وأُعدم رئيس الحزب نيقولاي شاوشسكو وزوجته في ٢٥ كانون الاول (‏ديسمبر)‏.‏ وفي السنة التالية،‏ تأسست حكومة جديدة.‏

  • رومانيا
    الكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٦
    • ‏[الاطار/‏الصورة في الصفحة ١٢٤،‏ ١٢٥]‏

      تذكّرنا ٦٠٠‏,١ آية من الكتاب المقدس

      ديونيسييه ڤَرتشو

      تاريخ الولادة:‏ ١٩٢٦

      تاريخ المعمودية:‏ ١٩٤٨

      لمحة عن حياته:‏ امضى ابتداء من سنة ١٩٥٩ اكثر من خمس سنوات في عدة سجون ومعسكرات العمل الالزامي.‏ توفّي سنة ٢٠٠٢.‏

      خلال فترة السجن،‏ سُمح لنا ان نتصل بعائلاتنا،‏ وسُمح لعائلاتنا ان ترسل الينا شهريا طردا وزنه خمسة كيلوغرامات.‏ لكنَّنا لم نُعطَ الطرد الذي يخصّنا ما لم نتمّم المهام الموكلة الينا.‏ وكنا على الدوام نتقاسم الطعام بالتساوي،‏ اي كنا نقطِّعه عموما الى ٣٠ حصة تقريبا.‏ وفي احدى المرات،‏ تقاسمنا تفاحتين فقط.‏ ومع ان القطع كانت صغيرة جدا،‏ فقد خفّفت عنا وطأة الجوع.‏

      صحيح اننا لم نكن نملك كتبا مقدسة او مساعِدات على درس الكتاب المقدس،‏ لكننا حافظنا على قوّتنا الروحية بتذكُّر الامور التي تعلّمناها قبل اعتقالنا وتبادُل هذه المعلومات في ما بيننا.‏ فقد رتّبنا ان يتذكر احد الاخوة كل صباح آية من الكتاب المقدس.‏ وخلال فترة المشي الالزامية التي تتراوح بين ربع وثلث الساعة،‏ كنا نردد هذه الآية بصوت منخفض ونتأمل فيها.‏ وحين نعود الى زنزاناتنا،‏ حيث حُشر كل عشرين منا في غرفة عرضها متران وطولها اربعة امتار،‏ كنا نعلّق على الآية طوال نصف ساعة تقريبا.‏ وكمجموع،‏ تمكنّا نحن السجناء الشهود من تذكُّر ٦٠٠‏,١ آية من الكتاب المقدس.‏ وعند الظهر،‏ كنا نتطرق الى مواضيع شتى،‏ ونذكر بين ٢٠ و ٣٠ آية مرتبطة بالموضوع.‏ وكان الجميع يحفظون المواد عن ظهر قلب.‏

      في البداية،‏ شعر احد الاخوة انه اكبر من ان يستظهر عددا كبيرا من الآيات،‏ لكنه كان يستخفّ بقدراته.‏ فبعد ان سمعَنا نكرّرها بصوت مرتفع ٢٠ مرة تقريبا،‏ استطاع هو ايضا ان يحفظ ويذكر عددا كبيرا منها،‏ الامر الذي أفرحه كثيرا.‏

      صحيح اننا كنا جائعين وضعفاء جسديا،‏ لكنّ يهوه قوّانا وزوّدنا بالطعام الروحي.‏ حتى بعد إطلاق سراحنا،‏ كان علينا ان نحافظ على روحيات جيدة لأن السيكيوريتات بقيت تضايقنا راجية ان تقوِّض ايماننا.‏

      ‏[الاطار في الصفحتين ١٣٢،‏ ١٣٣]‏

      أساليب النَّسخ

      خلال خمسينات القرن العشرين،‏ اعتُبر النَّسخ يدويا،‏ باستعمال ورق الكربون في اغلب الاحيان،‏ أبسط وأنسب وسيلة لإعادة إنتاج المساعِدات على درس الكتاب المقدس.‏ ورغم ان هذه الوسيلة تستنزف الكثير من الوقت والجهد،‏ كان لها ميزة خصوصية هي مساعدة النسّاخ ان يحفظوا عن ظهر قلب جزءا كبيرا من المعلومات.‏ وهكذا عندما يُزجّون في السجن،‏ كانوا يتمكنون من منح الآخرين الكثير من التشجيع الروحي.‏ كما استخدم الاخوة الآلات الكاتبة مع انه لزم تسجيلها لدى الشرطة وكان الحصول عليها امرا صعبا.‏

      في أواخر الخمسينات،‏ صارت آلات النَّسخ بالستانسِل متوفرة.‏ ولصنع الستانسِل،‏ كان الاخوة يمزجون الغراء والجيلاتين والشمع،‏ ثم يمدّون طبقة رقيقة ومتساوية من هذا المزيج على سطح مستطيل أملس يُفضَّل ان يكون من الزجاج.‏ ثم يستعملون حبرا خصوصيا أعدّوه هم بأنفسهم ويطبعون النص على الورقة بحروف نافرة.‏ وعندما يجفّ الحبر،‏ يضغطون الورقة بالتساوي على السطح المستطيل،‏ فيحصلون بذلك على الستانسِل.‏ لكنَّ أوراق الستانسِل هذه عمرها قصير،‏ لذلك اضطر الاخوة ان يصنعوا تكرارا أوراقا جديدة.‏ وعلى غرار النسخ المكتوبة بخطّ اليد،‏ كانت اوراق الستانسِل خطرة هي ايضا اذ يمكن ان يميِّز المرء من خلال الخطّ هوية الكاتب او الكاتبة.‏

      من السبعينات وحتى السنوات الاخيرة من الحظر،‏ صنع الاخوة واستخدموا اكثر من عشر آلات نَسخ يدوية محمولة،‏ وأطلقوا عليها لقب «الطاحونة».‏ وقد صُمِّمت على نسق احدى آلات النَّسخ النمساوية وعملت باستخدام ألواح طباعية مغلَّفة بطبقة من البلاستيك.‏ وفي أواخر السبعينات تقريبا،‏ حصل الاخوة في رومانيا على بعض مطابع الأوفست التي تُلقَّم بصحائف من الورق،‏ غير انهم لم يستفيدوا منها لأنهم لم يتمكنوا من صنع الألواح.‏ ولكن في بداية سنة ١٩٨٥،‏ أتى أخ هو مهندس كيماوي من البلد المعروف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا،‏ وعلّم الاخوة المهارات اللازمة.‏ ومنذ ذلك الحين،‏ تحسّنت الى حدّ بعيد نوعية الانتاج وكمّيته.‏

      ‏[الاطار/‏الصورة في الصفحتين ١٣٦،‏ ١٣٧]‏

      يهوه درّبني

      نيقولاي بِنتارو

      تاريخ الولادة:‏ ١٩٥٧

      تاريخ المعمودية:‏ ١٩٧٦

      لمحة عن حياته:‏ عمل في الطباعة خلال الحكم الشيوعي وهو يخدم الآن كفاتح خصوصي مع زوجته ڤيرونيكا.‏

      بدأت ادرس الكتاب المقدس سنة ١٩٧٢ في بلدة سَسيلي واعتمدت بعد اربع سنوات بعمر ١٨ سنة.‏ كان العمل آنذاك تحت الحظر والاجتماعات تُعقَد في فرق صغيرة.‏ ورغم ذلك،‏ كنا نحصل دوما على الطعام الروحي الذي اشتمل على مسرحيات الكتاب المقدس،‏ وهي عبارة عن تسجيلات سمعية مع صور منزلقة بالالوان.‏

      كان تعييني الاول بعد معموديتي ان اشغّل آلة عرض الصور المنزلقة.‏ وبعد سنتين،‏ حصلت على امتياز اضافي ان أبتاع الورق لعمل الطباعة السري الذي يجري محليا.‏ وفي سنة ١٩٨٠،‏ تعلّمت الطباعة وساهمت في إنتاج برج المراقبة و استيقظ!‏ وغيرهما من المطبوعات.‏ كنا آنذاك نستعمل آلة نَسخ بالستانسِل بالاضافة الى آلة طباعة يدوية صغيرة.‏

      في تلك الاثناء،‏ التقيت ڤيرونيكا،‏ اخت رائعة برهنت عن امانتها ليهوه،‏ وسرعان ما تزوجنا.‏ كانت ڤيرونيكا دعما كبيرا لي في عملي.‏ وسنة ١٩٨١،‏ علّمني الاخ أُوتو كوڠليتش القادم من فرع النمسا كيف اشغّل اول آلة نَسخ أوفست حصلنا عليها،‏ وكانت تُلقَّم بصحائف من الورق.‏ وفي العام ١٩٨٧،‏ أسسنا في كلوج-‏ناپوكا مطبعة ثانية وعُيِّنت انا لتدريب العمال.‏

      بعد رفع الحظر سنة ١٩٩٠،‏ تابعنا انا وڤيرونيكا وابننا فلورين عمل الطباعة وتوزيع المطبوعات طوال ثمانية اشهر.‏ كما ساعد فلورين في مراجعة المَلازم قبل طبعها،‏ تشذيبها،‏ تدبيسها،‏ وتوضيبها ثم شحنها.‏ وسنة ٢٠٠٢،‏ عُيِّنا نحن الثلاثة فاتحين في بلدة ميزيل الواقعة على بعد ٨٠ كيلومترا تقريبا في شمال بخارست والتي يبلغ عدد سكانها ٠٠٠‏,١٥ نسمة.‏ ونخدم أنا وڤيرونيكا كفاتحَين خصوصيَّين وفلورين كفاتح عادي.‏

      ‏[الاطار/‏الصورة في الصفحتين ١٣٩،‏ ١٤٠]‏

      يهوه أعمى عيون الاعداء

      آنا ڤيوسنكو

      تاريخ الولادة:‏ ١٩٥١

      تاريخ المعمودية:‏ ١٩٦٥

      لمحة عن حياتها:‏ ساعدت والدَيها منذ اوائل مراهقتها في نسخ المطبوعات.‏ وشاركت لاحقا في ترجمة المطبوعات الى الاوكرانية.‏

      ذات يوم سنة ١٩٦٨،‏ كنت انسخ يدويا برج المراقبة على ورق ستانسِل.‏ ودون انتباه،‏ ذهبت الى الاجتماع ونسيت ان اخبِّئ الاوراق.‏ وحالما وصلت الى البيت عند منتصف الليل،‏ سمعت صوت سيارة تتوقف في الجوار.‏ وقبل ان اتمكن من معرفة هوية القادمين،‏ دخل بيتنا خمسة من عملاء السيكيوريتات يحملون معهم اذنا بتفتيش المنزل.‏ فاعتراني خوف شديد لكنني تمكّنت من المحافظة على رباطة جأشي.‏ وتوسّلت الى يهوه ان يغفر لي غلطتي ووعدته ألّا اترك ابدا الاشياء السرية بادية للعيان.‏

      جلس الضابط المسؤول الى الطاولة بالقرب من أوراقي التي كنت قد غطيتها بعجلة بقطعة قماش حين سمعت صوت السيارة.‏ وبقي جالسا هناك حتى انتهى التفتيش بعد بضع ساعات.‏ وفيما كان يكتب تقريره على أوراقه التي تبعد عن أوراقي مجرد سنتيمترات قليلة،‏ أعاد عدة مرات ترتيب قطعة القماش الموضوعة على الطاولة.‏ وذكر في تقريره ان العملاء لم يجدوا مطبوعات محظورة في البيت او في حوزة احد من سكانه.‏

      رغم ذلك،‏ اخذ رجال الشرطة ابي معهم الى بايا ماري.‏ صلّينا انا وأمي بحرارة من اجله وشكرنا يهوه ايضا لأنه حمانا في تلك الليلة.‏ وكم شعرنا بالراحة بعد بضعة ايام حين عاد ابي سالما الى البيت!‏

      بعيد ذلك،‏ فيما كنت انسخ بعض المطبوعات يدويا،‏ سمعت ايضا صوت سيارة تتوقف في الخارج.‏ فأطفأت النور واسترقت النظر من وراء الستائر المسدَلة.‏ فرأيت عدة رجال لابسين بدلات عسكرية وعلى اكتافهم شارات لامعة يترجلون من السيارة ويدخلون البيت الذي يقع في الجهة المقابلة من الطريق.‏ وفي الليلة التالية،‏ اخذ دورهم فريق آخر،‏ الامر الذي اكّد شكوكنا بأنهم جواسيس للسيكيوريتات.‏ لكننا واصلنا عمل النَّسخ وكنا نُخرِج الاوراق عبر حديقة منزلنا الخلفية خوفا من ان يُفضَح امرنا.‏

      كان ابي يقول دائما:‏ «ان الطريق الذي يفصل بيننا وبين العدو أشبه بعمود السحاب الذي فصل الاسرائيليين عن المصريين».‏ (‏خروج ١٤:‏١٩،‏ ٢٠‏)‏ ومع الوقت،‏ لمست من خلال تجاربي الشخصية صحة كلمات ابي.‏

      ‏[الاطار/‏الصورة في الصفحتين ١٤٣،‏ ١٤٤]‏

      أنقذَنا أنبوب العادِم المكسور!‏

      ترايان كيرا

      تاريخ الولادة:‏ ١٩٤٦

      تاريخ المعمودية:‏ ١٩٦٥

      لمحة عن حياته:‏ كان احد الاخوة الذين تولّوا إنتاج المطبوعات ونقلها خلال سنوات الحظر.‏

      في صبيحة يوم احد من ايام الصيف،‏ حمّلت سيارتي ثماني حقائب مليئة بالمطبوعات.‏ وبما ان صندوق السيارة لم يتّسع لها كلها،‏ نزعت المقعد الخلفي ووضعت مكانه الحقائب الباقية ثم غطيتها بحرامات وألقيت عليها وسادة.‏ فكان كل مَن ينظر الى داخل السيارة يستنتج ان عائلتنا ذاهبة في نزهة الى الشاطئ.‏ وكتدبير احتياطي اضافي،‏ وضعت حراما على الحقائب في صندوق السيارة.‏

      بعد ان طلبنا بركة يهوه،‏ انطلقنا نحن الخمسة —‏ انا وزوجتي وابنينا وابنتنا —‏ الى تيرغو موريش وبراشوڤ لتسليم المطبوعات.‏ وفي الطريق رحنا ننشد ترانيم الملكوت.‏ وبعد ١٠٠ كيلومتر تقريبا،‏ وصلنا الى طريق مليء بالحُفَر.‏ ولأن السيارة كانت مثقلة بحملها،‏ ارتطم أنبوب العادِم بالارض وانكسرت قطعة منه.‏ فتوقفتُ الى جانب الطريق ووضعت القطعة المكسورة في صندوق السيارة قرب العجلة الاحتياطية وفوق الحرام.‏ ثم تابعنا طريقنا فيما السيارة تصدر هديرا يصمّ الآذان.‏

      عندما وصلنا الى بلدة لودُش،‏ استوقفَنا احد رجال الشرطة لكي يتفحّص السيارة ويتأكد انها صالحة للسير.‏ وبعد ان تفقّد رقم المحرك وجرّب البوق ومسّاحتَي الزجاج الامامي والمصابيح وغيرها،‏ طلب مني ان يرى العجلة الاحتياطية.‏ وفيما توجهت نحو مؤخرة السيارة،‏ انحنيت قرب النافذة وهمست الى زوجتي وأولادي:‏ «ابدأوا بالصلاة.‏ فيهوه وحده قادر على مساعدتنا الآن».‏

      عندما فتحت الصندوق،‏ وقع نظر الشرطي فورا على أنبوب العادِم المكسور.‏ فسألني:‏ «ما هذا؟‏ عليك ان تدفع غرامة!‏».‏ وإذ شعر بالرضى لأنه اكتشف عطلا في السيارة،‏ توقف عن التفتيش.‏ فأقفلتُ الصندوق وتنفست الصعداء،‏ ولم اكن قط فرحا بدفع غرامة كما فرحت آنذاك.‏ كانت تلك الحادثة العقبة الوحيدة التي اعترضت سبيلنا،‏ ثم تابعنا رحلتنا وأوصلنا المطبوعات بسلام الى الاخوة.‏

      ‏[الاطار/‏الصورة في الصفحات ١٤٧–‏١٤٩]‏

      مواجهة مع السيكيوريتات

      ڤيوريكا فيليپ

      تاريخ الولادة:‏ ١٩٥٣

      تاريخ المعمودية:‏ ١٩٧٥

      لمحة عن حياتها:‏ بدأت الخدمة كامل الوقت سنة ١٩٨٦ وهي الآن عضو في عائلة بيت ايل.‏

      عندما صرنا انا وأختي أَوريكا من شهود يهوه،‏ عاملتنا عائلتنا بقسوة شديدة.‏ ومع ان ذلك آلمنا كثيرا،‏ فقد قوّانا لاحتمال المواجهات اللاحقة مع السيكيوريتات،‏ كما حصل في احدى امسيات كانون الاول (‏ديسمبر)‏ ١٩٨٨.‏ كنت أعيش آنذاك مع أختي وعائلتها في مدينة أوراديا قرب الحدود مع هنغاريا.‏

      في تلك الامسية فيما كنت ذاهبة الى بيت الاخ الذي يشرف على عمل الترجمة،‏ كان في حقيبة يدي مجلة أعمل على تصحيحها.‏ لم اكن اعلم ان عملاء السيكيوريتات يفتشون المكان ويستجوبون السكان والزائرين على السواء.‏ وحين رأيت ما يحصل،‏ سارعت الى احراق المجلة التي كانت في حقيبتي.‏ ومن المفرح انني استطعت فعل ذلك دون ان يفتضح امري.‏ بعد ذلك،‏ اخذني العملاء انا وشهودا آخرين الى مقرّ السيكيوريتات لكي يتابعوا الاستجواب.‏

      راح رجال السيكيوريتات يستجوبونني طوال الليل.‏ وفي الغد،‏ فتّشوا المكان الذي ظنّوا انني اقيم فيه،‏ وهو عبارة عن بيت صغير في قرية أويْلِياكو دي مونتي المجاورة.‏ لم اكن اقيم في ذلك البيت،‏ غير ان الاخوة كانوا يخزنون هناك مواد استُخدِمت في عملنا السرّي.‏ وبعد ان وجدوا هذه الاشياء،‏ أخذوني من جديد الى مقرّ السيكيوريتات وضربوني بهراوة مطاطية لكي أكشف لهم هوية اصحابها او مَن له علاقة مباشرة بها.‏ فتوسّلت الى يهوه ان يساعدني على احتمال الجَلد.‏ فبدأت اشعر بالطمأنينة ولم أعد احس بالالم سوى لحظات قصيرة بعد كل ضربة.‏ ولكن سرعان ما تورَّمت يداي وبدأت أتساءل إن كنت سأتمكن من الكتابة مجددا.‏ في تلك الامسية،‏ أطلقوا سراحي وتركوني دون اي مال وقد أضناني الجوع والتعب.‏

      سرت حتى محطة الباص الرئيسية فيما كان احد عملاء السيكيوريتات يتعقبني.‏ وبما انني لم اكن قد أخبرت مستجوبيَّ اين أسكن،‏ فلم استطع ان أذهب مباشرة الى بيت أَوريكا خوفا من تعريضها للخطر هي وعائلتها.‏ لم اعرف اين أذهب وماذا أفعل،‏ فتوسّلت الى يهوه وأخبرته انني بحاجة ماسّة الى الطعام والنوم في سريري.‏ وفكّرت في نفسي:‏ ‹هل أطلب الكثير؟‏›.‏

      وصلت الى المحطة حين كان الباص على وشك الانطلاق.‏ فركضت وركبته رغم انني لم أكن أملك ثمن التذكرة.‏ واتّفق انه كان متَّجها الى القرية حيث كنت أقيم من قبل.‏ وبعد لحظات،‏ وصل الى المحطة ايضا عميل السيكيوريتات وسألني الى اين يتجه الباص ثم ترجّل منه.‏ فاستنتجت ان عميلا آخر سيكون بانتظاري في أويْلِياكو دي مونتي.‏ وكم فرحت حين سمح لي السائق بأن ابقى في الباص دون ان أدفع الاجرة!‏ لكنني فكرت في نفسي:‏ ‹لماذا أذهب الى أويْلِياكو دي مونتي؟‏›.‏ فلم أكن اريد ان أذهب الى بيتي لأنني لم أمتلك اي طعام هناك ولا حتى سريرا أنام فيه.‏

      كنت لا أزال أشكو همّي ليهوه حين توقف الباص في احدى ضواحي أوراديا ليُنزِل راكبا هناك.‏ فاغتنمت الفرصة لأترجّل انا ايضا.‏ وعندما أقلع الباص من جديد،‏ غمرني شعور بالفرح.‏ ثم اتّجهت بحذر نحو شقة احد الاخوة الذين أعرفهم.‏ وعندما وصلت كانت زوجته تُخرِج من الفرن الڠولاش،‏ احد الاطباق المفضّلة عندي.‏ فدعاني الاخ وعائلته الى تناول العشاء معهم.‏

      وفي وقت لاحق من تلك الامسية حين شعرت بالامان،‏ اتّجهت الى بيت أَوريكا لكي أنام في سريري.‏ نعم،‏ لقد منحني يهوه الأمرَين اللذين صلّيت من اجلهما:‏ وجبة طعام لذيذة ونوم هنيء في سريري.‏ فيا له من أب رائع!‏

المطبوعات باللغة العربية (‏١٩٧٩-‏٢٠٢٥)‏
الخروج
الدخول
  • العربية
  • مشاركة
  • التفضيلات
  • Copyright © 2025 Watch Tower Bible and Tract Society of Pennsylvania
  • شروط الاستخدام
  • سياسة الخصوصية
  • إعدادات الخصوصية
  • JW.ORG
  • الدخول
مشاركة