-
روسياالكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٨
-
-
«لن يحررك الهك يهوه من هنا»
يتذكر پْيُوتر كريڤوكولسكي صيف سنة ١٩٤٥ ويقول: «بعد ان حوكم الاخوة، أُرسلوا الى مختلف المعسكرات. وفي المعسكر الذي كنت فيه، اعرب الكثير من السجناء عن اهتمام مخلص بالحق. وكان احدهم رجل دين ادرك بسرعة ان ما سمعه هو الحق واتخذ موقفه الى جانب يهوه.
«لكن الاحوال كانت قاسية الى حد بعيد. فذات مرة سُجنت في زنزانة صغيرة جدا بالكاد استطعت الوقوف فيها. وقد دُعيَت بيت البقّ لأنها كانت ملآنة بكميات كبيرة من بقّ الفراش كان بإمكانها على الارجح ان تمتص دم الشخص بكامله. فقال لي المفتش وهو واقف امام الزنزانة: ‹لن يحررك الهك يهوه من هنا›. كانت حصتي اليومية من الطعام ٣٠٠ غرام من الخبز وكوب ماء. ولم يكن هنالك هواء، لذا كنت استند الى الباب الصغير وأحاول تنشق الهواء عبر شق رفيع جدا. كما شعرت ان البقّ يمتص دمي. خلال ايامي العشرة في بيت البقّ، طلبت مرارا من يهوه ان يعطيني القوة على الاحتمال. (ارميا ١٥:١٥) وعندما فُتحت الابواب في نهاية هذه الفترة أُغمي علي، وحين استيقظت وجدت نفسي في زنزانة اخرى.
«وفي ما بعد، حكمت عليّ محكمة تابعة لمعسكر العمل الالزامي بالسجن عشر سنوات في معسكر جزائي خاضع لحراسة مشددة، وذلك بتهمة ‹تهييج النفوس ونشر دعاية مناهضة للسلطة السوفياتية›. في ذلك المعسكر كان من المستحيل ارسال او تسلم اي بريد. كما ان السجناء كانوا عموما من مرتكبي الجرائم العنيفة، كالقتل. وقد قيل لي انه إن لم انكر ايماني، فسيفعل بي هؤلاء الاشخاص كل ما يُطلب منهم. كنت ازن ٣٦ كيلوغراما فقط وبالكاد استطعت المشي. ولكن حتى هناك تمكنت من ايجاد اشخاص مخلصين، قلوبهم مهيأة لقبول الحق.
«وذات مرة، عندما كنت مستلقيا بين الجنبات اصلي، اقترب الي رجل كبير السن وسألني قائلا: ‹ما الذي اتى بك الى هذا الجحيم؟›. وما إن سمع انني واحد من شهود يهوه حتى جلس وضمني اليه وقبلني. ثم قال: ‹يا بُني، لطالما رغبت في درس الكتاب المقدس! فهل تعلمني من فضلك؟›. لم تسعني الدنيا من شدة الفرح. وعلى الفور سحبت قصاصات قديمة من الاناجيل كنت قد خطتها على ثيابي الرثة. فاغرورقت عيناه بالدموع. وفي تلك الامسية دارت بيننا محادثة طويلة اخبرني فيها انه يعمل في قاعة الطعام التابعة للمعسكر وأنه سيهتم بإطعامي. وهكذا اصبحنا صديقين. وقد نما هو روحيا في حين استعدت انا عافيتي. وكنت متأكدا ان يهوه دبر ذلك. بعد بضعة اشهر أُطلق سراحه، اما انا فنُقلت الى معسكر آخر في اقليم غوركي.
«كانت الاحوال هناك افضل بكثير. ولكن الاهم هو انني فرحت بعقد دروس في الكتاب المقدس مع اربعة سجناء. وفي سنة ١٩٥٢ وجد المسؤولون عن المعسكر بعض المطبوعات في حوزتنا. وخلال استجوابي قبل المحاكمة، وُضعتُ في صندوق محكم الاغلاق بحيث لا يمكن ان يتسرب الهواء اليه. وكلما ابتدأت بالاختناق كانوا يفتحون الصندوق لأتنشق القليل من الهواء ثم يغلقونه. فقد ارادوا ان انكر ايماني. وجرت إدانتنا جميعا. وعندما قُرئ على مسامعنا الحكم، لم يهلع احد من تلاميذي الذين يدرسون الكتاب المقدس، الامر الذي اسعدني كثيرا. وقد حُكم على هؤلاء الاربعة بالسجن ٢٥ سنة في المعسكرات. اما انا فكانت عقوبتي اقسى، ولكنها عُدِّلت وأصبحت ٢٥ سنة اضافية في معسكر خاضع لحراسة مشددة و ١٠ سنوات في المنفى. بعد مغادرتنا الغرفة توقفنا وشكرنا يهوه على دعمه ايانا. فتعجّب الحراس متسائلين عن سبب سعادتنا. ثم فُرّقنا وأُرسلنا الى معسكرات مختلفة. وقد أُرسلت انا الى معسكر خاضع لحراسة مشددة في ڤوركوتا».
الحياد المسيحي انقذ حياتهم
كانت الحياة في المعسكرات قاسية جدا. وانتحر كثيرون من السجناء غير الشهود. يذكر إيڤان كريلوڤ: «بعد اطلاق سراحي من المعسكر الخاضع لحراسة مشددة، قصدتُ عدة مناجم فحم أُجبر فيها اخوتنا وأخواتنا على القيام بأشغال شاقة. ونجحتُ في الاتصال بهم، وكان كل مَن يتمكن من نسخ بعض مجلاتنا باليد يمرِّر النسخ الى الآخرين. لقد كرز الشهود في كل المعسكرات، وكثيرون اظهروا اهتماما. فاعتمد بعضهم في نهر ڤوركوتا بعد اطلاق سراحهم.
«كان ايماننا بيهوه وملكوته يُمتحن بشكل دائم. وحدث سنة ١٩٤٨ ان بعض السجناء في احد المعسكرات في ڤوركوتا اعلنوا العصيان. وكان المتمردون قد قالوا للسجناء الآخرين ان العصيان سيحقق اكبر نجاح ممكن اذا نظموا انفسهم ضمن مجموعات، بحسب القومية او الدين مثلا. وفي ذلك الوقت كان يوجد في المعسكر ١٥ شاهدا مسجونا. فقلنا للمتمردين ان شهود يهوه مسيحيون وإنه لا يمكننا المشاركة في امور كهذه. كما أوضحنا لهم ان المسيحيين الاولين لم يشاركوا في اي عصيان على الرومان. طبعا، فوجئ كثيرون بموقفنا، ومع ذلك لم نَعدِل عنه مطلقا».
ادى العصيان الى نتائج مأساوية. فقد تمكن الجنود المسلحون من سحق المقاومة، واقتادوا المتمردين الى ثكنة اخرى. وبعد ذلك رشّوا الثكنة بالوقود وأشعلوا فيها النار. فمات معظم مَن في الداخل. اما الاخوة فلم يمسَّهم الجنود بسوء.
ويمضي إيڤان قائلا: «في كانون الاول (ديسمبر) ١٩٤٨، التقيت في معسكر واحد بثمانية اخوة حُكم عليهم بالسجن ٢٥ سنة. وكان الشتاء قارسا جدا، والعمل في المناجم صعبا. ومع ذلك كنت ارى عيون هؤلاء الاخوة تشع ثقة ورجاء اكيدا. ونظرتهم الايجابية قوَّت حتى السجناء الذين ما كانوا من شهود يهوه».
النفي الى سيبيريا
رغم المقاومة الوحشية من قِبل السلطات، استمر الشهود يكرزون ببشارة ملكوت يهوه بغيرة. وهذا اثار حنق الحكومة المركزية في موسكو وأغاظ كثيرا المخابرات السوفياتية. وقد جاء في مذكرة مؤرخة في ١٩ شباط (فبراير) ١٩٥١ ارسلتها المخابرات السوفياتية الى ستالين: «بهدف قمع اية انشطة اضافية معادية للسوفيات تقوم بها حركة اتباع يهوه السرية، ترى وزارة امن الدولة [ما عُرف لاحقا بالمخابرات السوفياتية KGB] انه لا بد من نفي مَن يُعرف انهم من اتباع يهوه مع عائلاتهم الى اقليمَي إركوتْسْك وتومْسْك». وكانت المخابرات السوفياتية تعرف مَن كانوا شهودا، فطلبت من ستالين الإذن بنفي ٥٧٦,٨ شخصا من ست جمهوريات سوفياتية الى سيبيريا. وقد سُمح لها بذلك.
تذكر ماڠدالينا بيلوشيتسْكايا: «عند الساعة الثانية من صباح يوم الاحد، في ٨ نيسان (ابريل) ١٩٥١، استيقظنا على صوتِ قرْعٍ قوي للباب. فقفزت امي من فراشها وهرعت الى الباب وفتحته، وإذا بضابط يقف امامنا ويقول بشكل رسمي: ‹تقرَّر نفيكم الى سيبيريا لإيمانكم باللّٰه. وسأعطيكم مهلة ساعتين لتوضّبوا اغراضكم. يمكنكم اخذ اي شيء في البيت. ولكن لا يُسمح بأخذ الحبوب والدقيق، وكذلك الاثاث والامتعة الخشبية وآلات الخياطة. كما لا يُسمح بأخذ شيء من خارج البيت. اجلبوا معكم اغطية الاسرّة والملابس والحقائب واخرجوا›.
«كنا قد قرأنا في مطبوعاتنا انه يوجد عمل كثير لإنجازه شرق البلاد. ففهمنا عندئذ ان الوقت قد حان لذلك.
«لم يرفع ايٌّ منا صوته بالبكاء. ففاجأ ذلك الضابط الذي قال: ‹دمعة واحدة صغيرة لم تذرفها عيونكم›. فقلنا اننا نتوقع حدوث ذلك منذ سنة ١٩٤٨. ثم طلبنا الإذن بأن نأخذ معنا واحدة على الاقل من دجاجاتنا الحية، لكنه رفض. ووزّع الضباط على انفسهم ما لدينا من حيوانات داجنة، وتقاسموا الدجاجات امام اعيننا. فأخذ واحد خمس دجاجات، وواحد ستًّا، وآخر ثلاثًا او اربعًا. وحين لم يبقَ في القن سوى دجاجتين، امر الضابط بذبحهما وإعطائهما لنا.
«كانت ابنتي البالغة من العمر ثمانية اشهر نائمة في مهد خشبي. فسألْنا الضابط هل يمكن ان نأخذه معنا. فأمر بأن يُفكَّك المهد وأن نُعطى فقط الجزء الذي توضع الطفلة فيه.
«سرعان ما عرف جيراننا اننا سنُنفى. فجلب احدهم كيسا صغيرا فيه قطع من الخبز المحمص ورماه الى داخل العربة التي كانت تقلّنا. لكن الجندي الذي يحرسنا رأى ما جرى، فرمى الكيس الى الخارج. كنا ستة اشخاص: انا، امي، اخويَّ، زوجي، وابنتنا البالغة من العمر ثمانية اشهر. وعندما صرنا خارج القرية دُفعنا بسرعة الى داخل سيارة ذهبت بنا الى المركز الاقليمي، حيث مُلئت ملفاتنا. وبعد ذلك أُخذنا بالشاحنة الى محطة السكة الحديدية.
«كان يوم الاحد مشمسا وجميلا. وكانت المحطة تعج بالناس بين منفيين ومتفرجين. وقد توقفت شاحنتنا تماما عند عربة قطار كان اخوتنا فيها. عندما امتلأ القطار، تحقق الجنود من وجود الجميع بقراءة اسماء العائلات، وكان في عربتنا ٥٢ شخصا. وقبل الانطلاق، انهمرت الدموع من اعين الاشخاص الذين جاءوا ليودّعونا، حتى ان بعضهم صار يشهق وهو يبكي. وقد دُهشنا لرؤية هؤلاء الناس لأننا لم نكن نعرف بعضا منهم. ولكنهم كانوا يعرفون اننا من شهود يهوه وأننا نُنفى الى سيبيريا. بعدئذ اطلق المحرك البخاري صفيره المدوي. فبدأ اخوتنا يرنمون باللغة الاوكرانية: ‹لتكن محبة المسيح معكم. المجدَ نعطي ليسوع المسيح. سنلتقي ثانيةً في ملكوته›. كان لمعظمنا ملء الثقة والرجاء ان يهوه لن يتركنا. وقد رنّمنا عدة ابيات من الترنيمة. فبات الوضع مؤثرا جدا حتى ان بعض الجنود بدأوا يبكون. وبعد ذلك انطلق القطار».
«عكس ما كان متوقعا»
اورد الدكتور ن. س. ڠورْديينْكو — بروفسور في جامعة هيرْزِن في سانت بيترسبرغ — في كتابه ما حققه المضطهِدون، قائلا: «اتت النتائج عكس ما كان متوقعا. فقد ارادوا إضعاف هيئة شهود يهوه في الاتحاد السوفياتي، لكنهم في الحقيقة زادوا من قوتها. ففي المستوطنات الجديدة التي لم يسبق ان سمع احد فيها بهذا الدين، نقل شهود يهوه ‹عدوى› ايمانهم وولائهم الديني الى السكان المحليين».
تكيف شهود كثيرون مع ظروفهم الجديدة بشكل سريع. فتشكلت جماعات صغيرة وعُيّنت المقاطعة التابعة لكل منها. يقول نيكولاي كاليبابا: «كنا في سيبيريا نكرز من بيت الى بيت، او بتعبير ادق، من بيت الى بيت يفصل بينهما بيتان او ثلاثة. لكن الامر ينطوي على مخاطرة. فماذا كنا نفعل؟ عند البدء بالكلام، كنا نطرح هذا السؤال على الناس: ‹هل تبيعون دجاجا او ماعزا او بقرا؟›، ثم نحوّل المحادثة تدريجيا الى موضوع الملكوت. وعقب الزيارة الاولى، كنا نحاول القيام بزيارة مكررة بعد شهر تقريبا. بعد فترة علمت المخابرات السوفياتية بالامر، وسرعان ما نُشرت في الصحيفة مقالة تحذر السكان المحليين من التكلم الى شهود يهوه. وقد ذكرت المقالة ان الشهود يذهبون من بيت الى بيت ويقولون للناس انهم يريدون ماعزا وبقرا ودجاجا. لكننا في الحقيقة كنا نبحث عن خراف».
ويروي ڠاڤريل ليڤي: «حاول الاخوة الاشتراك في الخدمة مع ان المخابرات السوفياتية كانت تراقبهم عن كثب. وقد تبنى الشعب السوفياتي هذا الموقف: عليك استدعاء الشرطة فورا اذا اشتبهت ان احدا يحاول التحدث اليك في موضوع ديني. ورغم ذلك استمررنا في الكرازة، مع اننا لم نشهد اية نتائج ملموسة في البداية. لكن بمرور الوقت بدأ الحق يغيّر بعض السكان المحليين، بينهم رجل روسي كان يشرب الخمر بكثرة. فعندما تعرّف بالحق، جعل حياته تنسجم مع مبادئ الكتاب المقدس وصار شاهدا نشيطا. وفي وقت لاحق استدعاه ضابط في المخابرات السوفياتية وقال له: ‹مع مَن تقضي وقتك؟ فهؤلاء الشهود جميعهم اوكرانيون›.
«فأجاب الاخ: ‹عندما كنت سكيرا مرميا في الشارع، لم تكترثوا بأمري بتاتا. اما الآن فبعدما صرت انسانا سويّا ومواطنا صالحا، ارتأيتم ان هذا غير جيد. كثيرون من الاوكرانيين يغادرون سيبيريا، لكنهم يتركون وراءهم سكانا محليين يعلّمهم اللّٰه كيف يجب ان يعيشوا›».
بعد سنوات قليلة، بعث ضابط من إركوتْسْك برسالة الى موسكو جاء فيها: «قال العديد من العمال المحليين انه يجب ارسال جميع [شهود يهوه] هؤلاء الى منطقة في الشمال لكي ينقطع كل اتصال بينهم وبين الناس ويعاد تأهيلهم». فلا المسؤولون في سيبيريا ولا المسؤولون في موسكو عرفوا كيف يُسكتون شهود يهوه.
«لَكُنَّا قتلناكم جميعا»
في اوائل سنة ١٩٥٧، نظمت السلطات حملة جديدة ضد شهود يهوه. فكان الاخوة يلاحَقون وبيوتهم تُفتَّش. يذكر ڤيكتور ڠوتشميت: «عندما رجعت ذات يوم الى بيتي من الخدمة، وجدتُ كل ما في الغرفة مقلوبا رأسا على عقب. فكانت المخابرات السوفياتية تبحث عن مطبوعات. وبعد اعتقالي استمروا يستجوبونني طوال شهرين. وفي ذلك الوقت كانت ابنتي الصغرى يوليا في شهرها الـ ١١، وابنتي الكبرى في سنتها الثانية.
«خلال التحقيق سألني المفتش: ‹هل انت الماني؟›. وفي ذلك الوقت كانت كلمة ‹الماني› في نظر كثيرين مرادفة لكلمة ‹فاشيّ›. فكان الالمان مكروهين.
«فقلت له: ‹انا لست من الدعاة الى القومية، ولكن اذا كنتَ تتحدث عن الالمان المسجونين في معسكرات الاعتقال على يد النازيين، فأنا افتخر بهم. كان اسمهم سابقا بيبلفورشر، اما الآن فاسمهم شهود يهوه. وبكل اعتزاز اقول لك ان لا احد من الشهود اطلق رصاصة من رشاش او قذيفة من مدفع. حقا، هؤلاء الالمان مدعاة للفخر!›.
«بقي المفتش صامتا، فمضيتُ اقول: ‹انا على ثقة بأنه لا احد من شهود يهوه اشترك في اي تمرد او عصيان. صحيح انهم لا يتوقفون عن عبادة اللّٰه حتى عندما تكون نشاطاتهم محظورة، لكنهم في الوقت نفسه يعترفون بالسلطات الشرعية ويطيعونها ما دامت قوانينها لا تخالف الشرائع الاسمى التي وضعها خالقنا›.
«فجأة قاطعني المفتش وقال: ‹لم نتحرَّ قط عن اية مجموعة بقدر ما تحرَّينا عن الشهود ونشاطاتهم. ولو وُجد في السجلات اي شيء ضدكم، حتى مجرد اذى بسيط ألحقتموه بشخص ما، لَكُنَّا قتلناكم جميعا›.
«عندئذ قلت في نفسي: ‹يتحلى اخوتنا في كل انحاء العالم بالشجاعة في خدمة يهوه، وقد انقذ مثالهم حياتنا نحن الساكنين في الاتحاد السوفياتي. ولعل خدمتنا للّٰه هنا تساعد بطريقة ما اخوتنا الموجودين في اماكن اخرى›. فقوّت هذه الفكرة تصميمي على الثبات في طرق يهوه».
الشهود في اكثر من ٥٠ معسكرا
ظل موقف شهود يهوه الحيادي وخدمتهم الغيورة في الاتحاد السوفياتي يثيران حنق الحكومة. (مر ١٣:١٠؛ يو ١٧:١٦) وغالبا ما ادى ذلك الى الحكم على الاخوة ظلما بالسجن فترات طويلة.
خلال المحافل الـ ١٩٩ التي عُقدت حول العالم من حزيران (يونيو) ١٩٥٦ الى شباط (فبراير) ١٩٥٧، وافق ٩٣٦,٤٦٢ مندوبا بالاجماع على عريضة أُرسلت نسخ منها الى مجلس وزراء الاتحاد السوفياتي في موسكو. وبعض ما جاء فيها: «هناك اشخاص من شهود يهوه مسجونون في اكثر من ٥٠ معسكرا في المناطق الممتدة من روسيا الاوروبية الى المحيط القطبي الشمالي مرورا بسيبيريا، وحتى في جزيرة نوڤايا زَمليا القطبية . . . ويقال عن شهود يهوه في اميركا والبلدان الغربية الاخرى انهم شيوعيون، اما في البلدان الخاضعة للحكم الشيوعي فيقال انهم امبرياليون . . . لقد اتهمتهم الحكومات الشيوعية بأنهم ‹جواسيس امبرياليون› واقتادتهم الى المحاكم وحكمت عليهم بالسجن فترات تصل الى ٢٠ سنة. لكن هؤلاء لم يشاركوا قط في اي نشاط هدّام». والمؤسف ان العريضة لم تنجح في تحسين وضع شهود يهوه في الاتحاد السوفياتي.
كذلك لاقت عائلات شهود يهوه في روسيا صعوبة بالغة في تربية اولادها. قال فلاديمير سوسْنين من موسكو، وهو والد ربى ثلاثة بنين في تلك الفترة: «كان الذهاب الى مدرسة سوفياتية امرا إلزاميا. وقد ضغط المعلمون والتلاميذ الآخرون على اولادنا لكي ينضموا الى منظمات خاصة بالاولاد تروّج للفكر الشيوعي. اردنا ان يتلقى صغارنا علومهم الضرورية، وكنا نساعدهم في دروسهم. ولكن لم يكن سهلا علينا نحن الوالدين ان ننمي محبة يهوه في قلوبهم. فقد كانت المدارس مشحونة بالافكار التي تهدف الى تعزيز الاشتراكية والشيوعية. لذلك وجب علينا ان نتحلى بالصبر والمثابرة الى اقصى الحدود».
متَّهَمان بقطع اذن ابنتهما
ربى سيميون وداريا كوسْتيلْييڤ ثلاثة اولاد في سيبيريا. يروي سيميون: «كان شهود يهوه يُعتبرون في ذلك الوقت فئة متعصبة. وفي سنة ١٩٦١، بدأت ابنتنا الثانية ألا سنتها الدراسية الاولى. وفيما كانت ذات يوم تلعب مع اولاد آخرين، جرحها احدهم في اذنها عن غير قصد. فسألتها المعلمة في اليوم التالي عما حدث، لكن ألا لزمت الصمت لأنها لم ترد ان تشي بالفاعل. وكانت المعلمة تعرف ان والدَيها من شهود يهوه، فاستنتجت انهما يضربانها ليجبراها على العيش وفق مبادئ الكتاب المقدس. بعد ذلك ابلغت المدرسة المسألة الى مكتب المدعي العام. وصارت الشركة التي اعمل فيها متورطة في الموضوع. وقد استمرت التحقيقات نحو سنة، وفي النهاية استُدعينا للمثول امام المحكمة في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٦٢.
«طوال الاسبوعين اللذين سبقا المحاكمة، عُلقت لافتة على مبنى قصر الثقافة كُتب عليها: ‹محاكمة المنتمين الى بدعة اتباع يهوه الخطرة تبدأ قريبا›. وخلال المحاكمة اتُّهمنا انا وزوجتي بتربية اولادنا بحسب الكتاب المقدس. كما اتُّهمنا بأننا متوحشان. فقد زعمت المحكمة اننا كنا نجبر ابنتنا على الصلاة وأننا قطعنا اذنها بحرف دلو! وكانت ألا الشاهدة الوحيدة في القضية، لكنها أُرسلت الى ميتم في كيرنسك، مدينة تبعد مسافة ٧٠٠ كيلومتر تقريبا عن شمال إركوتْسْك حيث نعيش.
«كانت القاعة تغص بأعضاء احدى المنظمات الشبابية الناشطين. وعندما رُفعت الجلسة للتداول، اثار الجمع ضجة كبيرة. فقد وجّهوا الينا التهديدات والشتائم، وطالب احدهم ان نخلع ملابسنا ‹السوفياتية›. وكان الجميع يصيحون مطالبين بإعدامنا، حتى ان واحدا اراد ان يقتلنا حالا حيثما نحن. ولكن رغم احتدام غضب الجمع، لم يبرح القضاة مكانهم. واستمر التداول ساعة من الوقت. وعندما اندفع الجمع نحونا، وقفت اخت وزوجها غير المؤمن بيننا وبينهم وتوسلا اليهم ألا يؤذونا. وقد تمكّنَا من اختطافنا من ايديهم وهما يحاولان ان يشرحا لهم ان كل التهم الموجهة الينا باطلة.
«وأخيرا حضر القاضي مع مستشارَي محكمة الشعب وقرأ علينا الحكم الذي حرمنا من الحقوق الابوية. ثم وُضعتُ تحت الحراسة وأُرسلت الى احد معسكرات العمل الالزامي الاصلاحية مدة سنتين. كما أُرسلَت ابنتنا الكبرى الى ميتم بعدما قيل لها ان ابويها ينتميان الى بدعة خطرة ويؤثران سلبا في تربيتها.
«اما ابننا فتُرك مع داريا لأنه كان في الثالثة فقط من العمر. وبعدما انتهت فترة عقوبتي، عدت الى المنزل. وكما في السابق، اقتصرت كرازتنا على الخدمة غير الرسمية».
«فخوران جدا بأولادنا»
«غادرت ألا الميتم حين بلغت الـ ١٣ من عمرها، وعادت الى البيت لتعيش معنا. وكم ابتهجنا حين نذرت نفسها ليهوه واعتمدت سنة ١٩٦٩! في تلك الفترة تقريبا، كانت سلسلة من المحاضرات حول الدين تُلقى في قصر الثقافة في مدينتنا. فقررنا الذهاب لنستمع الى ما سيقولونه هذه المرة. وكالعادة، كانت معظم المناقشات تدور حول شهود يهوه. وقد حمل احد المحاضرين عددا من برج المراقبة وقال: ‹هذه المجلة مؤذية وخطيرة، وهي تقوّض وحدة دولتنا›. ثم اعطى هذا المثال: ‹يجبر اعضاء هذه البدعة اولادهم على قراءة مجلات كهذه وعلى الصلاة ايضا. وفي احدى العائلات رفضت فتاة صغيرة قراءة المجلة، فقطع ابوها اذنها›. ففاجأ هذا الكلام ألا، التي كانت جالسة هناك تستمع الى المحاضرة بأذنين سليمتين. لكنها لم تقل شيئا، لأنها خشيت ان يبعدوها عن والديها من جديد.
«عندما بلغ ابننا بوريس الـ ١٣ من العمر، نذر نفسه ليهوه واعتمد. وفي احدى المرات كان يكرز في الشوارع مع شهود في مثل سنه، رغم ان نشاطاتنا كانت لا تزال محظورة في ذلك الوقت. ولم يكن معهم كتاب مقدس ولا اية مطبوعات مؤسسة على الكتاب المقدس. وفجأة اقتربت منهم سيارة وأخذتهم جميعا الى مركز الميليشيا. وبعد استجوابهم وتفتيشهم، لم يجد رجال الميليشيا سوى ورقة كُتبت عليها بعض الآيات من الكتاب المقدس. فسُمح لهم بالعودة الى منازلهم. وعندما وصل بوريس الى البيت، اخبرَنا بكل فخر كيف اضطُهد هو والاخوة الآخرون من اجل اسم يهوه. فشعرنا اننا فخوران جدا بأولادنا لأن يهوه دعمهم وقت الامتحان. بعد ذلك استدعتنا المخابرات السوفياتية انا وداريا عدة مرات. وقال احد الضباط: ‹يستحق هؤلاء الاولاد ان نرسلهم الى مستعمرة جزائية للاحداث. ولكن من المؤسف انهم لم يبلغوا الـ ١٤ بعد›. ثم دفعنا غرامة جزاء نشاطات ابني التبشيرية.
-
-
روسياالكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠٠٨
-
-
كانت امي غيورة جدا في الخدمة. وعُيِّنَت خادمة فريق لأن كل الاخوة تقريبا كانوا مسجونين في المعسكرات. وقد انتقلت غيرتها في الخدمة اليّ.
في سنة ١٩٥٠، اعتُقلتُ بسبب نشاطاتي الدينية، وحَكمت علي المحكمة بالسجن عشر سنوات في احد المعسكرات. فأُخذت مع اربع اخوات اخريات الى بلدة أوسُلْي-سيبِرْسكُي في سيبيريا. وبدءا من نيسان (ابريل) ١٩٥١ صرنا نعمل في مد السكك الحديدية. كنا نحمل على اكتافنا العوارض الثقيلة — عارضة لكل اثنتين منا — المستخدمة لتثبيت قضبان السكة. كما اننا كنا ننقل ونثبّت بأيدينا القضبان المعدنية التي يبلغ طول كلٍّ منها ١٠ امتار ووزنه ٣٢٠ كيلوغراما. وهذا العمل ارهقنا للغاية. وذات يوم، حين كنا عائدات من العمل خائرات القوى، توقف الى جانبنا قطار مليء بالسجناء. ومن احدى النوافذ تطلّع الينا رجل وسأل: «ايتها الفتيات، هل بينكنَّ واحدة من شهود يهوه؟». فتلاشى كل تعبنا، وصرخنا قائلات: «نحن خمس اخوات». فقد كان بين السجناء اخوة وأخوات اعزاء نُفُوا من اوكرانيا. وفيما القطار لا يزال متوقفا، اخبرونا بلهفة عما حصل معهم وكيف جرى نفيهم. بعد ذلك ألقى الاولاد على مسامعنا قصائد نظَمها الاخوة انفسهم. ولم يزعجنا احد، ولا حتى الجنود، فتمكّنّا من التحادث وتشجيع بعضنا بعضا.
ومن أوسُلْي-سيبِرْسكُي نُقلنا الى معسكر كبير قرب مدينة أنْڠَرسك فيه ٢٢ اختا. وكانت الاخوات قد نظّمن كل شيء هناك، بما فيه المقاطعات المخصصة للتبشير. وهذا ساعدَنا على البقاء احياء روحيا.
-