-
تلسكوپ ڠاليليو — لم يكن سوى البداية!استيقظ! ١٩٩٢ | آذار (مارس) ٢٢
-
-
تلسكوپ ڠاليليو — لم يكن سوى البداية!
عندما وجَّه ڠاليليو تلسكوپه المختَرع حديثا الى السماء، رأى اشياء لم يرها في السابق. لقد تمكَّن من رؤية عدد من النجوم اكثر بعشر مرات مما رأى ايّ رجل من قبل. فظهرت مجرة درب التبَّانة الآن، لا ككتلة غير واضحة، بل كمنظار اشكال من نجوم لا تحصى، كبيرة وصغيرة. وتحوَّل سطح القمر امام عينيه من بُورْسَلان لامع الى فسيفساء من جبال، فوهات، وبحار بلا ماء.
وبعد اشهر قليلة، اكتشف اربعة من اقمار المشتري. ثم رأى حلقات زحل الجميلة. واذ وجَّه تلسكوپه الى الزهرة، لاحظ بعض اوجه الكوكب، تغييرات دقيقة في السطوع والشكل الظاهري. وهذه الاوجه يمكن تفسيرها فقط اذا كان الكوكب يدور حول الشمس. ولكن اذا كان كوكب واحد يدور حول الشمس، فالاخرى — بما فيها الارض — يجب ان تفعل ذلك ايضا، استنتج. وكان على صواب. وهكذا، في السنة ١٦٠٩، جرى خلع الارض من مكانتها المبجَّلة بصفتها المركز المزعوم للكون.
لكنَّ الاعتقادات الموقَّرة لم يجرِ التخلِّي عنها بسهولة. فالكنيسة الكاثوليكية حكمت بأن «الفكرة انَّ الارض ليست مركز الكون وحتى انَّ لها دورة يومية، هي . . . على الاقل اعتقاد خاطئ.» وجرى سَوْق ڠاليليو امام محكمة التفتيش وقضى السنوات الاخيرة من حياته تحت الاقامة الجبرية. ولكنَّ الجزمية الدينية لم تتمكَّن من كبح الفضول الذي اثاره اختراع التلسكوپ. وتحدِّي كشف اسرار الكون اجتذب عددا متزايدا من العلماء.
والآن، بعد نحو اربعمئة سنة من التفحُّص الكثيف، ازدادت معرفتنا عن الكون على نحو مثير. فجرى تعيين انواع مختلفة من النجوم، كالعمالقة الحمر red giants، الاقزام البيض white dwarfs، والنجوم النابضة pulsars. ومؤخَّرا جرى اكتشاف اشباه النجوم quasars — اجسام مبهمة تطلق مقادير هائلة من الطاقة — في المسافات الابعد للفضاء. ويُعتقد الآن انَّ ثقوبا سوداء black holes غامضة — يبدو انها دوَّامات كونية شديدة التأثير على نحو لا يمكن تصوُّره — تكمن غير مرئية في الكثير من المجرات.
ان التلسكوپات البصرية القوية تمكِّن علماءَ الفلك من التحديق بعيدا الى الفضاء وبالتالي من السفر فعليا بلايين السنين رجوعا في الزمن، الى الحافة الفعلية للكون المنظور. وقد جرى اكتشاف مجموعة منتظمة كبيرة من النجوم والمجرات، بعضها بعيد جدا بحيث يُقدَّر ان ضوءها استغرق اكثر من ١٥ بليون سنة ليصل الينا.a
وعلى الرغم من ان النجوم هي عادة مصادر راديوية ضعيفة، فإن الاجسام السماوية الاخرى، كالنجوم النابضة وأشباه النجوم، جرى اكتشافها بصورة رئيسية بفضل التلسكوپات الراديوية. وكما يدل الاسم ضمنا، تكتشف هذه التلسكوپات الاطوال الموجية الراديوية بدلا من الاطوال الموجية البصرية. ومنذ ١٩٦١، اكتُشفت المئات من اشباه النجوم، والكثير منها في المسافات الابعد للكون المعروف.
كانت مهمة رسم خريطة للكون اعظم مما يمكن ان يكون ڠاليليو قد تصوَّره. ففي هذا القرن فقط بدأ الانسان بفهم ضخامة الكون، بلايين المجرات التي يتألف منها، والمسافات المذهلة التي تفصل بينها.
ولمساعدتنا على تخيُّل المسافات الكونية، يقترح الفيزيائي روبرت ياسترو التشبيه التالي. تخيَّلوا الشمس وقد جرى تصغيرها الى حجم برتقالة. حينئذ تكون الارض مجرد حبة رمل تدور في مدار حول الشمس على بُعد ٣٠ قدما (٩ م). ويكون المشتري كنواة كرزة تدور حول البرتقالة على بُعد قطاع سكني، وبلوتو يكون ايضا حبة رمل اخرى على بُعد عشرة قطاعات سكنية من برتقالتنا الخيالية، الشمس. وعلى هذا المقياس نفسه، يكون جار الشمس الاقرب، النجم حَضَار ألفا Alpha Centauri، على بُعد ٣٠٠,١ ميل (١٠٠,٢ كلم)، ومجرة درب التبَّانة بكاملها حشدا متحرِّكا من برتقالات متباعدة احداها عن الاخرى نحو ٠٠٠,٢ ميل (٢٠٠,٣ كلم)، بقطر إجمالي يبلغ ٢٠ مليون ميل (٣٠ مليون كلم). وحتى عندما يُصغَّر كل شيء، تخرج الارقام بسرعة عن نطاق الفهم.
ليست المسافات وحدها هي ما يدعو الى الدهشة. ففيما يكشف العلماء النقاب عن اسرار الكون، تتبيَّن ظواهر غريبة. فهنالك نجوم نيوترونية مؤلَّفة من مادة كثيفة جدا حتى ان مجرد مِلء ملعقة شاي يزن قدر ٢٠٠ مليون فيل. وهنالك نجوم بالغة الصغر تدعى النجوم النابضة، تومض الواحدة منها بتواتر نحو ٦٠٠ مرة في الثانية. وطبعا، هنالك تلك الثقوب السوداء المثيرة للاهتمام التي يخمِّن بشأنها العلماء. والثقوب نفسها لا يمكن ان تُرى، لكنَّ شهيتها النهمة للضوء والمادة يمكن ان تفشي امر وجودها الخفيّ.
طبعا، يبقى الكثير لغزًا، تحجبه تلك المسافات الشاسعة والحِقَب الزمنية. ولكن ماذا اكتشف العلماء حتى الآن عن الكون؟ هل يلقي ما يعرفونه ضوءا جديدا على كيفية وسبب وجود الكون؟
[الحاشية]
a لإمكان ضبط هذه المسافات الضخمة، كان يلزم ابتكار وحدات جديدة للمسافة، كالسنة الضوئية. والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة، نحو ستة تريليونات ميل. انَّ سيارة تسافر بسرعة ثابتة تبلغ ٦٠ ميلا في الساعة (١٠٠ كلم/سا) يلزمها نحو ١١ مليون سنة لتغطي هذه المسافة!
[الصورة في الصفحة ٤]
تلسكوپ دْجودرِل بانك الراديوي، الذي أُنشئ في سنة ١٩٥٧ في انكلترا، كان اول وحدة قابلة للتوجيه كاملا
[مصدر الصورة]
Courtesy of Jodrell Bank Radio Telescope
-
-
الكون — كشف بعض الاسراراستيقظ! ١٩٩٢ | آذار (مارس) ٢٢
-
-
الكون — كشف بعض الاسرار
في الرابع من تموز، في السنة ١٠٥٤، حدَّق يانڠ واي تي الى سماء الصباح الباكر. وكعالِم فلك رسمي في البَلاط الامبراطوري في الصين، كان يراقب بدقَّة حركات النجوم عندما لفت انتباهه فجأة نور لامع قرب كوكبة الجبار.
كان ‹نجم ضيف› — الاسم الذي منحه الصينيون القدامى لظهور نادر كهذا — قد برز. وبعد ان قدَّم تقريرا بحكم الشعور بالواجب لامبراطوره، ذكر يانڠ ان «النجم الضيف» صار ساطعا جدا بحيث فاق حتى الزهرة بريقا وكان بالامكان رؤيته في ضوء النهار الكامل لعدة اسابيع.
تسعمئة سنة كانت ستمضي قبل ان يصير ممكنا تفسير هذا المشهد على نحو كاف. ويُعتقد الآن انَّ عالِم الفلك الصيني كان يشاهد مُستعِرا فائقا supernova، غمرات الموت الجائحي لنجم بالغ الكِبَر. وأسبابُ ظاهرةٍ غير عادية كهذه هي بعض الاسرار التي يحاول عِلم الفلك ان يكشفها. وما يلي هو احد التفاسير التي بذل علماء الفلك جهدا في جمعها معا.
على الرغم من ان نجوما كشمسنا يمكن ان تكون لها حياة طويلة جدا وثابتة، فإن تكوُّنها وزوالها يسببان اكثر المشاهد اثارة في السموات. ويعتقد العلماء ان قصة حياة النجم تبدأ داخل سديم nebula.
السديم هو الاسم المعطى لسحاب من غاز وغبار واقع بين النجوم. والسُّدُم هي بين الاجسام الاكثر جمالا في سماء الليل. والسديم الذي يُرى على غلاف هذه المجلة يُدعى السديم الثلاثيّ الفصوص (او السديم ذا الشقوق الثلاثة). وداخل هذا السديم وُلدت نجوم جديدة، مما يجعل السديم يُطلِق وهجا ضاربا الى الحمرة.
وكما يتَّضح، تتشكَّل النجوم داخل السديم عندما تتكاثف المادة المنتشرة بفعل قوة الجاذبية متحوِّلة الى مناطق متقلِّصة من الغاز. وهذه الكرات الهائلة من الغاز تستقر عندما تبلغ درجةَ الحرارة التي عندها تبدأ التفاعلات النووية في الجزء المركزي من السحابة، حائلة دون المزيد من التقلُّص. وهكذا يولد نجم، وغالبا في اقتران بنجوم اخرى، مشكِّلا معها حشدا نجميا Star cluster.
الحشود النجمية. في الصورة في الصفحة ٨، نرى حشدا صغيرا يدعى صندوق المجوهرات Jewel Box، يُظنُّ انه تشكَّل قبل ملايين قليلة من السنين. وابتُكر اسمه من الوصف التصويري لعالِم الفلك في القرن الـ ١٩ جون هيرشِل: «علبة من الاحجار الكريمة المتنوعة الالوان.» ومجرتنا وحدها يُعرف ان لديها اكثر من ألف حشد مماثل.
طاقة النجوم. يستقر النجم الوليد، او المتطوِّر، عندما يشتعل اتون نووي في داخله. فيبدأ بتحويل الهيدروجين الى هِلْيوم بعملية اندماج شبيهة الى حد ما بتلك التي تحدث في قنبلة هيدروجينية. هكذا هي كتلة النجم النموذجية، كالشمس، بحيث يمكنها ان تحرق وقودها النووي طوال بلايين السنين دون ان تستنفد المخزون.
ولكن ماذا يحدث عندما يستهلك نجم كهذا اخيرا وقوده من الهيدروجين؟ يتقلَّص الجزء المركزي، وترتفع الحرارة فيما يستنفد النجم الهيدروجين في المناطق المركزية. وفي اثناء ذلك، تتمدَّد الطبقات الخارجية بقدر هائل، جاعلةً نصف قطر النجم يزيد ٥٠ مرة او اكثر، فيصير عملاقا احمر.
العمالقة الحمر. العملاق الاحمر هو نجم ذو حرارة سطح باردة نسبيا؛ لذلك يبدو لونه احمر، بدلا من ابيض او اصفر. وهذه المرحلة في حياة النجم قصيرة نسبيا، وتنتهي — عندما يفرغ معظم مخزون الهِلْيوم — بعَرْض سماوي للالعاب النارية. فالنجم، اذ لا يزال يحرق الهِلْيوم، يقذف طبقاته الخارجية، التي تشكِّل سديما كوكبيا متوهِّجا بسبب الطاقة التي نالها من النجم الام. وأخيرا، يتقلَّص النجم بشكل مثير ليصير قزما ابيض يشعُّ على نحو ضعيف.
ولكن، اذا كان النجم الاساسي كبيرا الى الحد الكافي، تكون النتيجة النهائية انَّ النجم نفسه ينفجر. وهذا هو المُستعِر الفائق.
المُستعِرات الفائقة. المُستعِر الفائق هو الانفجار الذي ينهي حياة نجم كان اساسا اكبر بكثير من الشمس. فتُقذف كميات هائلة من الغبار والغاز في الفضاء بواسطة موجات صَدم عنيفة بسرعات تبلغ اكثر من ٠٠٠,٦ ميل في الثانية (٠٠٠,١٠ كلم/ثا). والضوء الشديد للانفجار ساطع جدا بحيث يفوق بريق بليون شمس، اذ يظهر كماسة متألِّقة في السماء. والطاقة التي تنطلق في انفجار مُستعِر فائق واحد تعادل الطاقة الكاملة التي تُصدرها الشمس في تسعة بلايين سنة.
بعد ان شاهد يانڠ مُستعِره الفائق بتسعمئة سنة، لا يزال بإمكان علماء الفلك ان يروا الحطام المبعثر لذلك الانفجار، بنية تُدعى سديم السرطان. لكنَّ شيئا اكثر من السديم جرى تخليفه. ففي مركزه اكتشفوا شيئا آخر — جسما بالغ الصغر، يدور ٣٣ مرة في الثانية، يدعى نجما نابضا.
النجوم النابضة والنجوم النيوترونية. يجري الفهم ان النجم النابض هو جزء مركزي كثيف الى حد بعيد يدور بسرعة من مادة تُركت بعد انفجار مُستعِر فائق لنجم لا يبلغ اكثر من ثلاث مرات جسامة الشمس. واذ لها اقطار من اقل من ٢٠ ميلا (٣٠ كلم)، فهي نادرا ما تُكتشف بواسطة التلسكوپات البصرية. ولكن يمكن تعيينها بواسطة التلسكوپات الراديوية، التي تكشف الاشارات الراديوية التي ينتجها دورانها السريع. فثمة حزمة من الموجات الراديوية تدور مع النجم، مثل حزمة منارة، تظهر كنبضة بالنسبة الى المشاهد، مما ينشئ التسمية النجم النابض. والنجوم النابضة تُدعى ايضا نجوما نيوترونية لانها تتألف بصورة رئيسية من نيوترونات محتشدة على نحو متراصّ. وهذا يفسِّر سبب كثافتها التي لا تُصدَّق — اكثر من بليون طن للإنش المكعَّب (اكثر من مئة مليون طن للسنتيمتر المكعَّب).
ولكن ماذا يحدث اذا اصبح نجم كبير حقا مُستعِرا فائقا؟ طِبقا لحسابات علماء الفلك، يمكن ان يتابع الجزء المركزي تقوُّضه الى ما بعد مرحلة النجم النيوتروني. ونظريا، ستكون قوة الجاذبية التي تضغط الجزء المركزي عظيمة جدا بحيث يَنتج ما يُدعى بالثقب الاسود.
الثقوب السوداء. يُقال ان هذه شبيهة بدوَّامات كونية عملاقة لا يمكن ان يفلت منها شيء. والجَذْب الداخلي للجاذبية قوي جدا بحيث ان النور والمادة كليهما اللذين يقتربان منها اكثر من اللازم يجري امتصاصهما الى داخلها لا محالة.
لم تجرِ على الاطلاق مراقبة ايّ ثقب اسود مباشرة — فذلك مستحيل بحسب التعريف — على الرغم من ان الفيزيائيين يأملون ان يبرهنوا على وجودها بواسطة التأثير الذي لها في الاجسام المجاورة. وقد تكون تقنيات مراقبة جديدة لازمة لكَشف هذا السر الخصوصي.
اسرار المجرات
المجرة هي بنية كونية مؤلَّفة من بلايين النجوم. وفي السنة ١٩٢٠ اكتُشف ان الشمس ليست مركز مجرتنا، كما افتُرض من قبل. وبعد ذلك بوقت قصير، كشفت التلسكوپات القوية حشدا من المجرات الاخرى، فبدأ الانسان يفهم ضخامة الكون.
ان البساط غير الجلي الذي ندعوه درب التبَّانة هو حقا منظر طَرَفي لمجرتنا. فلو استطعنا رؤيتها عن بُعد، لَبَدت الى حد بعيد مثل دولاب هوائي عملاق. وقد جرى تشبيه شكلها ببيضتين مقليَّتين موضوعتين ظهرا لظهر، ولكن طبعا، على مقياس اكبر بكثير. وبالسفر بسرعة الضوء، تلزمنا ٠٠٠,١٠٠ سنة لنعبر مجرتنا. والشمس، التي تقع عند الطرف الخارجي للمجرة، تلزمها ٢٠٠ مليون سنة لتكمل دورتها حول مركز المجرة.
والمجرات، كالنجوم، لا تزال تحتفظ بأسرار كثيرة تثير اهتمام المجتمع العلمي.
اشباه النجوم. في ستينات الـ ١٩٠٠، التُقطت اشارات راديوية قوية من اجسام بعيدة، ابعد من نطاق مجموعتنا المحلية من المجرات. فدُعيت اشباه النجوم — مختصر «منابع راديوية شبه نجمية» — بسبب مشابهتها للنجوم. لكنَّ علماءَ الفلك حيَّرتهم الطاقة الهائلة التي تُصدرها اشباه النجوم. فشبه النجم المضيء اكثر ساطع نحو عشرة آلاف مرة سطوع درب التبَّانة، وأشباه النجوم الابعد التي جرى اكتشافها هي على بُعد اكثر من عشرة بلايين سنة ضوئية.
بعد عقدين من البحث المكثَّف، وصل علماء الفلك الى الاستنتاج ان اشباه النجوم البعيدة هذه هي نَوًى فعالة جدا لمجرات نائية. ولكن ماذا يحدث في نواة هذه المجرات لتولِّد طاقة هائلة كهذه؟ يقترح بعض العلماء ان الطاقة تُطلَق بعمليات تتعلَّق بالجاذبية بدلا من الاندماج النووي كما في النجوم. والنظرية الشائعة تقرن اشباه النجوم بالثقوب السوداء العملاقة. وما اذا كان ذلك صحيحا ام لا فيبقى غير اكيد في الوقت الحاضر.
ان اشباه النجوم والثقوب السوداء هي مجرد اثنين من الالغاز التي يجب حلُّها بعدُ. وفي الواقع، ان بعض اسرار الكون يمكن ان تكون دائما خارج نطاق فهمنا. ومع ذلك، يمكن لتلك التي جرى كشفها ان تعلِّمنا دروسا عميقة، دروسا لها معانٍ ضمنية تفوق الى حد بعيد حيِّز عِلم الفلك.
[الصورة في الصفحة ٧]
المجرة اللولبية M83
[مصدر الصورة]
Photo: D. F. Malin, courtesy of Anglo-Australian Telescope Board
[الصور في الصفحة ٨]
صندوق المجوهرات
حشد نجمي مفتوح، الثُّرَيَّا في كوكبة الثور، M45
[مصدر الصورة]
Photo: D. F. Malin, courtesy of Anglo-Australian Telescope Board
[الصور في الصفحة ٨]
سديم الجبار، بصورة مدرجة تظهر سديم رأس الحصان
[مصدر الصورة]
Photo: D. F. Malin, courtesy of Anglo-Australian Telescope Board
-
-
دروس يجري تعلُّمها من الكوناستيقظ! ١٩٩٢ | آذار (مارس) ٢٢
-
-
دروس يجري تعلُّمها من الكون
«انا لا ادَّعي فهم الكون — فهو اعظم منّي بكثير.» — توماس كارلايل، ١٧٩٥-١٨٨١.
بعد مئة سنة، لدينا فكرة افضل توضح الى اي حد اعظم منا هو الكون فعلا. وعلى الرغم من ان العلماء يفهمون اكثر بكثير مما كانوا يفهمون قبلا، لا تزال حالتهم، كما وصفها احد علماء الفلك، كتلك التي لـ «علماء نبات القرن الـ ١٨ في الدَّغل وهم يعثرون على كل هذه الازهار الجديدة.»
وعلى الرغم من معرفتنا المحدودة، يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات. وهذه الاستنتاجات تتعلَّق بأهم سؤالَين على الاطلاق — كيف يعمل الكون، وكيف وصل الى هنا في المقام الاول.
النظام بدلا من الفوضى
ان دراسة طبيعة الكون تُدعى الكوزمولوجيا. وهذا التعبير مشتق من كلمتين يونانيتين، كوزموس ولوغوس، تشيران الى ‹دراسة النظام او التناسق.› وهذا اسم مناسب لأن النظام هو بالتحديد ما يلاقيه علماء الفلك، سواء أكانوا يتفحَّصون حركة الاجرام السماوية ام المادة التي يتألف منها الكون.
كل شيء في كوننا يتحرك، والحركة ليست غير نظامية ولا غير ممكن التنبُّؤ عنها. فالكواكب، النجوم، والمجرات تتحرَّك في الفضاء طِبْقا لقوانين طبيعية مضبوطة، قوانين تمكِّن العلماء من الٕانباء ببعض الظواهر الكونية بدقَّة لا تخطئ. وعلى نحو لا يُصدَّق، فإن القوى الرئيسية الاربع التي تضبط اصغر ذرة تتحكَّم ايضا في المجرات الاعظم.
والتنظيم ايضا ظاهر في المادة نفسها المبني منها الكون. «انَّ المادة . . . منظَّمة في كل الحجوم من الصغير جدا الى الكبير جدا،» يشرح اطلس كَيْمبريدج لعِلم الفلك. وبعيدا عن كونها متناثرة بشكل عشوائي، فإن المادة مبنية بطريقة منظَّمة، سواء كان ذلك الطريقة التي تتصل بها الالكترونات بپروتونات ونيوترونات النواة الذرية او التجاذب المتبادل الذي يربط معا حشدا هائلا من المجرات.
فلماذا يكشف الكون عن مثل هذا التنظيم والانسجام؟ لماذا هنالك قوانين فائقة تتحكَّم فيه؟ وبما انه لا بد ان تكون هذه القوانين قد وُجدت قبل نشوء الكون — وإلّا لما تمكنت من ضبطه — فالسؤال المنطقي هو: من اين اتت؟
استنتج العالِم الشهير اسحق نيوتُن: «هذا النظام الرائع الجمال للشمس، الكواكب، والمذنَّبات لا يمكن ان يكون قد نشأ إلا بتوجيه وسيطرة كائن ذكي وقوي.»
وقال الفيزيائي فْرد هويل: «ان اصل الكون، مثل حلّ مكعَّب روبيك، يتطلَّب ذكاءً.» والاستنتاج انه لا بد ان يكون هنالك واضع للقوانين فوق الطبيعة يؤكده فهمُنا لاصل الكون.
السؤال الجوهري: كيف وصل الكون الى هنا؟
يشرح الفيزيائي البارع في وضع النظريات هوْكينڠ: «الكون الباكر يملك الجواب عن السؤال الجوهري عن اصل كل ما نراه اليوم، بما في ذلك الحياة.» فما هي على وجه التحديد النظرة العلمية الحاضرة الى الكون الباكر؟
في ستينات الـ ١٩٠٠، اكتشف العلماء اشعاعَ خلفيَّةٍ خافتا آتيا من كل انحاء السماء. وهذا الاشعاع قيل انه ترداد آتٍ من الانفجار البدائي الذي سمَّاه علماء الفلك الانفجار العظيم. وكان الانفجار هائلا جدا، كما يقولون، بحيث يكون ممكنا ايضا اكتشاف صداه بعد بلايين السنين.a
ولكن اذا انفجر الكون فجأة الى الوجود منذ ما يتراوح بين ١٥ بليون و ٢٠ بليون سنة، كما يعتقد الآن معظم الفيزيائيين (مع انَّ آخرين يعترضون بشدَّة على ذلك)، ينشأ سؤال حاسم. من اين اتت الطاقة الاولية؟ وبكلمات اخرى، ماذا اتى قبل الانفجار العظيم؟
هذا سؤال يفضِّل كثيرون من علماء الفلك ان يتفادوه. اعترف احدهم: «اثبت العِلم ان العالَم اتى الى الوجود نتيجة قوى تبدو دائما خارج نطاق قدرة الوصف العلمي. وهذا يزعج العِلم لأنه يتضارب مع الدين العِلمي — دين السبب والنتيجة، الاعتقاد ان كل نتيجة لها سبب. والآن نجد ان النتيجة الاكبر على الاطلاق، ولادة الكون، تنتهك ركن الايمان هذا.»
كتب پروفسور من جامعة اوكسفورد بتحديد اكثر: «ان السبب الاول للكون يُترك للقارئ ليُدرجه. لكنَّ صورتنا غير كاملة دونه.» ومع ذلك، يقوِّم الكتاب المقدس الامور، محدِّدا هوية «السبب الاول» قائلا: «في البدء خلق اللّٰه السموات والارض.» — تكوين ١:١.
صِغَر الانسان
الدرس الابسط الذي يعلِّمنا اياه الكون هو اوضح درس، درس جاهد انسان القرون الوسطى المتفاخر ليتجاهله لكنَّ شعراء الكتاب المقدس اعترفوا به بتواضع منذ آلاف السنين — ذاك الذي لصِغَر الانسان.
تدعم الاكتشافات الحديثة التقدير الواقعي للملك داود: «اذا ارى سمواتك عمل اصابعك القمر والنجوم التي كوَّنتها فمن هو الانسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده.» — مزمور ٨:٣، ٤.
اظهر عِلم الفلك ضخامة وعظمة الكون — النجوم ذات الحجوم الهائلة، المسافات التي تفوق التصوُّر، حِقَب الزمن التي تتحدّى الفهم، الأُتُن الكونية التي تولِّد حرارة تبلغ ملايين الدرجات، ثوران الطاقة التي تجعل بليون قنبلة نووية تبدو صغيرة. ومع ذلك، يجري وصف ذلك كله جيدا في سفر ايوب: «ها هذه اطراف طرقه وما اخفض الكلام الذي نسمعه منه. وأما رعد جبروته فمن يفهم.» (ايوب ٢٦:١٤) فكلما تعلَّمنا عن الكون اكثر، بدت معرفتنا ضئيلة اكثر، وصار مكاننا فيه اصغر. وبالنسبة الى المراقب الموضوعي، انه درس يدعو الى التفكير.
اعترف اسحق نيوتُن: «ابدو وكأنني مجرد صبي يلعب على شاطئ البحر، وأنني اسلِّي نفسي بين حين وآخر بالعثور على حصاة ملساء اكثر او صَدَفة اجمل من المعتاد، فيما يمتد محيط الحقيقة الكبير كله غير مكتَشَف امامي.»
ان الاتضاع الذي يجب ان يثيره فينا فهم كهذا سيساعدنا على الاعتراف بأنَّ هنالك شخصا خلق الكون، شخصا وضع القوانين التي تتحكَّم فيه، شخصا اعظم وأحكم منا بكثير. وكما يذكِّرنا سفر ايوب: «عنده الحكمة والقدرة. له المشورة والفطنة.» (ايوب ١٢:١٣) وهذا هو الدرس الاهم على الاطلاق.
اذ يجري كشف المزيد من اسرار الكون، يجري كشف النقاب عن ألغاز اعظم ايضا. وستناقش مقالة مقبلة بعض الاكتشافات الاحدث التي تحيِّر الآن علماء الفلك وتنشئ اسئلة جديدة تثير الجدال بين علماء الكون.
[الحاشية]
a كما يشكِّل حجر رُمي في بِركة تموُّجات في الماء، هكذا شكَّل هذا الانفجار الاول النظري «تموُّجات» من اشعاع الموجات الصُّغْرية، ما يظنُّ العلماء انهم يلتقطونه بواسطة الهوائي الراديوي الحساس الذي لهم، تموُّجات وصفها احد الكتَّاب بأنها «اصداء هسهسة الخلق.»
[الصورة في الصفحة ١٠]
جهاز لاكتشاف اشعاع الخلفيَّة من الانفجار العظيم النظري
[مصدر الصورة]
Courtesy of the Royal Greenwich Observatory and the Canary Islands Institute of Astrophysics
-