-
روانداالكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠١٢
-
-
الابادة الجماعية!
مساء الاربعاء، الواقع فيه ٦ نيسان (ابريل) ١٩٩٤، قُصفت طائرة تحمل رئيسَي رواندا وبوروندي قرب كيڠالي، وقُتل جميع مَن كان على متنها إثر تحطمها. ولم يعرف في تلك الليلة سوى قليلين من الناس بما حدث، لأن الاذاعة الرسمية لم تعلن الخبر.
لن ينسى المرسلون الثلاثة، الزوجان بينت والاخ هانك، ما جرى في الايام التالية. يشرح الاخ بينت: «في الصباح الباكر من ٧ نيسان (ابريل)، استيقظنا على اصوات اطلاق نار وتفجيرات القنابل اليدوية. لم يفاجئنا هذا الامر، لأن الوضع السياسي في البلاد لم يكن مستقرا البتة في الاشهر الاخيرة. وفيما كنا نعدّ الفطور، تلقينا اتصالا هاتفيا من ايمانويل نْڠيرِنْتي من مكتب الترجمة، يخبرنا فيه ان الاذاعة المحلية اعلنت وفاة الرئيسَين في حادث تحطّم طائرة. كما ان وزير الدفاع حذّر الجميع في كيڠالي من مغادرة منازلهم.
«نحو الساعة التاسعة صباحا، سمعنا الناهبين يقتحمون منزل جيراننا. فسرقوا سيارة العائلة وقتلوا الوالدة.
«وسرعان ما أتى بعض الجنود والناهبين الى منزلنا، وراحوا يدقون بعنف على البوابة الحديدية ويقرعون الجرس. إلا اننا حافظنا على هدوئنا ولم نخرج لنفتح لهم البوابة. لسبب او لآخر، لم يحاولوا فتح البوابة عنوة بل انتقلوا الى المنزل التالي. في هذه الاثناء، كانت اصوات الاسلحة الاوتوماتيكية والتفجيرات تُسمَع من كل حدب وصوب، ولم تتوفر اي وسيلة للهروب. وبما ان ازيز الرصاص لم يكن بعيدا، اجتمعنا في رواق الغرف في وسط المنزل لتفادي الرصاص الطائش. وبعدما ادركنا ان الوضع لن يهدأ بسرعة، قررنا ان نحضّر وجبة واحدة في اليوم ونتقاسمها جميعا لئلا تنفد مؤن الطعام لدينا. وفي اليوم التالي، فيما كنا نستمع الى الاخبار على الإذاعة بعد تناول وجبة الغداء، صرخ هانك: ‹انهم يتجهون نحو السياج!›.
«فما كان منا إلا ان توجهنا دون تفكير الى الحمام وأغلقنا الباب. ثم صلينا معا، طالبين من يهوه ان يساعدنا على تحمّل ما سيحدث لنا مهما كان. وقبل ان ننهي صلاتنا، سمعنا الميليشيا وعددا من الناهبين (نحو ٤٠ رجلا وامرأة وولدا) يقتحمون البيت عبر الابواب والشبابيك. وفي دقائق معدودة، اصبحوا داخل المنزل وراحوا يصرخون ويقلبون الاثاث رأسا على عقب. كما اخذوا يطلقون النيران وهم يتشاجرون حول الاغراض التي وجدوها.
«بعد مرور نحو ٤٠ دقيقة بدت وكأنها دهر، حاولوا خلع باب الحمام. فأدركنا انه يجب علينا ان نخرج ونظهر أنفسنا. كان الرجال تحت تأثير المخدِّرات ويتصرفون بجنون. فهددونا بالسواطير والسكاكين. وكانت جِني تصرخ بأعلى صوتها الى يهوه، فيما لوَّح احدهم بساطوره وضرب هانك بجهته غير المسنونة فأصابه عند اسفل رقبته. فوقع هانك في حوض الاستحمام. بطريقة او بأخرى، تمكّنت من إيجاد بعض المال فأعطيته للمعتدين، الذين راحوا يتقاتلون عليه.
«وفجأة رأينا احد الشبان يحدِّق الينا. لم نكن نعرفه، انما هو تعرّف إلينا ربما بسبب عملنا الكرازي. فأمسك بنا ودفعنا داخل الحمام وطلب منا ان نغلق الباب. ثم قال لنا انه سيأتي لإنقاذنا.
«استمر صوت ضجيجهم ٣٠ دقيقة تقريبا، ثم ساد السكون. فعاد الشاب ليعلِمنا انه بإمكاننا الخروج الآن. وأصرّ ان نخلي المكان فورا، فقادنا خارج المنزل دون ان نأخذ معنا شيئا. وفي الطريق هالَنا منظر جثث جيراننا الملقاة هنا وهناك. اصطحَبَنا اثنان من الحرس الجمهوري الى منزل مسؤول عسكري في الجوار، وهو بدوره أخذنا الى فندق ميل كولين حيث لجأ كثيرون. وأخيرا، في ١١ نيسان (ابريل)، تمَّ ترحيلنا الى كينيا بعد ساعات من القلق والاجراءات العسكرية المضنية لنقلنا من المدينة الى خلف المطار عبر طريق فرعية. وصلنا الى بيت ايل في نيروبي ودخلنا باحة الاستقبال شعرُنا مشعَّث وثيابنا غير مرتبة. اما هانك الذي كان قد انفصل عنا خلال ترحيلنا، فوصل الى نيروبي بعد ساعات قليلة. وفي بيت ايل غمرنا اعضاء العائلة باهتمامهم ودعمهم الحبيّين».
صلاة فتاة صغيرة تنقذ العائلة
بعد يوم من تحطّم الطائرة التي اودت بحياة رئيسَي رواندا وبوروندي، داهم ستة جنود حكوميين منزل الاخ رْوَاكابوبو. كانت عيونهم محتقنة بالدماء، وتفوح من نَفَسهم رائحة الكحول، ودلت تصرفاتهم انهم تحت تأثير المخدِّرات. طلبوا من الاخ ان يسلمهم الاسلحة. فأخبرهم بأنه وعائلته من شهود يهوه ولا يملكون اسلحة.
عرف الجنود ان شهود يهوه بسبب حيادهم رفضوا دعم الحكومة ولم يقدِّموا المساعدات للجيش، ما أثار حنقهم. وتجدر الاشارة ان ڠاسپار وميلاني رْوَاكابوبو لم يكونا من التوتسي، لكن ميليشيا الانترَهاموِ التابعة للهوتو لم تقتل التوتسي فقط بل الهوتو المعتدلين ايضا، خصوصا اولئك الذين اشتُبه بأنهم تعاطفوا مع التوتسي او مع قوات الجبهة.
فضرب الجنود ڠاسپار وميلاني بالعصي ثم اخذوهما مع اولادهما الخمسة الى غرفة النوم، نزعوا الشراشف عن الأسِرَّة، وراحوا يغطون بها العائلة. بدت نواياهم واضحة جدا للاخ ڠاسپار، إذ رأى البعض منهم يحملون قنابل يدوية في ايديهم. لذلك سألهم: «من فضلكم، هل تسمحون لنا ان نصلي؟».
رفض احد الجنود طلبهم بازدراء. ولكن بعد مناقشة قصيرة، وافقوا على مضض ان يسمحوا لهم بالصلاة. فقالوا لهم: «حسنا، يمكنكم الصلاة لدقيقتين فقط».
صلّت العائلة بصمت، باستثناء ديبورا ذات السنوات الست التي صلّت بصوت عالٍ وقالت: «يا يهوه، انهم يريدون ان يقتلونا. فكيف سأتمكن من زيارة الاشخاص الذين بشّرتهم مع أبي ووزّعت لهم خمس مجلات؟ انهم ينتظرون ان نعود لزيارتهم، فهم بحاجة الى معرفة الحق. أعدك يا يهوه انهم اذا لم يقتلونا فسأصبح ناشرة وأعتمد وأنخرط في الفتح! خلِّصنا يا يهوه، أرجوك!».
ذهل الجنود عند سماعهم صلاتها. فقال احدهم: «بسبب صلاة هذه الفتاة الصغيرة، لن نقتلكم. وإذا أتى آخرون إليكم، فقولوا لهم اننا كنا هنا».b
الاوضاع تتأزّم
ازدادت حدة الحرب فيما كانت قوات الجبهة الوطنية الرواندية تتقدّم نحو العاصمة كيڠالي، ما حدا برجال ميليشيا الانترَهاموِ اليائسين الى قتل المزيد والمزيد من الناس.
وقد اقام الجنود ورجال ميليشيا الانترَهاموِ المسلَّحون مع السكان المحليين حواجز في كل ارجاء المدينة وعلى مختلف مفارق الطرق. وأُجبر كل الرجال على الوقوف ليل نهار عند هذه الحواجز مع الانترَهاموِ بهدف التحقق من هوية ابناء التوتسي وقتلهم.
ومع استمرار القتل في كل انحاء البلاد، ترك مئات آلاف الروانديين منازلهم. ولجأ عدد منهم، بينهم شهود ليهوه ايضا، الى الكونغو وتنزانيا المجاورتين.
في مواجهة الحرب والموت
في ما يلي، روايات عن اخوة وأخوات شهدوا انهيار العالم من حولهم. تذكّر ان شهود يهوه في رواندا عانوا امتحانات قاسية في ثمانينات القرن العشرين، امتحانات قوّت ايمانهم ومحّصته وزادت من شجاعتهم. فإيمانهم ساعدهم ألا يكونوا «جزءا من العالم»، وذلك برفضهم الاشتراك في الانتخابات، والوقوف للدفاع عن مناطقهم، والتدخل في الشؤون السياسية. (يو ١٥:١٩) اما شجاعتهم فساعدتهم على تحمل ما قاسوه من ازدراء وسجن واضطهاد وموت جراء رفضهم هذا. وهاتان الصفتان، الى جانب محبتهم للّٰه وللقريب، لم تمكِّناهم من الامتناع عن الاشتراك في الابادة الجماعية فحسب، بل ايضا من المخاطرة بحياتهم في سبيل حماية واحدهم الآخر.
لم نأتِ على ذكر كافة الاختبارات التي حدثت. فأغلب الاخوة يفضّلون نسيان التفاصيل المروِّعة، لأنهم لا يسعون الى الانتقام. لكننا نأمل ان تشجعنا روايات الإيمان هذه على اظهار المحبة التي تميزنا كتلاميذ حقيقيين ليسوع المسيح. — يو ١٣:٣٤، ٣٥.
قصة جان وشانتال
بدأ جان دو ديو موڠابو بدرس الكتاب المقدس مع شهود يهوه عام ١٩٨٢. وقد اخذ مواقف حيادية حتى قبل معموديته عام ١٩٨٤، وسُجن ثلاث مرات بسببها. وفي عام ١٩٨٧، تزوج هذا الاخ المرح والمحب من شانتال، اخت اعتمدت هي ايضا سنة ١٩٨٤. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه الابادة الجماعية، كان لديهما ثلاث بنات. فلازمت الفتاتان الأكبر سنا منزل جدِّهما وجدتهما خارج المدينة، اما الصغرى التي لم تتجاوز الستة اشهر فبقيت مع جان وشانتال.
في اليوم الاول من الابادة الجماعية، اي في ٧ نيسان (ابريل) ١٩٩٤، راح الجنود والانترَهاموِ يهاجمون كل منازل التوتسي. فاعتُقل جان وضُرب بالهراوى، إلا انه تمكن من الهرب ولجأ مع اخ آخر الى قاعة ملكوت مجاورة. في تلك الاثناء، سارعت شانتال، دون ان تعلم ما حل بزوجها، الى مغادرة المدينة مع طفلتها لتنضم الى ابنتيها الاخريين.
يروي جان ما حدث له: «اختبأنا انا والاخ مدة اسبوع في قاعة الملكوت. وكانت احدى الأخوات من الهوتو تحضر لنا الطعام كلما رأت الوضع آمنا. ثم اضطررنا الى الاختباء في السطح بين ألواح التسقيف الحديدية والسقف، فكدنا نحترق من شدة حر الشمس. لذا حاولنا ايجاد مخبإ افضل بأية وسيلة ممكنة. وبما ان قاعة الملكوت كانت في السابق فرنا لا تزال مدخنته الكبيرة موجودة، قمنا برفع بعض قطع القرميد من المدخنة واختبأنا اكثر من شهر بداخلها ونحن نجلس القرفصاء.
«هذا وقد اقامت ميليشيا الانترَهاموِ حاجزا قريبا من القاعة، وغالبا ما كان المسلحون يدخلون للتشاور او للاحتماء من المطر. فكنا نسمعهم من فوق يتكلمون. واستمرت الاخت بإحضار الطعام كلما سنحت الفرصة. وفي بعض الاحيان شعرت ان قدرتي على الاحتمال قد نفدت مني، لكني واظبت على الصلاة الى يهوه كي يمنحني القوة. وأخيرا، في ١٦ ايار (مايو)، اخبرتنا الاخت ان الجبهة الوطنية الرواندية سيطرت على المدينة وأنه بإمكاننا الآن الخروج من مخبئنا».
ولكن ماذا حل بشانتال زوجة جان؟ لندعها هي تكمل الرواية: «تمكنت انا وطفلتي من مغادرة المنزل في ٨ نيسان (ابريل). فالتقيت أختَين هما إيماكولي (من الهوتو) وسوزان (من التوتسي). كنا سنتوجه الى بوڠَسيرا التي تبعد حوالي ٥٠ كيلومترا عن كيڠالي وحيث يقطن والداي، إلا ان ذلك لم يحدث. فقد سمعنا انهم اقاموا حواجز لسد كل الطرقات المؤدية الى خارج المدينة. لذا قررنا ان نتجه الى قرية في ضواحي كيڠالي، حيث يعيش احد اقرباء إيماكولي واسمه ڠاهيزي، وهو ايضا من شهود يهوه. فرحب ڠاهيزي بنا وبذل كل ما في وسعه لمساعدتنا رغم تهديدات جيرانه. لكنه قُتل على يد الجنود والانترَهاموِ بعدما عرفوا انه حمى اشخاصا من التوتسي.
«بعد مقتل ڠاهيزي، اخذنا الجنود الى النهر ليقتلونا. فكادت تذوب قلوبنا رعبا ونحن ننتظر نهايتنا. وفجأة، بدأت مشادة كلامية بين الجنود، فقال احدهم: ‹لا تقتلوا النساء، فسيجلب ذلك علينا النحس. الآن هو الوقت لتصفية الرجال فقط›. في هذا الوقت كان بعض الاخوة يتبعوننا، ومن بينهم اندريه تواهيرا الذي مضى اسبوع فقط على معموديته. فأخذنا الى منزله على الرغم من احتجاجات الجيران. وفي اليوم التالي، قررنا ان نعود الى كيڠالي على امل ايجاد مكان آمن لنا. فرافقنا وساعدنا على عبور عدة حواجز خطرة. وفي الطريق حملت إيماكولي طفلتي الصغيرة لئلا يصيبها اي مكروه اذا ما تمَّ توقيفنا. اما انا وسوزان فمزقنا بطاقتَينا لإخفاء هويتَينا.
«حين بلغنا آخر حاجز، صفع جندي من الانترَهاموِ إيماكولي وقال لها: ‹لماذا ترحلين برفقة هؤلاء التوتسي؟›. ثم اوقفوني انا وسوزان، اما إيماكولي وأندريه فتوجها الى منزل الاخ رْوَاكابوبو طلبا للمساعدة. وما لبث ان عاد اندريه برفقة اخوَين آخرَين هما سيمون وماتياس، وساعدونا على عبور الحاجز، معرضين انفسهم لخطر كبير. اخيرا وصلت الى منزل الأخ رْوَاكابوبو، فيما ذهبت سوزان الى بيت احد اقربائها.
«شكل بقائي عند الأخ رْوَاكابوبو خطرا كبيرا، لذا اوصلني الاخوة بعد جهد جهيد الى قاعة الملكوت. بحلول ذلك الوقت، كان عشرة إخوة وأخوات من التوتسي قد اختبأوا هناك اضافة الى آخرين ممن هربوا. وكم كانت إيماكولي وفية اذ رفضت ان تتركني وحدي! فقد قالت لي: ‹إذا ما قُضي عليكِ، اعدك بأني سأنقذ طفلتك وأعتني بها›».c
في تلك الاثناء، استطاع ڤِداست بيمِنيمانا، اخ يعيش في الجوار، ان ينقل عائلته الى مكان آمن خوفا على زوجته التي كانت من التوتسي. وسرعان ما عاد وساعد مَن بقي في قاعة الملكوت على ايجاد ملاذ لهم. والحمد للّٰه ان الجميع نجوا بحياتهم.
بعدما انقضت المذبحة، علِم جان وشانتال ان والديهما وابنتَيهما البالغتَين سنتين وخمس سنوات قتلوا مع حوالي ١٠٠ شخص من الاقارب. فأي اثر خلفته فيهم هذه الفاجعة المرة؟ تعترف شانتال: «في البداية كان الوضع لا يُحتمل. وكنا مخدَّرَي الاحساس، اذ فاق عدد الذين فقدناهم كل تصوراتنا. ولم يكن في وسعنا سوى ترك الامور بين يدي يهوه على امل رؤية ابنتَينا ثانية في القيامة».
اختبأ خمسة وسبعين يوما
اعتمد تارسيس سِمينيڠا في الكونغو عام ١٩٨٣. اما حين بدأت الابادة الجماعية، فكان يعيش في بوتاري، رواندا، على بعد نحو ١٢٠ كيلومترا من كيڠالي. يذكر: «وقتما تحطمت الطائرة الرئاسية في كيڠالي، سمعنا عن صدور مرسوم يقضي بقتل كل التوتسي. فحاول اثنان من الاخوة ان يهرِّباني والعائلة عبر بوروندي، إلا ان ذلك كان من رابع المستحيلات. فكل الطرقات تحرسها ميليشيا الانترَهاموِ.
«بقينا اسرى المنزل، ولم ندرِ الى اين نذهب. وقد رصد أربعة جنود منزلنا، ووضع احدهم رشاشا على بعد ١٨٠ مترا تقريبا. فصليت صلاة حارة وصرخت الى يهوه قائلا: ‹يا يهوه، ليس في يدنا حيلة لنخلص انفسنا. انت وحدك تستطيع انقاذنا!›. بحلول المساء، ركض احد الاخوة باتجاه منزلنا والخوف ملء ضلوعه، ظنا منه اننا لقينا حتفنا. ولكن بعد ان سمح له الجيش ان يدخل لدقائق معدودة، تلاشى خوفه اذ وجدنا على قيد الحياة. وقد تمكن بطريقة او بأخرى من أخذ اثنين من اولادي الى منزله. ثم اخبر جاستن رْواڠاتور وجوزيف نْدووِيسو اننا مختبئون وبحاجة الى المساعدة. فأتيا فورا، عند حلول المساء، ونقلونا الى منزل جاستن رغم الخطر والعوائق.
«لم تدم اقامتنا طويلا في منزل جاستن. فقد عرف الناس في اليوم التالي مكان وجودنا، وأتى رجل يدعى ڤنسان، كان قد درس الكتاب المقدس مع جاستن انما دون ان يأخذ موقفا الى جانب الحق، ليحذِّرنا من الانترَهاموِ الذين يستعدون لاقتحام المنزل والقضاء علينا. كما نصحنا بأن نتوارى عن الانظار في الاحراج الى جوار منزل جاستن. وعند حلول المساء، اتى بنا الى منزله وخبأنا في كوخ دائري الشكل استُخدم حظيرة للماعز، سقفه من القش وجدرانه وأرضه من الطين ولا نوافذ له.
«قضينا أياما وليالي طويلة في هذا الكوخ، الذي يقع على مقربة من تقاطع طرق يبعد عدة امتار فقط عن اكثر الاسواق ازدحاما في المنطقة. وكنا نسمع المارّة يتحدثون واحدهم مع الآخر عن الامور التي فعلوها خلال اليوم، بما فيها روايات جرائمهم المروِّعة وخططهم المستقبلية. فزاد هذا الجو من خوفنا. لذا واظبنا على الصلاة من اجل نجاتنا.
«بذل ڤنسان كل ما في وسعه للاهتمام بحاجاتنا. ولكن بحلول نهاية ايار (مايو)، اي بعد شهر، اصبح من الخطر البقاء عنده. فميليشيا الانترَهاموِ وصلت الى المنطقة بعد فرارها من كيڠالي. لذلك قرر الاخوة نقلنا الى ما يشبه القبو تحت منزل احدهم، لننضم الى ثلاثة آخرين يختبئون هناك. غير ان بلوغنا منزل هذا الاخ لم يكن بالأمر السهل، اذ اضطررنا ان نمشي ليلا مدة ثماني ساعات ونصف تحت المطر الغزير. وقد تبيَّن ان ذلك عمل لصالحنا، لأن القتلة عجزوا عن رؤيتنا.
«كان هذا المخبأ الجديد عبارة عن حفرة بعمق متر ونصف تقريبا تُغطى بلوح خشبي. ولكي نبلغ الحفرة، كان علينا ان ننزل سلّما ثم نجثو على ركبتينا، ونحبو عبر نفق حتى نصل الى غرفة مساحتها نحو مترين مربَّعين تفوح منها رائحة العفونة وينفذ اليها مجرد شعاع نور ضئيل من شق في الحائط. فتشاركنا انا وزوجتي بالاضافة الى أولادنا الخمسة هذه المساحة الصغيرة مع ثلاثة آخرين. وبقينا نحن العشرة في هذا المكان الضيق ستة اسابيع. ولم نجرؤ على اشعال شمعة خوفا من ان يُكتشَف امرنا، باستثناء بعض الاوقات خلال النهار التي كنا نشعل فيها شمعة واحدة لقراءة مقاطع من الكتاب المقدس، او مجلة برج المراقبة، او الآية اليومية. وقد خاطر الاخوة بحياتهم كي يجلبوا لنا الطعام والدواء ويمدونا بكلمات التشجيع. نعم، دعمنا يهوه خلال كل هذه المصاعب والآلام التي اصابتنا».
يتابع تارسيس: «لكل رواية نهاية. ونحن انتهت روايتنا في ٥ تموز (يوليو) ١٩٩٤، عندما اخبرنا ڤنسان ان قوات الجبهة احتلت بوتاري. فخرجنا من القبو شاحبي اللون بسبب عدم تعرضنا لأشعة الشمس، حتى ان بعض الناس لم يعرفوا اننا روانديون. هذا وقد بقينا فترة من الوقت لا نستطيع ان نتكلم بصوت مرتفع بل همسا، واحتجنا الى اسابيع كي نستعيد حالتنا الطبيعية.
«كل هذه الاحداث خلفت اثرا عميقا في زوجتي التي بدأت بدرس الكتاب المقدس مع شهود يهوه بعد رفض دام عشر سنوات. وحين يسألها الناس عن السبب تجيب: ‹لقد مسّت قلبي المحبة التي اظهرها الاخوة نحونا والتضحيات التي قاموا بها في سبيل انقاذنا. كما اني شعرت بيد يهوه القوية التي نجتنا من سواطير القتلة›. وفي اول محفل عُقد بعد الحرب اعتمدت رمزا الى انتذارها ليهوه اللّٰه.
«نشعر اننا مَدينون لجميع الاخوة والاخوات الذين ساهموا بأعمالهم وصلواتهم القلبية في بقائنا احياء. فقد اختبرنا محبتهم الصادقة والعميقة التي تجاوزت كافة الحواجز الإثْنِية».
تبادل المساعدة
في وقت لاحق، صار جاستن رْواڠاتور، احد الاخوة الذين ساعدوا عائلة الاخ سِمينيڠا، هو بدوره محتاجا الى المساعدة. ففي عام ١٩٨٦، سجن لأنه رفض التورط بسياسة الحزب الحاكم. وبعد مرور سنوات على حمايته عائلة سِمينيڠا، اعتُقل من جديد مع اخوة آخرين بسبب موقفهم الحيادي. فتشكل وفد للقاء السلطات المحلية بغية توضيح موقف شهود يهوه حيال التورط في السياسة. ومن الجدير بالذكر ان الاخ سِمينيڠا كان ضمن هذا الوفد. فشرح للسلطات كيف ان جاستن لعب دورا اساسيا في انقاذ اسرته. والنتيجة؟ أُطلق سراح كل الاخوة المسجونين.
دفع مثال اخوتنا خلال الابادة الجماعية آخرين الى قبول الحق. فقد رأت سوزان لِزيندِه، امرأة كاثوليكية في اواسط ستيناتها، كيف دعمت كنيستها الابادة. وفي المقابل، لاحظت كيف تصرف شهود يهوه في منطقتها والمحبة التي تسود بينهم، ما حدا بها الى احراز تقدم سريع في الحق. ومنذ معموديتها في كانون الثاني (يناير) ١٩٩٨، لم تفوت اجتماعا في الجماعة حتى وفاتها على الرغم من انها كانت تقطع مسافة خمسة كيلومترات عبر التلال مشيا على الاقدام. كما ساعدت عائلتها على تعلم الحق. واليوم، يخدم احد ابنائها شيخا في الجماعة في حين يخدم احد احفادها خادما مساعدا.
اغاثة مئات الآلاف الذين هربوا
عُيّن هانك ڤان بوسل مرسلا في رواندا عام ١٩٩٢. وبعدما غادرها الى كينيا في نيسان (ابريل) ١٩٩٤، قام برحلات الى ڠوما شرقي الكونغو للمساعدة في برنامج اغاثة اللاجئين الروانديين. وعلى الحدود جهة الكونغو راح الاخوة يتجولون وهم يحملون المطبوعات ويرنمون او يصفّرون ألحان الملكوت كي يتمكن الشهود الذين يعبرون الحدود الرواندية من التعرف اليهم.
كان الذعر يدب في قلوب الجميع. وفيما تواصل الصراع بين القوات الحكومية والجبهة الوطنية الرواندية، لجأ مئات الآلاف من الناس الى الكونغو وتنزانيا. اما الشهود الذين هربوا الى ڠوما، فكانت قاعة الملكوت نقطة تجمّعهم. وفي وقت لاحق، نصب الاخوة مخيّما للاجئين خارج المدينة يتسع لأكثر من ٠٠٠,٢ شخص يقتصرون على الشهود وأولادهم والناس المهتمين. كما انشأوا مخيمات مماثلة في مناطق مختلفة من شرقي الكونغو.
ان غالبية الناس الذين فرّوا كانوا من الهوتو الخائفين من الثأر. اما الاخوة الذين هربوا معا، فقد ضموا الهوتو والتوتسي على السواء مع العلم ان عبور الحدود الى ڠوما كان في غاية الخطورة نظرا الى استمرار عمليات قتل التوتسي. ففي احدى المراحل، كلف تهريب الاخوة التوتسي خارج البلاد ١٠٠ دولار اميركي للشخص الواحد.
وحين وصل الشهود الى الكونغو، ارادوا ان يبقوا معا. فهم لم يشاءوا ان تكون لهم اية صلة بالانترَهاموِ الذين تابعوا نشاطهم في المخيمات التابعة للامم المتحدة. كما انهم لم يروقوا للاجئين غير الشهود المتعاطفين مع الحكومة المعزولة، وللانترَهاموِ على وجه الخصوص لأنهم لم ينضموا اليهم. لذا فضل الاخوة ان يبقوا منفصلين بحيث يتمكنون من حماية اخوتهم التوتسي.
بات الشهود الذين غادروا رواندا بأمس الحاجة الى المساعدة، لأنهم تركوا كل ممتلكاتهم وراءهم. لذا قدَّم الاخوة من بلجيكا، سويسرا، فرنسا، الكونغو وكينيا المساعدة على اشكالها، مزودين اياهم بالمال والدواء والطعام واللباس، اضافة الى الاطباء والممرضين. فقد ارسل الفرع في فرنسا خيما صغيرة على متن اول طائرة إغاثة. ولاحقا، بعث الفرع في بلجيكا خيما كبيرة تتسع لعائلات بأكملها، هذا عدا عن الاسرَّة المحمولة والقابلة للنفخ. كما ارسل الفرع في كينيا ما يزيد على طنَّين من الالبسة وألفي بطانية.
تفشي الكوليرا
بعد الهروب من رواندا، مكث اكثر من ٠٠٠,١ شاهد ومهتم في قاعة الملكوت في ڠوما وفي قطعة الارض المحاذية لها. وللأسف نتج عن هذا التجمع الكبير من اللاجئين تفشي الكوليرا في ڠوما. فسارع الفرع في الكونغو الى ارسال الدواء اللازم لمحاربة هذا الوباء. كما سافر الاخ ڤان بوسل من نيروبي الى ڠوما حاملا ٦٠ صندوقا من الدواء. فاستُخدمت قاعة الملكوت بشكل مؤقت كمستشفى، وتمَّ بذل كافة الجهود بغية عزل المصابين. بالاضافة الى ذلك، اتى لويك دومَلان وأخ آخر، وهما طبيبان، الى جانب الاخ إمابْل هابيمانا، وهو مساعد طبيب من رواندا، وعملوا ليل نهار بكل تفان. وقد تطوع العديد من الاخوة والاخوات ذوي الخبرة في المجال الطبي، من بينهم الاخ أمِلْ الذي قدِم من فرنسا، وكانوا جميعا مصدر عون كبير.
على الرغم من كل الجهود المبذولة للحؤول دون انتشار هذا الوباء، اصيب اكثر من ١٥٠ اخا ومهتما ومات حوالي ٤٠ قبل التمكن من وضع حد له. بعدئذ، استؤجرت قطعة ارض كبيرة وأُنشئ عليها مخيَّم لشهود يهوه. فنُصبت مئات الخيم الصغيرة، بالاضافة الى خيمة كبيرة استُخدمت كمستشفى أُرسلت من كينيا. وقد دهش العاملون الاميركيون في مجال الصحة من نظافة وترتيب المخيم.
بحلول آب (اغسطس) ١٩٩٤، كانت لجنة الاغاثة في ڠوما تعتني بـ ٢٧٤,٢ لاجئا من الشهود وأولادهم والمهتمين. وفي الوقت نفسه، لجأ العديد من الاخوة الى مخيمات اخرى في بوكاڤو وأوڤيرا شرقي الكونغو، وفي بوروندي ايضا. هذا وقد ضم احد المخيمات في تنزانيا اكثر من ٢٣٠ شاهدا.
وعندما اضطر الاخوة من مكتب الترجمة في كيڠالي ان يهربوا الى ڠوما، استأجروا منزلا بهدف مواصلة عمل الترجمة. وكان ذلك ممكنا، لأنهم خلال الحرب احتفظوا بكمبيوتر وبمولِّد كهربائي، وأحضروهما معهم من كيڠالي.
اما في ڠوما، فكانت خدمات الاتصالات والبريد شبه معدومة. ولكن، بمساعدة الشهود الذين يعملون في المطار، استطاع الاخوة ارسال المواد المترجمة والرسائل الاخرى على متن رحلة اسبوعية بين ڠوما ونيروبي. وقد أعاد الاخوة في الفرع بكينيا البريد الى ڠوما بالطريقة عينها.
واظب ايمانويل نْڠيرِنْتي مع مترجمَين آخرَين، على عملهم بأفضل ما يكون رغم صعوبة الاوضاع. وأثناء الحرب في كيڠالي، لم يتمكنوا من ترجمة بعض المقالات من مجلة برج المراقبة، لكنهم عادوا وترجموها لاحقا لتصدر في كراسات خاصة درسها الاخوة في درس الكتاب الجَماعي.
الحياة في مخيَّم اللاجئين
فيما كان السكان يُخلون كيڠالي نُقلت فرانسين، التي هربت الى ڠوما بعدما قُتل زوجها آناني، الى احد المخيَّمات التي نصبها الشهود. وهي تصف الحياة في المخيَّم كما يلي: «كانت تُعيَّن مهمة اعداد الطعام كل يوم لعدد من الاخوة والاخوات. فنعدّ وجبة فطور بسيطة من دقيق الذرة الصفراء او الدُّخن المطبوخَين بالحليب، هذا بالاضافة الى وجبة الغداء. وبعد اتمام كافة مسؤولياتنا، ننطلق للاشتراك في خدمة الحقل. فنشهد بالأخص لأفراد عائلتنا غير الشهود في المخيَّم، وكذلك للذين يعيشون خارج المخيَّم. ولكن، لم يمضِ وقت طويل حتى تأزم الوضع، اذ ثار غضب اعضاء ميليشيا الانترَهاموِ في المخيمات الاخرى عند رؤيتهم الشهود في مخيمات منفصلة عن تلك التي للاجئين الآخرين».
بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٩٤، تبين ان عودة الاخوة الى رواندا باتت آمنة. وفي الواقع، كان من المستحسن فعل ذلك نظرا الى الخطر الذي أحاط بهم في مخيمات غير الشهود في الكونغو. إلا ان عودتهم لم تكن بالامر السهل، لأن الانترَهاموِ كانوا ينوون إعادة رصف صفوفهم والهجوم على رواندا، وكل مَن يغادر الكونغو ويعود الى رواندا يعتبَر خائنا في نظرهم.
اخبر الاخوة الحكومة الرواندية ان شهود يهوه، الذين حافظوا على موقف حيادي خلال الحرب ولم يشتركوا في الابادة الجماعية للتوتسي، يرغبون في العودة الى بلدهم. فنصحتهم الحكومة ان يتفقوا مع مفوَّضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين، لأنها تملك مركبات آلية يمكن استخدامها لنقلهم. ولكن كيف سيجتنبون رجال الميليشيا الذين كانوا سيعيقونهم؟ استخدم الشهود الخطة التالية:
اعلنوا عن يوم محفل خصوصي سيعقد في ڠوما وأعدوا لافتات تعلن عن البرنامج. ثم ابلغوا الشهود سرًّا بنِيَّة العودة الى رواندا. ولئلا يثيروا اية شكوك، طلبوا منهم ان يتركوا كل ممتلكاتهم في المخيمات وألا يأخذوا معهم سوى كتبهم المقدسة وكتب الترانيم، متظاهرين انهم ذاهبون الى محفل.
تتذكر فرانسين انهم مشوا لساعات قبل ان يبلغوا الشاحنات التي كانت بانتظارهم لتنقلهم الى الحدود. وبعدما عبروا الى رواندا، صنعت مفوَّضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين الترتيبات اللازمة لأخذهم الى كيڠالي ومن ثم الى منازلهم. وهكذا، عاد معظم الاخوة مع عائلاتهم والمهتمين الى رواندا في كانون الاول (ديسمبر) من عام ١٩٩٤. وفي هذا الخصوص، ورد في الصحيفة البلجيكية لو سوار عدد ٣ كانون الاول (ديسمبر) ١٩٩٤ التقرير التالي: «قرر ٥٠٠,١ لاجئ رواندي مغادرة زائير [الكونغو] لأنهم شعروا ان أمنهم في خطر. انهم شهود يهوه الذين نصبوا مخيَّمهم الخاص شمال مخيَّم كاتالِه. وقد عانوا هم خصوصا الاضطهاد على يد الحكومة السابقة بسبب رفضهم حمل السلاح والاشتراك في المهرجانات السياسية».
بعدما رجعت فرانسين الى رواندا تسنى لها حضور محفل كوري في نيروبي. كما استأنفت العمل في مكتب الترجمة الذي أُعيد انشاؤه في كيڠالي، وذلك بفضل التعزية والدعم اللذَين نالتهما من الاخوة والاخوات بعد وفاة زوجها. وفي وقت لاحق، تزوجت ايمانويل نْڠيرِنْتي، وما زالا حتى الآن يخدمان في مكتب الفرع.
وكيف تمكنت فرانسين من التحكُّم في مشاعرها خلال الحرب؟ تقول: «في ذلك الوقت، لم نفكر سوى في شيء واحد: يجب ان نحتمل حتى النهاية. لذا قررنا ألا نمعن التفكير في الفظائع التي ترتكَب. وأذكر اني وجدت العزاء في حبقوق ٣:١٧-١٩، التي تتحدث عن كيفية ايجاد الفرح رغم الظروف الصعبة. هذا وقد امدني الاخوة والاخوات بالكثير من التشجيع. فالبعض كتبوا لي رسائل ساعدتني ان احافظ على موقف ايجابي وأنظر الى الامور من منظار يهوه. كما تذكرتُ ان للشيطان حيلا متنوعة، لذا وجب ان نبقى يقظين على جميع الجبهات. فإذا سمحنا لمشكلة ما ان تستأثر بكل تركيزنا، فسنضعف ونعثر في مشكلة اخرى قد تواجهنا عاجلا او آجلا».
-
-
روانداالكتاب السنوي لشهود يهوه لعام ٢٠١٢
-
-
لقي نحو ٤٠٠ شاهد ليهوه حتفهم في هذه الابادة الجماعية، من بينهم شهود من الهوتو لأنهم حمَوا اخوتهم وأخواتهم من التوتسي. واللافت ان ايا من هؤلاء الشهود لم يُقتل على يد احد رفقائه المؤمنين.
-