-
ما يفسِّره الانفجار العظيم — وما لا يفسِّرهاستيقظ! ١٩٩٦ | كانون الثاني (يناير) ٢٢
-
-
الكون المهيب
ما يفسِّره الانفجار العظيم — وما لا يفسِّره
كل صباح هو اعجوبة. ففي باطن شمس الصباح يندمج الهيدروجين ليتحوَّل الى هليوم في درجات حرارة تصل الى الملايين. ومن لُبِّ الشمس الى الطبقات المحيطة به تتدفق الاشعة السينية وأشعة ڠاما بشدّة تفوق الخيال. ولو كانت الشمس شفّافة لَشقَّت هذه الاشعة طريقها الى السطح خلال ثوانٍ قليلة حارقة. ولكنها عوضا عن ذلك تثب من ذرّة الى ذرّة ضمن الذرّات المتراصة لهذا «العازل» الشمسي، فتفقد طاقتها تدريجيا. وتمرُّ الايام والاسابيع والقرون. وبعد آلاف السنين ينبعث اخيرا هذا الاشعاع، الذي كان مميتا، من سطح الشمس منتشرا في شكل ضوء اصفر جميل. لقد زال الخطر منه وصار مناسبا تماما ليغمر الارض بدفئه.
وكل ليلة هي اعجوبة ايضا. فالشموس الاخرى تنتشر في رحاب مجرَّتنا وتغمزنا بتلألُئها. انها نجوم بألوان وأحجام ودرجات حرارة وكثافات مختلفة جدا. بعضها من فئة النجوم فوق العملاقة supergiants، وهي كبيرة جدا الى حد انه لو وُضع واحد منها مكان شمسنا لَاستقرَّ ما يتبقى من كوكبنا داخل سطح هذا النجم الهائل الحجم. وبعض النجوم صغيرة الحجم، وهي تدعى الاقزام البيض white dwarfs. انها اصغر حجما من ارضنا، لكنَّ ثقلها يضاهي ثقل شمسنا. البعض لن يعكِّر صفو وجوده شيء لبلايين السنين. والبعض الآخر واقف على شفير الزوال لينفجر ويسطع نوره لفترة وجيزة الى حدّ يفوق سطوع مجرَّات بكاملها، وعندئذ يكون مستعِرا فائقا supernova.
تحدَّث القدماء عن وحوش بحرية وآلهة متحاربة، عن تنانين وسلاحف وفيَلة، عن ازهار لوطس وآلهة حالمة. وبعد ذلك، خلال ما سُمِّي عصر العقل، حلَّ محلَّ الآلهة «السحرُ» المكتشف حديثا، سحرُ حساب التفاضل والتكامل calculus وقانونَي نيوتن. ونحن اليوم نعيش في عصر تجرَّد عن الشِّعر القديم والاسطورة. ولكي يفسِّر ابناء العصر الذرّي في ايامنا كيف نشأ الكون، لم يختاروا الوحش البحري القديم، ولا نموذج نيوتن للمجموعة الشمسية، بل ذلك الرمز الابرز للقرن الـ ٢٠ — القنبلة الذرّية. فالذي «خلقهم» هو انفجار. وقد دعوا تلك الكرة النارية الكونية «الانفجار العظيم big bang.»
ما «يفسِّره» الانفجار العظيم
ان الصيغة الاكثر شيوعا لنظرة هذا الجيل الى نشأة الكون تذكر انه منذ ١٥ الى ٢٠ بليون سنة تقريبا لم يكن الكون موجودا، ولا حتى الفضاء الخالي. ولم يكن هنالك زمن ولا مادة — الّا نقطة متناهية الصغر والكثافة دُعيت نقطة فريدة singularity، وانفجار هذه النقطة انتج الكون الحالي. وإبان هذا الانفجار مرَّت فترة قصيرة جدا خلال الجزء الصغير الاول من الثانية توسَّع او تمدَّد فيها الكون الطفل بسرعة تفوق سرعة الضوء بكثير.
وخلال الدقائق القليلة الاولى للانفجار العظيم حدث اندماج نووي على نطاق كوني، مما انتج التراكيز التي يجري قياسها حاليا من الهيدروجين والهليوم وعلى الاقل جزء من الليثيوم في الفضاء الممتد بين النجوم. وربما بعد ٠٠٠,٣٠٠ سنة، انخفضت درجة حرارة الكرة النارية الكونية وصارت ادنى بقليل من درجة الحرارة على سطح الشمس، مما اتاح للالكترونات ان تستقر في مداراتها حول الذرّات وأطلق وميضا من الفوتونات، او الضوء. ومع ان درجة حرارة هذا الوميض الابتدائي صارت منخفضة جدا، يمكننا قياسه اليوم بصفته اشعاع الخلفية background radiation الكوني ذا التردُّدات الصغرية الموجة microwave frequencies الذي يقابل درجة حرارة تبلغ ٧,٢ كلڤن.a وفي الواقع، كان اكتشاف اشعاع الخلفية هذا سنة ١٩٦٤-١٩٦٥ هو ما اقنع معظم العلماء بوجود بعض الصحة في نظرية الانفجار العظيم. وتدَّعي النظرية ايضا انها تفسِّر لماذا يبدو الكون وكأنه يتمدَّد في كل الاتجاهات، بحيث يظهر ان المجرَّات البعيدة تجري مبتعدة عنا وعن بعضها البعض بسرعة كبيرة.
بما ان نظرية الانفجار العظيم تفسِّر امورا كثيرة كما يَظهر، فلماذا يُشَكُّ فيها؟ لأنه ثمة امور كثيرة ايضا لا تفسِّرها. لإيضاح ذلك، اطلق الفلكيّ القديم بطليموس نظرية تقول ان الشمس والكواكب تدور حول الارض في دوائر كبيرة، وهي في الوقت نفسه ترسم دوائر صغيرة تدعى افلاك التدوير epicycles. وبدا ان النظرية تفسِّر حركة الكواكب. وكلما كان الفلكيّون يجمعون معطيات اضافية خلال القرون التالية، كان بإمكان علماء الكون من مدرسة بطليموس ان يضيفوا المزيد من افلاك التدوير الى افلاك التدوير الاخرى التي رسموها و «يفسِّروا» المعطيات الجديدة. لكنَّ ذلك لم يعنِ ان النظرية صحيحة. وفي النهاية، صارت هنالك معطيات كثيرة بحيث لم يعد من الممكن تفسيرها، في حين ان نظريات اخرى، كفكرة كوپرنيكوس القائلة ان الارض تدور حول الشمس، فسَّرت الامور بشكل افضل وأبسط. ومن الصعب اليوم ايجاد فلكيّ من مدرسة بطليموس!
ان هذه الجهود التي بذلها علماء الكون من مدرسة بطليموس لترقيع نظريتهم الفاشلة التي خرَّقتها الاكتشافات الجديدة شبَّهها الپروفسور فرِد هُويْل بجهود المؤمنين بالانفجار العظيم لإبقاء نظريتهم قابلة للتصديق. وذكر في كتابه الكون الذكي: «تركَّزت جهود المحقِّقين على اخفاء التناقضات في نظرية الانفجار العظيم، فتكوَّنت فكرة صارت معقدة ومعرقِلة اكثر من ذي قبل.» وبعد ان اشار هُويْل الى افلاك تدوير بطليموس التي لم يُجْدِ استخدامها نفعا لإنقاذ نظريته، تابع قائلا: «لا اتردد في القول انه نتيجةً لذلك يهدِّد الآن نظريةَ الانفجار العظيم مصيرٌ اسود. وكما ذكرتُ سابقا، عندما تتعارض وقائع محدَّدة مع نظرية ما، يُظهر الاختبار انه نادرا ما تسترد [النظرية] مصداقيتها.» — الصفحة ١٨٦.
وعبَّرت مجلة العالِم الجديد، عدد ٢٢/٢٩ كانون الاول ١٩٩٠، عن افكار مشابهة عندما ذكرت: «طُبِّق اسلوب بطليموس بشكل مبالغ فيه على . . . شرح الانفجار العظيم للكون.» ثم سألت: «كيف يمكننا ان نحقق تقدما حقيقيا في فيزياء الجُسيمات particle physics وعلم الكون؟ . . . يجب ان نكون صادقين وصرحاء اكثر عندما تكون بعض الافتراضات العزيزة على قلوبنا ذات طبيعة تخمينية محض.» وتنهال علينا الآن ملاحظات جديدة.
اسئلة لا يجيب عنها الانفجار العظيم
احد التحديات الكبيرة في وجه الانفجار العظيم اتى من المراقبين الذين يستخدمون الاجهزة البصرية المصحَّحة في مقراب هابل الفضائي لقياس البُعد عن المجرَّات الاخرى. فالمعطيات الجديدة تجعل واضعي النظريات في حيرة من امرهم!
استعانت مؤخرا الفلكيّة وندي فريدمان مع افراد آخرين بمقراب هابل الفضائي لقياس المسافة الى مجرَّة تقع في كوكبة العذراء، وتدل قياساتها على ان الكون يتمدَّد بسرعة اكبر مما كان يُعتقد سابقا، وبذلك يكون اصغر سنًّا. وفي الواقع، كما اخبرت مجلة العلمية الاميركية في حزيران الماضي، «يشير [ذلك] الى ان عمر الكون يبلغ ثمانية بلايين سنة.» وفي حين ان ثمانية بلايين سنة تبدو فترة طويلة جدا، فهي ليست سوى نصف العمر المقدَّر للكون حاليا. ويؤدي ذلك الى مشكلة خصوصية، لأنه كما يمضي التقرير ملاحظا، «تشير معطيات اخرى الى ان عمر بعض النجوم يبلغ ١٤ بليون سنة على الاقل.» وإذا كانت ارقام فريدمان صحيحة، فهذا يعني ان تلك النجوم المسنّة هي اقدم من الانفجار العظيم نفسه!
واعترضت الانفجار العظيم مشكلة اخرى ايضا اتت من البراهين المتزايدة باستمرار عن وجود «فقاقيع» في الكون تمتد مسافة ١٠٠ مليون سنة ضوئية، بحيث تمتد المجرَّات خارجها وينتشر الفراغ داخلها. وقد وجدت مرڠريت ڠلر وجون هكرا وغيرهما في مركز هارڤرد-سميثْسونيان للفيزياء الفلكية ما يدعونه سورًا عظيما من المجرَّات يمتد نحو ٥٠٠ مليون سنة ضوئية عبر السماء الشمالية. ووجد فريق آخر من الفلكيين، الذين صاروا يُعرَفون بالساموراي السبعة، دليلا على وجود تكتُّل كوني مختلف يدعونه «الجاذب العظيم» قرب كوكبتَي الشجاع وقنطورس الجنوبيتَين. ويعتقد الفلكيّان مارك پوستمان وتود لاوِر ان هنالك دون شك جاذبا اكبر ايضا وراء كوكبة الجبار، وهو يجعل مئات المجرَّات، بما فيها مجرَّتنا، تجري في ذلك الاتجاه كأخشاب طافية مندفعة على سطح «نهر فضائي.»
كل هذه البنى تُوقع المرء في الحيرة. فعلماء الكون يقولون ان الانفجار العظيم كان منتظما ومتناسقا للغاية، على اساس اشعاع الخلفية الذي يُزعم انه خلَّفه. فكيف يمكن ان تؤدي بداية منتظمة كهذه الى تكوين بنى ضخمة ومعقَّدة الى هذا الحد؟ تعترف العلمية الاميركية: «ان المكتشَفات الكثيرة الاخيرة من اسوار وجواذب تزيد غموض السؤال: كيف يمكن ان يتشكَّل هذا العدد من البنى في غضون الـ ١٥ بليون سنة التي تؤلف عمر الكون» — مشكلة تزداد صعوبة ايضا عندما يؤخذ بعين الاعتبار تقليص العمر المقدَّر للكون كما ذكرت فريدمان وغيرها.
«ثمة عامل جوهري ينقصنا»
ان الخرائط الثلاثية الابعاد التي وضعتها ڠلر لآلاف التكتُّلات المجرِّيَّة الملتفَّة والمتشابكة والمنتفخة غيَّرت طريقة تصوُّر العلماء للكون. وهي لا تدَّعي انها تفهم ما تراه. فالجاذبية وحدها لا تعلِّل كما يَظهر وجود السور العظيم الذي رأته. تعترف: «غالبا ما اشعر بأنه ثمة عامل جوهري ينقصنا في محاولاتنا لفهم هذه البنية.»
وأسهبت ڠلر في الكلام عن ارتيابها وقالت: «من الواضح اننا لا نعرف كيف نفسِّر وجود بنى ضخمة في ضوء الانفجار العظيم.» والتفاسير للبنى الكونية على اساس الخرائط المرسومة حاليا للسموات ليست قاطعة على الاطلاق — كمحاولة رسم خريطة للعالم كله على اساس مسح جغرافي لجزيرة صغيرة. ثم تابعت ڠلر قائلة: «قد نجد يوما ما اننا لم نكن نفسِّر الامور بطريقة صحيحة، وعندئذٍ، لا شك اننا سنتساءل لماذا لم نفكِّر في ذلك من قبل.»
يقودنا كل ذلك الى اهم سؤال: ما هو الامر الذي يُفترض انه سبَّب الانفجار العظيم نفسه؟ يعترف بصراحة اندريه ليندِه، احد واضعي الصيغة التضخمية inflationary الشائعة جدا لنظرية الانفجار العظيم والمعتبَر مرجعا بارزا في هذا المجال، ان هذه النظرية لا تتطرَّق الى هذه المسألة الجوهرية. يقول: «ان المشكلة الاولى والرئيسية هي حدوث الانفجار العظيم نفسه. فقد يسأل المرء، ماذا كان هنالك قبلا؟ وإذا لم يكن المكان-الزمان موجودا آنذاك، فكيف يمكن ان يظهر كل شيء من لا شيء؟ . . . ان تفسير هذه النقطة الفريدة الاولى — اين ومتى ابتدأ كل شيء — لا يزال المشكلة الاصعب في علم الفلك الحديث.»
استنتجت مؤخرا مقالة في مجلة ديسْكَڤر انه «ما من عالِم كون منطقي يدَّعي ان الانفجار العظيم هو خاتمة النظريات.»
لنخرج الآن الى العراء ونتأمل في جمال القبَّة المنجمة وغموضها.
[الحاشية]
a كلڤن هي الوحدة في سلَّمٍ لدرجات الحرارة تساوي الدرجةُ فيه الدرجةَ في سلَّم درجات الحرارة المئوي، الّا ان سلَّم كلڤن يبتدئ عند الصفر المطلق، اي صفر ك — ما يعادل -١٦,٢٧٣ درجة مئوية. وهكذا يتجمد الماء في درجة ١٦,٢٧٣ ك ويغلي في درجة ١٦,٣٧٣ ك.
[الاطار في الصفحة ٥]
السنة الضوئية — مقياس كوني
ان الكون كبير جدا حتى ان قياسه بالاميال او الكيلومترات هو كقياس المسافة بين لندن وطوكيو بالميكرومتر. لذلك تُستعمل وحدة قياس ملائمة اكثر، السنة الضوئية، التي تمثِّل المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، اي ما يعادل ٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠,٨٨٠,٥ ميل (٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠,٤٦٠,٩ كلم) تقريبا. وبما ان الضوء هو اسرع شيء في الكون ويلزمه ٣,١ ثانية فقط ليصل الى القمر ونحو ٨ دقائق الى الشمس، فالسنة الضوئية هي فعلا مسافة هائلة!
-
-
غامض جدا، انما رائع جدااستيقظ! ١٩٩٦ | كانون الثاني (يناير) ٢٢
-
-
الكون المهيب
غامض جدا، انما رائع جدا
في هذا الوقت من السنة تكون سماء الليل مرصَّعة بجواهر رائعة. ففي العلياء يقف الجبار العظيم مباعدا ما بين رِجليه. وهذه الكوكبة تسْهل رؤيتها في ليالي شهر كانون الثاني من انكوراج في ألاسكا الى كَيپ تاون في جنوب افريقيا. هل امعنتم النظر مؤخرا في الكنوز السماوية الموجودة في الكوكبات المشهورة، كالجبار؟ هذا ما فعله العلماء منذ زمن ليس ببعيد، مستعينين بمقراب (تلسكوب) هابل الفضائي الذي جرى اصلاحه مؤخرا.
من النجوم الثلاثة التي تشكِّل منطقة (حزام) الجبار يتدلى سيفه. والنجم غير الواضح في وسط السيف ليس في الحقيقة نجما بل هو سديم الجبار Orion Nebula الشهير، ولهذا الشيء جمال اخّاذ حتى عندما يُنظر اليه بواسطة مقراب صغير. لكنَّ تألُّقه الفائق ليس سبب اعجاب الفلكيّين المحترفين به.
في مجلة علم الفلك، يخبر جان-پيار كايو: «يتفحص الفلكيّون سديم الجبار ونجومه الفتيّة الكثيرة لأنه اكبر وأنشط حيِّز لولادة النجوم في ناحيتنا من المجرَّة.» فكما يبدو، هذا السديم هو قسم توليد كوني! وعندما صوَّر مقراب هابل سديم الجبار، ملتقطا تفاصيل لم تُرَ من قبل على الاطلاق، لم يَرَ الفلكيّون فقط نجوما وغازا متوهِّجا بل ما وصفه كايو بـ «اشكال بيضَوية صغيرة غير واضحة. بقع من الضوء البرتقالي. انها تشبه لطخات من الطعام سقطت عن غير قصد على الصورة.» لكنَّ العلماء لا يعتبرونها عيوبا نتجت عند تظهير الصور، فهم يعتقدون ان هذه الاشكال البيضَوية غير الواضحة هي «اقراص كوكبية بدئيَّة، اول مجموعات شمسية في طور التكوُّن كما تُرى من مسافة ٥٠٠,١ سنة ضوئية.» فهل تولد نجوم — وحتى مجموعات شمسية بكاملها — في سديم الجبار في هذه اللحظة؟ هذا ما يعتقده فلكيّون كثيرون.
من قسم التوليد الى مقبرة النجوم
فيما يخطو الجبار خطوة واسعة الى الامام، حاملا قوسا بيده، يبدو وكأنه يواجه كوكبة الثور. وقرب طرف القرن الجنوبي للثور، يكشف مقراب صغير عن وجود بقعة شاحبة من الضوء. انها تدعى سديم السرطان Crab Nebula، وبواسطة مقراب كبير يتبين انها انفجار في طور الحدوث، كما يَظهر في الصفحة ٩. فإذا كان سديم الجبار دار حضانة للنجوم، فقد يكون سديم السرطان المجاور مقبرةً لنجم عانى موتا عنيفا يفوق الخيال.
هذه الجائحة السماوية ربما سجَّلها الفلكيّون الصينيون الذين وصفوا «نجما ضيفا» في كوكبة الثور ظهر فجأة في ٤ تموز ١٠٥٤ وصار يسطع بتألُّق شديد حتى انه كان يُرى في وضح النهار طوال ٢٣ يوما. يذكر الفلكيّ روبرت برْنم: «طوال اسابيع قليلة كان النجم يشعُّ ويطلق ضوءا يعادل ضوء ٤٠٠ مليون شمس تقريبا.» ويدعو الفلكيّون هذا الانتحار النجمي المذهل مستعِرا فائقا. وحتى الآن، بعد الف سنة تقريبا من رؤيته، تتسابق في الفضاء الشظايا الناتجة من الانفجار بسرعة تُقدَّر بـ ٥٠ مليون ميل (٨٠ مليون كلم) في اليوم.
وقد وُجِّه مقراب هابل الفضائي الى ذلك الحيِّز ايضا، فحدَّق عميقا في قلب السديم واكتشف «تفاصيل في سديم السرطان لم يتوقَّعها الفلكيّون قط،» استنادا الى مجلة علم الفلك. ويقول الفلكيّ پول سكووِن ان هذه الاكتشافات «ستجعل الفلكيّين النظريين يحكُّون رؤوسهم لبعض الوقت في المستقبل.»
ويعتقد الفلكيّون، مثل روبرت كيرشْنر من هارڤرد، انه من المهم نيل الفهم عن بقايا مستعِر فائق كسديم السرطان، لأنه من الممكن الافادة من ذلك لقياس المسافة الى مجرَّات اخرى، وهذا الامر موضع ابحاث كثيفة في الوقت الحاضر. وكما رأينا، فإن الخلافات المتعلقة بالمسافات الى المجرَّات الاخرى ادَّت مؤخرا الى نقاش حادّ حول تفسير الانفجار العظيم لنشأة الكون.
وراء كوكبة الثور، ولكن ضمن الحيِّز المنظور من نصف الكرة الشمالي في السماء الغربية خلال شهر كانون الثاني، يُرى تألُّق خفيف في كوكبة المرأة المُسَلْسَلة. هذا التألُّق هو مجرَّة المرأة المُسَلْسَلة، ابعد شيء يمكن ان تراه العين المجرَّدة. ان الروائع التي تُرى في كوكبتَي الجبار والثور لا تبعد عن ارضنا كثيرا، فالمسافة لا تتعدى آلافا قليلة من السنوات الضوئية. لكنَّ نظرنا الآن يجتاز مسافة تقدَّر بمليونَي سنة ضوئية ويقع على شكل لولبي ضخم من النجوم يشبه مجرَّتنا درب التبَّانة كثيرا، ولكنه اكبر اذ يمتد مسافة ٠٠٠,١٨٠ سنة ضوئية من اقصاه الى اقصاه. وفيما تنظرون الى التألُّق الخفيف للمرأة المُسَلْسَلة، يغمر عينيكم ضوء ربما كان عمره اكثر من مليونَي سنة!
في السنوات الاخيرة شرعت مرڠريت ڠلر وآخرون في تنفيذ برامج طموحة لوضع خرائط لكل المجرَّات حولنا بالابعاد الثلاثة، وقد اثارت النتائج اسئلة خطيرة في ما يتعلق بنظرية الانفجار العظيم. فبدلا من رؤية توزيع منتظم للمجرَّات في كل اتجاه، اكتشف رسَّامو خرائط الكون «نسيجا مزركَشا من المجرَّات» في بنية تمتد ملايين السنين الضوئية. «أما كيف طُرِّز هذا النسيج المزركَش من المادة المتجانسة تقريبا للكون المولود حديثا فهو احد الاسئلة البالغة الاهمية في علم الكون،» كما ذكر تقرير حديث في مجلة العِلم المحترمة.
ابتدأنا هذه الامسية بالنظر الى السماء في ليلة من ليالي شهر كانون الثاني فانكشف لنا على الفور جمالها الاخّاذ. لكنَّ ذلك اثار ايضا اسئلة وأسرارا تتعلق بطبيعة الكون وأصله. فكيف ابتدأ؟ كيف وصل الى حالته الحاضرة المعقَّدة؟ ماذا سيحدث للروائع السماوية التي تحيط بنا؟ وهل يمكن لأحد ان يعطي الجواب؟ لنرَ.
[الاطار في الصفحة ٨]
كيف يعرفون كم تبعد عنا؟
عندما يقول الفلكيّون لنا ان مجرَّة المرأة المُسَلْسَلة تبعد مليونَي سنة ضوئية، فهم في الواقع يذكرون تقديرات. فلا احد اخترع وسيلة لقياس هذه المسافات الهائلة بطريقة مباشرة. ان المسافات الى النجوم الاقرب جدا، اي التي تقع ضمن مسافة ٢٠٠ سنة ضوئية تقريبا، يمكن ان تقاس مباشرة بواسطة اختلاف المنظر النجمي stellar parallax الذي يشمل علم المثلَّثات trigonometry البسيط. لكنَّ هذا لا ينجح الّا مع النجوم القريبة جدا من الارض بحيث تَظهر كما لو انها تتحرك قليلا فيما تدور الارض حول الشمس. أما معظم النجوم، وكل المجرَّات، فهي ابعد بكثير. عند تلك النقطة يبتدئ التخمين. وحتى النجوم التي لا تبعد كثيرا، يُقاس بُعدها بالتخمين، كالنجم الاحمر فوق العملاق الشهير المسمى منكب الجوزاء في كوكبة الجبار الذي تتراوح تقديرات بُعده بين ٣٠٠ الى اكثر من ٠٠٠,١ سنة ضوئية. لذلك لا يجب ان يفاجئنا وجود خلاف بين الفلكيّين بشأن المسافات المجرِّيَّة التي تبلغ اضعاف ذلك مليون مرة.
[الاطار في الصفحة ٨]
المستعِرات الفائقة، النجوم النابضة، والثقوب السوداء
في وسط سديم السرطان يقع احد اغرب الاشياء في الكون المعروف. فحسبما يقول العلماء، ان الجثة الصغيرة لنجم ميت والمضغوطة حتى بلغت كثافتها حدًّا لا يصدَّق، تدور في قبرها ٣٠ مرة في الثانية وتطلق حزمة من الموجات الراديوية التُقطت للمرة الاولى على الارض سنة ١٩٦٨. هذا الشيء يدعى نجما نابضا pulsar، وهو يوصَف بأنه الجسم الباقي الدوَّار لمستعِر فائق مضغوط الى حدِّ ان الالكترونات والپروتونات في ذرَّات النجم الاصلي حُشرت معا بحيث نتجت النيوترونات. ويقول العلماء انه كان قبلا اللُّبَّ الضخم لنجم فوق العملاق مثل منكب الجوزاء او رِجل الجبار في كوكبة الجبار. وعندما انفجر النجم وتطايرت طبقاته الخارجية في الفضاء، لم يبقَ سوى اللُّب المتقلص، جمرة انطفأت نيرانها النووية منذ زمن طويل وأخذت تتوهَّج في حرارة بيضاء.
تخيلوا انكم اخذتم نجما يبلغ حجمه ضعف حجم شمسنا وضغطتموه حتى صار بحجم كرة قطرها ١٠ الى ١٢ ميلا (١٥-٢٠ كلم)! وتخيلوا انكم اخذتم كوكب الارض وضغطتموه حتى صار قطره ٤٠٠ قدم (١٢٠ م). ان انشًا مكعَّبا (١٦ سم٣) من هذه المواد سيصل وزنه الى اكثر من ١٦ بليون طن.
حتى هذا الوصف ليس كل شيء عن المادة المضغوطة. فإذا قلَّصنا الارض حتى تصير بحجم الكلَّة، فسيصبح حقل جاذبية الارض في النهاية قويا جدا بحيث انه حتى الضوء لن يفلت منه. عندئذ ستبدو ارضنا الصغيرة وكأنها تختفي داخل ما يدعى بالثقب الاسود. ومع ان معظم الفلكيّين يؤمنون بوجود الثقوب السوداء، الّا ان وجودها لم يتبرهن بعد، ويبدو ان حدوثها لا يتكرر كثيرا بقدر ما كان يُعتقد قبل سنين قليلة.
[الاطار في الصفحة ١٠]
هل هذه الالوان حقيقية؟
ان الاشخاص الذين يراقبون السماء بمقراب صغير يشعرون في اغلب الاحيان بالخيبة عندما يحدِّدون للمرة الاولى موقع مجرَّة او سديم شهير. فأين الالوان الجميلة التي يرونها في الصور؟ يلاحظ الفلكيّ والكاتب العلمي تِموثي فرِس: «لا يمكن للعين البشرية ان ترى الوان المجرَّات مباشرة، حتى بواسطة اكبر المقاريب الموجودة، وذلك لأن الضوء اخفت من ان ينبِّه مستقبِلات الالوان في شبكيَّة العين.» فجعل ذلك البعض يستنتجون ان الالوان الجميلة التي تُرى في الصور الفلكيّة مزيَّفة، وهي تُضاف بطريقة ما خلال عملية التحميض. لكنَّ ذلك ليس صحيحا. يكتب فرِس: «الالوان نفسها حقيقية، والصور تمثِّل افضل الجهود التي يبذلها الفلكيّون لإنتاجها بدقة.»
في كتابه المجرَّات، يوضح فرِس ان صور الاشياء البعيدة الخافتة، كالمجرَّات او معظم السُّدُم، تُلتقط بواسطة «التعريض الزمني، اذ يجري الحصول عليها بتوجيه المقراب الى مجرَّة وتعريض لوحة فوتوڠرافية لها بضع ساعات فيما يتغلغل ضوء النجم في المستحلَب الفوتوڠرافي photographic emulsion. وخلال هذا الوقت تعوِّض آلية تحريك عن دوران الارض وتُبقي المقراب موجَّها نحو المجرَّة، فيما يقوم الفلكيّ، او نظام توجيه آلي في بعض الحالات، بتصحيحات صغيرة جدا.»
-
-
‹شيء ما ناقص› — ما هو؟استيقظ! ١٩٩٦ | كانون الثاني (يناير) ٢٢
-
-
الكون المهيب
‹شيء ما ناقص› — ما هو؟
بعد التحديق في النجوم في ليلة حالكة وصافية، ندخل بيوتنا مقشعرِّين من البرد ومنبهرين بالمنظر، ورؤوسنا تدور من روعة الجمال ومن كثرة التساؤلات. لماذا وُجد الكون؟ من اين اتى؟ وإلى اين يمضي؟ هذه الاسئلة يحاول كثيرون الاجابة عنها.
بعدما صرف الكاتب العلمي دنيس اوڤرْباي في الابحاث في علم الكون خمس سنوات حملته الى مختلف المؤتمرات العلمية ومراكز الابحاث في كل انحاء العالم، وصف محادثة جرت بينه وبين الفيزيائي العالمي الشهير ستيڤن هوكِنْڠ: «في النهاية، ما اردت معرفته من هوكِنْڠ هو ما كنت دائما اريد ان اعرفه من هوكِنْڠ: اين نذهب عندما نموت.»
رغم ان هذه الكلمات تبدو تهكُّمية، فهي تكشف الكثير عن عصرنا. فالتساؤلات لا تدور كثيرا حول النجوم نفسها وحول النظريات والآراء المتناقضة التي يعلنها علماء الكون الذين يدرسونها. فالناس اليوم لا يزالون يتوقون الى الحصول على اجوبة عن الاسئلة الجوهرية التي تراود الجنس البشري منذ آلاف السنين: لماذا نحن موجودون؟ هل يوجد اله؟ اين نذهب حين نموت؟ اين الاجوبة عن هذه الاسئلة؟ هل هي موجودة في النجوم؟
ولاحظ كاتب علمي آخر يدعى جون بوسْلو انه عندما هجر الناس الدين صار العلماء، كعلماء الكون، يشكِّلون «الكهنة المثاليين لعصر علماني. فهُمْ مَن سيكشفون الآن كل اسرار الكون تدريجيا، لا القادة الدينيون، ولن يكون ذلك في هيئة تجلٍّ روحاني مفاجئ انما في شكل معادلات غامضة لا يفهمها احد سوى [هؤلاء العلماء] المرتسمين.» ولكن هل سيكشفون كل اسرار الكون ويجيبون عن كل الاسئلة التي تراود الجنس البشري منذ اقدم العصور؟
ماذا يكشف علماء الكون الآن؟ يتبنى معظمهم احدى صيغ نظرية الانفجار العظيم «اللاهوتية» التي صارت بمثابة دين علماني في زمننا، مع انهم لا يتوقفون عن المجادلة في الوقت نفسه حول التفاصيل. «ولكن،» كما ذكر بوسْلو، «على ضوء الملاحظات الجديدة والمتناقضة، صارت نظرية الانفجار العظيم تبدو اكثر فأكثر كتفسيرٍ بولغ في تبسيطه الى حد اغفال الجوانب المعقدة للمسألة، وذلك في بحثهم عن الحدث الخلقي. وبحلول اوائل التسعينات صارت نظرية الانفجار العظيم . . . عاجزة بشكل متزايد عن الاجابة عن الاسئلة الاهم.» وأضاف ان «رأي عدد ليس بقليل من واضعي النظريات هو انها لن تصمد حتى نهاية التسعينات.»
ربما سيتبين ان بعض التخمينات الكونية الحالية صحيحة، وربما لا — كما انه ربما هنالك كواكب تندمج داخل الوهج الشبحي لسديم الجبار، وربما لا. انما الواقع الذي لا يُنكر هو انه لا احد على هذه الارض يستطيع ان يجزم بالامر. صحيح ان النظريات تزداد، لكنَّ المراقبين الصادقين يردِّدون الملاحظة الذكية التي ذكرتها مرڠريت ڠلر انه رغم الاستفاضة في الحديث عن هذا الموضوع، يبدو ان شيئا جوهريا ناقص في المعرفة العلمية الحالية عن الكون.
ما ينقص — تقبُّل مواجهة الوقائع غير المستساغة
معظم العلماء — ويشمل ذلك معظم علماء الكون — يؤيدون نظرية التطوُّر. والكلام الذي يعطي الذكاء والقصد دورا في نشأة الكون لا يستسيغونه، وهم يقشعرون من مجرد ذكر اللّٰه كخالق. حتى انهم يرفضون التفكير في هذه «الهرطقة.» يتكلم المزمور ١٠:٤ باستخفاف عن الشخص المتشامخ الانف الذي «لا يسأل عن اللّٰه، وفي كيده يقول: لا إله.» (الترجمة العربية الجديدة) فمعبوده المبدع هو الصدفة. ولكن مع ازدياد المعرفة وانهيار الصدفة تحت وطأة البراهين المتزايدة، اخذ العلماء يوجِّهون انتباههم اكثر فأكثر الى الامور المحظورة كالذكاء والتصميم. تأملوا في الامثلة التالية:
«من الواضح ان عنصرا اساسيا مفقود في دراساتنا الكونية. ان اصل الكون، مثل حلّ مكعَّب روبيك، يتطلَّب ذكاءً،» كما كتب الفيزيائي الفلكيّ فرِد هُويْل في كتابه الكون الذكي، الصفحة ١٨٩.
«كلما فحصتُ الكون ودرست تفاصيل هندسته اكثر وجدت ادلّة اكثر على ان الكون بمعنى ما لا بدّ انه عرف اننا قادمون.» — ازعاج الكون، بقلم فريمان دايسن، الصفحة ٢٥٠.
«اية مميِّزات في الكون كانت ضرورية لظهور المخلوقات، مثلنا نحن، وهل كان بواسطة الصدفة ان وُجدت هذه المميِّزات في كوننا ام هنالك سبب اعمق؟ . . . هل هنالك خطة اعمق تؤكد ان الكون صُنع خصوصا لأجل الجنس البشري؟» — المصادفات الكونية، بقلم جون ڠْريبِن ومارتن ريس، الصفحتان xiv و ٤.
ويعلِّق فرِد هُويْل ايضا على هذه الخصائص في الصفحة ٢٢٠ من كتابه المقتبس منه اعلاه، فيقول: «ان مثل هذه الخصائص يبدو انها تسري في نسيج العالَم الطبيعي كخيط من الصدف السعيدة. ولكن هنالك الكثير جدا من هذه المصادفات الغريبة والجوهرية بالنسبة الى الحياة بحيث يبدو ان تفسيرا ما مطلوب لتعليلها.»
«ليس الامر فقط ان الانسان متكيِّف مع الكون. فالكون متكيِّف ايضا مع الانسان. هل تتخيلون كونًا تغيَّر فيه احد الثوابت الفيزيائية اللابُعدية الجوهرية بنسبة مئوية ضئيلة بطريقة او بأخرى؟ عندئذٍ، سيكون مستحيلا ان يَظهر الانسان في كون كهذا. هذه هي النقطة الرئيسية في مبدإ وجود الانسان. ووفقا لهذا المبدإ هنالك عامل معطٍ للحياة كامن في قلب كامل آلية العالم وتصميمه.» — المبدأ الكوني لوجود الانسان، بقلم جون بارو وفرانك تِپْلر، الصفحة vii.
اللّٰه، التصميم، والثوابت الفيزيائية
ما هي بعض هذه الثوابت الفيزيائية الجوهرية اللازمة لوجود الحياة في الكون؟ ذُكر القليل من هذه الثوابت في تقرير في صحيفة ذي اورانج كاونتي ريجيستر عدد ٨ كانون الثاني ١٩٩٥. وقد شدد على مدى ضرورة كون هذه الثوابت دقيقة جدا، فقال: «ان القيمة الكمِّيَّة للكثير من الثوابت الفيزيائية الرئيسية التي تحدِّد الكون — مثل شحنة الالكترون او سرعة الضوء الثابتة او نسبة شدة القوى الاساسية في الطبيعة — دقيقة الى حدٍّ يثير الدهشة، وبعضها الى ١٢٠ رقما بعد الفاصلة. ان نشأة كونٍ منتِج للحياة مرتبطة الى ابعد حدّ بهذه المواصفات. وأيّ اختلاف صغير — نانوثانية واحدة هنا، أنڠشتروم واحد هناك — كان سيجعل الكون ميتا وعقيما.»
ثم ذكر مؤلف التقرير امرا لا يُذكر عادةً: «يبدو انه من المنطقي اكثر الافتراض ان ثمة حافزا غامضا موجودا في ثنايا العملية، ربما في ما عملته قوة ذكية وذات قصد قامت بضبط الكون بدقة تحضيرا لوصولنا.»
وجورج ڠرينستاين، پروفسور في علم الفلك وعلم الكون، وضع قائمة اطول بهذه الثوابت الفيزيائية في كتابه الكون المتعايش. وبين الامور المدرجة في القائمة كانت هنالك ثوابت مضبوطة بدقة بالغة حتى انه لو انحرفت مقدارا ضئيلا جدا لَما كان وجود الذرّات او النجوم او الكون ممكنا. ان تفاصيل هذه الترابطات مذكورة في الاطار المرافق. ووجودها اساسي لكي تكون الحياة المادية ممكنة. هذه الثوابت معقَّدة وقد لا يفهمها كل القراء، لكنها جزء من الامور المتعارف عليها بين الفيزيائيين الفلكيّين المدرَّبين في هذه المجالات.
عندما طالت هذه القائمة، صار ڠرينستاين مربَكا. قال: «مصادفات كثيرة جدا! وكلما قرأت اكثر صرت مقتنعا اكثر بأن ‹مصادفات› كهذه لا يعقل ان تكون قد حدثت بالصدفة. ولكن اذ نما هذا الاقتناع نما شيء آخر ايضا. وحتى في الوقت الحاضر يصعب التعبير عن هذا ‹الشيء› بالكلمات. لقد كان نفورا شديدا وفي بعض الاحيان كاد يتعدى كونه [نفورا] عقليا. فكنت اتلوّى تلوِّيا من الانزعاج. . . . أيعقل ان نكون قد عثرنا فجأة، ومن غير ان نقصد، على برهان علمي على وجود كائن اسمى؟ أيكون اللّٰه هو الذي تدخَّل وأعدّ الكون بمثل هذه العناية الالهية لفائدتنا؟»
وإذ اشمأز وارتاع من الفكرة، تراجع ڠرينستاين بسرعة وانكفأ الى معتقده العلمي التقليدي المتخذ طابعا دينيا وأعلن: «اللّٰه ليس بتفسير.» ولكنها حجة واهية — فهو لم يستسِغ اطلاقا فكرة وجود اللّٰه حتى انه لقي صعوبة في تقبُّلها!
حاجة بشرية طبيعية
ليس الهدف من هذا كله الاستخفاف بالعمل الشاق الذي يقوم به العلماء المخلصون، بمَن فيهم علماء الكون. وشهود يهوه خصوصا يقدِّرون اكتشافاتهم الكثيرة المتعلقة بنشأة الكون والتي تعرب عن قدرة الاله الحقيقي يهوه وحكمته ومحبته. تذكر رومية ١:٢٠: «لأن اموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى انهم بلا عذر.»
ان الابحاث والجهود التي يبذلها العلماء هي استجابة طبيعية لحاجة اساسية عند الجنس البشري كالحاجة الى الطعام والمأوى واللباس. انها الحاجة الى معرفة الاجوبة عن اسئلة تتعلق بالمستقبل والقصد من الحياة. فاللّٰه «وضع الابدية في قلوب البشر؛ ومع ذلك لا يستطيعون ان يدركوا ما يعمله اللّٰه من البداية الى النهاية.» — جامعة ٣:١١، الكتاب المقدس — الترجمة الاممية الجديدة.
ليس هذا خبرا سيئا. فمع ان ذلك يعني ان البشر لن يتوصلوا ابدا الى معرفة كل شيء، فستبقى دائما هنالك امور جديدة ليتعلموها: «رأيت كل عمل اللّٰه ان الانسان لا يستطيع ان يجد العمل الذي عُمل تحت الشمس. مهما تعب الانسان في الطلب فلا يجده والحكيم ايضا وإن قال بمعرفته لا يقدر ان يجده.» — جامعة ٨:١٧.
يعترض بعض العلماء قائلين ان جَعْل اللّٰه «الحلّ» لمشكلة ما، سيقضي على الحافز الى القيام بأبحاث اضافية. لكنَّ الشخص الذي يعترف باللّٰه خالقا للسموات والارض امامه فيض من التفاصيل المدهشة الاخرى ليكتشفها ووفرة من الاسرار المثيرة ليرفع الستار عنها. فذلك كما لو انه أُعطي الضوء الاخضر لينطلق في مغامرة شيِّقة حافلة بالاكتشافات والمعلومات!
مَن يمكنه الّا يستجيب لدعوة اشعياء ٤٠:٢٦؟ «ارفعوا الى العلاء عيونكم وانظروا.» لقد رفعنا الى العلاء عيوننا في هذه الصفحات القليلة، وما رأيناه هو ‹الشيء الناقص› الذي يعجز علماء الكون عن ايجاده. وعرفنا ايضا مكان وجود الاجوبة عن تلك الاسئلة التي راودت الانسان وشغلت باله طوال عصور.
الاجوبة موجودة في كتاب
كانت الاجوبة دائما في متناول اليد، لكنَّ اناسا كثيرين، كالمتديِّنين في ايام يسوع، غمَّضوا عيونهم وسدُّوا آذانهم وقسّوا قلوبهم لكي لا يحصلوا على اجوبة لا تتفق مع نظرياتهم البشرية او نمط الحياة الذي اختاروه. (متى ١٣:١٤، ١٥) لقد اخبرَنا يهوه من اين اتى الكون، كيف ظهرت الارض، ومَن سيعيش عليها. وأخبرَنا انه يجب على سكان الارض البشر ان يزرعوها ويهتموا برفق بالنباتات والحيوانات التي تشاركهم في العيش عليها. وأخبرَنا ايضا ماذا يحدث عندما يموت الناس، انه يمكن ان يعودوا الى الحياة، وما يجب ان يفعلوه للعيش على الارض الى الابد.
اذا كنتم مهتمين بالحصول على هذه الاجوبة بلغة كلمة اللّٰه الموحى بها، الكتاب المقدس، فاقرأوا من فضلكم الآيات التالية: تكوين ١:١، ٢٦-٢٨؛ ٢:١٥؛ امثال ١٢:١٠؛ متى ١٠:٢٩؛ اشعياء ١١:٦-٩؛ ٤٥:١٨؛ تكوين ٣:١٩؛ مزمور ١٤٦:٤؛ جامعة ٩:٥؛ اعمال ٢٤:١٥؛ يوحنا ٥:٢٨، ٢٩؛ ١٧:٣؛ مزمور ٣٧:١٠، ١١؛ رؤيا ٢١:٣-٥.
لِمَ لا تقرأون هذه الآيات في احدى الامسيات مع عائلتكم او مع احد الجيران او مع مجموعة من الاصدقاء في بيتكم؟ تأكدوا ان ذلك سيثير مناقشة حية وزاخرة بالمعلومات!
هل تثير اهتمامكم اسرار الكون ويؤثر فيكم جماله؟ لِمَ لا تتعرفون اكثر بالذي خلقه؟ ان فضولنا وإعجابنا لا يعنيان شيئا للسموات غير الحية، لكنَّ خالقها يهوه اللّٰه هو خالقنا ايضا، وهو يكترث لأمر الودعاء الذين يهتمون بالتعلُّم عنه وعن خلائقه. وتُطلَق الآن الدعوة في كل الارض: «تعال. ومَن يسمع فليقل تعال. ومَن يعطش فليأتِ. ومَن يُرد فليأخذ ماء حياة مجانا.» — رؤيا ٢٢:١٧.
يا لها من دعوة حبية من يهوه! لم يَظهر الكون نتيجة انفجار لا فكر له ولا قصد، بل خلقه اله ذو ذكاء غير محدود وقصد محدَّد، وكان يفكِّر فيكم من البداية. واحتياطه من الطاقة التي لا تنضب مضبوط بعانية ومجهَّز دائما لدعم خدامه. (اشعياء ٤٠:٢٨-٣١) والمكافأة على نيلكم المعرفة عنه لن تنتهي كما ان الكون العظيم نفسه لن ينتهي!
«السموات تحدِّث بمجد اللّٰه. والفلك يخبر بعمل يديه.» — مزمور ١٩:١.
[الاطار في الصفحة ١٣]
قائمة ببعض الثوابت الفيزيائية اللازمة لوجود الحياة
يجب ان تكون شحنتا الالكترون والپروتون متساويتَين ومتخالفتَين؛ يجب ان يفوق النيوترون الپروتون وزنا بنسبة ضئيلة؛ يجب ان تكون هنالك مواءمة matching بين درجة حرارة الشمس والخصائص الامتصاصية للكلوروفيل قبل ان يحدث التخليق الضوئي؛ لو كانت «القوة القوية» اضعف قليلا لَما تمكنت الشمس من توليد الطاقة بواسطة التفاعلات النووية، ولكن لو كانت اقوى قليلا لَكان الوقود اللازم لتوليد الطاقة غير مستقر بشكل عنيف؛ لولا طنينَين resonances بارزَين منفصلَين بين النوى في لبِّ النجوم العملاقة الحمراء لما تشكل ايّ عنصر بعد الهليوم؛ لو كان الفضاء اقل من ثلاثيّ الابعاد لَاستحالت الروابط البَيْنيّة العاملة لأجل جريان الدم والجهاز العصبي؛ ولو كان الفضاء اكثر من ثلاثيّ الابعاد لَما تمكنت الكواكب من الدوران في مداراتها حول الشمس بشكل ثابت. — الكون المتعايش، الصفحتان ٢٥٦-٢٥٧.
[الاطار في الصفحة ١٤]
هل رأى احد كتلتي المفقودة؟
ان مجرَّة المرأة المُسَلْسَلة، ككل المجرَّات اللولبية، تدور بشكل مهيب في الفضاء كما لو انها اعصار ضخم. ويمكن للعلماء ان يحسبوا معدل سرعة دوران مجرَّات كثيرة بواسطة الاطياف spectra الضوئية، وعندما يحسبونه يجدون امرا محيِّرا. فمعدلات سرعة الدوران تبدو مستحيلة! ويبدو ان كل المجرَّات اللولبية تدور بسرعة فائقة. وحركتها توحي بأن النجوم المرئية في المجرَّة مركَّزة في هالة من مادة مظلمة ذات حجم اكبر بكثير، وهذه المادة لا تراها المقاريب. يعترف الفلكيّ جيمس كَيْلر: «لا نعرف ما هي اشكال المادة المظلمة.» ويقدِّر علماء الكون ان ٩٠ في المئة من هذه الكتلة المفقودة لا تفسير له. وهم يبذلون قصارى جهودهم للعثور عليها، إما في شكل نيوترينوات neutrinos هائلة او في شكل مادة غير معروفة انما متوافرة بكثرة.
فإذا عرفتم اين هي الكتلة المفقودة، فأعلِموا في الحال عالِم الكون في منطقتكم!
-