-
الجزء ١٧: ١٥٣٠ فصاعدا — الپروتستانتية — اصلاح؟استيقظ! ١٩٨٩ | تشرين الثاني (نوفمبر) ٨
-
-
مستقبل الدين بالنظر الى ماضيه
الجزء ١٧: ١٥٣٠ فصاعدا — الپروتستانتية — اصلاح؟
«التحديث ليس اصلاحا.» — ادموند بيرك — عضو في القرن الـ ١٨ في برلمان بريطانيا
يعتبر المؤرخون الپروتستانت ان الاصلاح الپروتستانتي قد ردّ المسيحية الاصيلة. ويقول العلماء الكاثوليك، من جهة اخرى، انه ادّى الى خطإ لاهوتي. ولكن ماذا يكشف ماضي التاريخ الديني؟ هل كان الاصلاح الپروتستانتي اصلاحا حقا، ام انه كان مجرد تحديث، مستبدِلا شكلا معيبا من العبادة بآخر؟
كلمة اللّٰه تُعطى مكانة خصوصية
شدَّد المصلحون الپروتستانت على اهمية الاسفار المقدسة. ورفضوا التقاليد على الرغم من ان مارتن مارتي، محرر كبير في مجلة القرن المسيحي، يقول بأنه خلال القرن الماضي «كان عدد اكبر فاكبر من الپروتستانت يرغبون في رؤية علاقة بين الكتاب المقدس والتقليد.» ولكنّ ذلك لم يصح في «اسلافهم في الايمان.» فبالنسبة اليهم «احتل الكتاب المقدس مكانة خصوصية، ولم يكن ممكنا قط ان يضاهيه التقليد او السلطة البابوية.»
وهذا الموقف عجَّل الاهتمام بترجمة وتوزيع ودرس الكتاب المقدس. وخلال منتصف القرن الـ ١٥ — قبل اكثر من نصف قرن من تقدُّم الاصلاح — زوَّد ابن بلد لوثر الالماني، جوهان ڠوتنبرڠ، الپروتستانتية الوشيكة الظهور بأداة مفيدة. واذ طوَّر وسيلة للطبع بحروف طباعية منفصلة انتج ڠوتنبرڠ اول كتاب مقدس مطبوع. ورأى لوثر في ذلك الاختراع امكانيات عظيمة، ودعا الطباعة «آخر وأفضل عمل للّٰه لنشر الدين الحقيقي في كل العالم.»
وصار الآن بامكان اناس اكثر ان يملكوا كتبهم المقدسة الخاصة، تطوُّر لم تؤيده الكنيسة الكاثوليكية. وفي سنة ١٥٥٩ قرر البابا بولس الرابع انه لا يمكن طبع ايّ كتاب مقدس باللغة العامية دون موافقة الكنيسة، وهذا ما رفضت الكنيسة ان تمنحه. وفي الواقع، ذكر البابا پيوس الرابع في سنة ١٥٦٤: «يُظهر الاختبار انه اذا سُمح بقراءة الكتاب المقدس باللسان الدارج دون تمييز . . . ينشأ من ذلك اذى اكثر من الصلاح.»
وأنتج الاصلاح نوعا جديدا من «المسيحية.» لقد استبدل السلطة البابوية بالاختيار الفردي الحر. واستُبدل القداس الكاثوليكي بالطقوس الپروتستانتية، والكاتدرائيات الكاثوليكية الرائعة بالكنائس الپروتستانتية العادية الاقل فخفخة.
فوائد غير متوقعة
يعلِّمنا التاريخ ان الحركات التي هي في الاصل دينية في طبيعتها تتخذ في اغلب الاحيان معنى اضافيا اجتماعيا وسياسيا. وقد صح ذلك في الاصلاح الپروتستانتي. وأستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا اوجين ف. رايس، الاصغر، يشرح بالتفصيل: «في العصور الوسطى كانت الكنيسة الغربية شركة اوروبية. وخلال النصف الاول من القرن السادس عشر انقسمت الى عدد كبير من الكنائس الاقليمية المحلية . . . [التي عليها] مارس الحكام الدنيويون سيطرة سائدة.» وأدّى ذلك الى «ذروة الصراع الطويل للقرون الوسطى بين السلطة الدنيوية والاكليريكية. . . . ومال ميزان القوة على نحو حاسم ونهائي من الكنيسة الى الدولة ومن الكاهن الى العلماني.»
بالنسبة الى الفرد عنى ذلك حرية اعظم، دينية ومدنية على السواء. وبخلاف الكاثوليكية لم تكن للپروتستانتية وكالة مركزية لتراقب العقيدة او الممارسة، مما سمح بالتالي بمجال واسع من الرأي الديني. وهذا، بدوره، روَّج تدريجيا تسامحا دينيا وموقفا متحررا كان في وقت الاصلاح لا يمكن تصوُّره بعدُ.
والحرية الاعظم افلتت الطاقات غير المستعملة سابقا. ويدَّعي البعض انها كانت الدافع اللازم لاطلاق التطورات الاجتماعية، السياسية، والتكنولوجية المسؤولة عن دفعنا الى عصرنا الحديث. ومبادئ العمل الاخلاقية الپروتستانتية «نُقلت الى الحياة الحكومية واليومية على السواء،» يكتب المؤلف الراحل ثيودور وايت. وقد عرَّف ذلك بأنه «العقيدة القائلة ان الانسان مسؤول مباشرة امام اللّٰه عن ضميره وتصرفاته، دون تدخُّلِ او توسُّطِ الكهنة. . . . واذا عمل الانسان بكدّ، حرث عميقا، لم يتراخَ ولم يتكاسل، واعتنى بزوجته واولاده، حينئذ سيكافئ جهودَه إما الثروة او اللّٰه.»
هل يجب ان تعمينا هذه الاوجه الايجابية ظاهريا للپروتستانتية عن نقائصها؟ لقد كان الاصلاح الپروتستانتي ايضا «مناسبة لشرور هائلة،» تقول دائرة معارف الدين والاخلاق، مضيفة: «انتهى عصر اليسوعيين ومحاكم التفتيش . . . ولكن ليتبعه شيء ادنى بعدُ. فاذا كان هنالك كثير من الجهل المخلص في العصور الوسطى يكون هنالك كثير من الكذب المنظَّم الآن.»
‹كذب منظَّم› — من اية ناحية؟
لقد كان ‹كذبا منظَّما› لان الپروتستانتية وعدت باصلاح عقائدي ولكنها فشلت في تقديمه. وفي اغلب الاحيان كانت سياسة الكنيسة، لا عدم صحة العقيدة، ما اثار حنق المصلِحين. وعموما حافظت الپروتستانتية على الافكار والممارسات الدينية الملوَّثة بالوثنية للكاثوليكية. كيف؟ ثمة مثال بارز هو عقيدة الثالوث، التي هي الاساس الرئيسي للعضوية في مجمع الكنائس العالمي الپروتستانتي. والالتصاق بهذه العقيدة قويّ جدا، مع ان دائرة معارف الدين تعترف بأن ‹المفسرين واللاهوتيين يُجمِعون اليوم على انه لا يجري تعليم العقيدة على نحو واضح في ايّ مكان في الكتاب المقدس.›
وهل اصلحت الپروتستانتية شكلا فاسدا من الحكم الكنسي؟ كلا. وبالاحرى «واصلت أنماط سلطة من كاثوليكية القرون الوسطى،» يقول مارتن مارتي، و «ببساطة انفصلت عن الكنيسة الرسمية الكاثوليكية الرومانية لتشكِّل نُسَخا پروتستانتية.»
وعدت الپروتستانتية كذلك بردّ «وحدانية الايمان.» ولكنّ ذلك الوعد المتعلق بالكتاب المقدس مضى دون اتمام بتطور الشيع الپروتستانتية الكثيرة المسبِّبة للشقاق. — افسس ٤:١٣.
تشويش منظَّم — لماذا؟
واليوم، في سنة ١٩٨٩، تفتَّتت الپروتستانتية شيعا وطوائف كثيرة جدا بحيث يستحيل تحديد العدد الاجمالي. وقبل ان يتمكن الشخص من انهاء العدّ تكون قد تشكَّلت فرق جديدة او اختفت اخرى.
ومع ذلك فإن دائرة المعارف المسيحية العالمية تفعل «المستحيل» اذ تقسِّم العالم المسيحي (في سنة ١٩٨٠) الى «٧٨٠,٢٠ طائفة مسيحية متميزة،» غالبيتها الساحقة پروتستانتية.a وهي تشمل ٨٨٩,٧ فريقا پروتستانتيا تقليديا، ٠٦٥,١٠ من اديان معظمها محلية پروتستانتية غير بيضاء، ٢٢٥ طائفة انكليكانية، و ٣٤٥,١ فريقا پروتستانتيا هامشيا.
وفي توضيح كيفية حدوث ذلك التنوُّع المشوِّش، المدعو «دليل صحة ومرض» على السواء، يذكر كتاب المسيحية الپروتستانتية انه «يمكن ان يكون بسبب الابداع البشري والمحدودية البشرية؛ والاكثر ايضا انه يمكن ان يكون بسبب اناس متكبرين يعتبرون نظرتهم الخاصة الى الحياة سامية جدا.»
كم صحيح هو هذا! فدون منح الاعتبار الكافي للحق الالهي، يقدِّم الناس المتكبرون بدائل جديدة لايجاد الخلاص، التحرر، او الاكتفاء. والتعدُّدية الدينية لا تجد دعما في الكتاب المقدس.
وفي ترويج التعدُّدية الدينية يَظهر ان الپروتستانتية تدل على انه ليست للّٰه مجموعة خطوط ارشادية يجب ان يُعبد وفقها. فهل ينسجم مثل هذا التشويش المنظَّم مع اله الحق، الذي يقول الكتاب المقدس انه «ليس اله تشويش بل اله سلام»؟ وهل العقلية الپروتستانتية المسموعة غالبا «اذهب الى الكنيسة التي تختارها» مختلفة في ايّ حال عن التفكير المستقل الذي قاد آدم وحواء الى الاعتقاد الخاطئ والبلية اللاحقة؟ — ١ كورنثوس ١٤:٣٣؛ انظروا التكوين ٢:٩؛ ٣:١٧-١٩.
تجاهل مكانة الكتاب المقدس الخصوصية
رغم المكانة الخصوصية التي عيَّنها المصلِحون الاوائل للكتاب المقدس، فإن اللاهوتيين الپروتستانت لاحقا تبنَّوا النقد العالي و «بالتالي عاملوا نص الكتاب المقدس،» يقول مارتي، «كما يعاملون ايّ نص ادبي قديم آخر.» ولم يمنحوا «اية مكانة خصوصية لوَحي مؤلفي الكتاب المقدس.»
ولذلك، باثارة الشك في الوحي الالهي للكتاب المقدس، اضعف اللاهوتيون الپروتستانت الايمان بما اعتبره المصلِحون اساس الپروتستانتية عينه. وهذا فتح الطريق لمذهب التشكك، التفكير الحر، والعقلانية. وليس دون مبرِّر ان يعتبر علماء كثيرون الاصلاح سببا رئيسيا للعلمانية العصرية.
عالقة في السياسة
ان الثمر المذكور آنفا دليل واضح على انه على الرغم من النيات الصالحة المحتملة للمصلِحين الافراد وأتباعهم، فإن الپروتستانتية لم تردّ المسيحية الحقيقية. وبدلا من ترويج السلام بالحياد المسيحي، تورَّطت في القومية.
كان ذلك ظاهرا حالما صار انقسام العالم المسيحي الى امم كاثوليكية وپروتستانتية واقعا. فالقوات الكاثوليكية والپروتستانتية لطَّخت بالدم وجه البَر الاوروبي في اثنتي عشرة حربا او اكثر. ودائرة المعارف البريطانية الجديدة تدعوها «حروب الدين التي اشعلها الاصلاح الالماني والسويسري في عشرينات الـ ١٥٠٠.» وأشهرها كانت حرب الثلاثين سنة (١٦١٨-١٦٤٨) التي شملت الاختلافات السياسية والدينية على السواء بين الپروتستانت والكاثوليك الالمان.
وسال الدم في انكلترا ايضا. فبين السنة ١٦٤٢ و ١٦٤٩ شن الملك تشارلز الاول حربا على البرلمان. وبما ان معظم خصوم الملك كانوا ينتمون الى الجناح الپيوريتاني لكنيسة انكلترا، يُشار الى الحرب احيانا بالثورة الپيوريتانية. وقد انتهت الى اعدام الملك وتأسيس كومنولث پيوريتاني قصير الامد تحت حكم اوليڤر كرومويل. ومع ان هذه الحرب الاهلية الانكليزية لم تكن في المقام الاول صراعا دينيا، يُجمِع المؤرخون على ان الدين كان عاملا محدِّدا في اختيار الاطراف.
وخلال هذه الحرب اتى الى الوجود الفريق الديني المعروف بالاصحاب، او الكويكرز. ولاقى هذا الفريق مقاومة شديدة من «اخوته» الپروتستانت. فمات عدة مئات من الاعضاء في السجن، وعانى ألوف الاساءات. ولكنّ الحركة انتشرت، حتى الى المستعمَرات البريطانية في اميركا، حيث اصدر تشارلز الثاني في سنة ١٦٨١ وثيقة امتيازات لوليم پَن لتأسيس مستعمرة للكويكرز، صارت لاحقا ولاية پنسيلڤانيا.
لم يكن الكويكرز وحيدين في طلب مهتدين في الخارج، لان اديانا اخرى كانت قد فعلت ذلك قبلا. أما الآن بعد «التحديث» الپروتستانتي فإن الكاثوليك، مع عدد كبير من الفرق الپروتستانتية، بدأوا يزيدون جهودهم لايصال رسالة المسيح عن الحق والسلام الى «غير المؤمنين.» ولكن كم ذلك مثير للسخرية! فبصفتهم «مؤمنين» كان الكاثوليك والپروتستانت غير قادرين على الاتفاق على تعريف مشترك للحق الالهي. وقد فشلوا بالتأكيد في اظهار السلام والوحدة الاخويين. ونظرا الى هذا الوضع، ماذا كان يمكن توقعه «عندما التقى ‹المسيحيون› و ‹الوثنيون›»؟ اقرأوا الحلقة الـ ١٨ في عددنا هذا.
[الحاشية]
a هذا العمل المرجعي، الصادر في سنة ١٩٨٢، تَصوَّر انه بحلول السنة ١٩٨٥ سيكون هنالك ١٩٠,٢٢، قائلا: «الزيادة الصافية الحاضرة هي ٢٧٠ طائفة جديدة كل سنة (٥ جدد في الاسبوع).»
[الاطار في الصفحة ١٣]
اولاد الاصلاح الاوائل
الشرِكة الانكليكانية: ائتلاف من ٢٥ كنيسة مستقلة و ٦ هيئات اخرى تشارك كنيسة انكلترا في العقيدة، النظام، والطقوس وتعترف بالقيادة الفخرية لرئيس اساقفة كانتربري. وتقول دائرة معارف الدين ان الانكليكانية «حافظت على الايمان بالخلافة الرسولية للاساقفة وأبقت العديد من ممارسات ما قبل الاصلاح.» والمركزي في عبادتها هو كتاب الصلاة العامة، «الطقس العامي الوحيد من فترة الاصلاح الذي لا يزال قيد الاستعمال.» والانكليكانيون في الولايات المتحدة، الذين انفصلوا عن كنيسة انكلترا وشكَّلوا الكنيسة الاسقفية الپروتستانتية في سنة ١٧٨٩، انفصلوا ثانية عن التقليد في شباط ١٩٨٩ بتنصيب اول اسقف انثى في التاريخ الانكليكاني.
الكنائس المعمدانية: ٣٦٩ طائفة (١٩٧٠) نشأت من مجددي المعمودية Anabaptists للقرن الـ ١٦، الذين شدَّدوا على معمودية الراشدين بالتغطيس. وتقول دائرة معارف الدين ان المعمدانيين «استصعبوا المحافظة على وحدة تنظيمية او لاهوتية،» مضيفة ان «العائلة المعمدانية في الولايات المتحدة كبيرة، . . . ولكن، كما في الكثير من العائلات الكبيرة الاخرى، لا يتكلم بعض الاعضاء مع الاعضاء الآخرين.»
الكنائس اللوثرية: ٢٤٠طائفة (١٩٧٠)، تفتخر بعدد الاعضاء الاجمالي الاكبر من ايّ فريق پروتستانتي. وهم «لا يزالون الى حد ما منقسمين وفقا لسلالات عرقية (المان، سويديين، الخ)،» يقول التقويم العالمي وكتاب الوقائع ١٩٨٨، مضيفا، من ناحية ثانية، ان «الانقسامات الرئيسية هي بين الاصوليين والمتحررين.» وانقسام اللوثريين الى معسكرات قومية صار ظاهرا تماما خلال الحرب العالمية الثانية عندما، كما يقول إ. و. ڠريتش من المعهد اللاهوتي اللوثري في الولايات المتحدة الاميركية، «قاومت اقلية ضئيلة من القسيسين والجماعات اللوثرية [في المانيا] هتلر، وأما الغالبية العظمى من اللوثريين فقد بقيت صامتة او تعاونت بفعالية مع النظام النازي.»
الكنائس الميثودية (المنهجية): ١٨٨ طائفة (١٩٧٠) نشأت من حركة داخل كنيسة انكلترا أسسها في سنة ١٧٣٨ جون ويزلي. وبعد موته انشقت كفريق منفصل؛ وقد عرَّف ويزلي الميثودية بأنها «تسلك وفق المنهج المرسوم في الكتاب المقدس.»
الكنائس المُصلَحة والمشيخية (الپرسپيتارية): الكنائس المُصلَحة (٣٥٤ طائفة في سنة ١٩٧٠) هي كالڤنية في العقيدة، عوض ان تكون لوثرية، وتعتبر نفسها «كنيسة كاثوليكية، مُصلَحة.» و «الپرسپيتارية» تدل على حكم كنسي بواسطة شيوخ (پرسپيتر)؛ وكل الكنائس المشيخية هي كنائس مُصلَحة، ولكن ليس لكل الكنائس المُصلَحة شكل حكم مشيخي.
[الصورة في الصفحة ١٠]
صفحة مصمَّمة على نحو جميل لكتاب مقدس ڠوتنبرڠ باللاتينية
[مصدر الصورة]
By permission of The British Library
[الصورة في الصفحة ١٢]
جون ويزلي، مؤسس الكنيسة الميثودية (١٧٣٨)
-
-
الجزء ١٨: القرن الـ ١٥ فصاعدا — عندما التقى «المسيحيون» و «الوثنيون»استيقظ! ١٩٨٩ | تشرين الثاني (نوفمبر) ٨
-
-
مستقبل الدين بالنظر الى ماضيه
الجزء ١٨: القرن الـ ١٥ فصاعدا — عندما التقى «المسيحيون» و «الوثنيون»
«الدين في القلب، لا في الركبتين» — د. و. جرولد، كاتب مسرحي انكليزي للقرن الـ ١٩
كان النشاط الارسالي، علامة مميزة للمسيحية الباكرة، على انسجام مع وصية يسوع ‹بتلمذة (اناس من) جميع الامم› والصيرورة شهودا له «الى اقصى الارض.» — متى ٢٨:١٩، ٢٠؛ أعمال ١:٨.
وفي القرن الـ ١٥ باشر العالم المسيحي برنامجا عالميا لهداية «الوثنيين.» فأيّ نوع من الاديان كانت تلك الشعوب «الوثنية» تمارس حتى ذلك الوقت؟ وهل مسَّت قلبهم اية هداية لاحقة الى «المسيحية» ام انها جعلتهم فقط يسقطون على ركبهم في خضوع شكلي؟
في افريقيا هنالك ما يُقدَّر بـ ٧٠٠ فريق عرقي جنوب الصحراء الكبرى. وأصلا كان لكلّ منها دينه القبلي الخاص، مع ان تشابهاتها تدل على اصل مشترك. وفي استراليا، الاميركتين، وجزر الپاسيڤيكي، توجد عشرات الاديان المحلية الاخرى.
ومعظمها يؤمن بإله واحد اسمى ولكن، من حيث تعدُّد الآلهة، يفسح المجال ايضا لأيّ عدد من المعبودات الاقل شأنا — آلهة العائلة، او العشيرة، او الآلهة الطائفية. وثمة دراسة أُجريت على الدين الأزتكي تُعدِّد اكثر من ٦٠ اسما متميزا ومترابطا للمعبودات.
وفي افريقيا والاميركتين يؤمن الناس ذوو الاديان «البدائية» اكثر بشخص فوق الطبيعة يُعرف بِتريكستر. واذ يوصف احيانا بالخالق الكوني، وفي احيان اخرى بمعيد ترتيب الخليقة، يُعتبر دائما مخادعا ماكرا وشهوانيا، ورغم ذلك ليس بالضرورة خبيثا. وهنود الناڤاهو لشمالي اميركا يقولون انه قدَّر الموت؛ وقبيلة اوڠلالا لاكوتا تُعلِّم انه ملاك ساقط سبَّب طرد البشر الاوائل من الفردوس بوعدهم بحياة افضل في مكان آخر. وتقول دائرة معارف الدين ان تريكستر يَظهر في اغلب الاحيان في «قصص الخلق،» قائما بدورٍ «مُكمِّل لمعبودٍ خالقٍ روحاني.»
واذ تُذكِّر ببابل ومصر فإن بعض الاديان المحلية تُعلِّم الثالوث. وكتاب الأسكيمو يقول ان روح الهواء، روح البحر، وروح القمر تشكل ثالوثا «سيطر عمليا في النهاية على كل شيء في بيئة الأسكيمو.»
البشر — ‹غير قابلين للهلاك روحيا›
يخبرنا رونالد م. برندت من جامعة استراليا الغربية ان سكان استراليا الاصليين يؤمنون بأن دورة الحياة «تستمر بعد الموت، من الجسدية الى الروحية كليا، عائدة في الوقت المناسب الى البُعد الجسدي.» وهذا يعني ان «الكائنات البشرية غير قابلة للهلاك روحيا.»
وبعض القبائل الافريقية تؤمن انه بعد الموت يصير البشر العاديون اشباحا، فيما الاشخاص البارزون يصيرون ارواح اسلاف تستحق الاكرام والتوسل كقادة غير منظورين للمجتمع. وبحسب المانوس في ميلانيزيا، يستمر شبح الرجل او ذاك الذي لنسيب قريب في الاشراف على عائلته.
وآمن بعض الهنود الاميركيين بأن عدد الانفس محدود، مما يستلزم ان «تتقمَّص بالتناوب في كائن بشري اولا وبعدئذ إما روحاني او حيواني.» وتشرح دائرة معارف الدين: «الموت البشري حرَّر النفس لحيوان او روح، وبالعكس، رابطا البشر، الحيوانات، والارواح في دورة من التبعية المتبادلة.»
لذلك اندهش المستكشفون الاوائل اذ وجدوا آباء الأسكيمو متراخين في تأديب اولادهم، حتى انهم يخاطبونهم بعبارات مثل «امي» او «جدي.» والمؤلف ارنست س. بورش، الاصغر، يوضح ان ذلك هو لأن الولد سُمِّي باسم القريب المشار اليه بالعبارة المستعملة، والاب الأسكيمو طبيعيا «يجفل من فكرة معاقبة جدته، حتى ولو كانت قد انتقلت آنذاك الى جسد ابنه.»
وبعض القبائل الهندية لشمالي اميركا صوَّرت «الآخِرة» كأرض صيد سعيدة حيث يذهب البشر والحيوانات على السواء عند الموت. وهناك يتَّحدون ثانية بأقربائهم المحبوبين ولكنهم يواجهون ايضا اعداءهم السابقين. وبعض الهنود سلخوا فِراء رؤوس اعدائهم بعد قتلهم، معتقدين كما يظهر ان ذلك يمنع دخول الاعداء الى عالم الارواح.
فهل يبرهن الاعتقاد السائد بين الاديان المحلية بشكل من اشكال الحياة بعد الموت ان العالم المسيحي مصيب في التعليم بأن للبشر نفسا خالدة؟ كلا على الاطلاق. ففي عدن حيث كانت للدين الحقيقي انطلاقته لم يقل اللّٰه شيئا عن حياة بعد الموت؛ لقد قدَّم امل الحياة الابدية في تباين مع الموت. والفكرة بأن الموت هو بوابة لحياة افضل روَّجها الشيطان وعُلِّمت لاحقا في بابل.
حاجات بشرية ام اهتمامات الهية؟
ان التشديد في الاديان المحلية يميل الى ان يكون على الامان الشخصي او الخير الطائفي. وهكذا يكتب رونالد برندت عن دين سكان استراليا الاصليين الاوائل: «عكَسَ الهموم المتقلِّبة للشعب في العيش اليومي. وركَّز على العلاقات الاجتماعية، على ازمات الوجود البشري، وعلى القضايا العملية للبقاء.»
وطرائق العبادة المصمَّمة للتعامل مع مجرد حاجات بشرية كهذه هي تلك المعروفة بالروحانية، الفتشيَّة، والشامانية، الموجودة في مجتمعات متنوعة في تآلفات متنوعة وبدرجات مختلفة من الشِّدة.
الروحانية تنسب حياة واعية وروحا ساكنة الى الاشياء المادية كالنباتات والحجارة وحتى الى الظواهر الطبيعية كالعواصف الرعدية والزلازل. ويمكن ان تشمل ايضا الفكرة بأن الارواح المنفصلة عن الاجساد موجودة وهي تمارس إما تأثيرا عطوفا او مؤذيا في الاحياء.
الفتشيَّة تأتي من كلمة برتغالية تُستعمل احيانا لوصف اشياء يُظن انها تملك قوات فوق الطبيعة تقدِّم لمالكها الحماية او المساعدة. لذلك استعمل المستكشفون البرتغاليون العبارة للدلالة على الرقى والحُجُب التي وجدوا ان سكان افريقيا الغربية يستعملونها في دينهم. واذ ترتبط الى حد بعيد بالصنمية تتخذ الفتشيَّة اشكالا كثيرة. مثلا، عزا بعض الهنود الاميركيين قوات فوق الطبيعة الى الريش، معتبرينه مَرْكبات فعالة في «تطيير» الصلوات او الرسائل نحو السماء.
الشامانية، من كلمة تونغوزية منشورية تعني «هو الذي يعرف،» تدور حول شامان، شخص يُفترض انه قادر على الشفاء والاتصال بالحيز الروحي. والعرّاف، الطبيب المشعوِذ، الساحرة — ايا كانت الكلمة التي ترغبون في استعمالها — يدَّعي ضمان الصحة او ردّ قوى الانجاب. ويمكن ان تتطلب المعالجة، كما هي الحال في بعض قبائل غابات جنوب اميركا، ان تثقبوا شفتيكم او حاجزكم الانفي او شحمتي اذنيكم، ان تطلوا بالدهان جسمكم، او ان تلبسوا حلى معيَّنة. او قد يقال لكم ان تستعملوا منبِّهات ومخدِّرات، كالتبغ واوراق الكوكا.
لكونها ضعيفة في العقيدة لا تستطيع الاديان المحلية ان تنقل المعرفة الصحيحة عن الخالق. وبرفعها الحاجات البشرية فوق الاهتمامات الالهية تسلبه حقه المشروع. لذلك عندما بدأ العالم المسيحي عمله الارسالي العصري كان السؤال: هل سيتمكن «المسيحيون» من تقريب قلوب «الوثنيين» اكثر الى اللّٰه؟
في القرن الـ ١٥ بدأت اسبانيا والبرتغال برنامج استكشاف وتوسُّع استعماري. وبينما كانت هاتان القوتان الكاثوليكيتان تكتشفان اراضي جديدة شرعت الكنيسة تهدي السكان المحليين، مشترطة عليهم قبول حكومتهم «المسيحية» الجديدة. والاوامر البابوية منحت البرتغال حقوقا ارسالية في افريقيا وآسيا. وبعدئذ، بعد اكتشاف اميركا، رسم البابا الكسندر السادس خطًّا وهميا في وسط الاطلسي، معطيا اسبانيا حقوقا الى الغرب والبرتغال الى الشرق.
وفي هذه الاثناء كان الپروتستانت مشغولين بتحصين موقعهم من الكاثوليكية اكثر من التفكير في هداية الآخرين، كما ان المصلِحين الپروتستانت لم يحثوهم على ذلك. ويبدو ان لوثر وميلانكثون اعتقدا ان نهاية العالم قريبة جدا حتى انه فات جدا اوان الوصول الى «الوثنيين.»
ولكن خلال القرن الـ ١٧ بدأت تنمو حركة پروتستانتية دُعيت التقوية. ولكونها ثمرة من الاصلاح فقد شدَّدت على الاختبار الديني الشخصي اكثر من الشكلية وأبرزت قراءة الكتاب المقدس والالتزام الديني. و «رؤيتها بشريَّةً محتاجةً الى انجيل المسيح،» كما وصف ذلك احد الكتّاب، ساعدت اخيرا على رفع الپروتستانتية الى ظهر «سفينة» النشاط الارسالي في اواخر القرن الـ ١٨.
ومن نحو خُمس سكان العالم في سنة ١٥٠٠ ارتفعت نسبة المدَّعين المسيحية الى نحو الربع بحلول سنة ١٨٠٠ والى نحو واحد الى ثلاثة بحلول سنة ١٩٠٠. ان ثُلث العالم صار آنذاك «مسيحيا»!
هل تلمذوا حقا تلاميذ مسيحيين؟
ان آثار الحق الموجودة في الاديان المحلية يقابلها الكثير من عناصر البُطل البابلي، ولكنّ ذلك يصح على نحو معادل في المسيحية المرتدة. وهكذا فإن ذلك الارث الديني المشترك جعل من السهل جدا على «الوثنيين» ان يصيروا «مسيحيين.» وكتاب علم اساطير كل العروق يقول: «ما من منطقة في اميركا يبدو انها زوَّدت الطقوس والرموز المسيحية بعدد وافر جدا من التشابهات المدهشة او بمثل هذه كما زوَّدت منطقة المايا.» واكرام الصليب والتماثلات الاخرى في الطقوس «عملت على نجاح تغيير الدين بأدنى احتكاك.»
والافريقيون — الذين كان «المسيحيون» يخطفونهم قانونيا طوال نحو ٤٥٠ سنة ويحضرونهم الى العالم الجديد ليخدموا كعبيد — تمكنوا ايضا من تغيير الدين «بأدنى احتكاك.» وبما ان «المسيحيين» كرَّموا «القديسين» الاوروبيين الاموات، فماذا يعيق عبادة «المسيحيين الوثنيين» لارواح الاسلاف الافريقيين؟ وهكذا تلاحظ دائرة معارف الدين: «الودّونية . . .، دين توفيقي مؤلف من الاديان الافريقية الغربية، السحر، الدين المسيحي، والفولكلور . . .، صارت الدين الحقيقي لكثيرين من شعب هايتي، بمن فيهم اولئك الذين هم كاثوليك اسميون.»
والقاموس المختصر للعمل الارسالي المسيحي العالمي يعترف بأن اهتداء اميركا اللاتينية والفيليپين كان سطحيا جدا، مضيفا ان «مسيحية هذه المناطق اليوم تشوِّهها الخرافة والجهل.» وبالنسبة الى الازتكيين، المايانيين، والإنكاويين، فإن «‹الاهتداء› عنى مجرد زيادة معبود آخر ايضا على مجموعة آلهتهم.»
وعن شعوب الأكان في غانا وساحل العاج تقول ميشيل جيلبرت من متحف پيبودي للتاريخ الطبيعي: «يستمر الدين التقليدي لأنه بالنسبة الى اكثر الناس يجري الادراك انه نظام الايمان الاكثر فعالية، نظام يستمر في منح العالم المعنى.»
و م. ف. س. بورديلون، جامعة زمبابوي، يتحدث عن «قابلية التنقل الدينية» بين اعضاء دين شونا، شارحا: «الاشكال المتنوعة من المسيحية مع العبادات التقليدية المتنوعة تزوِّد كلها بِركة من الاستجابات الدينية التي منها يستطيع الفرد ان يختار، وفقا لحاجاته او حاجاتها الآنيّة.»
ولكن اذا كان «المسيحيون الوثنيون» يتصفون بالسطحية، الجهل، الخرافة، وتعدُّد الآلهة، اذا كانوا ينظرون الى الاديان التقليدية بصفتها فعالة اكثر من المسيحية، اذا كانوا يعتبرون الدين مجرد مسألة مصلحة او ملاءمة، سامحا لهم بالانتقال من واحد الى آخر كما تملي الظروف، فهل تقولون ان العالم المسيحي تلمذ تلاميذ مسيحيين حقيقيين؟
إن لم يكونوا تلاميذ، فما هم؟
صحيح ان مرسلي العالم المسيحي شيَّدوا مئات المدارس لتعليم الأُمِّيين. وبنوا المستشفيات لشفاء المرضى. والى حد ما روَّجوا الاحترام للكتاب المقدس ومبادئه.
ولكن هل جرى إطعام «الوثنيين» الطعام الروحي القوي لكلمة اللّٰه ام مجرد فُتات المسيحية المرتدَّة؟ هل طُرحت المعتقدات والممارسات «الوثنية» ام جرى فقط لفُّها في لباس «مسيحي»؟ وباختصار هل ربح مرسلو العالم المسيحي القلوب للّٰه ام اجبروا فقط الرُكَب «الوثنية» على الانحناء قدام المذابح «المسيحية»؟
ان المهتدي الى المسيحية المرتدَّة يزيد على خطايا جهله السابقة الخطايا الجديدة للمسيحية الريائية، وبالتالي يضاعف ثقل ذنبه. وهكذا فللعالم المسيحي تكون كلمات يسوع مناسبة: «تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلا واحدا. ومتى حصل تصنعونه ابنا لجهنم اكثر منكم مضاعفا.» — متى ٢٣:١٥.
من الواضح ان العالم المسيحي فشل في مواجهة تحدّي تلمذة تلاميذ مسيحيين. فهل كانت الامور معه افضل في مواجهة تحدّي تغيير عالمي. ان مقالتنا في هذا العدد، «العالم المسيحي يصارع تغييرا عالميا،» ستجيب عن هذا السؤال.
[الصورة في الصفحة ١٧]
هؤلاء المرسلون المسيحيون الحقيقيون في الجمهورية الدومينيكانية يصِلون الى القلب لا الى مجرد الركبتين
-
-
الجزء ١٩: القرن الـ ١٧ الى الـ ١٩ — العالم المسيحي يصارع تغييرا عالميااستيقظ! ١٩٨٩ | تشرين الثاني (نوفمبر) ٨
-
-
مستقبل الدين بالنظر الى ماضيه
الجزء ١٩: القرن الـ ١٧ الى الـ ١٩ — العالم المسيحي يصارع تغييرا عالميا
«الفلسفة والدين لا يمكن التوفيق بينهما.» — جورج هرڤيڠ، شاعر الماني للقرن الـ ١٩
«الفلسفة،» كلمة مشتقة من جذور يونانية تعني «محبة الحكمة،» يصعب تعريفها. وفيما تشكّ في امكانية صنع «تعريف عام وشامل كليا،» فإن دائرة المعارف البريطانية الجديدة تغامر بالقول ان «المحاولة الاولى في هذا الاتجاه قد تكون تعريف الفلسفة إما بأنها ‹تفكُّر في تنوُّعات الاختبار البشري› او بأنها ‹التأمل المنطقي، المنهجي، والمنظَّم في تلك المواضيع التي هي ذات همّ اعظم للانسان.›»
هذان التعريفان يُظهران بوضوح لماذا لا يمكن التوفيق بين الدين الحقيقي والفلسفة. فالدين الحقيقي مؤسس على الاعلان الالهي، وليس على «تنوُّعات الاختبار البشري.» وهو اولا وقبل كل شيء يدور حول اهتمامات الخالق، وليس حول «المواضيع التي هي ذات همّ اعظم للانسان.» والدين الباطل، من ناحية اخرى، كالفلسفة مؤسس على الاختبار البشري ويضع الاهتمامات البشرية اولا. وهذا الواقع صار ظاهرا على نحو خصوصي ابتداء من القرن الـ ١٧ فصاعدا حينما صارع العالم المسيحي تغييرا عالميا.
تهديد ثلاثي
حالما وُلد العلم العصري في القرن الـ ١٧ بدا ان التضارب بينه وبين الدين امر لا يمكن تجنبه. والتقدُّمات العلمية المذهلة غلَّفت العلم بهالة من العصمة والسلطة، منتجة العِلمية، ديانة بحد ذاتها، بقرة مقدسة. وفي ضوء «الوقائع» العلمية بدت الادعاءات الدينية فجأة غير قابلة للبرهان على نحو متقلقل. كان العلم جديدا ومثيرا؛ وبدا الدين مهجورا ومملا.
وهذا الموقف من الدين قوَّاه التنوير، حركة فكرية كسحت اوروبا خلال القرنين الـ ١٧ والـ ١٨. واذ شدَّد على التقدُّم الفكري والمادي رفض السلطة والتقليد السياسيين والدينيين محبِّذا التفكير النقدي. وهذا، على ما يُزعم، كان مصدر المعرفة والسعادة. و «جذوره الموروثة عن الاجداد،» تقول دائرة المعارف البريطانية الجديدة، كانت موجودة «في الفلسفة اليونانية.»
كان التنوير بشكل رئيسي ظاهرة فرنسية. والقادة البارزون في فرنسا شملوا ڤولتير ودوني ديدرو. وفي بريطانيا العظمى وَجَد ذلك مَن ينطق باسمه في جون لوك ودايڤيد هيوم. ووُجد مؤيدون كذلك بين آباء الولايات المتحدة المؤسِّسين، بمن فيهم توماس پَيْن، بنجامان فرانكلن، وتوماس جفرسون. وفي الواقع، ان فصل الكنيسة عن الدولة الذي طالب به دستور الولايات المتحدة هو انعكاس لافكار التنوير. والاعضاء المشهورون في المانيا كانوا كريستيان ڤولف، عمانوئيل كَنْت، وموسى مَنْدَلسون، جدّ المؤلف الموسيقي فيلكس مَنْدَلسون.
ويقال ان كَنْت، المتشكك في الدين، عرَّف «التنوير» بأنه «إعتاق الكائن البشري من الوِصاية التي فرضها على نفسه.» وبهذا، يشرح ألِن و. وود من جامعة كورنِل، قَصَد كَنْت «العملية التي بها ينال الافراد البشر الشجاعة على التفكير لانفسهم في الآداب، الدين، والسياسة، بدلا من ان تُملى آراؤهم عليهم من قِبل السلطات السياسية او الكنسية او المتعلقة بالاسفار المقدسة.»
وخلال النصف الثاني من القرن الـ ١٨ بدأت الثورة الصناعية، اولا في بريطانيا العظمى. وتحوَّل التشديد من الزراعة الى انتاج وتصنيع البضائع بمساعدة الآلات والعمليات الكيميائية. وأزعج ذلك مجتمعا زراعيا وريفيا بغالبيته، مرسِلا ألوف الناس مزدحمين في المدن من اجل العمل. ونتجت قطاعات البطالة، النقص في المساكن، الفقر، وشتى الأسقام المتعلقة بالعمل.
فهل سيكون العالم المسيحي قادرا على التغلب على هذا التهديد الثلاثي للعلم، التنوير، والصناعة؟
إخراج اللّٰه، ولو بلطف شديد
ان الناس المقتنعين بتفكير التنوير لاموا الدين على الكثير من أسقام المجتمع. والرأي بأن «المجتمع يجب ان يُبنى وفق المخططات المقدَّرة مسبقا للقانون الالهي والطبيعي،» تقول دائرة معارف الدين، «استُبدل بالفكرة ان المجتمع كان، او يمكن ان يكون، مبنيا ‹ببراعةِ› او ‹تدبيرِ› الانسان. وهكذا اتت الى الوجود انسانية دنيوية اجتماعية كانت، بدورها، ستلد معظم نظريات العالَم الحديث الفلسفية والاجتماعية.»
وهذه النظريات شملت «الدين المدني» الذي ايَّده فيلسوف التنوير الفرنسي ذو النفوذ جان جاك روسّو. وركَّز على المجتمع والانهماك البشري في همومه عوض ان يركِّز على كائن الهي وعبادته. وكاتب السِّيَر الفرنسي كلود هنري دي روڤروي ايَّد «مسيحية جديدة،» في حين تحدث مَن كان تحت عنايته اوڠوست كونت عن «دين الانسانية.»
وفي اواخر القرن الـ ١٩ تطوَّرت الحركة الاميركية المعروفة بالانجيل الاجتماعي بين الپروتستانت؛ وكانت متعلقة الى حد بعيد بالنظريات الاوروبية. وذلك الرأي المؤسَّس لاهوتيا اكَّد ان الواجب الرئيسي للمسيحي هو الانهماك الاجتماعي. وهي تجد دعما عظيما بين الپروتستانت الى هذا اليوم. والنُسَخ الكاثوليكية موجودة في الكهنة العمال الفرنسيين وبين كهنة اميركا اللاتينية الذين يعلِّمون لاهوت التحرير.
ومرسلو العالم المسيحي ايضا يعكسون هذا الميل، كما يدل تقرير في مجلة التايم للسنة ١٩٨٢: «كان هنالك تحوُّل بين الپروتستانت نحو انهماك اعظم في مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية الاساسية . . . وبالنسبة الى عدد متزايد من المرسلين الكاثوليك، فإن الاقتران بقضية الفقراء يعني تأييد التغييرات الراديكالية في الانظمة السياسية والاقتصادية — حتى ولو كانت الحركات الثورية الماركسية تشق طريق هذه التغييرات. . . . وبالفعل، هنالك مرسلون يعتقدون ان الهداية لا علاقة لها على نحو جوهري بمهمتهم الحقيقية.» ان مثل هؤلاء المرسلين يتفقون كما يظهر مع عالِم الاجتماع الفرنسي اميل دوركيم، الذي اقترح مرة: ‹الهدف الحقيقي للعبادة الدينية هو المجتمع، لا اللّٰه.›
على نحو واضح، كان العالم المسيحي يُخرج اللّٰه من الدِّين، ولو بلطف شديد. وفي هذه الاثناء كانت قوى اخرى تعمل ايضا.
استبدال اللّٰه بأديان زائفة
لم تكن الكنائس تملك حلولا للمشاكل التي خلقتها الثورة الصناعية. ولكنّ اديانا زائفة، منتوجات الفلسفات البشرية، ادَّعت انها تملك ذلك، ونشطت بسرعة لتملأ الفراغ.
مثلا، وجد بعض الناس قصدهم في الحياة في طلب الغنى والممتلكات، ميل اناني عملت الثورة الصناعية على إشباعه. فصارت المادية دينا. واستُبدل اللّٰه القادر على كل شيء ‹بالدولار القادر على كل شيء.› وفي مسرحية لجورج برنارد شو جرى التلميح الى ذلك بممثل هتف: «انا مليونير. هذا هو ديني.»
وتحوَّل اناس آخرون الى الحركات السياسية. والفيلسوف الاشتراكي فريدريك انجلز، المتعاون مع كارل ماركس، انبأ بأن الاشتراكية ستحل اخيرا محل الدين، متخذة هي نفسها صفات دينية. وهكذا، بتقدم الاشتراكية عبر اوروبا، يقول الاستاذ المتقاعد روبرت نيسبت، «كان عنصرا بارزا ارتدادُ الاشتراكيين عن اليهودية او المسيحية وتحوُّلهم الى بديل.»
ان فشل العالم المسيحي في التغلب على التغيير العالمي سمح بتطوُّر قوى تشير اليها دائرة المعارف المسيحية العالمية بأنها «الدنيوية، المادية العلمية، الشيوعية الملحدة، القومية، النازية، الفاشية، الماوية، الانسانية المتحررة والأديان الزائفة العديدة المبنية او الملفَّقة.»
وبالنظر الى الثمر الذي انتجته هذه الاديان الزائفة الفلسفية تبدو كلمات الشاعر البريطاني جون مِلتون اكثر ملاءمة: «باطلة هي الحكمة كلها، وكاذبة الفلسفة.»
طلب حلّ وسط
واذ علِقوا بين الانظمة الكنسية العديمة الجدوى من جهة والاديان الزائفة الخداعة من جهة اخرى كان ملايين الناس يتطلعون الى شيء افضل. واعتقد البعض انهم وجدوه في شكل من الربوبيّة، المعروفة ايضا بـ «الدين الطبيعي.» واذ احرزت شهرة خصوصا في انكلترا خلال القرن الـ ١٧ وُصفت الربوبيّة بأنها حلّ وسط اعتنق العلم دون هجر اللّٰه. لذلك كان معتنقو الربوبيّة مفكِّرين احرارا يتقدَّمون في مسلك معتدل.
والمؤلف وود يوضح: «في معناها الاساسي، تدل الربوبيّة على الايمان باله واحد وبممارسة دينية مؤسسة فقط على المنطق الطبيعي عوضا عن الاعلان فوق الطبيعي.» ولكن بإنكار «الاعلان فوق الطبيعي» وصل بعض معتنقي الربوبيّة الى حد رفض الكتاب المقدس كله تقريبا. واليوم نادرا ما تُستعمل التسمية، مع ان المدَّعين المسيحية، الذين يرفضون السلطة الكنسية او سلطة الاسفار المقدسة محبِّذين الرأي الشخصي او فلسفات الحياة البديلة، يلتصقون في الواقع بمبادئها.
نظريات التطوُّر الموازية
وقعت المجابهة الاكثر اثارة بين الدين والعلم بعد نشر اصل الانواع لداروين في سنة ١٨٥٩، الذي عرض فيه نظريته عن التطوُّر. فالقادة الدينيون، وخصوصا في انكلترا والولايات المتحدة، شجبوا في البداية النظرية بعبارات قوية. ولكن سرعان ما تضاءلت المقاومة. وبحلول وقت موت داروين، تقول دائرة معارف الدين، «كان معظم رجال الدين المفكرين والفصحاء قد شقّوا طريقهم الى الاستنتاج ان التطوُّر متلائم كليا مع فهم متنوِّر للاسفار المقدسة.»
وهذا يمكن ان يفسِّر لماذا لم يضع الڤاتيكان قط كتب داروين في قائمة الكتب المحرَّمة التي له. ويمكن ان يفسِّر ايضا ردّ فعل الحضور في مؤتمر برلمان الاديان العالمي في شيكاغو للسنة ١٨٩٣. فإذ كان البوذيون والهندوس يصغون قال خطيب «مسيحي»: «ان نظرية التطوُّر تسدّ فجوة في بداية ديننا، واذا كان العلم مكتفيا عموما بنظريته عن التطوُّر كطريقة للخلق فإن القبول هو كلمة باردة بها يرحِّب بذلك اولئك الذين عملهم معرفة ومحبة طرائق اللّٰه.» والعبارة كما ذُكر استُقبلت بتصفيق عال.
ان هذا الموقف ليس مدهشا بالنظر الى الشعبية في اواخر القرن الـ ١٩ لِما صار يُعرف بالدين المقارَن. وهذا كان دراسة علمية لاديان العالم مصمَّمة لتحدِّد كيف انّ للاديان المختلفة علاقة متبادلة وكيف اتت. والعالِم الانكليزي بعلم الانسان جون لوبوك، مثلا، عبَّر عن النظرية بأن البشر بدأوا كملحدين وبعدئذ تطوَّروا تدريجيا عبر الفتشية، عبادة الطبيعة، والشامانية قبل الوصول الى التوحيد.
ولكن، كما توضح دائرة معارف الدين: «لم يكن الدين في مثل هذه الصورة حقا مطلقا اعلنه المعبود، بل كان سجلا لتطوُّر المفاهيم البشرية عن اللّٰه والآداب.» لذلك فإن اولئك الذين قبلوا هذه النظرية لم يجدوا صعوبة في قبول الربوبيّة، «الدين المدني،» او «دين الانسانية» كدرجات نحو الاعلى في سلَّم التطوُّر الديني.
وفي التحليل الاخير، الى اين تقود مثل هذه النظرة؟ في القرن الـ ١٩ سبق ان قال الفيلسوف الانكليزي هربرت سپنسر ان المجتمع يتحرك في اطار من التقدُّم لم يعد متلائما مع الدين. وعن القرن الـ ٢٠ لاحظ الاستاذ نيسبت ان علماء الاجتماع يعتقدون عموما ان الدين «يلبي حاجات نفسية معيَّنة في الكائنات البشرية، والى ان تصير او إن لم تَصرْ هذه الحاجات ضحايا التطوُّر البيولوجي للنوع البشري يبقى الدين في شكل او في آخر واقعا دائما للثقافة البشرية.» (الحروف المائلة لنا.) وبناء على ذلك فإن علماء الاجتماع لا يستبعدون الاحتمال ان «التقدُّم التطوُّري» يمكن ان يؤدي يوما ما الى لا دين على الاطلاق!
البحث عن العبادة الحقيقية يتكاثف
بحلول منتصف القرن الـ ١٩ اتضح انه طوال نحو ٢٠٠ سنة كان العالم المسيحي يخوض معركة خاسرة ضد التغيير العالمي. ودينه انحط الى اكثر قليلا من فلسفة عالمية. وكان ملايين من الناس المخلصين قلقين. فتكاثف البحث عن العبادة الحقيقية. وكان يمكن القول بحق ان اصلاح العالم المسيحي امر مستحيل. وما كان لازما هو ردّ العبادة الحقيقية. فتعلَّموا المزيد في المقالة التالية.
[الاطار في الصفحة ٢٠]
تحت ضغط التغيير العالمي، العالم المسيحي يساير
بروز العلم الحديث أضعف الايمان بما لا يُرى وخلق الشك في الامور التي لم يتمكن العلم من ان «يبرهنها.» وساير العالم المسيحي في حق الكتاب المقدس بتبنّيه نظريات غير مبرهَنة يُفترض انها علمية كالتطور وبرؤيته في البراعة العلمية، بدلا من ملكوت اللّٰه، العلاج للمشاكل العالمية.
نشوء الايديولوجيات السياسية (الرأسمالية، الديمقراطية، الاشتراكية، الشيوعية، وهلم جرا) خلق صراعات قومية ومناقرات ايديولوجية، حاجبا بالتالي حق الكتاب المقدس بأن اللّٰه لا الانسان هو حاكم الارض الشرعي. وساير العالم المسيحي في مبادئ الكتاب المقدس بكسر الحياد المسيحي والتورط في حروب حرَّضت اعضاء الدين نفسه بعضهم على بعض. ودَعَم العالم المسيحي، بفعالية او بتفرُّج، الاديان الزائفة السياسية.
المقياس العالي للعيش الذي جعلته الثورتان الصناعية والعلمية ممكنا روَّج المصلحة الذاتية الانانية وأتى بالظلم وعدم المساواة الاجتماعيين الى الصدارة. وساير العالم المسيحي باهمال الاهتمامات الالهية محبِّذا الانهماك في الاهتمامات البشرية ذات الطبيعة الاجتماعية او الاقتصادية او البيئية او السياسية.
[الاطار في الصفحة ٢٢]
صعودا ام نزولا؟
يقول الكتاب المقدس: خُلق البشر كاملين وعُلِّموا كيفية عبادة خالقهم على نحو مقبول؛ ولكنهم تمردوا على اللّٰه، وطوال نحو ٠٠٠,٦ سنة يخطون جسديا وأدبيا على السواء، مبتعدين اكثر فاكثر عن الدين الحقيقي الذي مارسوه اصلا.
يقول التطوُّر البيولوجي والديني: تطوَّر البشر من بداية بدائية وكانوا ملحدين بلا دين؛ وطوال ملايين لا تُحصى من السنين يتحسَّنون جسديا وأدبيا على السواء، مقتربين اكثر فاكثر الى حالة من النمو المثالي الديني والاجتماعي والادبي.
على اساس معرفتكم للتصرف البشري وحالة الجنس البشري الحاضرة ومكانة الدين في عالم اليوم، اية نظرة تبدو متوافقة اكثر مع الوقائع؟
[الصورة في الصفحة ٢١]
تخمينات داروين غير المثبَتة في اصل الانواع صارت العذر الباطل لكثيرين لهجر الايمان بإله اعلان
[مصدر الصورة]
Harper’s
-
-
الجزء ٢٠: القرن الـ ١٩ فصاعدا — الردّ وشيك!استيقظ! ١٩٨٩ | تشرين الثاني (نوفمبر) ٨
-
-
مستقبل الدين بالنظر الى ماضيه
الجزء ٢٠: القرن الـ ١٩ فصاعدا — الردّ وشيك!
«الطريقة الفضلى لتروا النور الالهي هي ان تطفئوا شمعتكم الخاصة.» — توماس فولر، طبيب وكاتب انكليزي (١٦٥٤-١٧٣٤)
دُعي القرن الـ ١٩ احدى انشط فترات التاريخ المسيحي، حالاًّ في مصاف القرون الاولى وسنوات الاصلاح. وأسباب مثل هذه الزيادة في الوعي والنشاط الدينيين كثيرة ومتنوعة.
والمؤلِّف كِنِث س. لتوريت يعدِّد ١٣ عاملا ذا علاقة، بعضها نوقش في المقالة السابقة من هذه السلسلة. ويقول انه «لم يحدث من قبل قط في وقت وجيز كهذا ان تغيَّر المجتمع البشري على نحو عميق جدا وبمثل ذلك التنوُّع من الطرائق.»
في الولايات المتحدة كان الإحياء الديني ظاهرا بوضوح. مثلا، ارتفعت عضوية الكنائس من اقل من ١٠ في المئة من السكان عند بداية القرن الى نحو ٤٠ في المئة عند نهايته. ومدارس الاحد — التي أُدخلت الى انكلترا في سنة ١٧٨٠ — زادت شعبيتُها. وأحد الاسباب لذلك، بالتباين مع اوروبا، كان ان انفصال الكنيسة عن الدولة في الولايات المتحدة حال دون التعليم الديني في المدارس العامة. واضافة الى ذلك، جرى تأسيس عشرات الكليات الطائفية وجمعيات الكتاب المقدس ما بين الطوائف، وفي خلال النصف الاول من القرن أُنشئ ٢٥ معهدا لاهوتيا على الاقل في الولايات المتحدة.
في هذه الاثناء، وعلى نطاق عالمي، كانت الپروتستانتية تصير ذات ميل ارسالي. وكان صانع الاحذية والاستاذ البريطاني وليم كَري قد اخذ القيادة في سنة ١٧٩٢ بنشر كتاب بحث في التزامات المسيحيين استعمال الوسائل لهداية الوثنيين. وبينما كانوا يخدمون في الهند كمرسَلين ترجم كَري ومساعدوه الكتاب المقدس كليا او جزئيا بأكثر من ٤٠ لغة ولهجة هندية وآسيوية اخرى. والعمل الذي قام به بعض اولئك المرسَلين الاوائل في توزيع الكتب المقدسة جدير بالمدح.
ان علم آثار الكتاب المقدس الجديد نسبيا احرز ايضا منزلة رفيعة خلال القرن الماضي. وفي سنة ١٧٩٩ اكتشف الجنود الفرنسيون في مصر لوحا من البازَلت الاسود يُدعى الآن حجر رشيد. وقد تضمَّن النقشَ نفسَه مكتوبا ثلاث مرات، مرتين بشكلين مختلفين للهيروغليفيَّة المصرية ومرة باليونانية. وهكذا تبرهن انه لا يقدَّر بثمن في فكّ رموز الهيروغليفيَّة المصرية. وبعد ذلك بوقت قصير جرى حلّ رموز الكتابات المسمارية الاشورية ايضا. وهكذا عندما بدأت حفريات الآثار في اشور ومصر بعد ذلك بوقت قصير اتخذت المصنوعات اليدوية المستخرجة معنى جديدا. والكثير من روايات الكتاب المقدس أُثبت حتى في اصغر التفاصيل.
يوقدون شموعهم الخاصة
وإذ زاد الاهتمام الديني زاد كذلك عدد الذين يدَّعون انهم مصلِحون. ولكن كان واضحا انه ليس الجميع مخلصين. والمؤلِّف المذكور آنفا كِنِث س. لتوريت يعترف بصراحة بأن بعض الطوائف الدينية الجديدة «وُلد من الحسد، النزاع، والطموح الشخصي.» ولكنّ المصلِحين الذين يوقدون شموع طموحهم الشخصي لا يمكن التوقع ان يكونوا اختيار اللّٰه لردّ العبادة الحقيقية.
ووسط اهتزازات لهب الشموع الافرادية المشوِّشة هذه أُلقي التفكير اللاهوتي في غمرة التشويش. وقام النقد العالي، وهو من حيث الاساس من نتاج الجامعات الالمانية، بإعادة تفسير الاسفار المقدسة في ضوء الفكر العلمي «المتقدِّم.» واعتبر اصحاب النقد العالي الكتاب المقدس ليس اكثر من سجل الاختبار الديني اليهودي. وجرى الشك في سلطة الكتاب المقدس بصفته اساسيا في تحديد طريق الخلاص، وكذلك جرى الشك في حكمة المقاييس الادبية التي يؤيِّدها.
وَجَد النقد العالي دعما فوريا، وخصوصا بين رجال الدين الپروتستانت. واستنادا الى احد التقارير، بحلول سنة ١٨٩٧ لم يعد ولا عضو واحد في هيئات التدريس والادارة للجامعات اللاهوتية الپروتستانتية الـ ٢٠ في المانيا يتمسَّك بالآراء التقليدية حول مَن كتب الاسفار الخمسة الاولى او سفر اشعياء.
وبعد بضع سنوات، في سنة ١٩٠٢، نشأ جدل حول النقد العالي في مؤتمر المجالس العليا للكنائس المشيخية في اسكتلندا. وذكرت أخبار ادِنْبره المسائية: «استنادا الى اصحاب النقد العالي، . . . الكتاب المقدس هو مجموعة قصص اسطورية يمكن للكارز ان يستخرج منها بضعة اجزاء من التعليم الاخلاقي تماما كما يمكن لمعلِّم الآداب الماهر ان يستخرج بضعة اجزاء من التعليم الاخلاقي من ‹حكايات إيسوپ.›» ولكنّ الصحيفة لاحظت بعدئذ: «الطبقات العاملة ليست غبية. فهم لن يذهبوا الى الكنيسة للاصغاء الى اناس يعيشون هم انفسهم في ضباب عقلي.»
والمقالة الثانية بعد بضعة ايام كانت فظة اكثر ايضا، اذ علَّقت: «لا فائدة من اللفّ والدوران. ان الكنيسة الپروتستانتية رياء منظَّم، وقادتها دجَّالون بكل ما للكلمة من معنى. وفي هذه الحال، في الواقع، لو كان مؤلِّف ‹عصر العقل› حيا اليوم لما جرى التحدث عنه باستهزاء بصفته توم پَيْن، الكافر، بل بصفته المحترم توماس پَيْن، الدكتور في اللاهوت، استاذ تفسير العبرانية والعهد القديم، الكلية الحرة المتحدة، ڠلاسكو. ولما لاقى صعوبة في الكرازة من منبر وعظ پروتستانتي . . . [و] كسب راتب كبير كأستاذ لاهوت.»
ردّ فعل ديني عكسي
من بدايتها شدَّدت الپروتستانتية على الاهتداء الشخصي والاختبار المسيحي، واتكلت بشكل رئيسي على الاسفار المقدسة، وخفضت منزلة الاسرار المقدسة والتقليد.
وفي ثلاثينات وأربعينات الـ ١٨٠٠ بدأ كثيرون من الانجيليين الپروتستانت يعلنون المجيء الثاني الوشيك للمسيح ومعه بداية العصر الالفي. وأدلى وليم ميلر، مزارع نيويوركي، بالقول ان المجيء الثاني قد يحدث حوالي السنة ١٨٤٣. وهذه الحركة الالفية ساعدت على وضع الاساس لشكلٍ من المذهب الانجيلي اكثر شهرة وعدوانية صار يُعرف بالاصولية.
كانت الاصولية الى حد كبير ردّ فعل عكسيا تجاه التشكُّك، التفكير الحر، المذهب العقلي، والرخاوة الادبية التي كانت الپروتستانتية المتحررة قد عضدتها. وقد تبنَّت لاحقا اسمها من سلسلة من ١٢ عملا بعنوان الاصول، نشرها من سنة ١٩٠٩ الى ١٩١٢ معهد مودي للكتاب المقدس.
والاصولية، خصوصا في الولايات المتحدة، صارت معروفة جيدا من خلال خدماتها الكهنوتية المؤثِّرة في الراديو والتلفزيون، معاهدها للكتاب المقدس، واجتماعاتها العاطفية لإيقاظ الشعور الديني وذات الدعاية الجيدة. ولكن، مؤخَّرا، تضرَّرت سمعتها من جراء الاعمال المالية والجنسية غير اللائقة لبعض ابرز قادتها. وقد انتُقد عليها ايضا نشاطها السياسي المتزايد، خصوصا منذ تأسيس «الغالبية الادبية» في سنة ١٩٧٩، التي جرى فضُّها مؤخَّرا.
والاصولية، فيما تدَّعي الدفاع عن الكتاب المقدس، قد اضعفت في الواقع سلطته ايضا. واحدى الطرائق التي بها فعلت ذلك هي بالتفسير الحرفي للآيات التي من الواضح انه لم يُقصد ان تُفهم حرفيا. والمثال لذلك هو الادِّعاء انه، حسب رواية التكوين، خُلقت الارض في ٦ ايام حرفية من ٢٤ ساعة. فمن الجليّ ان تلك ‹الايام› كانت رمزية ذات مدة اطول بكثير. (قارنوا تكوين ٢:٣،٤؛ ٢ بطرس ٣:٨.) والطرائق الاخرى التي بها تُضعف الاصولية الكتاب المقدس هي بتعليم عقائد غير مؤسسة على الاسفار المقدسة، كالعذاب الابدي في هاوية نارية، وأحيانا بترويج مقاييس سلوك غير تلك التي تتطلَّبها الاسفار المقدسة، كتحريم استهلاك المشروبات الكحولية او استعمال النساء مستحضرات التجميل. وبهذه الطرائق جعلت الاصولية الناس يرفضون رسالة الكتاب المقدس بوصفها ساذجة، غير معقولة، وغير علمية.
مسألة توقيت
واضح ان ما كان يلزم هو الردّ، ردّ العبادة الحقيقية! ولكن كما تقول الجامعة ٣:١: «لكل شيء (وقت معيَّن).»
وقديما في القرن الاول اعاد يسوع تنشيط العبادة الحقيقية في شكل المسيحية. ومع ذلك تنبَّأ انه سيكون هنالك ارتداد. وقال ان المسيحيين الحقيقيين، كالحنطة، والمسيحيين الزائفين، كالزوان، سوف «ينميان كلاهما معا الى الحصاد.» والملائكة، في ذلك الوقت، سوف ‹يجمعون الزوان . . . ليحرَق،› فيما يُجمع المسيحيون الحقيقيون الى رضى اللّٰه. (متى ١٣:٢٤-٣٠،٣٧-٤٣) وفي النصف الاخير من القرن الـ ١٩ كان الوقت المعيَّن لردّ العبادة الحقيقية هذا على الابواب.
وُلد تشارلز تاز رصل في پيتسبورڠ، پنسيلڤانيا، في سنة ١٨٥٢، وحتى كولد اظهر اهتماما عظيما بالكتاب المقدس. وفي اوائل عشريناته حوَّل انتباهه من التجارة العائلية الى تخصيص وقته كله للكرازة. وبحلول سنة ١٩١٦، عندما مات في سن الـ ٦٤، كان كما يُذكر قد كرز بأكثر من ٠٠٠,٣٠ موعظة وكتب كتبا تتألف مما يزيد على ٠٠٠,٥٠ صفحة.
وفيما قدَّر العمل الجدير بالمدح الذي كان الآخرون قد قاموا به في ترويج الكتاب المقدس ادرك رصل ان مجرد ترجمة، طبع، وتوزيع الكتاب المقدس ليس كافيا. وهكذا في سنة ١٨٧٩ بدأ ينشر المجلة المعروفة اليوم باسم برج المراقبة. وعددها الاول قال: «نحن ميالون كثيرا جدا الى ان نسأل، ماذا تقول كنيستي عن ايّ سؤال، بدلا من ماذا تقول الاسفار المقدسة؟ لقد دُرس اللاهوت كثيرا جدا، والكتاب المقدس ليس كفاية. اذاً، بالتفكير ان ‹الكتب المقدسة قادرة ان تحكِّمنا،› وان ‹شهادات الرب صادقة تُصيِّر الجاهل حكيما،› دعونا نفحص.»
واليوم، وقد اكملت ١١٠ سنوات من الإصدار دون انقطاع، ان برج المراقبة (الصادرة الآن بـ ١٠٦ لغات وبتوزيع يفوق ١٣ مليون نسخة لكل عدد) تستمر في فحص كلمة اللّٰه. وقد تعلَّم ملايين الناس ان يقدِّروا المساعدة التي تزوِّدها في درس، فهم، وتطبيق ما يعلِّمه الكتاب المقدس.
لم يكن رصل كالكثيرين من معاصريه الميالين الى الاصلاح في انه لم يكرز باقتراب خصوصي الى اللّٰه، لم يفتخر برؤى او اعلانات الهية، لم يكتشف رسائل سرية في شكل كتب مخبَّأة او غير ذلك، ولم يدَّعِ قط انه قادر على شفاء المرضى جسديا. واضافة الى ذلك، لم يجزم ان بإمكانه تفسير الكتاب المقدس. وكأداة طوعية في يدٍ إلهية، قاوم كل الاغراءات للسماح ‹لشمعته الخاصة› بأن تفوق النور الالهي اشراقا.
«الحق وليس خادمه هو ما يجب ان يكرَم ويُنادى به،» كتب رصل في سنة ١٩٠٠، مضيفا: «هنالك ميل كبير جدا الى نسب الحق الى الكارز، ناسين ان كل الحق هو من اللّٰه، الذي يستخدم خادما او آخر في المناداة به كما يسرّه.» وهذا هو السبب الرئيسي الذي من اجله يختار كتبة ومترجمو مطبوعات برج المراقبة، اضافة الى اعضاء لجنة ترجمة العالم الجديد للكتاب المقدس، ان يبقوا غير مسمَّين.
مَلِك اللّٰه يُتوَّج!
في القرن الاول اعلن يوحنا المعمدان الظهور الوشيك ليسوع بصفته ملك اللّٰه المعيَّن. وفي القرن الـ ١٩ كان الوقت قد حان لاعلان الظهور الوشيك لذلك الملك في السلطة السماوية. وبناء على ذلك، صرَّحت برج مراقبة زيون في عددها لشهر آذار ١٨٨٠: «تمتد ‹ازمنة الامم› الى السنة ١٩١٤، ولن تكون للملكوت السماوي سيطرة كاملة حتى ذلك الحين.»
وهكذا فإن الفريق الذي يُعرف اليوم بشهود يهوه صاروا معروفين عموما منذ اكثر من مئة سنة بأنهم اعلنوا ان السنة ١٩١٤ ستسم بداية ملكوت اللّٰه. وتتويج ملك اللّٰه كان خطوة اولية نحو الاخماد الاخير لشمعة الدين الباطل المهتزة اللهب، كي لا تحجب النور الالهي في ما بعد.
وإذ اقترب القرن الـ ١٩ من نهايته كان دين العالم المسيحي بلا ملابس تحدِّد هويته كخادم للّٰه. لقد استحق ان يهجره اللّٰه. ووقت دينونته كان يقترب. تعلَّموا اكثر عن ذلك في عددنا التالي.
[الاطار في الصفحة ٢٣]
بعض اولاد الاصلاح الذين «وصلوا متأخرين»
كنيسة المسيح، العالِم: هذه الحركة الدينية معروفة عموما بالعلم المسيحي. أسستها في سنة ١٨٧٩ ماري بيكر أدّي، التي كانت مهتمة جدا بالصحة. وشفاؤها الفوري، كما يُذكر، من حادث خطر في سنة ١٨٦٦ أقنعها بأنها اكتشفت المبادئ التي مكَّنت يسوع من شفاء المرضى واقامة الاموات. وكتابها العلم والصحة مع مفتاح للاسفار المقدسة سنة ١٨٧٥ يعلِّم ان ما هو روحي يسود على ما هو جسدي، وأن الخطية، المرض، الموت، والسلبيات الاخرى هي اوهام يمكن قهرها بمعرفة الحقيقة والتفكير الايجابي المنسجم مع العقل، اي اللّٰه.
تلاميذ المسيح: شكَّل هذه الكنيسة في سنة ١٨٣٢ مشيَخيون اميركيون ميالون الى الردّ. وكان شعارهم: «حيث تتكلم الاسفار المقدسة نتكلم؛ وحيث تكون الاسفار المقدسة صامتة نكون صامتين.» ويصفهم عمل مرجعي بأنهم «متسامحون جدا في المسائل العقائدية والدينية.» وقد سمح الاعضاء للسياسة بأن تقسِّمهم على نحو خطير في خلال الحرب الاهلية للولايات المتحدة. وفي سنة ١٩٧٠ كانت هنالك ١١٨ طائفة، بما فيها كنائس المسيح المشكَّلة في سنة ١٩٠٦.
جيش الخلاص: أسَّس وليم بوث هذا الفريق الديني المنظَّم على غرار الصفوف العسكرية. وكان بوث قد التحق بالخدمة الميثودية (المنهجية) في اوائل عشريناته وصار مبشرا مستقلا في سنة ١٨٦١. أسَّس هو وزوجته ارسالية كرازية بين الفقراء في طرف لندن الشرقي. وتغيَّر اسم الفريق في سنة ١٨٧٨ من الارسالية المسيحية الى جيش الخلاص. ويسعى جيش الخلاص الى «تخليص الانفس» بتقديم المساعدة الاجتماعية للمشرَّدين، الجياع، الذين تُساء معاملتهم، والمُعدِمين.
المجيئيون السبتيون: هذه هي كبرى حوالي ٢٠٠ طائفة مجيئية (ادڤنتست). واسمهم مؤسَّس على الاعتقاد بإتيان، او مجيء، المسيح الثاني. والمجيئيون يتفرَّعون من حركة وليم ميلر القس العلماني المعمداني في اوائل اربعينات الـ ١٨٠٠. وإذ يعلِّمون ان الوصايا العشر لا تزال نافذة، يحفظ المجيئيون السبتيون يوم سبت حرفيا. وبعض الاعضاء ينسبون وحيا كالذي للكتاب المقدس تقريبا الى كتابات الِن ڠولد وايت، احدى قادة الفريق الاعظم نفوذا، التي ادَّعت انها استُنيرت بسلسلة من الرؤى الالهية.
-