-
الى ايّ حد قابل للتصديق هو «العهد القديم»؟الكتاب المقدس — كلمة اللّٰه أم الانسان؟
-
-
الفصل ٤
الى ايّ حد قابل للتصديق هو «العهد القديم»؟
في الفصول القليلة التالية سنناقش بعض التّهم التي يوجِّهها النُقّاد العصريون ضد الكتاب المقدس. فالبعض يؤكِّدون التهمة بأن الكتاب المقدس يناقض ذاته و «غير علمي،» وهذان الاتِّهامان ستجري معالجتهما لاحقا. إنَّما اوّلا، تأملوا في التهمة المصنوعة غالبا بأن الكتاب المقدس ليس اكثر من مجموعة اساطير وخرافات. فهل يملك مقاومو الكتاب المقدس اساسا متينا لنقد كهذا؟ اوّلا، دعونا ننظر الى الاسفار العبرانية، المسماة العهد القديم.
١ و ٢ كيف كان حصار اريحا، وأية اسئلة تُطرح في ما يختص به؟
مدينة قديمة محاصَرة. ومهاجموها قد عبروا نهر الاردن بحشود كبيرة وهم الآن نازلون امام اسوار المدينة العالية. ولكن ما أغرب تَكتيك المعركة! فكلَّ يوم لستة ايام دار الجيش الغازي دائرة المدينة، صامتين ما عدا فريقا مرافقا من الكهنة الضاربين بالابواق. والآن، في اليوم السابع، يدور الجيش في صمت دائرة المدينة سبع مرات. وفجأة، يضرب الكهنة بأبواقهم من كل قدرتهم. فيقطع الجيش صمته بهتاف معركة جبّار، وتنهار اسوار المدينة الشاهقة في سحابة من الغبار، تاركة المدينة بلا دفاع. — يشوع ٦:١-٢١.
٢ هكذا يصف سفر يشوع، السفر السادس من الاسفار العبرانية، سقوط اريحا الذي حصل منذ ٥٠٠,٣ سنة تقريبا. ولكن هل حدث ذلك حقا؟ كثيرون من اصحاب النقد الاعلى يجيبون بثقة كلاّ.a فهم يدَّعون ان سفر يشوع، الى جانب اسفار الكتاب المقدس الخمسة السابقة، يتألَّف من خرافات كُتبت بعد ان وقعت الحوادث المزعومة بقرون كثيرة. وعلماء آثار كثيرون يجيبون ايضا كلاّ. ووفقا لهم، عندما دخل الاسرائيليون ارض كنعان، ربَّما لم تكن اريحا قد وُجدت ايضا.
٣ لماذا مهمة هي مناقشة ما اذا كان الكتاب المقدس يحتوي على تاريخ حقيقي أم لا؟
٣ هاتان تهمتان خطيرتان. وإذ تقرأون الكتاب المقدس بكامله ستلاحظون ان تعاليمه متَّصلة على نحو متين بالتاريخ. فاللّٰه يتعامل مع رجال، نساء، عائلات، وأمم حقيقيين، وأوامره معطاة لشعب تاريخي. والعلماء العصريون الذين يلقون الشك على تاريخيّة الكتاب المقدس يلقون الشك ايضا على اهمية رسالته وإمكان الاعتماد عليها. وإذا كان الكتاب المقدس حقا كلمة اللّٰه، فتاريخه حينئذ لا بدّ ان يكون جديرا بالثقة وأن لا يحتوي على مجرد خرافات وأساطير. فهل يملك هؤلاء النُقّاد اساسا لتحدّي صدقه التاريخي؟
النقد الاعلى — الى ايّ حد يمكن الاعتماد عليه؟
٤-٦ ما هي بعض نظريات وِلهوزن للنقد الاعلى؟
٤ ان النقد الاعلى للكتاب المقدس ابتدأ جِدّيًّا في اثناء القرنين الـ ١٨ والـ ١٩. وفي النصف الثاني من القرن الـ ١٩ عَمَّم ناقد الكتاب المقدس الألماني يوليوس وِلهوزن النظرية ان اسفار الكتاب المقدس الستة الاولى، بما فيها يشوع، كُتبت في القرن الخامس قم — بعد نحو ألف سنة من الحوادث الموصوفة. ولكنه قال انها تحتوي على موادّ دُوِّنت في وقت ابكر.١ وهذه النظرية طُبعت في الطبعة الـ ١١ من دائرة المعارف البريطانية، الصادرة في ١٩١١، التي شرحت: «ان التكوين هو عمل لِما بعد السبي مؤلَّف من مصدر كهنوتي بعد السبي (ب) ومصادر ابكر غير كهنوتية تختلف اختلافا ملحوظا عن ب في اللغة، الاسلوب ووجهة النظر الدينية.»
٥ ان وِلهوزن وأتباعه نظروا الى كل التاريخ المسجَّل في الجزء الابكر من الاسفار العبرانية وكأنه «ليس تاريخا حرفيا، بل تقاليد شعبية للماضي.»٢ والروايات الابكر اعتُبرت مجرد انعكاس لتاريخ اسرائيل اللاحق. على سبيل المثال، ذُكر ان العداوة بين يعقوب وعيسو لم تحدث حقا، ولكنها عكست العداوة بين أمَّتي اسرائيل وأدوم في الازمنة اللاحقة.
٦ وانسجاما مع ذلك، شعر هؤلاء النُقّاد بأن موسى لم يتسلَّم قط اية وصية بصنع تابوت العهد وأن خيمة الاجتماع، مركز العبادة الاسرائيلية في البرية، لم توجد قط. واعتقدوا ايضا ان سلطة الكهنوت الهروني لم تتأسَّس كاملا إلا قبل سنوات قليلة من دمار اورشليم بواسطة البابليين، الذي اعتقد النُقّاد انه حدث عند بداية القرن السادس قم.٣
٧ و ٨ اية «براهين» كانت لدى وِلهوزن لنظرياته، وهل كانت سليمة؟
٧ وأي «برهان» كان لديهم لهذه الافكار؟ يدَّعي اصحاب النقد الاعلى انهم قادرون على تقسيم نص اسفار الكتاب المقدس الباكرة الى عدد من الوثائق المختلفة. والمبدأ الاساسي الذي يستخدمونه هو ان يفرضوا، بشكل عامّ، ان ايّ عدد للكتاب المقدس يستعمل الكلمة العبرانية التي تقابل اللّٰه (الوهيم) على حِدَتها كُتبت بواسطة كاتب واحد، وأن ايّ عدد يشير الى اللّٰه باسمه، يهوه، لا بدّ انه كُتب بواسطة آخر — كما لو كان كاتب واحد لا يستطيع استعمال التسميتين كلتيهما.٤
٨ وبصورة مماثلة، وقتما يجري تسجيل حادثة اكثر من مرة في سفر، يُتَّخذ ذلك برهانا على اكثر من كاتب واحد في العمل، مع ان الادب الساميّ القديم لديه امثلة مشابهة اخرى للتكرار. وعلى نحو اضافي، يجري الفرض ان ايّ تغيير للاسلوب يعني تغييرا للكاتب. ومع ذلك، فحتى كتّاب اللغة العصرية يكتبون غالبا بأساليب مختلفة في مراحل مختلفة في مهنهم، او عندما يعالجون موضوع بحث مختلفا.b
٩-١١ ما هي بعض مواطن ضعف النقد الاعلى العصري؟
٩ هل هنالك ايّ برهان حقيقي لهذه النظريات؟ كلا، على الاطلاق. وأحد المعلِّقين لاحظ: «ان النقد، حتى في احسن الاحوال، تخمينيّ وتجريبيّ، شيء عرضة دائما للتحوير او البرهان انه خاطئ ويجب ان يُستبدَل به شيء آخر. انه تمرين فكري، خاضع لكل الشكوك والظنون التي هي غير قابلة للفصل عن تمرينات كهذه.»٥ والنقد الاعلى للكتاب المقدس، خصوصا، هو «تخمينيّ وتجريبيّ» الى اقصى حدّ.
١٠ وڠليسون ل. آرتشر، الاصغر، يُظهر خللا آخر في التفكير المنطقي للنقد الاعلى. فالمشكلة، يقول، هي ان «مدرسة وِلهوزن بدأت بالافتراض البحت (الذي لم يزعجوا انفسهم لإثباته) ان دين اسرائيل كان من مصدر بشري وحسب كأي دين آخر، وأنه يجب شرحه كمجرد نتاج للتطوّر.»٦ وبكلمات اخرى، ان وِلهوزن وأتباعه بدأوا بالافتراض ان الكتاب المقدس هو مجرد كلمة الانسان، ثم فكَّروا منطقيا من هناك.
١١ وقديما في ١٩٠٩، لاحظت دائرة المعارف اليهودية اثنين ايضا من مواطن الضعف في النظرية الوِلهوزنية: «ان الحجج التي بواسطتها كاد وِلهوزن يستأسر كليّا كامل هيئة نُقّاد الكتاب المقدس المعاصرين مؤسسة على افتراضين اثنين: اولا، ان نظام الشعائر يصير اكثر اتقانا في تطوُّر الدين؛ ثانيا، ان المصادر الاقدم تعالج بالضرورة المراحل الابكر لتطوّر نظام الشعائر. والافتراض الاول هو ضد دليل الحضارات البدائية، والثاني لا يجد ايّ دعم في دليل الدساتير الشعائرية كتلك التي للهند.»
١٢ كيف يقف النقد الاعلى العصري في ضوء علم الآثار؟
١٢ وهل هنالك اية طريقة لامتحان النقد الاعلى لرؤية ما اذا كانت نظرياته صحيحة أم لا؟ مضت دائرة المعارف اليهودية تقول: «ان وجهات نظر وِلهوزن تكاد تكون مؤسسة حصرا على التحليل الحرفي، وستحتاج ان تكمَّل بفحص من وجهة نظر علم الآثار التأسيسي.» وإذ مرَّت السنون، هل مال علم الآثار الى تثبيت نظريات وِلهوزن؟ تجيب دائرة المعارف البريطانية الجديدة: «ان النقد الآثاري قد مال الى اقامة الدليل على امكان الاعتماد على التفاصيل التاريخية النموذجية حتى للفترات الاقدم [لتاريخ الكتاب المقدس] وإلى الحطّ من النظرية ان روايات الاسفار الخمسة الاولى [السجلات التاريخية في اسفار الكتاب المقدس الابكر] هي مجرد انعكاس لفترة متأخرة اكثر بكثير.»
١٣ و ١٤ على الرغم من أُسُسه المتقلقلة، لماذا لا يزال النقد الاعلى لوِلهوزن مقبولا على نطاق واسع؟
١٣ ونظرًا الى ضعفه، لماذا يكون النقد الاعلى شعبيا الى هذا الحدّ بين المفكّرين اليوم؟ لأنه يخبرهم اشياء يريدون سماعها. شرح عالِم للقرن الـ ١٩: «شخصيا، رحَّبتُ بكتاب وِلهوزن هذا اكثر من ايّ كتاب آخر تقريبا؛ لأن المشكلة الملحَّة لتاريخ العهد القديم بدا لي انها حُلَّت اخيرا بطريقة تتوافق مع مبدإ التطوُّر البشري الذي انا مضطر ان اطبِّقه على تاريخ كل الدين.»٧ فمن الواضح ان النقد الاعلى اتَّفق مع آرائه المكوَّنة مسبقا كأحد علماء التطوُّر. وفي الواقع، ان النظريتين تخدمان غاية مماثلة. فتماما كما ان التطوُّر يزيل الحاجة الى الايمان بخالق، كذلك يعني نقد وِلهوزن الاعلى ان المرء ليس عليه ان يؤمن بأن الكتاب المقدس موحى به من اللّٰه.
١٤ وفي القرن الـ ٢٠ العقلانيّ هذا فإن الافتراض ان الكتاب المقدس ليس كلمة اللّٰه بل الانسان يبدو ظاهريا جديرا بالتصديق للمفكّرين.c وأن يؤمنوا ان النبوات كُتبت بعد اتمامها اسهل عليهم بكثير من ان يقبلوها بصفتها اصيلة. وهم يفضّلون ان يعلِّلوا روايات الكتاب المقدس للعجائب على انها اساطير، خرافات، او حكايات شعبية، عوض التأمّل في امكانية حدوثها حقا. ولكنّ وجهة نظر كهذه اعتباطية ولا تعطي سببا متينا لنبذ الكتاب المقدس بوصفه صحيحا. فالنقد الاعلى فيه خلل خطير، وهجومه على الكتاب المقدس فشل في الاثبات ان الكتاب المقدس ليس كلمة اللّٰه.
هل يدعم علم الآثار الكتاب المقدس؟
١٥ و ١٦ وجود اي حاكم قديم مذكور في الكتاب المقدس ثبَّته علم الآثار؟
١٥ علم الآثار هو حقل دراسة يقوم على اساس امتن بكثير من النقد الاعلى. وعلماء الآثار، بالتنقيب بين بقايا الحضارات الماضية، زادوا بطرائق عديدة فهمنا لِما كانت عليه الاشياء في الازمنة القديمة. لذلك ليس مدهشا ان ينسجم السجل الآثاري تكرارا مع ما نقرأه في الكتاب المقدس. وفي بعض الاحيان برَّأ علم الآثار ايضا الكتاب المقدس ضد نُقّاده.
١٦ على سبيل المثال، وفقا لسفر دانيال، ان آخر حاكم في بابل قبل ان تسقط امام الفرس كان اسمه بيلشاصَّر. (دانيال ٥:١-٣٠) وبما انه لم يَظهر ان هنالك ايّ ذِكْر لبيلشاصَّر خارج الكتاب المقدس، صُنعت التهمة بأن الكتاب المقدس على خطإ وأن هذا الرجل لم يوجد قط. ولكن في خلال القرن الـ ١٩ اكتُشفت عِدّة اسطوانات صغيرة، منقوشة بكتابة مسمارية، في بعض الخرائب في العراق الجنوبيّ. وقد وُجد انها تشتمل على صلاة من اجل صحة الابن الاكبر لنبونيد، ملك بابل. واسم ابنه؟ بيلشاصَّر.
١٧ كيف يمكننا ان نشرح واقع ان الكتاب المقدس يدعو بيلشاصَّر ملكا، فيما معظم النقوش يدعوه اميرًا؟
١٧ وهكذا فقد كان هنالك بيلشاصَّر! ولكنْ، هل كان ملكا عندما سقطت بابل؟ معظم الوثائق التي وُجدت في ما بعد اشار اليه بصفته ابن الملك، ولي العهد. ولكنّ وثيقة مسمارية توصَف بِـ «رواية نبونيد» ألقت مزيدا من الضوء على مركز بيلشاصَّر الحقيقي. فقد اخبرت: «أوكل [نبونيد] ‹المعسكر› الى (ابنه) الاكبر، البكر، والجند في كل مكان في البلاد نظَّمهم تحت (إمرته). تخلَّى عن (كل شيء)، وأَوكَل المُلك اليه.»٨ وهكذا أُوكِل المُلك الى بيلشاصَّر. وبالتأكيد، عمليًّا، جعله ذلك ملكا!d وهذه العلاقة بين بيلشاصَّر وأبيه، نبونيد، تشرح لماذا عرض بيلشاصَّر، في اثناء تلك الوليمة الاخيرة في بابل، ان يجعل دانيال الحاكم الثالث في المملكة. (دانيال ٥:١٦) فبما ان نبونيد كان الحاكم الاول، كان بيلشاصَّر نفسه فقط الحاكم الثاني لبابل.
دليل داعم آخر
١٨ اية معلومات يزوِّدها علم الآثار ليثبِّت السلام والازدهار الناتجَين من عهد داود؟
١٨ فعلا، ان اكتشافات آثارية كثيرة قد اثبتت دقَّة الكتاب المقدس التاريخية. على سبيل المثال، يخبر الكتاب المقدس انه بعدما تولَّى الملك سليمان المُلك من ابيه، داود، تمتَّعت اسرائيل بازدهار عظيم. نقرأ: «وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة. يأكلون ويشربون ويفرحون.» (١ ملوك ٤:٢٠) ودعما لهذه العبارة، نقرأ: «يكشف الدليل الآثاري انه كان هنالك انفجار سكاني في يهوذا في اثناء وبعد القرن العاشر قم عندما جعل السلام والازدهار اللذان جلبهما داود بناءَ الكثير من المدن الجديدة ممكنا.»١٠
١٩ اية معلومات اضافية يعطيها علم الآثار في ما يتعلق بالحرب بين اسرائيل وموآب؟
١٩ وفي ما بعد صار اسرائيل ويهوذا أمَّتين، وفتح اسرائيل ارض موآب المجاورة. وذات مرة عصت موآب، تحت رئاسة الملك ميشع، فشكَّلت اسرائيل تحالفا مع يهوذا ومملكة أدوم المجاورة ليحاربوا موآب. (٢ ملوك ٣:٤-٢٧) وعلى نحو لافت، في سنة ١٨٦٨ في الاردن، اكتُشفت بلاطة (لوح حجر منحوت) منقوشة باللغة الموآبيّة برواية ميشع الخاصة لهذا الصراع.
٢٠ ماذا يخبرنا علم الآثار عن دمار اسرائيل بواسطة الاشوريين؟
٢٠ ثم، في السنة ٧٤٠ قم، سمح اللّٰه بتدمير مملكة اسرائيل الشمالية المتمرِّدة بواسطة الاشوريين. (٢ ملوك ١٧:٦-١٨) وإذ تتحدَّث عن رواية الكتاب المقدس لهذه الحادثة تعلِّق عالمة الآثار كاثلين كنيون: «قد يكون لدى المرء ارتياب في ان بعض ذلك غُلوّ.» ولكن هل هو كذلك؟ وتضيف: «ان الدليل الآثاري على سقوط مملكة اسرائيل يكاد يكون ناطقا اكثر من ذاك الذي لسجل الكتاب المقدس. . . . والطَّمْس التام لمدينتي السامرة وحاصور الاسرائيليتين والدمار المرافق لمجدّو هو الدليل الآثاري الواقعي على ان كاتب [الكتاب المقدس] لم يكن يبالغ.»١١
٢١ اية تفاصيل عن اخضاع يهوذا بواسطة البابليين يزوِّدها علم الآثار؟
٢١ وفي ما بعد ايضا يخبرنا الكتاب المقدس ان اورشليم تحت رئاسة الملك يهوياكين حاصرها البابليون وهُزِمَت. وهذه الحادثة مسجَّلة في التواريخ البابلية، لوحة مسمارية اكتشفها علماء الآثار. وفي هذا الصدد نقرأ: «ملك أكّاد [بابل] . . . ضرب حصارا على مدينة يهوذا (يهودو) وأخذ الملك المدينة في اليوم الثاني من شهر أدّارو.»١٢ وقد أُخذ يهوياكين الى بابل وسُجن. إنَّما لاحقا، وفقا للكتاب المقدس، أُطلق سراحه من السجن وأعطي فريضة طعام. (٢ ملوك ٢٤:٨-١٥؛ ٢٥:٢٧-٣٠، عج) وهذا تدعمه الوثائق الإدارية التي وُجدت في بابل، التي تعدِّد الحصص المعطاة لِـ «يوكين، ملك يهوذا.»١٣
٢٢ و ٢٣ على العموم، ما هي العلاقة بين علم الآثار وروايات الكتاب المقدس التاريخية؟
٢٢ وحول العلاقة بين علم الآثار وروايات الكتاب المقدس التاريخية علَّق الپروفسور دايڤيد نُوَل فْريدمان: «على العموم، من ناحية ثانية، يميل علم الآثار الى دعم الصحة التاريخية لسرد الكتاب المقدس. ومخطَّط الجدول التاريخي الواسع من الآباء الأجِلاّء الى ازمنة العهد الجديد مترابط مع المعطيات الآثارية. . . . والاكتشافات المقبلة من المرجح ان تساند الموقف المعتدل الحاضر بأن تقليد الكتاب المقدس متأصِّل تاريخيا، ومنقول بأمانة، مع انه ليس تاريخا بالمعنى النقدي او العلمي.»
٢٣ ومن ثم، حول جهود اصحاب النقد الاعلى للطعن في الكتاب المقدس، يقول: «ان محاولات إعادة بناء تاريخ الكتاب المقدس من قِبَل العلماء العصريين — مثلا، نظرة وِلهوزن ان عصر الآباء الأجِلاَّء كان انعكاسا للملكيَّة المنقسمة؛ او نبذ تاريخية موسى والخروج وما ينتج عنه من إعادة بناء للتاريخ الاسرائيلي من قِبَل نوث وأتباعه — لم تنجُ من المعطيات الآثارية وسرد الكتاب المقدس ايضا.»١٤
سقوط اريحا
٢٤ اية معلومات يعطينا إيَّاها الكتاب المقدس عن سقوط اريحا؟
٢٤ هل يعني ذلك ان علم الآثار يتَّفق مع الكتاب المقدس في كل حالة؟ كلا، فهنالك عدد من حالات عدم الاتفاق. وإحداها هي الفتح المثير لأريحا الموصوف في بداية هذا الفصل. ووفقا للكتاب المقدس، كانت اريحا اول مدينة فتحها يشوع اذ قاد الاسرائيليين الى ارض كنعان. وجدول تواريخ الكتاب المقدس يدل ان المدينة سقطت في النصف الاول من القرن الـ ١٥ قم. وبعد الفتح أُحرقت اريحا بالنار تماما ثم تُركت غير مسكونة مئات السنين. — يشوع ٦:١-٢٦؛ ١ ملوك ١٦:٣٤.
٢٥ و ٢٦ اي استنتاجين مختلفين توصَّل اليهما علماء الآثار نتيجة لحفر اريحا؟
٢٥ قبل الحرب العالمية الثانية حُفر الموقع الذي يُعتقَد انه اريحا من قِبَل الپروفسور جون ڠارستانڠ. وقد اكتشف ان المدينة قديمة جدا وقد دُمِّرت وأُعيد بناؤها مرات عديدة. ووجد ڠارستانڠ انه في خلال واحد من هذه التدميرات سقطت الاسوار كما لو انه بزلزال، وأُحرقت المدينة بالنار تماما. واعتقد ڠارستانڠ ان ذلك وقع في حوالي ١٤٠٠ قم، ليس بعيدا جدا عن التاريخ الذي يدلّ عليه الكتاب المقدس لدمار اريحا بواسطة يشوع.١٥
٢٦ وبعد الحرب قامت عالمة آثار أُخرى، كاثلين كنيون، بمزيد من الحفريات في اريحا. فوصلت الى الاستنتاج ان الاسوار المنهارة التي كان ڠارستانڠ قد حدَّد هويتها يرجع تاريخها الى ابكر ممّا ظنَّ بمئات السنين. وقد حدَّدت دمارا رئيسيا لأريحا في القرن الـ ١٦ قم ولكنها قالت بأنه ليست هنالك مدينة في موقع اريحا في خلال القرن الـ ١٥ — حينما يقول الكتاب المقدس ان يشوع كان يغزو البلاد. وتمضي لتخبر عن دلائل محتمَلة على دمار آخر يمكن ان يكون قد حلَّ بالموقع في ١٣٢٥ قم، وتقترح: «اذا كان لا بدّ من اقتران دمار اريحا بالغزو تحت قيادة يشوع، فهذا [الاخير] هو التاريخ الذي يقترحه علم الآثار.»١٦
٢٧ لماذا التعارضات بين علم الآثار والكتاب المقدس لا يجب ان تقلقنا بلا لزوم؟
٢٧ وهل يعني ذلك ان الكتاب المقدس على خطإ؟ كلا، على الاطلاق. فعلينا ان نتذكَّر انه فيما يعطينا علم الآثار نافذة الى الماضي فانها ليست دائما نافذة واضحة. ففي بعض الاحيان تكون غَبْشاء من غير ريب. وكما لاحظ احد المعلِّقين: «الدليل الآثاري، مع الأسف، مركَّب من قطع صغيرة، وبالتالي محدود.»١٧ ويصِحّ ذلك خصوصا في الفترات الابكر من التاريخ الاسرائيلي، حيث الدليل الآثاري غير واضح. وفعلا، ان الدليل أقلّ وضوحا ايضا في اريحا، اذ ان الموقع قد تأكَّل على نحو بالغ.
حدود علم الآثار
٢٨ و ٢٩ ما هي بعض حدود علم الآثار التي يُقِرّ بها العلماء؟
٢٨ يُقِرّ علماء الآثار انفسهم بحدود علمهم. مثلا، يشرح يوحانان أهاروني: «عندما يصل الامر الى التفسير التاريخي او التأريخي-الجغرافي يخرج عالم الآثار من حيِّز العلوم الدقيقة، ولا بدّ ان يعتمد على الاحكام التقديرية والفَرْضِيَّات ليصل الى صورة تاريخية شاملة.»١٨ وعن التواريخ المعيَّنة لشتَّى الاكتشافات يضيف: «لا بدّ ان نتذكَّر دائما، اذًا، أنه ليست كل التواريخ مطلقة وهي بدرجات متفاوتة مشتبه فيها،» مع انه يشعر بأن علماء آثار اليوم يمكنهم ان يكونوا اكثر ثقة بتحديدهم التواريخ ممّا كانت عليه الحال في الماضي.١٩
٢٩ وعالَم العهد القديم يطرح السؤال: «الى ايّ حد موضوعي او علمي حقا هو الاسلوب الآثاري؟» ويجيب: «علماء الآثار موضوعيون عند نَبْش الوقائع اكثر ممّا عند تفسيرها. ولكنَّ مشاغلهم البشرية ستؤثر في الاساليب التي يستعملونها في ‹التنقيب› ايضا. فلا يسعهم إلاَّ ان يتلفوا دليلهم وهم ينقِّبون الى اسفل عبر طبقات الارض، وهكذا لا يمكنهم ابدا ان يمتحنوا ‹اختبارهم› بتكراره. وهذا يجعل علم الآثار فريدا بين العلوم. وفضلا عن ذلك، انه يجعل التقرير الآثاري مهمة شاقة، تتطلَّب براعة فائقة، ومليئة بالحُفَر.»
٣٠ كيف ينظر تلاميذ الكتاب المقدس الى علم الآثار؟
٣٠ وهكذا فإن علم الآثار يمكن ان يكون مساعدا جدا، ولكنه كأيّ مسعى بشري غيرُ معصوم. وإذ نتأمَّل في النظريات الآثارية باهتمام لا يجب ابدا ان ننظر اليها كحقيقة لا تقبل الجدل. وإذا فسَّر علماء الآثار موجوداتهم بطريقة تناقض الكتاب المقدس لا يجب الفرض آليًّا ان الكتاب المقدس على خطإ وعلماء الآثار على حق. فتفاسيرهم معروف انها تتغيّر.
٣١ اي اقتراح جديد قُدِّم مؤخَّرا حول سقوط اريحا؟
٣١ ومن المثير للاهتمام الملاحظة انه في السنة ١٩٨١ أعاد الپروفسور جون ج. بيمسون النظر في دمار اريحا. ودرس بدقَّة دمار اريحا الناري الذي وقع — وفقا لكاثلين كنيون — في منتصف القرن الـ ١٦ قم. ووفقا له، لم يطابق فقط ذلك الدمار رواية الكتاب المقدس لتدمير يشوع المدينة بل ان الصورة الآثارية لكنعان ككل طابقت كاملا وصف الكتاب المقدس لكنعان عندما غزا الاسرائيليون. ولذلك فهو يقترح ان التحديد الآثاريّ للتاريخ على خطإ، ويرتئي ان هذا الدمار حصل حقا في منتصف القرن الـ ١٥ قم، في خلال مدى حياة يشوع.٢١
الكتاب المقدس تاريخ اصيل
٣٢ اي ميل جرت ملاحظته بين بعض العلماء؟
٣٢ ان هذا يوضح الواقع ان علماء الآثار غالبا ما يختلفون في ما بينهم. فليس مدهشا، اذًا، ألاَّ يتَّفق البعض مع الكتاب المقدس فيما يتَّفق معه آخرون. ومع ذلك فان بعض العلماء صاروا يقدِّرون تاريخيَّة الكتاب المقدس بشكل عامّ، إنْ لم يكن في كل تفصيل. ووِليَم فوكْسْوِل أُلبرايت مثَّل احدى المدارس الفكريّة عندما كتب: «لقد كانت هنالك عودة عامَّة الى تقدير الدقَّة، في المسح العامّ وفي التفصيل الواقعي كليهما، التي لتاريخ اسرائيل الديني. . . . وبالإجمال، يمكننا الآن ثانية ان نعامل الكتاب المقدس من البداية الى النهاية كوثيقة صحيحة للتاريخ الديني.»٢٢
٣٣ و ٣٤ كيف تعطي الاسفار العبرانية نفسها الدليل على كونها دقيقة تاريخيا؟
٣٣ وفي الواقع، ان الكتاب المقدس بحد ذاته يحمل ختم التاريخ الدقيق. فالحوادث مربوطة بأزمنة وتواريخ معيَّنة، على خلاف تلك التي للأساطير والخرافات الاقدم. والكثير من الحوادث المسجَّلة في الكتاب المقدس مدعوم بنقوش يرجع تاريخها الى تلك الازمنة. وحيثما يوجد اختلاف بين الكتاب المقدس ونقش قديم فإن التعارض يمكن غالبا ان يُعزى الى نفور الحكام القدماء من تسجيل هزائمهم ورغبتهم في تعظيم نجاحاتهم.
٣٤ وفعلا، ان الكثير من تلك النقوش القديمة ليس تاريخا بقدر ما هو دعاية رسمية. وبالتباين، يكشف كتبة الكتاب المقدس عن صراحة نادرة. فشخصيات الاسلاف الرئيسية كموسى وهرون تُكشَف بكل مواطن ضعفهم وقوتهم. وحتى نقائص الملك العظيم داود تُكشَف باستقامة. وتقصيرات الامة ككل تشهَّر تكرارا. وهذا الاخلاص في القول يوصي بالاسفار العبرانية بصفتها صادقة ويمكن الاعتماد عليها ويعطي وزنا لكلمات يسوع، الذي قال عندما صلَّى الى اللّٰه: «كلامك هو حق.» — يوحنا ١٧:١٧.
٣٥ ماذا فشل المفكِّرون العقلانيّون في فعله، وإلى ماذا ينظر تلاميذ الكتاب المقدس لكي يبرهنوا وحي الكتاب المقدس؟
٣٥ ومضى أُلبرايت يقول: «في كل حالة يتعالى الكتاب المقدس في المحتوى فوق كل الادب الديني الابكر؛ ويتعالى بالمقدار نفسه من اثارة الإعجاب على كل الادب اللاحق في بساطة رسالته المباشرة وشموليّة [سعة] رَوَقانه للناس من كل البلاد والازمنة.»٢٣ وهذه ‹الرسالة المتعالية،› لا شهادة العلماء، هي التي تبرهن وحي الكتاب المقدس، كما سنرى في فصول لاحقة. ولكنْ لنلاحظ هنا ان المفكِّرين العقلانيين العصريين فشلوا في البرهان ان الاسفار العبرانية ليست تاريخا حقيقيا، فيما تعطي هذه الكتابات نفسها كل دليل على كونها دقيقة. فهل يمكن قول الامر نفسه لمصلحة الاسفار اليونانية المسيحية، «العهد الجديد»؟ سنتأمل في ذلك في الفصل التالي.
[الحواشي]
a «النقد الاعلى» (او «الاسلوب التاريخيّ-النقديّ») تسمية تُستعمَل لوصف دراسة الكتاب المقدس بقصد اكتشاف تفاصيل كالتأليف، مواد المصدر، ووقت تأليف كل سفر.
b على سبيل المثال، كتب الشاعر الانكليزي جون مِلْتون قصيدته الملحميّة الرفيعة «الفردوس المفقود» بأسلوب مختلف تماما عن قصيدته «الطَّروب.» ونشراتُه السياسية كُتبت بأسلوب آخر ايضا.
c معظم المفكّرين اليوم يميلون الى ان يكونوا عقلانيّين. ووفقا للقاموس تعني العقلانيّة «الاتّكال على العقل كأساس لتأسيس الحق الديني.» والعقلانيّون يميلون الى شرح كل شيء من حيث الاعتبارات البشرية عوض ان يأخذوا في الحسبان امكانيّة العمل الالهي.
d على نحو مثير للاهتمام، ان تمثالا لحاكم قديم وُجد في سوريا الشمالية في سبعينات الـ ١٩٠٠ اظهر انه لم يكن غير معروف ان يُدعى الحاكم ملكا في حين، اذا توخَّينا الدقَّة، كان له لقب اصغر. وكان التمثال لحاكم جوزان وقد نُقش بالاشوريّة والآراميّة. والنقش الاشوري دعا الرجل والي جوزان، أمَّا النقش الآرامي الموازي فدعاه ملكا.٩ وهكذا ليس شيئا لم يسبق له مثيل ان يُدعى بيلشاصَّر وليَّ العهد في النقوش البابلية الرسمية فيما يُدعى ملكا في كتابة دانيال الآرامية.
-
-
«العهد الجديد» — تاريخ أم أُسطورة؟الكتاب المقدس — كلمة اللّٰه أم الانسان؟
-
-
الفصل ٥
«العهد الجديد» — تاريخ أم أُسطورة؟
«ان العهد الجديد يمكن وصفه اليوم كأحسن كتاب محقَّق في أدب العالم.» هكذا قال هانز كونڠ في كتابه «في الكون مسيحيًّا.» وقد كان على حقّ. فعلى مرّ السنوات الـ ٣٠٠ الماضية جرى اكثر من تحقيق الاسفار اليونانية المسيحية. لقد تمّ تشريحها تشريحا أكمل وتحليلها تحليلا أدقّ من ايّ ادب آخر.
١ و ٢ (اشمل المقدمة.) (أ) لأية معالجة أُخضعت الاسفار اليونانية المسيحية على مرّ السنوات الـ ٣٠٠ الماضية؟ (ب) اية استنتاجات غريبة توصَّل اليها بعض الباحثين؟
إن الاستنتاجات التي توصَّل اليها بعض الباحثين كانت غريبة. فقديما في القرن الـ ١٩ استنتج لودڤيڠ نُواك في المانيا ان انجيل يوحنا كُتب سنة ٦٠ بم بواسطة التلميذ الحبيب — الذي، وفقا لنُواك، كان يهوذا! والفرنسي جوزيف ارنست رينان اقترح ان قيامة لعازر كانت على الارجح احتيالا من ترتيب لعازر نفسه لدعم ادّعاء يسوع انه صانع عجائب، في حين ان اللاهوتي الالماني ڠوستاڤ ڤولكْمار أصرّ على ان يسوع التاريخيّ لا يمكن بأية حال ان يكون قد قدَّم نفسه بادّعاءات مسيّانية.١
٢ وقرَّر برونو بُوَر، من الجهة الاخرى، ان يسوع لم يوجد قط على الاطلاق! «لقد جزم ان القوى المبدِعة الحقيقية في المسيحية الباكرة كانت فيلون، سَنيكا، والغنوسيين. وفي النهاية اعلن انه لم يكن هنالك قط يسوع تاريخيّ . . . وأن تكوين الدين المسيحي كان في وقت متأخِّر في القرن الثاني وكان من يهوديَّة صارت فيها الرِّواقيَّة سائدة.»٢
٣ اي رأي في الكتاب المقدس لا يزال لدى كثيرين؟
٣ واليوم، قليلون لديهم مثل هذه الافكار المتطرِّفة. ولكنكم اذا قرأتم اعمال العلماء العصريين ستجدون كثيرين لا يزالون يؤمنون بأن الاسفار اليونانية المسيحية تحتوي على خرافة، أسطورة، ومبالغة. فهل هذا صحيح؟
متى كُتبت؟
٤ (أ) لماذا من المهم معرفة متى كُتبت اسفار الاسفار اليونانية المسيحية؟ (ب) ما هي بعض الآراء في وقت كتابة الاسفار اليونانية المسيحية؟
٤ ان تطوُّر الأساطير والخرافات يتطلَّب الوقت. وهكذا فإن السؤال، متى كُتبت هذه الاسفار؟، مهمّ. وميخائيل ڠرانت، مؤرِّخ، يقول ان الكتابات التاريخية للاسفار اليونانية المسيحية ابتُدئ بها «بعد ثلاثين او اربعين سنة من موت يسوع.»٤ وعالم آثار الكتاب المقدس وِليَم فوكْسْوِل أُلبرايت اقتبس من س. س. تورّي الاستنتاج «ان كل الاناجيل كُتبت قبل سنة ٧٠ بم وأنه ليس هنالك فيها شيء لا يمكن ان يكون قد كُتب في غضون عشرين سنة من الصَّلب.» ورأي أُلبرايت الخاصّ كان ان كتابتها جرى اتمامها «ليس بعد سنة ٨٠ بم.» والآخرون يأتون بتقديرات مختلفة قليلا، ولكنّ الاكثرية توافق على ان كتابة «العهد الجديد» جرى اتمامها بنهاية القرن الاول.
٥ و ٦ ماذا يجب ان نستنتج من واقع ان الاسفار اليونانية المسيحية كُتبت ليس بعد زمن طويل جدا من الحوادث التي تسجِّلها؟
٥ وماذا يعني ذلك؟ يستنتج أُلبرايت: «كل ما يمكننا قوله هو ان فترة بين عشرين وخمسين سنة هي أقلّ من ان تسمح بأيّ فساد ملموس للمضمون الاساسي وحتى للصياغة المحدَّدة لأقوال يسوع.»٥ والپروفسور ڠاري هابرماس يضيف: «ان الاناجيل قريبة جدا من الفترة الزمنية التي تسجِّلها، فيما التواريخ القديمة غالبا ما تصف حوادث حصلت قبل قرون. ومع ذلك فان المؤرِّخين العصريين قادرون ان يستمدّوا الحوادث بنجاح حتى من تلك الفترات الزمنية القديمة.»٦
٦ وبكلمات اخرى، ان الاجزاء التاريخية للاسفار اليونانية المسيحية جديرة بالتصديق على الأقلّ بالمقدار نفسه كالتواريخ الدنيوية. وبالتأكيد، في العقود القليلة بين حوادث المسيحية الباكرة وتسجيلها كتابة، لم يكن هنالك وقت لتتطوَّر الاساطير والخرافات وتُقبَل من العموم.
شهادة شهود عيان
٧ و ٨ (أ) مَن كانوا لا يزالون احياء فيما كانت الاسفار اليونانية المسيحية تُكتَب وتُوزَّع؟ (ب) ماذا لا بدّ ان نستنتج انسجاما مع تعليق الپروفسور ف. ف. بروس؟
٧ ويصِحّ هذا خصوصا نظرا الى واقع ان الكثير من الروايات يتكلَّم عن شهادة شهود عيان. فكاتب انجيل يوحنا قال: «هذا هو التلميذ [التلميذ الذي كان يسوع يحبّه] الذي يشهد بهذا وكتب هذا.» (يوحنا ٢١:٢٤) وكاتب سفر لوقا يقول: «سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة.» (لوقا ١:٢) والرسول بولس، اذ تكلَّم عن الذين شهدوا قيامة يسوع، قال: «اكثرهم باق الى الآن ولكنّ بعضهم قد رقدوا.» — ١ كورنثوس ١٥:٦.
٨ وفي هذا الخصوص يبدي الپروفسور ف. ف. بروس ملاحظة ثاقبة: «لم يكن ممكنا بهذه السهولة على الاطلاق، كما يبدو ان بعض الكتّاب يظنّون، اختراع كلمات وأعمال يسوع في تلك السنوات الباكرة، حين كان الكثير جدا من تلاميذه في الجوار، ممَّن يستطيعون ان يتذكَّروا ما حدث وما لم يحدث. . . . ولم يكن بإمكان التلاميذ ان يتحمَّلوا المجازفة في عدم الدقَّة (إن لم نتكلَّم عن التلاعب العمدي بالوقائع)، الذي كان على الفور سيشهَّر من اولئك الذين إنَّما يسعدهم جدا ان يفعلوا ذلك. وبالعكس، فان احدى النقاط القوية في الكرازة الرسولية الاصليَّة هي المناشدة الواثقة لمعرفة السامعين؛ فلم يقولوا فقط، ‹نحن شهود لذلك،› بل ايضا، ‹كما انتم ايضا تعلمون› (اعمال ٢:٢٢).»٧
هل النصّ جدير بالثقة؟
٩ و ١٠ بقدر ما يتعلق الامر بالاسفار اليونانية المسيحية، من اي شيء يمكننا ان نكون متأكِّدين؟
٩ هل من الممكن ان تكون شهادات شهود العيان هذه قد سُجِّلت بدقة وإنَّما أُفسدت لاحقا؟ وبكلمات اخرى، هل أُدخلت الاساطير والخرافات بعد اتمام الكتابة الاصليّة؟ لقد سبق ورأينا ان نصّ الاسفار اليونانية المسيحية هو في حالة افضل من ايّ ادب قديم آخر. وكورت وبرباره آلنْد، عالمان بالنصّ اليوناني للكتاب المقدس، يعدِّدان تقريبا ٠٠٠,٥ مخطوطة بقيت من قديم الزمان حتى اليوم، والبعض من زمن باكر كالقرن الثاني بم.٨ والشهادة العامة لهذا الحشد من الأدلّة هي ان النصّ من حيث الاساس سليم. وبالاضافة الى ذلك، هنالك ترجمات قديمة كثيرة — الابكر يرجع تاريخها الى نحو السنة ١٨٠ بم — تساعد على البرهان ان النصّ دقيق.٩
١٠ من هنا، وفقا لأي اعتبار، يمكننا ان نكون على يقين من ان الخرافات والاساطير لم تتسرَّب الى الاسفار اليونانية المسيحية بعدما أنهى الكتبة الاصليّون عملهم. فالنصّ الذي لدينا جوهريًّا هو نفسه كالذي خطَّه الكتبة الاصليّون، ودِقَّته يثبِّتها واقع ان المسيحيين المعاصرين قبلوه. فهل يمكننا، اذًا، ان نتحقق من تاريخيَّة الكتاب المقدس بمقارنته بتواريخ قديمة اخرى؟ الى حدّ ما، نعم.
الدليل الوثائقي
١١ الى اي حدّ يدعم الدليل الوثائقي الخارجي الروايات التاريخية في الاسفار اليونانية المسيحية؟
١١ في الواقع، من اجل الحوادث في حياة يسوع ورسله، يكون الدليل الوثائقي بمعزل عن الكتاب المقدس محدودا جدا. وهذا إنَّما يجب توقُّعه لأنه، في القرن الاول، كان المسيحيون فريقا صغيرا نسبيًا لم يتورَّط في السياسة. ولكنّ الدليل الذي يزوِّده التاريخ الدنيوي يتَّفق مع ما نقرأه في الكتاب المقدس.
١٢ ماذا يخبرنا يوسيفوس عن يوحنا المعمدان؟
١٢ على سبيل المثال، بعد ان عانى هيرودس أنتيباس هزيمة عسكرية نكراء، قال المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس، اذ كتب سنة ٩٣ بم: «بالنسبة الى بعض اليهود بدا هلاك جيش هيرودس نقمة إلهية، وبالتأكيد نقمة عادلة، من اجل معاملته ليوحنا، الملقَّب بالمعمدان. لأن هيرودس كان قد أماته، مع انه كان رجلا صالحا وقد حضّ اليهود ان يحيوا حياة بارَّة، ان يمارسوا العدل من جهة رفقائهم والتقوى من جهة اللّٰه.»١٠ وهكذا فإن يوسيفوس يثبِّت رواية الكتاب المقدس ان يوحنا المعمدان كان رجلا بارًّا كرز بالتوبة وأعدمه هيرودس. — متى ٣:١-١٢؛ ١٤:١١.
١٣ كيف يدعم يوسيفوس تاريخيَّة يعقوب ويسوع نفسه؟
١٣ ويوسيفوس ايضا يذكر يعقوب، أخا يسوع من أمّه، الذي، كما يخبرنا الكتاب المقدس، لم يتبع يسوع في بادئ الامر ولكنه لاحقا صار شيخا بارزا في اورشليم. (يوحنا ٧:٣-٥؛ غلاطية ١:١٨، ١٩) وهو يثبِّت اعتقال يعقوب وثائقيا في هذه الكلمات: «[رئيس الكهنة حنانيّا] جمع قضاة السنهدريم وأحضر امامهم رجلا يُسمَّى يعقوب، أخا يسوع الذي دُعي المسيح، وآخرين.»١١ وفي كتابة هذه الكلمات يثبِّت يوسيفوس على نحو اضافي ان «يسوع الذي دُعي المسيح» كان شخصا تاريخيا حقيقيا.
١٤ و ١٥ اي دعم يعطيه تاسيتوس لسجل الكتاب المقدس؟
١٤ ان كتبة الازمنة الباكرة الآخرين يشيرون ايضا الى امور مذكورة في الاسفار اليونانية. على سبيل المثال، تخبرنا الاناجيل ان كرازة يسوع في فلسطين لاقت تجاوبا واسعا. وعندما حُكم عليه بالموت من قبل بيلاطس البنطي ارتبك أتباعه وتثبَّطوا. وبعد ذلك بقليل فإن هؤلاء التلاميذ انفسهم ملأوا بجرأة اورشليم بالرسالة ان ربَّهم قد أُقيم. وفي سنين قليلة كانت المسيحية قد انتشرت في كل انحاء الامبراطورية الرومانية. — متى ٤:٢٥؛ ٢٦:٣١؛ ٢٧:٢٤-٢٦؛ اعمال ٢:٢٣، ٢٤، ٣٦؛ ٥:٢٨؛ ١٧:٦.
١٥ والشهادة على صحة ذلك تأتي من المؤرِّخ الروماني تاسيتوس، الذي لم يكن صديقا للمسيحية. وإذ يكتب بعد سنة ١٠٠ بم بقليل يخبر باضطهاد نَيْرون الوحشي للمسيحيين ويضيف: «كريستوس، مؤسس الاسم، كابد عقوبة الموت في عهد طيباريوس، بحكم من الحاكم بيلاطس البنطي، والمعتقد الخرافي الخبيث كُبح لحظة، وإنَّما ليُفلِت مرة اخرى، ليس فقط في اليهودية، موطن المرض، بل في العاصمة [رومة] نفسها.»١٢
١٦ اية حادثة تاريخية مشار اليها في الكتاب المقدس يشير اليها ايضا سْويتونيوس؟
١٦ وفي الاعمال ١٨:٢ يشير كاتب الكتاب المقدس الى واقع ان «[الامبراطور الروماني] كلوديوس كان قد أمر ان يمضي جميع اليهود من رومية.» ومؤرِّخ القرن الثاني الروماني سْويتونيوس يشير ايضا الى هذا الترحيل. ففي عمله كلوديوس المُناوَأ يقول المؤرِّخ: «بما ان اليهود كانوا باستمرار يصنعون اضطرابات بتحريض من كريستوس رحَّلهم [كلوديوس] عن رومة.»١٣ فإذا كان كريستوس هنا يشير الى يسوع المسيح وإذا اتَّبعت الحوادث في رومة النموذج في مدن اخرى، حينئذ لا تكون اعمال الشغب في الحقيقة بتحريض من المسيح (اي، أتباع المسيح). وبالاحرى، كانت تجاوب اليهود العنيف مع نشاط الكرازة الامين للمسيحيين.
١٧ اية مصادر كانت متوفِّرة ليوستينوس الشهيد في القرن الثاني دعمت رواية الكتاب المقدس لعجائب يسوع وموته؟
١٧ ويوستينوس الشهيد، اذ كتب في منتصف القرن الثاني، كتب بالاشارة الى موت يسوع: «أمَّا ان هذه الامور قد حدثت فيمكنكم ان تتأكَّدوا من اعمال بيلاطس البنطي.»١٤ وإضافة الى ذلك، وفقا ليوستينوس الشهيد، فان هذه السجلات نفسها ذكرت عجائب يسوع، التي يقول عنها: «أمَّا انه قد فعل تلك الامور فيمكنكم ان تعلموا من اعمال بيلاطس البنطي.»١٥ صحيح ان هذه ‹الاعمال،› او السجلات الرسمية، لم تعد موجودة. ولكنْ من الواضح انها وُجدت في القرن الثاني، ويوستينوس الشهيد تحدَّى بثقة قرّاءَه ان يتحقَّقوا منها للتثبُّت من صحة ما قاله.
الدليل الآثاري
١٨ اي دعم يعطيه علم الآثار لوجود بيلاطس البنطي؟
١٨ والاكتشافات الآثارية ايضا اوضحت او ثبَّتت ما نقرأه في الاسفار اليونانية. وهكذا في ١٩٦١ وُجد اسم بيلاطس البنطي في نقش في خرائب مسرح روماني في قيصرية.١٦ وحتى هذا الاكتشاف كان هنالك دليل محدود فقط، بمعزل عن الكتاب المقدس نفسه، على وجود هذا الحاكم الروماني.
١٩ و ٢٠ اية شخصيتين للكتاب المقدس ذكرهما لوقا (في لوقا والاعمال) شهد علم الآثار على صحتهما؟
١٩ وفي انجيل لوقا نقرأ ان يوحنا المعمدان بدأ خدمته «اذ كان . . . ليسانيوس رئيس رُبْعٍ على الأَبِليَّة.» (لوقا ٣:١) والبعض شكّوا في هذه العبارة لأن يوسيفوس ذكر ليسانيوس الذي حَكَمَ الأَبِليَّة والذي مات في ٣٤ قم، قبل زمن طويل من ولادة يوحنا. ولكنّ علم الآثار كشف نقشا في الأَبِليَّة يذكر ليسانيوس آخر كان حاكم رُبْع الولاية (رئيس رُبْعٍ) في اثناء عهد طيباريوس، الذي كان يحكم كقيصر في رومة عندما بدأ يوحنا خدمته.١٧ ومن الممكن بسهولة ان يكون هذا ليسانيوس الذي كان لوقا يشير اليه.
٢٠ وفي الاعمال نقرأ ان بولس وبرنابا أُرسلا للقيام بعمل إرسالي في قبرس وهناك التقيا واليا اسمه سرجيوس بولس، «وهو رجل فهيم.» (اعمال ١٣:٧) وفي منتصف القرن الـ ١٩ كشفت الحفريَّات في قبرس نقشا يرجع تاريخه الى ٥٥ بم يذكر هذا الرجل عينه. وعن ذلك يقول عالم الآثار ج. ارنست رايت: «انها الاشارة الوحيدة التي لدينا الى هذا الوالي خارج الكتاب المقدس ومن المثير للاهتمام ان لوقا يعطينا بالصواب اسمه ولقبه.»١٨
٢١ و ٢٢ اية ممارسات دينية من سجل الكتاب المقدس ثبَّتتها الاكتشافات الآثارية؟
٢١ عندما كان في أثينا قال بولس انه لاحظ مذبحا مخصَّصا «لإله مجهول.» (اعمال ١٧:٢٣) ان مذابح مخصَّصة باللاتينيَّة لآلهة مجهولة جرى اكتشافها في انحاء من مقاطعة الامبراطورية الرومانية. وقد وُجد واحد في برغامس بنقش مكتوب باليونانية، كما كانت الحال في أثينا.
٢٢ وفي ما بعد، بينما كان في أفسس، جرت مقاومة بولس بعنف من الصَّاغة، الذين كان دخلهم يُجْنَى من صنع هياكل صغيرة وتماثيل للإلاهة أرطاميس. وأفسس كان يُشار اليها بأنها «الحارسة لهيكل أرطاميس الالٰهة العظيمة.» (اعمال ١٩:٣٥، ترجمة تفسيرية) وانسجاما مع ذلك، فإن عددا من التماثيل الصغيرة لأرطاميس من الطين الناضج والرخام جرى اكتشافه في موقع أفسس القديمة. وفي خلال القرن الاخير كُشف عن بقايا الهيكل الضخم نفسه بالحفريات.
رنَّة الحق
٢٣ و ٢٤ (أ) اين نجد البرهان الاقوى على صحة كتابات الاسفار اليونانية المسيحية؟ (ب) اية صفة ملازمة لسجل الكتاب المقدس تشهد على صدقه؟ أوضحوا.
٢٣ وهكذا فإن التاريخ وعلم الآثار يوضحان، وإلى حدّ ما يثبِّتان، العناصر التاريخية للاسفار اليونانية. ولكنْ، مرة ثانية، يوجد البرهان الاقوى على صحة هذه الكتابات في الاسفار نفسها. فعندما تقرأونها لا تبدو كأساطير. ان لها رنَّة الحق.
٢٤ اولا، انها صريحة جدا. فكِّروا في ما هو مسجَّل عن بطرس. ففشله المُرْبِك في المشي على الماء مفصَّل. ثم ان يسوع يقول لهذا الرسول المحترَم احتراما عاليا: «اذهب عنّي يا شيطان.» (متى ١٤:٢٨-٣١؛ ١٦:٢٣) وفضلا عن ذلك، بعد الاحتجاج بقوة انه حتى ولو هجر يسوعَ الآخرون جميعا فما كان هو ليفعل ذلك قط نام بطرس في سهره الليلي ومن ثم انكر سيده ثلاث مرات. — متى ٢٦:٣١-٣٥، ٣٧-٤٥، ٧٣-٧٥.
٢٥ اية ضعفات للرسل يشهِّرها كتبة الكتاب المقدس بصراحة؟
٢٥ ولكنّ بطرس ليس الشخص الوحيد الذي تُشهَّر ضعفاته. فالسجل الصريح لا يتستَّر على مناقرة الرسل حول مَن كان الاعظم بينهم. (متى ١٨:١؛ مرقس ٩:٣٤؛ لوقا ٢٢:٢٤) كما لا يحذف إخبارنا ان أمّ الرسولين يعقوب ويوحنا سألت يسوع ان يعطي ابنيها المركزين الاكثر حظوة في ملكوته. (متى ٢٠:٢٠-٢٣) و ‹المشاجرة (الحادّة)› بين برنابا وبولس مسجَّلة بأمانة. — اعمال ١٥:٣٦-٣٩.
٢٦ اي تفصيل عن قيامة يسوع ما كان ليُشمَل إلاَّ اذا كان صحيحا؟
٢٦ وجدير بالملاحظة ايضا الواقع ان سفر لوقا يخبرنا ان ‹النساء اللواتي كُنَّ قد أتين معه من الجليل› هُنَّ مَن عَلِمْنَ اولا بقيامة يسوع. وهذا تفصيل غير عادي البتة في مجتمع القرن الاول الذي يسوده الذكور. وفعلا، وفقا للسجل، ان ما كانت النساء يَقُلْنَه «تراءى . . . كالهذيان» للرسل. (لوقا ٢٣:٥٥–٢٤:١١) فإذا كان التاريخ في الاسفار اليونانية غير صحيح فلا بدّ انه قد اختُرِع. ولكنْ لماذا يخترع احد قصة تصوِّر أعلاما محترَمين كهؤلاء في ضوء كهذا لا يظهرهم بأحسن ممّا هم عليه؟ فهذه التفاصيل ما كانت لتُشمَل إلاَّ اذا كانت صحيحة.
يسوع — شخص حقيقي
٢٧ كيف يشهد مؤرِّخ على الوجود التاريخي ليسوع؟
٢٧ كثيرون ينظرون الى يسوع، كما هو موصوف في الكتاب المقدس، كخيال معطى شكلا مثاليًّا. ولكنّ المؤرِّخ ميخائيل ڠرانت يلاحظ: «اذا طبَّقنا على العهد الجديد، كما ينبغي لنا، نوع المعايير نفسه الذي ينبغي لنا ان نطبِّقه على الكتابات القديمة الاخرى التي تحتوي على مواد تاريخية لا يمكننا في ما بعد ان ننبذ وجود يسوع اكثر ممّا يمكننا ان ننبذ وجود حشد من اشخاص وثنيين حقيقتُهم كأعلام تاريخيين لا يُشَكّ فيها ابدا.»١٩
٢٨ و ٢٩ لماذا هو ذو مغزى ان تعرض الاناجيل الاربعة صورة موحَّدة لشخصية يسوع؟
٢٨ وليس فقط وجود يسوع بل ايضا شخصيته تخرج سالمة في الكتاب المقدس برنَّة حقّ حاسمة. فليس سهلا اختراع شخصية غير عادية ومن ثم عرض صورة ثابتة لها في كتاب بكامله من اوله الى آخره. ويكاد يكون مستحيلا على اربعة كتبة مختلفين ان يكتبوا عن الشخصية نفسها ويرسموا على نحو ثابت الصورة نفسها التي لها إن لم توجد حقا تلك الشخصية على الاطلاق. وواقع ان يسوع الموصوف في الاناجيل الاربعة جمعاء هو على نحو جليّ الشخص نفسه دليل مقنع على صدق الاناجيل.
٢٩ وميخائيل ڠرانت يورد سؤالا ملائما جدا: «كيف يحدث انه، عبر تقاليد الاناجيل كلها بدون استثناء، تأتي صورة مرسومة بثبات على نحو لافت لشاب جذّاب يتنقَّل بحرية بين نساء من جميع الانواع، بمَن فيهن سيِّئات السمعة قَطْعا، دون أثر للعاطفيَّة، عدم الطبيعيّة، او الاحتشام المفرط، محافظا مع ذلك، عند كل نقطة، على استقامة بسيطة للشخصية؟»٢٠ الجواب الوحيد هو ان رجلا كهذا وُجد حقا وتصرَّف بالطريقة التي يقولها الكتاب المقدس.
لماذا لا يؤمنون
٣٠ و ٣١ لماذا لا يقبل الكثيرون الاسفار اليونانية المسيحية بصفتها دقيقة تاريخيا بالرغم من كل الادلّة؟
٣٠ بما ان هنالك دليلا مُرْغِما للقول ان الاسفار اليونانية تاريخ حقٌّ، لماذا يقول البعض انها ليست كذلك؟ ولماذا الكثيرون، فيما يقبلون جزءا منها كأصيل، يرفضون مع ذلك ان يقبلوا كل شيء تحتويه؟ ذلك بصورة اساسية لأن الكتاب المقدس يسجِّل امورا لا يريد المفكِّرون العصريون ان يؤمنوا بها. فهو يخبر، مثلا، ان يسوع تمَّم وتفوَّه بالنبوات على السواء. ويخبر ايضا انه انجز عجائب وأنه بعد موته أُقيم.
٣١ وفي القرن الـ ٢٠ المتشكِّك هذا تكون امور كهذه غير قابلة للتصديق. وبخصوص العجائب يلاحظ الپروفسور عزرا پ. ڠولد: «هنالك تحفُّظ واحد يشعر بعض النُقاّد بأنهم مبرَّرون في صنعه . . . أن العجائب لا تحدث.»٢١ والبعض يقبلون ان يسوع ربّما أجرى اعمال شفاء، وإنَّما فقط من النوع العقلي الجسماني، ‹تغلُّب الروح على الجسد.› أمَّا بالنسبة الى العجائب الاخرى، فالغالبية تعلِّلها إمَّا كاختراعات وإمَّا كحوادث حقيقيّة حُرِّفت في الإخبار.
٣٢ و ٣٣ كيف حاول البعض ان يعلِّلوا عجيبة يسوع لإطعام جمع كبير، ولكنْ لماذا ذلك غير منطقي؟
٣٢ ومثالا على ذلك، تأمَّلوا في المناسبة التي فيها اطعم يسوع جمعا من اكثر من ٠٠٠,٥ من مجرد ارغفة قليلة وسمكتين. (متى ١٤:١٤-٢٢) فمؤرِّخ القرن التاسع عشر هاينريتش بولس اقترح ان ما حدث حقا هو هذا: وجد يسوع ورسله انفسهم مصحوبين بحشد كبير بدأوا يجوعون. ولذلك قرَّر ان يرسم مثالا صالحا للأغنياء بينهم. فأخذ ما كان لديه ولدى رسله من طعام قليل وشارك فيه الحشد. وما لبث الآخرون الذين كانوا قد جلبوا طعاما ان تبعوا مثاله وشاركوا في ما لهم. وأخيرا، أُطعم الحشد بكامله.٢٢
٣٣ ولكنْ، اذا كان هذا ما حدث حقا، فقد كان برهانا لافتا على قوة المثال الصالح. فلماذا تُحرَّف قصة ممتعة وذات معنى كهذه لجعلها تبدو عجيبة فوق الطبيعة؟ فعلا، ان مثل هذه الجهود كلها لتعليل العجائب كشيء غير عجائبي إنَّما يخلق مشاكل اكثر ممّا يحل. انها كلها مؤسسة على مقدمة منطقية باطلة. فهي تبدأ بالفرض ان العجائب مستحيلة. ولكن لماذا يلزم ان تكون هذه هي الحال؟
٣٤ اذا كان الكتاب المقدس حقا يحتوي على النبوة الدقيقة وروايات لعجائب اصيلة، على ماذا يبرهن ذلك؟
٣٤ وفقا للمقاييس المعقولة اكثر، ان الاسفار العبرانية واليونانية كلتيهما تاريخ اصيل، ومع ذلك تحتويان كلتاهما على امثلة للنبوة والعجائب. (قارنوا ٢ ملوك ٤:٤٢-٤٤.) فماذا اذا كانت النبوات اصيلة؟ وماذا اذا حصلت العجائب فعلا؟ حينئذٍ يكون اللّٰه فعلا وراء كتابة الكتاب المقدس، ويكون ذلك حقا كلمته، لا كلمة الانسان. وفي فصل مقبل سنناقش مسألة النبوة، وإنَّما دعونا اولا نتأمَّل في العجائب. فهل يعقل في هذا القرن الـ ٢٠ الايمان بأنه في قرون ابكر حدثت العجائب؟
-