-
هيروشيما — اختبار لا ينسىاستيقظ! ١٩٨٦ | تموز (يوليو) ٨
-
-
هيروشيما — اختبار لا ينسى
بواسطة مراسل «استيقظ!» في اليابان
طوال سنوات والامر هكذا. فتماما عند الساعة ١٥:٨ صباحا يحل سكون بحشد من الناس المجتمعين في ميدان السلام، هيروشيما. انهم يحفظون دقيقة صمت تذكارا لتلك اللحظة المفجعة قبل ٤١ سنة. ففي ٦ آب ١٩٤٥ انفجرت قنبلة ذرية فوق هيروشيما، اليابان. وبلمحة خربت المدينة، وفقد نحو ٠٠٠,٨٠ نسمة حياتهم. وبعد ثلاثة ايام دمرت قنبلة ذرية اخرى مدينة ناغازاكي، قاتلة نحو ٠٠٠,٧٣ نسمة.
ويفد الالوف قانونيا من كل ارجاء العالم لاحياء ذكرى هذا الحدث المشؤوم. وفي السنة الماضية، اضافة الى الاستعراضات العادية والصلوات وطقوس الذكرى وهلم جرا، كانت هنالك حوادث خاصة كمؤتمر المحافظين العالمي للسلام من خلال التضامن بين المدن — وهو اجتماع لمحافظي عشرات المدن في اليابان وحول العالم.
فواضح ان اليابان تريد ان يتذكر العالم درس ماضيها المؤلم.
ناجون يروون قصصهم
استعملت مواعين من الورق لتسجيل الروايات التي تفطِّر القلب لاولئك الناجين من القنبلتين. ومع ان معظم الناجين هم الآن في متوسط عمرهم فلا تزال لديهم ذكريات حية عن «ذلك اليوم.» واليكم رواياتهم كما جرى قصها على احد مراسلي «استيقظ!»
نوبويو فوكوشيما، التي تذكر جيدا اختبارها لقذف هيروشيما بالقنبلة، تروي: «كنت انظف الدرج في بيتي عندما صعقني فجأة وميض باهر وعصف مريع فغبت عن الوعي. وعندما افقت تمكنت من سماع امي تزعق مستنجدة. وكان البيت خرائب. فظننت ان هزة ارضية قد نزلت بنا. وعندما شققنا طريقنا من البيت الى ضفة النهر رأيت الكثير من الاولاد مع آبائهم بثياب محروقة ممزقة وملتحمة بجلدهم. فلم استطع ان افهم لماذا كانوا محروقين على هذا النحو الخطير.
«وعندما بلغنا المستشفى كان مكتظا بالناس. وكانت رؤوس ووجوه الكثيرين منهم مغطاة بالدم، فيما كان لآخرين لحم محروق يتدلى قطعا. وكان شعر البعض منهم، الذي حرقته الحرارة، واقفا رعبا. أما الآخرون الذين اصابت اجسادهم شظايا الخشب والزجاج فكانوا يئنون بعمق. وكانت وجوههم منتفخة حتى صعب تمييز الواحد من الآخر. وظهر انهم جميعا يلتمسون الماء، ولكن عند جلب الماء اليهم كان كثيرون منهم قد توقفوا عن التنفس. وماتت امي ايضا بعد ثلاثة اشهر من آثار القنبلة.
«وأمست المدينة حقلا كبيرا محروقا بحائط اسمنتي واحد متفتت بقي قائما بالصدفة في الرماد. وكانت ثمة نيران في كل ليلة على ضفة النهر حيث احرقت جثث الموتى. وأنا اتذكر بجلاء وهج النيران الاحمر والرائحة المريعة للاجساد المحترقة كاسماك مشبعة بالزيت تشوى. لا ازال ارتعد وأشعر بالسقم في قلبي كلما فكرت في ذلك.»
توميجي هيروناكا كان احد الجنود الذين أُرسلوا على الفور الى هيروشيما بعدما قُذفت بالقنبلة بغية اخراج الناجين من السجن هناك. ومع انه خدم في الجندية لسنوات كثيرة فما رآه في هيروشيما اقنعه بهول الحرب.
«كانت الطريق ملآنة بالشاحنات المحملة جرحى. ومن استطاعوا المشي بعدُ ترنحوا على جانب الطريق. وكان كثيرون عراة تقريبا باستثناء رقع من الثياب كانت محترقة على جلدهم. وفي كل مكان كانت اكوام من الجثث متقرّحة باحمرار. واكتظت ضفَّتا النهر بالناس الذين يحاولون تخفيف الم حروقهم. وبينهم رأيت اما مكسوَّة حروقا حمراء تمسك بابنها المحروق ايضا بشكل خطير، محاولة رعايته على نحو يثير الشفقة. وأذكر جيدا الشعور الانفعالي الذي كان لي آنذاك. انا امقت الحرب! انا امقت الحرب! ولكنني شاركت في القتل، وفكرت، ايّ نوع من الضمائر املك؟ لقد كنت أعي بشدة ذنبي لسفك الدم.»
مونهايد ياناغي، وكان صبيا في الـ ١٤ من العمر في ذلك الحين، نجا بأعجوبة من قذف ناغازاكي بالقنبلة. فقد كان على بعد ٢٠٠,٣ قدم فقط (٩٨٠م) من مكان انفجار القنبلة. «كنت جزءا من ترتيب تعبئة للتلاميذ معين لتشييد ملاجىء ضد الغارات الجوية،» كما يوضح. «واذ كنا نعمل سمعت ازيز طائرة كبيرة بدا وكأنه هدير عال. وفي اللحظة التي كنت اتساءل فيها ان كانت طائرة اميركية سمعت الصراخ: تكّي! ]طائرة عدوة![ فطرحنا الاشياء التي كنا نحملها وركضنا بكل قدرتنا الى الملجأ.
«وفي اللحظة التي بلغت فيها الحاجز الاسمنتي قدام ملجأ الغارات الجوية، حدث وميض هائل من نور ابيض ضارب الى الزرقة وعصف مروع رماني بغير وعي الى مؤخرة الملجأ. والامر التالي الذي اعرفه كان انني افقت على صرخات الاحتضار، ايغو! ايغو! ]تعبير كوري يدل على الاحساس العميق[. وكان الصراخ صادرا عن امرىء ذي وجه سوَّده الدخان وكان محروقا بشدة حتى صعب التحديد ان كان الشخص ذكرا ام انثى.
«والخارج كان كالجحيم. رأيت احد رفقاء مدرستي وكان محروقا على نحو خطير. وكانت ثيابه مشققة، وجلده يتساقط. والفتاة التي كانت تعمل معي انهارت على الطريق — اختفى اسفل رجليها وكانت تتوسل طلبا للماء. ولم اعرف من اين أحضر الماء ولكنني بذلت قصارى جهدي لاشجعها.
«وأتلفت النيران المدينة. ورأيت اعمدة الهاتف التي اتت عليها النيران محطمة على الطرقات، وقطارا يشتعل على خط السكة الحديدية، وحصانا مصابا باضطراب عنيف بسبب الحرارة. وأجبرتني النار المستعرة على خوض النهر. كنت حار الجسم ومرتعبا. وبطريقة ما وصلت الى البيت.» وفي وقت لاحق بدأت لثَّتا مونهايد تنزفان وأخذ يعاني من الاسهال. وهو يكابد من التهاب كبد مزمن حتى الآن. ولكنه يعتبر نفسه محظوظا بالمقارنة مع كثيرين ممن رآهم في ذلك اليوم.
درس للجميع
ان اختبار قذف القنبلتين الذريتين قد ترك بالفعل ندبا عميقا في اذهان وضمائر اناس كثيرين. وحتى الذين رأوا الآثار اللاحقة لقذف القنبلتين تأثروا بعمق من هول ودمار الحرب.
واليوم بعد ٤١ سنة من الحدث يزداد التوتر بين الامم وينمو المخزون الاحتياطي للاسلحة النووية. ويلوح بشكل حقيقي جدا الخوف من حرب عالمية ثالثة ومحرقة نووية. وعلى نحو مفهوم يقوم اناس اكثر فاكثر في كل العالم بحث جميع الامم والشعوب على تذكر مأساة هيروشيما وناغازاكي كدرس للجميع. والذكرى السنوية الاربعون في هيروشيما كانت مجرد واحدة من تعابير كثيرة كهذه.
ولكن هل قرَّب ايّ من هذه الجهود العالم حقا الى السلام الحقيقي؟ وهل اهوال الحرب النووية — الالم والمعاناة والدمار — كافية لجعل الناس يتخلون عن الحرب؟ وفي الواقع ايّ تأثير دائم كان لمأساة هيروشيما وناغازاكي في اليابان كأمة في ما يتعلق بمسعى السلام؟
[الصور في الصفحتين ٤، ٥]
مشاهد الكارثة في قلب مدينة هيروشيماأُخذت بعد انفجار القنبلة الذرية
-
-
هيروشيما — هل ضاع درسها؟استيقظ! ١٩٨٦ | تموز (يوليو) ٨
-
-
هيروشيما — هل ضاع درسها؟
كان شعب اليابان يبكون اذ وقفوا حول اجهزة الراديو في تلك الظهيرة من ١٥ آب ١٩٤٥. فقد كانوا يصغون الى صوت امبراطورهم: «لقد قررنا بمقتضى ما يمليه علينا الزمن والقدر ان نمهد الطريق لسلام عظيم لكل الاجيال الآتية باحتمال ما لا يُحتمل ومعاناة ما لا يُعانى.»
كان قد مر اسبوع تقريبا على سماع الشعب الياباني ان نوعا جديدا من القنابل قد دمر هيروشيما وناغازاكي. والآن أُخبروا بأن الحرب في المحيط الهادي قد انتهت — وأنهم خسروا. فكانت هنالك دموع اسى ولكن ايضا دموع فرج.
لقد كان ثمن الحرب باهظا. فالناس كانوا منهكين جسديا وعاطفيا، والبلد خراب. فقد قُتل ما يزيد على ثلاثة ملايين ياباني في الحرب وتُرك ١٥ مليونا دون بيوت. وقد جرى قذف اكثر من تسعين مدينة رئيسية بالقنابل على نحو متكرر، فدُمِّر مليونان ونصف المليون من الابنية والبيوت. وتحولت طوكيو الى اكوام من الرماد والحجارة، وهلك القسم الاعظم من سكانها بسبب الحرب. كانت تلك مأساة الهزيمة — لحظة قاتمة في تاريخ ارض الشمس المشرقة.
جهود للتخلي عن الحرب
من وسط خرائب الهزيمة تسهل الرؤية ان الحرب بلا جدوى، تبديد للحياة البشرية والسلع الثمينة. وهكذا، عقب الحرب مباشرة، اعادت اليابان كتابة دستورها وفق خطوط ديمقراطية وتخلت عن الحرب الى الابد. تنص المادة ٩ من الدستور الجديد على ما يلي:
«ان الشعب الياباني، اذ يصبو باخلاص الى سلام دولي مؤسس على العدل والنظام، يتخلى الى الابد عن الحرب كحق مطلق للامة وعن التهديد بالقوة او استعمالها كوسيلة لبت النزاعات الدولية.
«ومن اجل تحقيق غاية الفقرة السابقة لن يجري ابدا الابقاء على القوات البرية والبحرية والجوية اضافة الى امكانات الحرب الاخرى. ولن يجري الاعتراف بحق الدولة في الاشتراك الفعلي في الحرب.»
ونظرا الى هذا البيان الجريء والنبيل، يبدو ان اليابان قد تعلمت درسا. ان للشعب الياباني بالفعل مقتا شديدا للحرب وخشية من الحرب النووية على الاخص. وقد تبنّى البلد سياسة من ثلاث نقاط ازاء الاسلحة النووية: عدم صنعها او امتلاكها او السماح لها في البلد. وكل سنة يتجمع مئات الآلاف من اليابانيين في كل البلد ليقدموا الاعتراضات على الاسلحة النووية. فينبغي عدم استعمال الاسلحة النووية ابدا — واينما كان!
عودة مذهلة — الى ماذا؟
والآن، بعد هيروشيما بـ ٤١ سنة، فان تباين الغنى المتألق لليابان العصرية يكاد لا يُصدق. فمن دون عبء الانفاق العسكري استطاعت اليابان ان تكرس مواردها لاعادة بناء نفسها. واليوم تقوم ناطحات السحاب والبيوت الجميلة المكيفة الهواء حيث كان كل شيء ذات يوم خرابا. والسيارات اللامعة، والناس الحسان الهندام والمطاعم الباهظة التكاليف تناقض الفقر والمعاناة للسنوات التي تلت الحرب مباشرة. والمحلات التجارية تختزن جيدا كل انواع اصناف الترف، وتنتج المصانع ما لا نهاية له من البضائع للاستعمال المنزلي وللتصدير. نعم، لقد غدت اليابان احدى اكثر الامم ازدهارا في العالم.
ولكن ماذا جلب الازدهار المادي؟ هل حجب الامن الاقتصادي ذكرى هيروشيما وناغازاكي في اذهان الناس؟ هل زال مقت الحرب الى جانب ندوب الحرب؟
تشير الاستفتاءات الاخيرة الى وجود تشاؤم حيال المستقبل رغم ان الشعب الياباني لا يزال يريد ان تبقى حكومته غير نووية. ويخشى نصف الذين جرى استفتاؤهم انه يمكن ان تكون هنالك حرب نووية. كما ان عددا متزايدا يعتقد ان اليابان ستصبح نووية في غضون السنوات العشر التالية. فلماذا يخشى الناس ذلك؟ حسنا، تأملوا في التطورات المتدرجة.
بعد الحرب جرى انشاء احتياطي الشرطة القومي من ٠٠٠,٧٠ جندي مسلح من المشاة. وفي وقت لاحق جرى توسيع هذه القوة الى ٠٠٠,٢٥٠ رجل مجمعين في جيش صغير وفي بحرية وقوة جوية، وأطلق عليهم اسم «جايتاي،» اي قوات الدفاع عن النفس. ومع ذلك كانت ميزانية اليابان العسكرية مجرد ١ في المئة من انتاجها القومي الاجمالي. ولكن بتفاقم التوتر في انحاء كثيرة من العالم يجري حث اليابان على توسيع مقدراتها وانفاقها الدفاعيين.
ومؤخرا صرَّح رئيس الوزراء ناكاسون بنيته ان يجعل اليابان «حاملة طائرات كبيرة.» ورغم المشاعر العامة جرى وضع الخطط لزيادة الانفاق الدفاعي بقدر ٧ في المئة في عام ١٩٨٥. واستنادا الى «الدايلي يوميوري» تورَّطت اليابان في مخطط خماسي (١٩٨٦ – ١٩٩٠) للبناء الدفاعي النظامي والمستمر — في القوة البشرية، السفن الحربية، الغواصات والطائرات.
وتشاهد التغييرات ليس في سياسات الحكومة وحسب بل ايضا في موقف الناس من الحرب. ففي عام ١٩٧٠ جرت اثارة احد اكثر الهيجانات السياسية ايذاء في تاريخ اليابان عندما جُدّدت معاهدة الامن العسكري لما بعد الحرب — وبمقتضاها تزود الولايات المتحدة الحماية في وقت الازمة مقابل تأسيس قواعد عسكرية في اليابان. ولكن عندما جرى تجديد المعاهدة ثانية في عام ١٩٨٠ لم يكن ثمة اعتراض رئيسي واحد.
والواقع هو ان اناسا قليلين في اليابان تحت سن الـ ٥٠ اليوم يذكرون الحرب او يبالون بالتكلم عنها. ويرى البعض في اعادة الكتابة الدقيقة لكتب الاولاد المدرسية الجهد لازالة كل الوقائع المهمة التي افضت الى تلك الحرب المريعة. وكما تزيل الامواج تدريجيا آثار الاقدام من على الشاطىء الرملي، تؤثر احوال العالم المتغيرة في آراء الناس السياسية. ومن الاسئلة الرئيسية في اذهان العديدين، ماذا ستفعل اليابان في حالة طارئة مستقبلية؟ هل تذهب اليابان الى الحرب ثانية اذا بدا ان المبرر صحيح؟ وهل ضاع درس هيروشيما؟
اما المسلك الذي ستتخذه الامة ككل فسيخبر به الزمن وحده. ولكنّ افرادا كثيرين في اليابان قد صنعوا قرارا شخصيا في هذا الخصوص. وأحد هؤلاء الافراد كان في سجن هيروشيما في ذات الوقت الذي انفجرت فيه القنبلة الذرية، لكنه نجا من تلك المحرقة في احدى زنزانات السجن العميقة. ولم يكن في السجن بسبب اية اساءة اجرامية. ولكنه كان معارضا بسبب الضمير للمساهمة في الحرب. لقد كان واحدا من شهود يهوه.
وبدرس للكتاب المقدس كان قد قبل وجهة نظر اللّٰه من الحروب التي يخوضها البشر وتعلم ان ملكوت اللّٰه هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها تحقيق السلام الحقيقي. (انظر اشعياء ٢:٤، دانيال٢:٤٤.) ومن اجل كرازته بهذه الرسالة بدافع المحبة للّٰه وللقريب أُلقي في ذلك السجن.
واليوم هنالك اكثر من ٠٠٠,١٠٠ مثله في اليابان، كارزين بنشاط «ببشارة الملكوت هذه.» (متى ٢٤:١٤) والكثير منهم اختبروا شخصيا اهوال هيروشيما وناغازاكي. أما كيف سمحت احدى هؤلاء لذلك الاختبار الاستثنائي بدفعها الى البحث عن شيء افضل — وماذا وجدت — فهي قصة ندعوكم الى قراءتها.
[الصورة في الصفحة ٧]
هيروشيما العصرية، والمنطقة السفلى في يسار الصورة تظهر الجزء ذاته من المدينة كما يُرى في الصورة السابقة (من الاتجاه المعاكس)
-
-
جروحي في هيروشيما قد ولّت!استيقظ! ١٩٨٦ | تموز (يوليو) ٨
-
-
جروحي في هيروشيما قد ولّت!
كما روتها تايكو انوموتو من مدينة هيروشيما
اتى غريب الى بيتنا ومعه قميص محروق وممزق كان يرتديه تلميذ مدرسة. وكان كل ما تبقى القبة والجزء الاعلى من القميص. ولكن كان لا يزال ممكنا قراءة الاسم مياكاوا شيرو بوضوح على الصدر. لقد كان قميص اخي.
في صباح ٦ آب ١٩٤٥ ذهبت الى العمل كالمعتاد. فكفتاة نموذجية في الـ ١٩ من العمر تملكتني حمى الوطنية التي استحوذت على بلدي في ذلك الوقت وانضممت الى مجموعات النساء المتطوعات. وكان اخي، الذي لا يزال تلميذ مدرسة، قد ذهب الى وسط المدينة للعمل. أما ابي فقد مات وهو يحارب في منشوريا. وذلك ترك امي في البيت وحدها.
وفي وقت مبكر من ذلك الصباح اكتُشفت طائرات حربية عدوة في جوار هيروشيما وكانت هنالك انذارات بغارة جوية. واذ انهينا تدريبنا العسكري وكنا على وشك دخول البناء هز المنطقة انفجار هائل. وصار كل شيء امام عينيَّ احمر تماما. وأعطتني حرارة الانفجار الاحساس بأنني سقطت في اتون حام — فغبت عن الوعي في تلك اللحظة.
وحالما عدت الى وعيي فكرت في عائلتي. ومع اننا كنا في وضح النهار، الا ان الحجاب الكثيف من غبار القنبلة الذري المتساقط جعل الامور تبدو مخيفة. وسرعان ما بدأ يهطل مطر سُخامي اسود، واستمر نحو ساعتين. وما رأيته في طريقي الى البيت كان مرعبا. فكان ثمة اناس يتفجر الدم من عنقهم وآخرون يداهم على عينيهم والدم يتدفق من بين اصابعهم. ورأيت كثيرين وجسدهم محمرّ بكامله احتراقا. وكان الجلد من يدي البعض وساعديهم يتدلى من اطراف اصابعهم، فيما كان الآخرون يجرّون الجلد الذي انسلخ من ساقيهم. وكان ثمة اناس تجعد شعرهم احتراقا ووقف رعبا.
وعندما بلغت البيت وجدت الجوار بكامله، بما فيه بيتنا، وقد سطَّحه الانفجار. وكم كنت سعيدة اذ وجدت امي حية بعد مع انها مجرَّحة على نحو خطير بسبب شظايا الزجاج المتطاير! ولكن ماذا كان قد حل بأخي؟ قررنا ان ننتظر حتى فجر اليوم التالي قبل ان نذهب الى المدينة لنفتش عنه.
البحث عن اخي
ومشاهدة المدينة في اليوم التالي جعلتني ادرك انها لم تكن مجرد غارة جوية اخرى. لقد كانت هذه القنبلة شيئا كبيرا. فالدمار لم يسبق له مثيل.
وعلى طول الجسر المؤدي الى المدينة تكدّست اجساد القتلى المتفحمة، تاركة مجرد ممر صغير في الوسط. وأحيانا كنت اسمع انّات صادرة من اكوام الاجساد، وفي بعض الاحيان تحدث حركات مفاجئة بينهم. وكنت اندفع دون تفكير لارى ان كان ذلك اخي. لكنهم كانوا جميعا محروقين على نحو خطير ومنتفخين حتى صعب تحديد هويتهم. وعندما كنت اصل الى شتى مراكز الاخلاء كنت اثابر على الصراخ باسم اخي، لكنه ما كان ليوجد.
وبعد يومين او ثلاثة بدأ الناس يُعدّون قوائم بالموتى. وجمَّع الجنود الاجساد المتفحمة ونضحوها بالبنزين وأحرقوها. وقلّ ما امكن فعله للمصابين والمائتين. فقد أُعطوا بعض الماء وحصة يومية من كرة رز واحدة. ولم يكن ثمة تجهيزات طبية او علاج لهم.
وخلال ايام بدأ شعر الناس يتساقط. وشوهد الذبان واليرقان يزحف على الجروح المفتوحة لمن هم اضعف من ان ينظفوها. وامتلأ الهواء بالرائحة المنتنة للجثث المحترقة وللجروح غير المعالجة. وفي وقت سريع، ودون سبب ظاهر، بدأ من كانوا اصحاء كفاية ليعتنوا بالجرحى يموتون واحدا تلو الآخر. ومن الواضح انهم خضعوا لتأثيرات الاشعاع. وبدأت انا ايضا اختبر الاسهال والضعف والاختلالات العصبية.
وبعد بحث لحوالى شهرين علمت اخيرا ما كان قد اصاب اخي. فالغريب الذي ذكرته آنفا اتى لرؤيتنا. وأوضح انه اعطى ماء لصبي كان محروقا على نحو خطير ومصابا بالعمى بسبب القنبلة. وعندما مات اخي اخيرا كان هذا الشخص لطيفا كفاية لينزع القميص ويتجشم مشقة البحث عنا وجلبه الينا.
وكان الاثر لكل ذلك عليّ، انا الفتاة في الـ ١٩ من العمر، مؤذيا. ففقدت القدرة على التفكير في ايّ شيء. وخسرت كذلك كل احساس بالخوف. فبكيت وبكيت. وكنت كلما اغمضت عينيَّ رأيت الضحايا بتحديقات فارغة على وجوههم، هائمة بلا هدف في القتام. كم ابغضت الحرب! ابغضت الاميركيين لانهم ألقوا بالقنبلة، وابغضت القادة اليابانيين لسماحهم للحرب بأن تبلغ هذا المدى.
وجدت شيئا افضل
خلال السنوات العشر التالية تزوجت وأنجبت اخيرا ثلاثة اولاد. ولكنّ قلبي ظل يتقد بغضا. ومع انني اردت يائسة ان اتخلص من هذه المشاعر، تساءلت كيف أتمكن من نسيان كل ذلك.
جربت شتى الفرق الدينية وانضممت الى دين «سيشو نو اي،» اذ ظهروا انهم الاكثر حبا وسخاء. ولكنهم عجزوا عن اعطائي اجوبة تجلب الاكتفاء. فعندما كنت اسأل لماذا وجب ان يموت اخي كانوا يقولون فقط: «الناس الذين يفعلون الصالحات يموتون صغارا. كان ذلك قدره.»
ثم انتقلنا الى طوكيو. وذات يوم قرع بابي واحد من شهود يهوه. وتحدث عن ملكوت اللّٰه وقرأ عليَّ من الكتاب المقدس شيئا عن اناس يطبعون سيوفهم سككا. (اشعياء ٢:٤) فتأثرت بلطفه والمامه بالكتاب المقدس وقبلت منه مجلتين. وعلمت لاحقا انه هو ايضا خسر معظم عائلته في قذف هيروشيما بالقنبلة. ورتب لكي تزورني امرأة.
وأتت السيدة عدة مرات ودائما مبتسمة وودية. لكنني كنت لا ازال اوحي بالمرارة والبرودة. ومع انني اصغيت الى رسالتها من الكتاب المقدس لم اتمكن من التصديق انه يمكن ان تكون هنالك اية قوة منقذة في دين من بلد كان قد جلب بؤس ذلك اليوم في هيروشيما. ولكن كان هنالك شيء بشأنها جعلني استمر في الاصغاء.
وسألتها ذات يوم: «هل تعتقدين ان شخصا مثلي، يملك قلبا مليئا بالبغض، يستطيع ان يصير شخصا مبتهج القلب مثلك؟»
فأجابت بثقة: «نعم، ذلك ممكن.» وأوضحت: «انا اصبحت ما انا عليه بعد درسي الكتاب المقدس.»
لذلك بدأت بدرس نظامي في الكتاب المقدس مستعملة كراسا بعنوان «ها انا اصنع كل شيء جديدا.» وتعلمت من الدرس ان اعمال الامم المدعوة مسيحية لا تتوافق مع المسيحية الجاري تعليمها في الكتاب المقدس وأن العالم المسيحي يواجه دينونة اللّٰه ايضا.
ونمت حماستي اذ واظبت على الدرس. وصرت افهم لماذا سمح اللّٰه بالشر حتى الآن وان لملكوت اللّٰه وحده القدرة على انقاذ الجنس البشري من المعاناة. وتأثرت بعمق ايضا بالمحبة التي اظهرها يسوع المسيح بالتخلي عن حياته على خشبة الآلام لفائدة كل الناس. ورويدا رويدا غيَّرت رسالة الكتاب المقدس مشاعري، وسرعان ما ولّى البغض في قلبي. وعوضا عنه شعرت بمحبة حارة نحو الآخرين ورغبة قوية في اخبارهم عن ملكوت اللّٰه.
شرعت احضر الاجتماعات في قاعة الملكوت قانونيا واعتمدت في حزيران ١٩٦٤. وطوال سبع سنوات بعد ذلك استطعت ان اخدم كفاتحة (خادمة كامل الوقت من شهود يهوه) وتمتعت بامتياز مساعدة ١٢ شخصا على معرفة الاله الحقيقي الوحيد، يهوه.
وضع اختباري موضع العمل
والآن عدت زوجي وأنا الى هيروشيما. وهنا لا ازال ألتقي اناسا كثيرين مثلي يتذكرون القنبلة. واذ اختبرت الامر ذاته الذي اختبروه فاني قادرة على مساعدتهم ليروا ان الرجاء الحقيقي الوحيد لعالم بلا حرب يكمن في رسالة الكتاب المقدس عن حكم الملكوت القادم برئاسة المسيح يسوع.
واليوم قد ولّت غالبية ندوب قذف القنبلة في هيروشيما. ولكنّ الاهم هو انني استطعت ان اتخلص من الجروح والبغض الذي حملته في قلبي طوال سنوات كثيرة ووضعت عوضا عن ذلك الرجاء والمحبة. والآن انا اتوق الى الوقت حين يقيم اللّٰه جميع الذين يحفظهم اعزاء في ذاكرته. ورغبتي هي ان اشترك في الفرح الذي لا يُقارن، الذي امتلكه الآن، مع كثيرين ممن ماتوا قبل ٤١ سنة في هيروشيما — بمن فيهم اخي الصغير العزيز.
[النبذة في الصفحة ١٠]
امتلأ الهواء بالرائحة المنتنة للجثث المحروقة وللجروح غير المعالجة
[النبذة في الصفحة ١٠]
كنت كلما اغمضت عينيَّ رأيت الضحايا بتحديقات فارغة على وجوههم
[الصورة في الصفحة ٩]
تايكو في الـ ١٩ في عام ١٩٤٥
[الصورة في الصفحة ١١]
تايكو مع ابنتها
-